Skip to main content

Full text of "صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث مذكراتي خلال قرن من الأحداث - خليل الرواف"

See other formats


شكرا لمن رفع الكتاب على الشبكة» قمنا بتنسيق الكتاب وتخفيض حجمه 
مكتبة فلسطين للكتب المصورة 


عن اترورق 


صفحات مطويةهة 
من تاريخنا العربي الحديت 








جداول 1 اع3021[ 








| الكتكاب | | 


#ودع عن اكرات لسر رن كال من أحداث مشرق الوطن العربي» عاصرها المؤلف 
وعاش ف أجوائهاء جام مرحلة تأسيس وقيام الدولة السعودية الغالئةع فكان شاهدًا على 

تستمد مذكرات تخليل الرواف أهميتها من أنّ كاتبها أحذ يدوّفها ويوثقها في سن مبكرة 
من عمرهء رغم الترحال الطويل الذي وسّمَ حياته. من مشرق الوطن العربي إلى أوروبا 
وأميركاء ال أمضى فيها شطرًا من حياته» حينما وصلها في ثلاثينيات القرن المنصرم» زوجًا 
ورخالة جوٌّابّا» ومثار كا ف اللمتيل من فريق (هوليود)». 

تتناول هذه المذكرات الطريق التجاري الطويل الذي رسمه «العقيلات» من أعماق نحد إلى 
وهاد الشام وسواد العراق ومياه النيل» لتوثق شيئًا من صفحات تلك التجربة الفريدة. 

لم يقْثْ المولف أن يُفرد فصلا لقصته أو مأساته مع ابنه الأميركي «نواف» الذي فرّقت 
بينهما الأقدار فور ولادته» ولم يلتقه إلا بعد مُضِي مسين عاماء في قصة هي أقرب ما تكون 
إلى الخيال. 

ولد المؤلف قريبًا من عام 1895 وتوف عام 2000م في مدينة الرياض؛ وما بين دفي 
الكتاب مسيرة الرحلة وتفاصيلها. 



































-978-614-418 581 
جداول /1 اموز اا | 1 
أ . اع/21 20 [. /لالالالالا 8614413 


خليل إبراهيم الرواف 


صفحات مطويهة 
من تاريخنا العربي الحديث 


مذكراتي خلال قرن من الأحداث 


جداول / ٠‏ اءن302[ 


الكتاب: صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 
المؤلف: خليل إبراهيم الرواف 


جداول 
للنشر والترجمة والتوزيع 
الحمرا ‏ شارع الكويت -بناية البركة ‏ الطابق الأول 
هاتف: 1746638 00961 فاكس: 746637 1 00961 
ص.ب: 13-5558 شوران - بيروت - لبنان 
6)60311.60 0.1803 :النهلادة 
أع .اع /20314 [. با يمايم 


الطبعة الأولى عن جداول: شباط / فبراير 2013 
الطبعة الثانية: اب / أغسطس 2013 
978-614-418-130-0 ل(8 كا 


جميع الحقوق محفوظة © جداول للنشر والترجمة والتوزيع 
لا يجوز نسخ أو استعمال أي جزء من الكتاب في أي شكل من الأشكال أو بأية وسيلة 
من الوسائل سواء التصويرية أم الإلكترونية أم الميكانيكية» بما في ذلك النسخ الفوتوغرافي 
والتسجيل على أشرطة أو سواها وحفظ المعلومات واسترجاعها دون إذن خطي من الناشر. 


اظلق.ك اع021هل © أطوأءلامه00 
.6 3:31 8-اق - .51 همون 
01 5558-13 :2.0.801 
0 ا - أاناراع8 
أناراع8 2013 لعلاذأاطنط أورام 
أناراع8 2013 لعناؤأاطنط 560000 


صورةالغلاف: مديحة العجروش 


فهرس الموضوعات 


تقديم أول/ سهيل زكار 4 ع الوك ولط انط له به دكي 0ه هلوجه عع يواج اإوارف أذ بك مه اد فد م ون 9 لي عد ع و بوذ بود بها ل 
تقديم ثانٍ/ عثمان الرواف 00[ [ذ[ذز[ز[ 1[ 1 1[ 1[ 323101711 


كلمة التدقيق والتحقيق 0000 


الجزء الأول: في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 


الفصل الأول: العثمانيون والبريطانيون وقصة للوالد معهما م 0 
الفصل الثانى: مع قافلة العقيلات من دمشق إلى بريدة وحائل 1 1 2121011 
الفصل الثالث : استعراض للجيش في المدينة المنورة ومعركة في تربة 22 
الفصل الرابع : دمشق ورحلات البادية مشاهد من التاريخ العربي 000 
الفصل الخامس : أيام مع الملك عبد العزيز في الحجاز 27 
الفصل السادس: تجارة فى معان ورحلة إلى نجحد ع موا لوق د افا لا 1 01 2 
الفصل السابع : زيارة الرياض قبيل ثورة الإخوان م عامل الوك وال 
الفصل الثامن: وقف للرواف فى العراق ا ان اك ااه الب ا 


الجزء الثاني: الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 


الفصل التاسع : لقاء في بغداد وزواج في دمشق اا 1 


6 فهرس الموضوعات 


الفصل العاشر : إلى نيويورك مط فقس وا وح وداه ااام لاوطا 1 
الفصل الحادي عشر : الرحلات الأولى بين الولايات 000 
الفصل الثاني عشر : لوس أنجلوس ولقاء مع هوليود ا ا 
الفصل الثالث عشر : مشروع بناء مدينة للمسلمين في فلوريدا 1 
0 نشاطات دعوية ومدرسة للمسلمين في أيوا مح مط 


الفصل الخامس عشر : السنوات الأخيرة في أميركا أحداث مثيرة وفراق حزين 


الجزء الثالث: فراق طويل ثم لقاء 


الفصل السادس عشر : العودة إلى أرض الوطن 5 
الفصل السابع عشر : قرة عيني بنواف بعد فراق طويل 00 ”«”*ظهظ25 
النهضات الإصلاحية في جزيرة العرب ام لس سا ل ا ل 1 
بلا عنوان ادع امن أو اما سا أ سدس انق وك اخ ا 
من هو عبد العزيز؟ اه محم مواقي اجلدوا ا اكه الحم كم ام ود جد 
أديب سعودي وذاك الكاتب الأميركي الناكر للجميل 0 
الدعوة إلى الخير مق واس اق ال وام مض الح امج ايا م امعان ور جا 
الأم والتربية و ا 
الزكاة و عد اد دالا و لاا توا وا ام رساخ اه له ا 
على هامش الحوادث ا ا كه لم ل ا 
الملاحق ااا ا ا 01 
الحياة الأدبية في جزيرة العرب ذا 00 
ملحق الوثائق ا 1000 


الإهداء 


إلى روح الإمام عبد العزيز آل سعود كآنه 
موحد جزيرة العرب. وباعث نهضتهاء 


وجامع شمل المسلمين. 


خليل الرواف 


مقدمة للطبعة الثانية 9 


مقدمة للطبعة الثانية 


لقد نفدت الطبعة الأولى من كتاب العم خليل بن إبراهيم الرواف «صفحات 
مطوية من تاريخنا العربي الحديث: مذكراتي خلال قرن من الأحداث» بعد سنوات 
قليلة من تاريخ نشرها ١‏ وقد علقت م انك عمي؛ الدكتورة آسيا الرواف 
والأستاذة أميمة الرواف واللواء المتقاعد مراك حم الرراق اين عقل الرواف» 
وقد كان من المقربين جدًّا من العم خليل على ضرورة إصدار طبعة ثانية من الكتاب 
ولكن الانشغال بظروف العمل والحياة أخر إصدار الطبعة الثانية بعض الوقت» وقد 
جاء سؤال الكثيرين من المهتمين بالتاريخ وأدب الرحلات والأصدقاء والأقرباء عن 
الطبعة الثانية ليؤكد أهمية إصدارها. ولقد حرصت الدكتورة آسياء جزاها الله خيرًاء 
0 الثانية وعملت بالتنسيق مع الأستاذ محمد السيف» جزاه الله خيرًاء 
على تحقيق 

في هذه المقدمة البسيطة للطبعة الثانية من كتاب العم خليل الرواف أبدأ بحمد 
الله وشكره على نشر هذه الطبعة من الكتاب» والتي سيتبعهاء إن شاء الله» طبعات 
أخرى لاحقة. تحدثتٌ في مقدمة الطبعة الأولى عن مرافقتي للعم خليل في رحلة 
ممتعة وشيقة لأميركا خلال صيف 1991م والتي توّجها الله بعثوره على ابنه نواف 
في ولاية فلوريدا بعد فراق طويل. لحظة اللقاء بين الأب والابن كانت مؤثرة جدًا 
ولن أنساها ما حييت. وأثناء تلك الرحلة زرنا أيضًا مجموعة من العائلات اللبنانية 
في مدينة سيدر رابدس في ولاية أيواء ومن بينها عائلتّئ عجرم وعاصيء وقد كان 
العم خليل إمامًا لمسجد أنشأته هاتان العائلتان وغيرها في الثلاثينيات من القرن 
العشرين في سيدر رابس» وقد كان أول أو ثاني مسجد تم تأسيسه في أميركا. 
وكان لقاء العم خليل بتلاميذه اللبنانيين وقد أصبحوا أطباء ورجال أعمال 
ومهندسين مشهورين لقاءً مؤثرًا جدًا. وبقينا في ضيافتهم عدة أيام؛ نأكل ما لل 
وطاب من المأكولات اللبنانية الشهيرة. واصطحبني العم خليل أيضًا أثناء رحلتنا 


10 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


إلى أميركا في صيف 1991م لزيارة العمارة التي كان يسكن بها في نيويورك في 
الأربعينيات الميلادية من القرن الماضي» ورحب بنا حارس العمارة» وقد كان من 
الأميركيين الأفريقيين» ولكنه لم يسمح لنا بالصعود إلى الشقة التي كان عمي يقطنها 
لوجود ساكنين بها. ولما أخبر العم خليل حارس العمارة أنه كان يعرف الممثل 
الأميركي الشهير جون وين أثناء إقامته قديمًا في لوس أنجلوس بكاليفورنيا ازداد 
ترحيب حارس العمارة بناء ونادى حراس العمارات المجاورة وأخبرهم بأن هذا 
الرجل- مُشيرًا للعم خليل- كان صديقًا لجون وين في لوس أنجلوسء وأحد 
الحراس طلب توقيع عمي فكتب عمي على ورقة عبارات بعضها بالإنجليزية 
وبعضها بالعربية وذيّلها بعبارة تقول «صديق جون وين» ثم وقّعها وأعطاها للحارس 
الذي طلبها . 

توفي العم خليل» رحمه الله. في مدينة الرياض يوم الجمعة 14 شعبان 
1ه الموافق 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2000م عن عَمرٍ يناهز المئة وعامين. 
وفي الأشهر الأخيرة قبل وفاته كان يتحدث معي كثيرًا عن والده إبراهيم وشقيقيه 
محمد عيد وياسين» رحمهم الله جميعاء كما كان يُكثر من الثناء على الأمير سلمان 
بن عبدالعزيزء وولده الأمير أحمد بن سلمان» رحمه الله الذي أعانه على نشر 
كتابه» وهو أكبر إنجاز له في حياته» كما كان يقول العم خليل. 

كثيرًا ما أرجع إلى كتاب العم خليل وأتمتع بقراءة بعض صفحاته. وأذكر أن 
العم خليل قال لي أثناء زيارتنا لأميركا في صيف 1991م: (إن الأميركيين قوم 
طيبون وبسطاء في المعشر وإذا عاملتهم على هذا الأساس ووثقوا بك. فإنك 
تحصل منهم على ما تريد». 

آمل أن يجد القارىء العربي في هذا الكتاب ما هو مفيد لهء وأن يتمتع بقراءة 
الصفحات المطوية من التاريخ العربي ومن الصفحات غير المطوية لسيرة العم خليل 
الرواف» رحمه الله . 


عثمان الرواف 


مقدمة ابنتئ المؤلف 11 


مقدمة ابنتئ المؤلف 


أثناء قراءتنا لكتاب والدنا خليل الرواف «صفحات مطوية من تاريخنا العربي 
الحديث: مذكراتي خلال قرن من الأحداث» تعلمنا الكثير عن حياة والدنا قبل 
وجودنا في هذه الحياة» وعن كثير من الأمور التي تفاعل معها قبل أن نصبح ابنتيه. 
كنا نقول أثناء اطلاعنا عليها من الكتاب: «هذا هو بابا خليل» رحمه الله» إنسان 
مغامرء قنوع يحب الاطلاع ومعاشرة الآخرين. وكما كان يفخر بنا وبدراستنا 
وعملناء فإننا أيضًا نفخر به والدًا ومغامرًا ومربيّاء من رحلاته مع العقيلات إلى 
تجواله في الولايات المتحدة الأميركية» من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبيهاء 
تجد الإنسان نفسهء الذي تملؤه روح المغامرة والطموح والكفاح. 

لن ننسى يا والدنا الحبيب أبدًا القصص المرحة والشيقة التي كنت ترويها لنا 
عن رحلاتك مع العقيلات ومنجزات حياتك الكثيرة أثناء إقامتك في الولايات 
المتحدة الاميركية وبعض القصص المرحة التي واجهتك أثناء زيارتك لأميركا عام 
31م مع ابن عمنا عثمان. 

وكانت هذه المذكرات - كما ذكر الدكتور عثمان في مقدمته - قد صدرت في 
طبعتها الأولى ونفدت سريعًاء ثم واجهتنا مشكلة السؤال من قبل عدد كبير من 
المهتمين والباحثين ممن يريدون أن يظلعوا على تجربة الوالد ورحلته الطويلة في 
الحياة» وكان للندوة التي عقدتها وزارة الثقافة والإعلام على هامش معرض 
الرياض الدولي للكتاب في عام 2009م بعنوان «خليل الرواف نجدي في أميركا» 
والتي شارك فيها عدد من المهتمين؛ دور كبير في إعادة الطلب على الكتاب 
والسؤال عنه» لذلك قررنا إعادة طباعة الكتاب ونشره في الوطن العربي ليكون 
متوفرًا لدى القارىء العربي. 

رحمك الله يا والدنا الحبيب وأسكنك فسيح جناته ولنا في حياتكء. إن شاء 
الله»ء سيرة حسنة . 


ابنتاك د. آسيا خليل الرواف وأميمة خليل الرواف 


مقدمة المؤلف للطبعة الأولى 13 


مقدمة المؤلف للطبعة الأول 

لا شك أن كتابة المذكرات هي من أصعب ضروب الكتابة» إن لم تكن 
أصعبها على الإطلاق» بل إنها في كثير من الأحيان تمثّل معاناة حقيقية يعيشها 
الكاتب وهو يضع مذكراته بين أبدي الناس. 

وقد يرى البعض أنه ما دام الأمر كذلك. كان بالإمكان النأي عن مصدر 
المعاناة أصلًا . 

ولكن الأمر بالنسبة إلىّ شيء آخرء ذلك أن حياتي التي امتدّت - بحمد الله - 
إلى ما يقارب القرن من الزمان» قد شهدت صفحات من تاريخنا المعاصرء عر 
علي أن يطويها الزمان وتصبح في حكم النسيان. 

وبوصفى أحد شهود العيان لأحداث محلية وإقليمية وعالمية وقعت خلال هذا 
القرن منذ 5008 وكان لها تأثيرها المباشر على حياتنا السياسية والاقتصادية 
والاجتماعية؛ فقد رأيت أن مسؤوليتي أمام التاريخ وواجبي تجاه بلادي يحدّمان 
على أن أجعل ما شهدته وعشته ملكا لكل قارىء وباحثء. لعلّى أكون بذلك قد 
كاميك بتوفير مادة أرجو أن تكون ذات قيمة وفائدة. ْ 

وأقول إن مبعث الصعوبة والمعاناة هنا ناجم عن تشعٌّب الأحداث وتداخلها 
وحرصي على تسلسلهاء حتى تأتي في سياق سلس ومنطقي. وأعتقد أنني قد وفُقت 
في ذلك إلى حدٌ كبيرء خاصة وأنني قد بدأت تدوين مذكراتي بشكل منتظم منذ 
مطلع هذا القرنء ولم يكن عمري وقتها قد تجاوز الخامسة عشرة. الأمر الذي 
ساعدني في تأمين تسلسل الأحداث إلى أبعد حدّ. أنَا التكرار الذي قد يجده 
القارىء أحياناء فهو أمر اقتضته مواقف بعينهاء وقد حرصت على أن يأتي في 
سياق لا يخلٌ بانسيابية الأحداث وتتابعها. 

جُبتٌ مع العقيلات أنحاء الجزيرة العربية» والعراق. ودمشق. ومصرء 
والأردن» وفلسطين؛ وأنا صبيّ غضٌ الإهاب, عركتني الصحراء بشِدَّتها وصقلتني 


14 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


بأصالتهاء وساقتني المغامرة إلى أن أعبر المحيط الأطلسي وأقتحم عالم أميركا 
الغامض الرهيب. سافرت عبر ولاياتها المتباينة في طبيعتها وفي سكانها وعاداتها 
وتقاليدها . : ' 

وقد حظيتٌ قبل بالعيش في رحاب الملك عبد العزيز - طيّب الله ثراه - وسدّد 
خطوات أبنائه من بعد لمواقيلة هذه المسيرة الظافرة. التي بدأها الإمام 
عبد العزيز من لا شيء غير إرادة قوية وإيمان راسخ من العمل واستنهاض هذه الأمة 
وتوحيد صمّهاء وتفجير طاقاتها الهائلة بمّراسة عربية أصيلة. وأن أشهد بأمّ عيني 
عظمة شخصية عبد العزيز يدن وعبقريته الفذة. وحنكته السياسية التى أخذت ألباب 
دهاقنة السياسة في العالم» ونظرته البعيدة وبرّه برعيته» وحزمه الرافيق الذي لا 
يعرف التراجع عن المواقف. إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل دون أن يخشى لومة 
لآائم . 

وللحقيقة أقول: إن أي واحدة من هذه السجايا النبيلة تصلح لأن تكون 
موضوعًا لمجلدات ضخمة وأبحاث حقيقية» ويكفيه فخرًا أن عبد العزيز كل قد 
خلّف للتاريخ مواقف عظيمة ومادّة قيمة. 

ولم تكن فترة وجودي في أميركا أقل شأنا من الفترة التي عشتها في المشرق» 
من حيث ارتباطها بخدمة بلادي. لقد أقمت في الولايات المتحدة الأميركية ما 
يقرب من أربعة عشر عامًا تنقّلت خلالها في اثنتين وأربعين ولاية» وتزوؤجت من 
امرأتين أميركيتين؛ وكانت لي نشاطات متعدّدة في الدعوة الإسلامية. كما وفقني 
الله كثيرًا في أعمالي التجارية في مدينة نيويورك. ولكن الحنين إلى الصحراء كان 
يشدّني دائمًا إلى نجد. ولقد تشرّفت أثناء وجودي في أميركا بمرافقة الأمير فهد بن 
عبدالعزيز عندما قَدِمِ ضمن أمراء الوفد السعودي برئاسة الأمير فيصل. رحمه الله 
للمشاركة في توقيع ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو عام 1945م. 

وقبيل انتصاف هذا القرن بسنتين» غادرت أميركا وعدتٌ إلى الوطن بعد أن 
تجاوزت الخمسين من عمري بسنوات قليلة» وفي السنوات العشر الأولى التي تلت 
عودتي من الولايات المتحدة مارست بعض أنواع التجارة» وعملت وكيلًا للأمير 
طلال بن عبد العزيز في المنطقة الغربية» وعندما أصبح سموه وزيرًا للمواصلات 


مقدمة المؤلف للطبعة الأولى 15 


عملتٌ معه في إدارة المشتريات في الوزارة. وأشرفت بعد ذلك على طباعة ترجمة 
معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية لصالح رابطة العالم الإسلامي. وأمضيت 
الكثير من أوقاتي في رحلات وأسفار عديدة إلى الدول العربية وأوروبا والولايات 
المتحدة. وبعد أن تجاوزت السبعين من عمري أصبحت حياتي أقل إثارة وصخبًا 
من أيام الشباب والكهولة. وفقدت بعد قدوم الشيخوخة اهتمامي بالتجارة ولكنني 
حافظت على حب الترحال والقراءة والكتابة. 


ومنذ أن تجاوزت الخامسة والستين من عمري. حاولت التفرّغ لكتابة مذكراتي 
في هذا الكتاب». ولكن كثرة الأوراق التي دوَّنت عليها أيام حياتي وعلمي بضخامة 
المهمة الملقاة على عاتقي إضافة إلى كثرة رحلاتي وأسفاري» كل هذا كان دائمًا 
يعيقني عن إنجاز الكثير من الكتاب. وأمضيت عقدين كاملين من عمري أقرأ في 
ملاحظاتي القديمة؛ وهي أساس مادة هذا الكتاب. وأدوّن منها صفحات قليلة بين 
الحين والآخر. وبعد أن انتهيت من تدوين مذكرات حياتي في أقسام منّصلة 
متسلسلة استعنت عام 1406ه/ 1986م بالدكتور سهيل زكار» رئيس قسم التاريخ 
في جامعة دمشقء. ا ا 0 ولقد أعانني 
مشكورًا وقام بمراجعتها وتنظيمها وتلافي بعض التكرار الذي جاء فيها. وفي عام 
9هم/ 1989م أطلعتٌ ابن شقيقي الدكتور عثمان الرواف. أستاذ العلوم السياسية 
المشارك فى جامعة الملك سعود. على مسوّدة الكتاب وأبدى مشكورًا بعض 
الملاحظات المهمة. وأعانني منذ ذلك الوقت على إخراج الكتاب في شكله 
النهائي . 


ولقد سهّل الله لي بعد ذلك أمر طبع ونشر الكتاب بفضل جهود صاحب السمو 
الملكي الأمير أحمد بن سلمان بن عبد العزيز» رئيس مجلس إدارة المجموعة 
السعودية للأبحاث والتسويق. الذي تولى برعايته طبع ونشر وتوزيع الكتاب في 
وقفة إنسانية وفكرية ووطنية أسجّلها له مدى التاريخ . 

فشكري الجزيل للأمير الشهم أحمد بن سلمان. الذي كسب الشهامة أبّا عن 
جدّء وللأخوة العاملين فى المجموعة السعودية للأبحاث والنشرء الذين ساهموا 
في إبراز اكات لحك الور وخاصة سعادة العضو المنتدب للمجموعة الأستاذ 


16 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


عبد المحسن العكاس والأستاذ أحمد محمد محمودء لجهودهما المقدّرة في 
الإشراف على طبع ونشر الكتاب. 
كما أنني أتوجه بالشكر والامتنان للدكتور سهيل زكارء ولابن شقيقي الدكتور 
عثمان الرواف على المجهود الكبير الذي بذلاه في مراجعة وتنقيح وإعداد هذا 
الكتاب. ولقد تفضّل كل منهما مشكورًا بكتابة تقديم موجز للكتاب. كما أنني 
أتوجه بالشكر والامتنان أيضًا إلى السيدة مريم الخشي؛ المجازة في الحقوق 
والآداب ومدرّسة الأدب العربي بدمشن» التي قامت بتحقيق الكتاب من الناحية 
اللغوية. وكذلك أشكر السيدة أماني بنت صلاح الدين أبو قورة. زوجة مأمون 
الرواف ابن شقيقي ياسينء المجازة في الآداب من جامعة دمشق في قسم اللغة 
العربية» والتي تعمل حاليًًا مساعدة لمديرة إدارة التوجيه المهني بالرئاسة العامة 
لتعليم البنات في المملكة. وذلك لمساهمتها القيّمة أيضًا في التحقيق اللغوي 
للكتاب. كما أشكر الأستاذ علي الطاهر على المساعدة القيّمة التي قدَّمها في تدقيق 
وتصحيح الطباعة الأخيرة للكتاب. 
بقي أن أضيف أخيرًا أن الكتاب ينقسم إلى جزأين أساسيين؛ يعرض الجزء 
الأول لحياتي في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق ورحلاتي مع العقيلات. 
ويستعرض الجزء الثاني أحداث هجرتي إلى الولايات المتحدة الأميركية. ولقد 
ألحقت هذين الجزأين بخاتمة موجزة لخّصت بها بعض أهم الأحداث والعبر 
المستقاة من حياتي التي أعقبت عودتي من أميركا إلى الوطن الغالي. كما ذكرت 
قصة لقائي بالابن نواف بعد فراق خمسة وأربعين عامّاء وبعد بحثٍ مُضن وشاق 
أعانني فيه ولد أخي الدكتور عثمان الرواف وبعض الإخوة الآخرين. فآخر مرة 
رأيت نواقًا قبل فراقه كانت في نيويورك في عام 1366ه - 1947م وأول مرة رأيته 
فيها بعد ذلك كانت في فلوريدا في صيف 1412ه - 1991م. ولله الحمد وبه 
خليل إبراهيم الرواف 
الرياض 1994م 


تقديم الدكتور سهيل زكار 17 


تقديم أول 


الأحداث التي شهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي في هذا القرن جليلة» 
وهي إن كانت من بعض الجوانب مرتبطة بما شهده العالم ككل» تبقى النتائج التي 
عانى منها المسلمون أعظم مأساوية وأشدّ خطرًاء فلقد وقعت بلدان المسلمين» بما 
في ذلك الوطن العربي» تحت سيطرة الدول الصليبية المستعمرة» وزالت من 
الوجود وحدة المسلمين» وألغيت الخلافة» ووججهت ضربات ماحقة إلى نمط 
العيش الذي سادً منذ قيام الإسلام سواء ثقافيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا إلى غير 
ذلك. 

ولم تكتّف الصليبية المعاصرة بتمزيق شمل المسلمين وإزالة فكرة دار الإسلام 
مقابل دار الحرب من الوجودء بل ألغت الهوية الإسلامية» وأوجَدّت الحدود 
التتططتةة يوا حلت الأقياء إلى الدول الحلفة كم" لاست ]لح الابية العطمي 
وسخرت الإمكانات والطاقات الاقتصادية والتوجهات العامة للمسلمين لصالح دار 
الحرب وفاتدتهاء وما زالت الأمور قائمة هكذا. 

وليست الصورة كلها مظلمة بالمرّة» بل يلاحَظ أنْ الشعوب المسلمة ثارت 
ضدَّ هذا كله. وحمقّقت حريتها وجرت محاولات لجمع الشملء وكان من 
المحاولات الأصلية ما شهدته شبه القارة الهندية وشبه جزيرة العرب. 

لكن قوى الصليبية حالّت دون تمكينها من الوصول إلى غاياتها العظمى» فلقد 
شهدت شبه جزيرة العرب حركة إصلاحية إسلامية أصيلة. وحظيت هذه الحركة في 
القرن الحالي بقيادة الملك عبد العزيز آل سعودء ونجح هذا الملك في توحيد غالبية 
أجزاء جزيرة العرب. 

إن هناك حاجة ماسّة لدراسة ما نزل بالعرب والمسلمين في هذا القرن 
ومعالجته من منظار عام شامل لا من المنظار الإقليمي المحض. 


18 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


إنه ليس في نيتي الآن البحث في هذا الموضوع. بل التقديم لكتاب له علاقة 
مباشرة به د مصدرًا أساسيًا من مصادر التأريخ له. وهذا الكتاب عبارة عن 
سمدوة ذائنة لمواطن عربيّ مسلم أصيل» ولد بدمشقء وانتمى بالأصل إلى أسرة 
عربية عريقة من در قبائل تميم النجدية» وكان مسرح نشاطاته الأولى مختلف 
بلدان المشرق العربي» لكنه لم يكتّف بذلك» بل ذهب إلى العالم الجديد» حيث 
أوقف حياته هناك لفترة طويلة في سبيل خدمة العرب والمسلمين. 

يخيل لي أنَّ صاحب هذه السيرة هو شاهد القرن العشرين الوحيد بين أحياء 
مواطني المشرق العربي؛ ولد - أمدّ الله في عمره - في العشر الأواخر من القرن 
الماضي وهو ما زال - والحمد لله - وافر النشاطء نقيَ الذاكرةء فيه كل الحيوية 
والدماثة والاستقامة مع إيمان راسخ» وسجايا عربية وخُلق كريم 

إنه الشيخ خليل الرواف» الذي ولد كما ارت تن سدق جد امير تجدية 
عريقة» مارست العمل التجاري بين مختلف بلدان المشرق العربي» واختصّت 
بتجارة الإبل وتقديم الحماية والمرافقة لقافلة الحجيج الشامية. 

ومرت حياة الشيخ خليل بثلاث مراحل» قضى المرحلة الأولى منها مواطنًا 
ينتمي لبلدان المشرق العربي. ثم أمضى المرحلة الثانية في الولايات المتحدة 
الأميركية» وعاش - وما زال والحمد لله - يعيش المرحلة الثالثة في المملكة 
العربية السعودية. 

لقد تعرّف في فترة ما بين الحربين إلى المغفور له الملك عبد العزيز آل سعودء 
وأعجب به أيّما إعجاب» وآمّن بالرسالة التي يحملهاء وأوقف نفسه على العمل 
تحت راية مليكه وفي سبيل الحركة الإصلاحية الإسلامية» وعلى هذا كانت علاقاته 
بالملك عبد العزيز متينة جدَّاء واستمرّت هذه العلاقة المتميّزة قائمة حتى الآن مع 
ملوك وأصحاب السمو أبناء الملك عبد العزيز. 

قبل هجرته إلى الولايات المتحدة تولّى تنفيذ عددٍ من المهام الكبرى لصالح 

مليكهء وفي المهجر - حيث كان المهاجر السعودي الأول ل 
على يعلد مليك ووظلنة واسخطاع: أن بجر الاككير لطر وفي الوقت نفسه ظلّت 
العروبة راسخة في قلبهء والانتماء إليها مسيطرًا على جوارحه؛» فكان أن نَشَّط في 


تقديم الدكتور سهيل زكار 19 


سبيل بناء مدينة في فلوريدا لجمع شمل العرب والمسلمين في الولايات المتحدة» 
وكان نشاطه هذا نشاطًا دعويًا في سبيل الإسلام. 

لقد رعى الجاليات العربية» وعلّم ناشئتها اللغة العربية والإسلام» وأسّس 
العديد من المدارس» وعمل إمامًا للمسلمين في نيويورك لفترة طويلة» ونتيجة 
جهوده تجاوز عدد الذين هداهم الله إلى الإسلام على يديه الألف. 

إِنَّ من ينظر إلى مجمل نشاطاته ورعايته لرجالات العروبة في الولايات 
المتحدة من سياسيين وموفدين إلى الأمم المتحدة ومهاجرين» وإلى خططه في 
الوقوف في وجه الصهيونية» لتتولاه الدهشة» فما أنجزه وقام به يعجز عنه الجمع 
الكبير من الرجال. ولا غرابة في هذا ففي تراثنا العديد من الرجال أخبرنا أن كل 
واحد منهم سيبعث أمة وحدهء ولا شك أن خليل الرواف واحدًا منهم. 

لقد اعتادت الأمم والدول في عصرنا أن تتولى تكريم رجالاته ومنحهم 
الألقاب والأوسمة»؛ ومن الألقاب (بطل الدولة) أو (الأمة)» وعندي أن خليل 
الرواف بطل حقيقي من أبطال الأمة العربية غير المعروفين» ولا شك أنه بطل 
بالنسبة إلى الكثيرين من مواطني المملكة العربية السعودية. 

وقد تولّى الشيخ خليل كتابة سيرته هذهء بأسلوب خاص بهء فيه لمسات 
شاعرية وحسٌ مرهف وصدق وصفاءء واقتصر دوري على قراءة المواد التي كتبهاء 
وتبويبها وتقسيمها إلى فصولء وإلغاء بعض التكرار وليس كله» دون أن أتدخل في 
الأسلوب أو الأفكار أو المقاصدء وقمت في الوقت نفسه بالإشراف على إعداد 
السيرة للطباعة» ومن ثم كتابة هذه المقدّمة الموجزة. 

الأمل كبير في أن يتم إنجاز وطبع جميع الإنتاج الأدبي للمرحلة الأميركية مع 
ما كتبته عنه الصحافة الأميركية» والصحف العربية في الولايات المتحدة في وقته. 
وما زال الشيخ الرواف قادرًا على الكتابة بكلّ صفاء والتعبير عن مقاصده وغاياته 
كما كان يفعل قبل نصف قرن مضىء ومن الأدلّة على ذلك المقال (الموجود ضمن 
ملاحق الكتاب) الذي كتبه في أواخر الثمانينيات يصفٌ فيه مشاعره تجاه إنجازات 
التنمية التي حققتها المملكة العربية السعودية بقيادة حككامها المخلصين الأوفياء 
لدينهم ولوطتهم . 


20 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


أرجو أن تحصل الفائدة من هذه السيرة» وأن يستفيد منها كل مهتمٌ بتاريخ 
العرب الحديث والمعاصرء والله تعالى من وراء القصد وهو الموفق إلى الصواب» 
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 
سهيل زكار'” 
دمشق 21/ 9/ 1988 
0 2 1409ه 


(*) رئيس قسم التاريخ في جامعة دمشق سابقًا . 


تقديم الدكتور عثمان الرواف 21 





تقديم كان 


لقد لعب «التاريخ الشفهي» دورًا مهما في إثراء دراسات التاريخ الإنساني» 
كما ساهم في توضيح معالم بعض أحداث التاريخ ومن ضمنها - دون شك - 
التاريخ الحديث للجزيرة العربية. 

والتاريخ الشفهي هو الروايات الخاصة بالأحداث وما حولهاء كما نأخذها 
من رواية الأشخاص الذين عايشوها أو عاصروها. وقد يمكُننا التاريخ الشفهي 
أحيانًا من توئيق بعض الأحداث المهمة التي قد يغفل المؤرخون عن تدوينها. 
ولكن الأهمية الأساسية للتاريخ الشفهي تأتي من احتوائه على بعض المعلومات 
التي قد تمكّن أساتذة التاريخ من إدراك طبيعة العلاقات الإنسانية الاجتماعية 
والاقتصادية والسياسية الخاصة بفترة تاريخية محددة. فلقد تطورت دراسات التاريخ 
الحديثة بشكل كبير وأخرجت التاريخ كما يرى بعض أساتذته من دائرة الإنسانيات 
إلى دائرة العلوم وأصبح هناك فرق واضح بين المؤرخ وعالم التاريخ» فالمؤرخ 
يهتم أساسًا بتدوين وتوثيق أحداث التاريخ» والمتخصص بدراسة التاريخ يحاول 
فهم العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي ساهمت في توجيه 
الأحداث التي يدرسها. ويشتمل التاريخ الشفهي - إذا دُوّن - على مادة مهمة لكل 
من المؤرخين وأساتذة التاريخ» ولكن فائدته الأساسية تكون من نصيب الأساتذة» 
الذين يحاولون فهم الأحداث وتفسير العلاقات والتفاعلات المؤثرة بها . 

ويقدّم كتاب العم خليل الرواف - خاصة في جزئه الأول - مادة علمية خصبة 
لأساتذة التاريخ والمؤرخين العربء فالكتاب يشتمل في ثناياه على بعض الروايات 
والمشاهد المرتبطة ببعض أهم أحداث تاريخ المشرق العربي الحديث» ويمكن 
الاستفادة منها في فهم نمط الحياة والتفكير الذي كان سائدًا لدى سكان الحضر 
والبادية» والتفاعلات التي كانت قائمة بينهما في العقود الثلاثة الأولى من هذا 


22 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


القرن. كما يشتمل الكتاب أيضًا على طبيعة العلاقات الإنسانية والتجارية 
والاجتماعية التى كانت سائدة فى تلك الفترة. 


إن قصة الكتاب هي قصة قرن كامل تقريبّاء تعود بداية أحداثه إلى دمشق في 
السنوات الأولى من القرن العشرين» وتمتد حتى الوقت الحاضر وخاصة إلى أوائل 
التسعينيات الميلادية» حيث التقى العمّ خليل الرواف بولده نواف في فلوريدا 
بأميركا في صيف العام 1991م» ولقد بدأتٌُ بمساعدة العم خليل في البحث عن 
ولده الذي اختفت به والدته الأميركية في زحام نيويورك في عام 1947م» منذ أيام 
دراستي في الولايات المتحدة الأميركية في السبعينيات ولكن جهودي وجهوده لم 
تثمر إلا في الرحلة التي صحبته بها إلى الولايات المتحدة في أعقاب حرب 
الخليج. ولقد عرفت عن العمّ خليل أثناء تلك الرحلة أكثر مما عرفته عنه طيلة 
حياتي السابقة. فلقد رأيت رجلا وقد تجاوز التسعين من عمره يستيقظ في الخامسة 
من صباح كل يوم» ليصلي الفجر ويقرأ القرآن قليلًا ثم يقوم بكيّ ملابسه وتنظيف 
حذائه بنفسه. وفي السادسة صباحًا كان يغادر الغرفة بعد أن يوقظني من النوم ويثّجه 
إلى مطعم الفندق» ليتناول طعام الإفطار وقد لبس أفضل ثيابه وأحسنها. أشياء 
كثيرة رأيتها عن قرب وتأملتها من كثب» وأدركت أن تجربة حياته الطويلة قد علمته 
أشياء كثيرة وجعلت منه إنسانًا متميرًا يرى الأشياء بمنظار خاص. منظار يعود من 
الحاضر إلى بداية هذا القرن. منظار يمتد من حاضرة دمشق البسيطة إلى بادية 
الجزيرة العربية ومنها إلى حضارة أميركا المتقدمة والمعقدة. 

إن فصول الكتاب الأولى لا تحكي فقط حقبة أحد أبناء العقيلات وتنقلاته. 
ولكنها نَصِف أيضًا الظروف السياسية والاجتماعية للجزيرة العربية وبلاد الشام في 
مطلع القرن العشرين قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. في فصول الكتاب 
الأولى يجد القارىء وصمًا دقيقًا لرحلات وتجارة العقيلات» كما يجد وصفًا شيّقًا 
لبعض مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة في دمشق والحجاز 
وبغداد والقاهرة والرياض وحائل والكويت والزبير والبصرة والمحمرة ومعان 
وغيرها من المدن العربية» مثل زحلة وبيروت» إضافة إلى أهم مضارب القبائل 
العربية في المملكة وسوريا والعراق. وفي فصول الكتاب الأولى يتعرَّف القارىء 


تقديم الدكتور عثمان الرواف 23 


على المزيد من قوة الملك عبد العزيز وحنكتهء كما يرويها أحد الأشخاص الذين 
عاصروه وأحبّوه. وفي فصول الكتاب الأولى يطّلع القارىء أيضًا على بعض 
التفاصيل التي تؤكّد أهمية المملكة ودورها في السياسة العربية منذ الثلاثينيات 
الميلادية» أي منذ السنوات الأولى لعمر المملكة الفتية. فلقد كانت الزعامات 
العربية الوطنية التي قاومت الاستعمار في سوريا والعراق ومصر وفلسطين تتطلّع 
نحو المملكة بوصفها الدولة العربية الوحيدة المستقلة في تلك الفترة. 

وإن الجزء الثاني من الكتاب لا يحكي فقط قصة رحلة ابن العقيلات إلى 
أميركاء ولكنه يصف الولايات المتّحدة ومعالمها وحضاراتهاء كما شاهدها وتفاعل 
معها أحد أبناء البادية العربية وحاضرها بعد وصوله إليها في منتصف الثلاثنيات 
الميلادية . 


وقد يجد الإنسان صعوبة في إطراء عمّهء ولكن الدكتور سهيل زكارء جزاه الله 
خيرّاء كفاني مهمة القيام بهذا الأمر. ولقد قرأت مسودة كتاب العم خليل وأبديتٌ 
بعض الملاحظات وعملت معه خلال السنوات الثلاث الماضية لإخراج الكتاب» 
وأعدنا معًا في مرات عديدة تصنيف وتبويب فصول الكتاب» حتى خرجت بصورتها 
النهائية» وأثناء قراءتي لمسودة الكتاب لاحظت تعدّد مواهب العم خليل» حيث 
وجدت فيه التاجر والمغامر والرحالة والداعية الإسلامية والقارىء المثقف. والآن 
وقد بلغ العم خليل - أطال الله عمره ومنّعه بالمزيد من الصحة والعافية - الخامسة 
والتسعين أراه لم يزل منكبًا على القراءة والكتابة محافظًا على هواية السفر وشديد 
الاهتمام بصلة الرحم. 

ويشتمل الكتاب في - جزأيه الأول والثاني - على العديد من الأحداث 
المهمة. والقصص الطريفة التي تهمٌ القارىء العربي أيّا كان. فالكتاب يشتمل على 
حِكُم وعبر الحياة المأخوذة من تجربة رجل مكافح مغامر عاش شبابه في البادية 
العربية وحاضرها ثم انتقل منها في الثلاثينيات من هذا القرن ليعيش مغامرة أخرى 
مع ناطحات السحاب في نيويورك ولوس أنجلوس» وتمكّن من التكيّف مع الحياة 
الجديدة بالرغم من الفجوة الحضارية الهائلة التي واجهته عند هجرته إلى الولايات 


24 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


المتحدة الأميركية. ويشتمل الجزء الثالث المختصر على بعض أهم الأحداث التي 
واجهت العم خليل بعد عودته إلى الوطن في الخمسين من عمره. وكذلك على 
قصة عثوره على ولده الأميركي نواف الذي أقرٌ الله به عينيه بعد فراق خمسة 
وأربعين عامًا . 
عثمان ياسين الرواف”» 
الرياض 25/ شوال/ 1414ه 
6/ نيسان/ 1994م 


(*) أستاذ العلوم السياسية المشارك في جامعة الملك سعود سابقًا . 


كلمة التدقيق والتحقيق 8 


كلمة التدقيق والتحقيق 

كاتب ومؤرخ وأديب للقرن العشرين. . . صاحب الأمانة والرسالة والقلم. . . 

مؤلفه هذا ضخمء وأثره قيم... 

مطولة تاريخية موثوقة! 

وملحمة نثرية رائعة! المغامرات والمشاهدات والمفاجآت والتأزمات. . 
جرت على قلمه بانسياب عفوي سلس ندي... وخيال حسّي ناطق! 

طال فيه نفسه... ورضخت نفسه لتقلبات الدهر والأقدارء سعدت 
ونعمت. . . شقيت وسجنت وخرمت!! 

إلى أن ناءت عليه بكلكلها الأثقال... وضاقت عنه آفاق الكون والعالم 
الجديد على رحبه. . . فرمت به فوق رمال جزيرته الخشنة الدافئة» سليمًا معافى 
صحيحًا . . . يكتب ويسجّل ويؤرخ. 

إنه الشيخ خليل الرواف 

مريم الخشي 


(*) مدرّسة الأدب العربي في دمشق» حاصلة على إجازة في الحقوق والآداب العامة. 


الجزء الأول 
في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 


في بلاد الشام وشيه الجزيرة والعراق 29 





الفصل الأول 


العثمانيون والبريطانيون وقصة للوالد معهما 


إنَّ ما أدرّنه على هذه الصفحات وأرويه من تاريخنا العربي المعاصر هو من 
الأحداث التي مرّت بي» ومررت بهاء منذ أن بلغت العاشرة من العمرء ولقد 
عاهدت نفسي على أن أقصّ ما رأيته بعيني ولمسته بيدي » دون زيادة» أو نقصان 
وأن أقول الحق. فيما أدونه» سواء كان عن شخصيء أو عمّن يتناوله قلمي» ويقع 
تحت مجهري . 

لقلد قلبت الأمور من جميع الوجوه؛ حتى أجد منفذًا صالحًا يوصلني إلى ما 
أنا عازم عليه فيما أكتبه» وبعد أن استعرضت مختلف المواضيع المختزنة بذاكرتي 
اخترت أن أبدأ بما يلي: 

حاول العثمانيون قبل الحرب العالمية الأولى ببضع سنين» الاتّصال بالأمير 
عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود وكان في مستهل شبابه وعنفوانه» ينتقل 
من نصر إلى نصرء ويحالفه التوفيق في أعماله منذ أن فتح الرياض عام 1319ه/ 
2م . وكانت لا تزال الألسن تلهج بذكرهء وتتحدث عن انتصاراته لا سيما 
بعدما قضى على سميه الأمير عبد العزيز بن رشيدء حاكم مدينة حائل» عام 
4 اه/ 1906م. 

كان الأتراك يحاولون إرسال قوة تركية» من القوات المرابطة فى مدينة البصرة 
من أعمال العراق» التي كانت بقيادة الجنرال سليمان شفيق باشاء لجار وإزعاج 
البريطانيين في الخليج العربي» الذين كان قد تم لهم عقد معاهدات مع حكام الخليج 
العربي وامتثلوا بموجبها لأمرهم. وبقوا تحت حمايتهم. فما لبثت بريطانيا أن مالت 
نحو إمارة الكويت وعقدت مع أميرها معاهدة أجبرتها على الرضوخ لأوامرهاء لمدة 
مائة سنة كاملة» بعدها تنال استقلالهاء ولقد مكث هؤلاء الحكام في إمارة الكويت 


30 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


تحت الانتداب البريطاني عشرات الأعوام» ثم نالوا استقلالهم. وكان أول وفد 
رسمي تركي حظي بالمثول بين يدي الأمير عبد العزيز بن سعودء برئاسة الفلسطيني 
توفيق فرعونء, الدمشقي المولد. مرسلا من قبل جمال باشاء القائد العام للجيش 
التركي المرابط في سورية» وحمل توفيق فرعون معه تحيات القائد التركي» وهدية 
عات للانين السعودق فر ووشالة لطفة الالقاطء مسفهة التمابين رمت شه خا القاعد 
التركي - بإرسال المعدّات الحربية اللازمة ليقوم بمناوشة القوات البريطانية المرابطة 
في الخليج العربي. وكان من مرافقيه الأستاذ صبري الطباع الذي يعمل تاجرًا 
للحبوب فى مدينة عمان. ولكن سفير الحكومة التركية بدا وكأنه يملى شروط 
إن يول ان :ا لأمتر عي لدو الذي أو قله صن روط رده بحن الن ان : ش 

لما يست حكومة الأتراك من كسب صداقة الأمير عبد العزيز» اتجهت إلى ابن 
الرشيد» أمير حائل وزعيم قبيلة شمرء فقدَّمت له الأموال والأسلحة الألمانية الخفيفة» 
التي لم يكن لها مثيل في الديار النجدية مما عدّ سلاحًا فتاكا في ذلك الوقت. 

نجح البريطانيون في مفاوضاتهم مع الأمير عبد العزيز بن سعودء واتّفق 
الجانبان على أن يلزم الأمير عبد العزيز بن سعود جانب الحياد إذا نشبت الحرب 
بين الحلفاء من جهة والأتراك والألمان من جهة أخرى. وألَا يقدّم أي معونة لأيّ 
من الفريقين» ومقابل ذلك يقدم البريطانيون لابن سعود أسلحة وذخيرة حربية» مع 
ما كان يحتاج إليه من عتاد ومتاع . 

وفع الأمير عبد العزيز آل سعود هذه المعاهدة مع السير بيرسي كوكس. القائد 
الأعلى للجيش البريطاني؛ وتّعرف هذه المعاهدة بمعاهدة العقير وأبرمت عام 
4 همهم 915مم. أي بعد نشوب الحرب العالمية الأولى بعام واحد. 

بقيت بنود هذه المعاهدة سارية المفعول حتى سنة 1927م؛ عندما عقد 
البريطانيون معاهدة جديدة مع الملك عبد العزيز آل سعود الذي أصبح وقتها ملكا 
للحجازء وسلطانًا لنجد وملحقاتها وكانت هذه المعاهدة معاهدة متوازنة عقدت بين 
ندَّينء كما وصفتها الصحف العربية والأوروبية. وألفَّت ما تقدّمها من المعاهدات 
بين الملك عبد العزيز والحكومة البريطانية. 

كان الأمير عبد العزيز آل سعود قد شَرّعَ في تغيير حياة أهل البادية القاسية 
الذين لم يستقر بهم المقام في مكان واحد من واحاتهاء فقد كانت القبائل تطرق 


في بلاد الشام وشبه الحزيرة والعراق 31 


سبل الصحراء وتنتقل من موضع إلى آخرء طلبًا للكلأً والمرعى لمواشيها. ولم 
تكن لهذا تشعر بأيّ نفوذ وسلطان عليهاء لا من آل سعود ولا من آل الرشيد ولا 
من أحد آخر. لقد أراد الأمير عبد العزيز استبدال حياة أهل البادية من بداوة 
فوضوية شديدة العصبية» إلى حياة مدنية أفضل» فقدَّم لهم المساعدات المادية 
وأرسل إليهم الدعاة يعلمونهم أمور دينهم وقواعده وأركانه. وأمور الجهاد لإعلاء 
كلمة التوحيدء والذود عن الشريعة الإسلامية» وأقام لهم سمو الأمير عبد العزيز بن 
عبدالرحمن القرى العديدة في الصحراء الواسعة» وأصبح العديد منهم على شيء 
من المعرفة بنصوص الشريعة الإسلامية. 

ثم استقرّواء ومارسوا الزراعة في أطراف القرى» وغدوا قوّة جبارة يَخشى 
بأسهاء ويُحذر بطشهاء وانتشر ذكر هذه القوة في أطراف الجزيرة العربية» فوصل 
مكة في الحجازء والأردن وعمان». ومشارف دمشق» وربوع دجلة والفرات في 
العراق» واستحوذ هذا التطبيق للدين الحنيف على عقولهم وتشرّبته نفوسهمء 
وأصبحوا أشْدّاء على من لا يفهم معانيه ولا يؤدّي فروضه وواجباته. 

أقف هنا قليلًا لأدع القارىء يستنتج مما قرأه من وصف الأمير عبد العزيز بن 
سعودء ووضعيته في ذاك الوقت». ومعاملته لرسول الحكومة العثمانية وطرده من 
البلاد» وموقفه من أهل البادية. 

أولًّا: كانت وضعية سمو الأمير عبد العزيز غير واضحة يتخلَّلها عدم 
الاستقرارء كان في حرب سجال بينه وبين خصمه اللدود. وسميه عبد العزيز بن 
رشيدء حاكم حائل» ومن أتى بعده من أمراء آل الرشيد وحكام بقية المقاطعات في 
أطراف الجزيرة. 

ثانيًا : جاء اهتمامه بتحضير البادية ومساعدة أهلهاء بإنشاء القرى ليضمن ولاء 
هؤلاء العربان المتمردين عليه حيئّاء والنابذين لأوامره أحياناء وليتفقّهوا في الدين 
وليكونوا من مؤازريه في تحقيق ما فيه عر العرب والإسلام» واسترجاع مجدهم 
الداثرء فذلك كان مطمحهء وتلك كانت أهدافه. 

ثالنًا: سعيه الحثيث لاستتباب الأمن في ربوع الجزيرة العربية» والضرب على 
أيدي العابثين بالنظام والاستقرار في هذه البلاد المقدسة. 


32 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


كانت هناك أشياء أخرى كثيرة مختزنة فى ذهنه أراد تحقيقها وفى مقدّمتها : 

أولا: القضاء على الإمارات القائمة داخل الجزيرة العربية ومنها إمارة آل 
رشيد. 

ثانيًا : الحدّ من نفوذ مشايخ القبائل الذي استشرى في ربوع الجزيرة وتنظيمه» 
حتى ينعم سكانها من الحضر ومن البادية بالراحة والأمان» وليتستّى لقاطني المدن 
والقرى في نجد وما حولها القيام بأعمالهم التجارية دون خوفء وليهتموا بشؤون 
مزارعهم. 

ثالئًا: توحيد الجزيرة العربية» واستقلالها استقلالا تامّاء تحت علم واحد 
وحكومة واحدة» فلا يدع لأيّ أجنبي نفودًا فيها. 

أما الأسباب التى حملت الأمير عبد العزيز على معاملة رسول الحكومة التركية 
بهذه الشدة وطرده من الرياض فكثيرة منها : 

أولًا: عدم ثقته بالحكومة العثمانية» وعجرفة قادة جيوشهاء وبطانتهم. 

ثانيًا: تخطيط الأتراك وحلفاتهم من الألمانء وعزمهم على مدّ خط حديدي 
يصل البصرة من أعمال العراق ببرلين الألمانية مارًّا بالعاصمة التركية إسطنبول. 
وهذا ما كان يحذره الأمير عبد العزيز آل سعود» خوفًا من جعل البلاد العربية 
مسرحًا للقتال» بين الأتراك». وبين الإنجليزء الحامين للإمارات العربية والذين كان 
لديهم قاعدة عسكرية قوية في الخليج العربي» وكان وراء هذه القاعدة سفن حربية 
تجوب مياه المحيطات». ومن وراء ذلك البلاد الهندية المستعمرة البريطانية الكبرى 
التى كانت تمد البريطانيين بالرجال والغذاء» ولن تقف الحكومة البريطانية مكتوفة 
الأيدي. إذا حاول الأتراك وحلفاؤهم من الألمان إنشاء هذا الخط الحديدي لقربه 
من الخليج» ومن إمارة الكويت» ومن مستعمرتهم الهندية» وفي الوقت نفسه حتى 
لا تتمكن الحكومة العثمانية من وضع نجد والبلدان العربية تحت سيطرتهاء 

ثالنًا: العداوة التاريخية مع العثمانيين. لقد سبق لآل سعود حكم أرجاء واسعة 
من شبه الجزيرة» مما أغضب الأتراك غضبًا شديدّاء وأثاروا دعاية واسعة النطاق 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 33 


ضدّهم في جميع الأقطار العربية والإسلامية»؛ ووصموهم بالكفر والزندقة» وسعوا 
إلى إخراجهم من الحظيرة الإسلامية» وتقرّلوا عليهم الأقاويل لتنفير الأمة الإسلامية 
منهم» كما أوعزوا إلى حكومة محمد علي باشا في مصر بمحاربتهم» وطردهم من 
ديارهم» وتعهدت الحكومة العثمانية آنذاك للقادة المصريين بمنحهم إمارة الحجاز 
ونجد إذا وفقوا في عملهم. 


قاتل المصريون السعوديين بسلاح فتاك لم يكن لدى السعوديين آنذاك سلاح 
يماثله» ونجح المصريون في مهمّتهم. فأخرجوا السعوديين من ديارهم» وواصلوا 
زحفهم إلى أن وصلوا بلدة الدرعية مقرٌ العائلة السعودية» وأقام المصريون الخنادق 
حول الدرعية» وأخذوا يمطرونها بمدافعهم. فهدّموا الكثير من أبنيتهاء وألقوا 
القبض على أميرها عبدالله» وأرسلوه إلى إسطنبول» فأعدم فيهاء وما تزال آثار هذه 
الخنادق قائمة إلى يومنا هذا في المرتفعات المطلة على الدرعية» كل ذلك كان 
للقضاء على نهضة آل سعود الدينية ورسالتهم المحمدية والحقيقية» وقد ذكر هذه 
النهضة الدينية عميد الأدب العربي» الدكتور طه حسين» في مقال كتبه بالإنجليزية 
في مجلة «أوبن كورت» التي كانت تصدر في شيكاغو بأميركا بعنوان «الحياة الأدبية 
في الجزيرة العربية» ولقد أطلعني عز الدين التنوخي؛ أحد الوطنيين السوريين 
الملمّين بالإنجليزية» على هذا المقال في نهاية العشرينيات قبل سفري إلى 
الولايات المتحدة بعدة سنوات ورأيت فيه خير صورة لقرّاء اللغة العربية عن العرب 
وعن حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب» ولهذا كتبت إلى عميد الأدب العربي 
الدكتور طه حسين واستأذنته في نشر بحثه بالعربية» وبعد الحصول على موافقته» 
أعطيت المقال إلى مكتب النشر العربي بدمشق الذي كان يُشرف عليه الأستاذ ظافر 
القاسمي» رحمه الله. الذي أصبح فيما بعد نقيب المحامين بدمشق» وطلبت منهم 
الإشراف على ترجمته ونشره» وتم طبع مقال الدكتور طه حسين في كتيب صغير مع 
مقدّمة موجزة وضعها مكتب النشر العربي بدمشق وجاء فيها : 


انشرت ترجمة هذا البحث في مجلة أوبن كورت التي تصدر بشيكاغو بأميركا 
وقد رأى فيه الشيخ خليل الرواف خير صورة لقرّاء لغة الضاد عن الحياة الأدبية في 
جزيرة العرب» ولا سيما أن الذين بحثوا في حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب 


34 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


أهملوا أثرها في الحياة الفعلية والأدبية» وإن الدكتور طه حسين قد عالج هذا في 
بحثه الدقيق الذي نتقدّم به إلى القرّاءء بتفكيره العميق وأسلوبه الرشيق» لذلك 
استأذن حضرته الدكتور طه حسين فى نشر هذا البحث فتفضّل حفظه الله ورعاه 
- بالإذن - ولقد عهد الشيخ خليل الرواف إلى مكتبنا بالإشراف على طبعه ونشره» 
فكان لنا بذل في شرف الموضوع وشرف المؤلف وشرف صاحب الفكرة ما نسجله 
في أول صفحة من صفحات هذه الرسالة»» ولقد احتفظت ببعض النسخ من هذا 
المقال المهم وأهديت عددًا منها إلى بعض الأمراء والكتّاب في المملكة. وقد جاء 
في مقال الدكتور طه حسين”* : 


«على أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن 
يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر فلفتت إليها انتباه العالم 
الحديث في الشرق والغرب واضطرّته أن يهتم بأمرها وأحدثت فيه آثارًا خطيرة هان 
شأنها بعض الشيء ولكنها عادت فاشتدت في هذه الأيام وأخذت تؤثرء لا في 
الجزيرة وحدهاء بل في علاقاتها بالأمم الأوروبية أيضًا. وهذه الحركة هي حركة 
الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبدالوهاب شيخ من شيوخ نجدا. 

قلت إن هذا المذهب جديد قديم معًا!** » والواقع أنه جديد بالنسبة إلى 
المعاصرين., لكنه قديم في حقيقة الأمرء لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الدين 
الخالص النقيّ المطهّر من كل شوائب الشّرك والوثنية. هو الدعوة إلى الإسلام كما 
جاء به النبي يِه خالصة لله وحدهء ملغيًا كل واسطة بين الله وبين الناس. هو 
إحياء للإسلام العربي» وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل» ومن نتائج 
الاختلاط بغير العرب. فقد أنكر محمد بن عبدالوهاب على أهل نجد ما كانوا قد 
اعتادوا من جاهلية في العقيدة والسيرة» كانوا يعظمون القبور ويتَّخْذُون بعض 
الجوى تتا غناشت ورعطيرة الأخيها د لاتععار يرول أن لها سن الكر ةنا 


(*) نظرًا إلى أهمية مقال الدكتور طه حسين فسوف أستعرض مقتطفات منه في مواضع مختلفة من الكتاب 
إضافة إلى نشره بالكامل في الملاحق. 

(*#) ولئن كنا نختلف مع الدكتور طه حسين على وصفه الحركة الوهابية "بالمذهب؟ إلا أننا نحرص على نشر 
ما جاء فيه دون أي تغيير أو حذف أو إضافة . 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 35 


ينفع ويضر. وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهليين فعاشوا من 
الغزو والحرب» ونسوا الزكاة والصلاة وأصبح الدين اسمًا لا مسمّى لهء فأراد 
محمد بن عبدالوهاب أن يجعل من هؤلاء الأعراب الحفاة المشركين قومًا مسلمين 
حقًا على نحو ما فعل النبي َك بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنًا. 

هكذا عادت الحياة القوية إلى مذهب أحمد بن حنبل الذي تبعه النجديون 
ونشرت كتب ورسائل كثيرة لابن تيمية وابن القيم» واستفاد العالم العربي كله من 
هذه الحركة العقلية الجديدة . 

أثناء هذه الحركة العنيفة ظهر حول الأمراء المجاهدين من أهل نجد جماعة 
من الشعراء أخذوا يفتخرون بانتصارهم في المواقع ويعتذرون عمًا يصيبهم من 
الهزيمة. وليس من الممكن أن يُقال إنهم جددوا الشعر وأحدثوا فيه ما لم يكن. 

لكنهم على كل حال عادوا به إلى اللأسلوب القديم» وأسمعونا في القرن 
الثانى عشر والثالث عشر من الهجرة فى لغة عربية فصيحة هذه النغمة العربية الحلوة 
التي لم تكن تُسمع من قبل. هذه النغمة التي لا يقلّد صاحبها فيها أهل الحضرء 
ولا يتكلف فيها البديع وإنما يبعثها حرة» ويحمّلها كل ما تجيش به نفسه من عرّة 


إلى هنا نقف عن متابعة حديث عميد الأدب العربي» الدكتور طه حسين» 
ونعود لتتمّة نظرتنا في موقف سمو الأمير عبد العزيز بن سعود من البريطانيين» 
وعقد معاهدة بينهما'. فمن أسبابها ومسيّباتها الآتي: 

أولا: لقد تحقق للأمير عبد العزيز أن البريطانيين يأخذون اتفاقاتهم مأخذ 
الجدّء سواء مع الأمم الأوروبية أو مع غيرها من الأمم الأخرى. فلا خوف على 
ابن سعود منهم» فلا يلحقون به ضررّاء أو ينقضون ما أبرموه معه من الاتفاقيات» 
وفي الوقت نفسه كانوا على أبواب حرب مع الألمان والأتراك. 

ثانيًا : لم يكن في بنود هذه المعاهدة شيء تجدو نه امد عبد العزيز أو 
يخافه» فلقد كان في هذه المعاهدة هو الرابح المستفيد. 


لقد ازداد نفوذ الأمير عبد العزيز في أوساط القبائل العربية»ء وقويت شوكتهء 


36 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


32 
- 


وامتثل سكان البادية لأوامره» وتحمّقت بعض طموحاته بعد توقيعه على هذه 
المعاهدة» وكان نصرًا مؤزّرًا لكلا الطرفين» حاكم نجد سمو الأمير عبد العزيز 
والبريطانيين معًا. وانقلبت موازين القوى الآنء فبعدما أخفق العثمانيون في التقرّب 
من حاكم نجد عبد العزيزء ودعوته لمضايقة البريطانيين في محمياتهم على الخليج 
وشغلهمء والقيام بمناوشات حربية ضدهم» نجده بعد هذه المعاهدة يقتحم بجنوده 
أسوار مدينة الأحساء ويأسر من كان فيها من أفراد حاميتها الأتراك. 

كان من أنبل الأعمال التي قام بها الأمير عبد العزيز بعد دخوله الأحساء ظافرًا 
بعنّه بأسراه من الجنود الأتراك إلى البصرة من أعمال العراق» التي كانت لا تزال 
راضخة للحكم التركي» معرَّزِين مكرمين» بعد أن دفع لهم رواتبهم المتأخرة» الأمر 
الذي حمل القائد التركي في البصرة؛ سليمان شفيق باشاء إلى تقدير هذا العمل 
المجيد للأمير عبد العزيز آل سعود. 

كان عمل عبد العزيز فضلًا وكرمًا ونبلًا منه» وسيذكر التاريخ - الذي لم 
يحدثنا بعد عن هذه الأريحية - المسلك الحسن الذي سلكه الأمير مع أسراه 
الأتراك» بعد دخوله إلى الأحساءء حيث ترك موظفي الحكومة التركية في مراكزهم 
يديرون شؤون مدينتهم» وكان منهم مدير المالية المعروف باسم الأفندي» وكان 
الدكتور عبدالله الدملوجي ضابطًا في الجيش التركي فاستصحبه الإمام عبد العزيز 
معه إلى الرياض» فأخذ يدير الشؤون الخارجية تحت مراقبته شخصيًا . 

هكذا الدنيا تدور وتتقلّب الأيام وتجمع بين المتخاصمين والمتنافرين» فبعد 
انتهاء الحرب العالمية الأولى بثماني سنوات» وقع نظري في مكة المكرمة في 
أوائل عام 1927م» على القائد التركي سليمان شفيق باشاء بقامته المربوعة. 
وبوجهه الوردي» وبياضه الناصع» وكان يفوق بياض شعره المنتشر بوجهه. قد 
قابلته في مجلس وزير المالية معالي الشيخ عبدالله السليمان» وكان ضيفًا محترمًا 
على المملكة العربية السعودية. 

واصل بعد هذا المغفور له الملك عبد العزيز جهاده في سبيل توحيد الجزيرة 
العربية ونشبت المعارك الكبيرة الطاحنة بمآسيها وويلاتها بين عبد العزيز ومّن يقف 
أمامه؛ لصدّه عن المُضيٌ فيما أوقف نفسه عليه» من رفع شأن العرب في جزيرتهم. 


في بلاد الشام وشيبه الجزيرة والعراق 37 





وجمع كلمتهم تحت راية مؤمنة واحدة. يسير على نهج من تقدّمه من آل سعودء 
مقتفيًا آثارهم في اتّباع ما أمر الله به أن يوصلء. ومراعاة تعاليم الدين الإسلامي 
الحضيقث والتفكك بالشريعة الأمتلامية واتخاذها دنتكورًا للم سين عنتما أمر ال 
وأخذ يجاهد في سبيل الله ويجالد من أجل عر العرب والإسلام» وانضوت إلى 
لواته المدن والقرى في شبه جزيرة العرب» وامتثل أمراء القبائل العربية ومشايخها 
لأوآمرء وراوا فيه إماما لها وللمعلمين لا"سِيمًا بعدما تتهدوا :ذلك الرجل العذ 
وقد أخذ يسترجع ما مضى من عر العرب الغابر ومجدّهم الدائر. 

أنتقل بعد هذا العرض الموجز لأوضاع المغفور له الملك عبد العزيز إلى شأنٍ 
آخر لي فيه نصيب: 

لقد كنت في حياتي كثير الأسفار والتنقّلات» فلا أذكر منذ أن بلغت الثانية 
عشرة من العمرء حتى اجتزت الثمانين» أنني مكثت بشكل متواصل في مدينة 
واحدة أو في مكان محدّدء أكثر من أربعة أشهرء باستثناء سنة واحدة قضيتها إلى 
جانب والدي المرحوم إبراهيم المحمد الرواف» أثناء إقامته في مدينة حائل» عندما 
كان ضيفًا على آل الرشيد. فلم أغادر حائل ليوم واحد طيلة تلك المدة. 

كانت دمشق في ذاك الوقت هاجعة رابضة لا حراك بهاء لقد قضى على 
نشاطها وحركتها الوطنية الدائمة الدائبة حاكمها العسكري القائد العام للجيوش 
التركية في الشرق الأوسطء. جمال باشاء الذي علّق على أعواد المشانق رجالات 
دمشق المطالبين باللامركزية من الحكومة العثمانية» ومنذ ذلك الحين أضيف إلى 
اسم جمال باشا كلمة السفاح. 

انّصف هذا القائد العثماني بشدَّة المراس. وقوة الإرادة» وهما من الصفات 
الحسنة الممتازة» إذا اجتمعتا بالرجل السياسي اللبق» أو بالقائد المحنّك رفعتاه 
حتى السماء. 

لكن هذا القائد كان بعيدًا عن السياسة اللينة المرنة» وكثير الافتقار لدهائها 
وحنكتها. عظيم الغرور متغطرسًا غاية الغطرسة أرعن» وقد اكتسب ذلك من حياته 
العسكرية ومن البيئة المحيطة به. 

عرّف والدي هذا القائد من خلال زميله عبدالرحمن باشا اليوسف. أحد 


538 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


الأكراد الموالين للحكومة العثمانية» من مواليد دمشق» الذي تزامل مع الوالد سبعة 
وعشرين عامّاء أثناء قيامهما في المحافظة على الحجيج الشامي» فكان عبدالرحمن 
يتقدم الحجيج هو وستمائة جندي نظامي» ويسير والدي ورجاله المائة والخمسون 
من النجديين في مؤخرة الحجيج للمحافظة عليه من عربان بادية الحجاز وغيرهم». 
وذلك قبل إنشاء الخط الحجازي الذي قام بتبرّعات المسلمين التي قيل عندئذٍ إن 
معظمها جاء من مسلمي الهند. 

لقد تعرّف والدي إلى القائد العام للحيكن التركي» جمال باشاء ومع مرور 
الأيام أحكمت العلاقة بينهما و تونّقت علاقتهما على الرغم من الفارق الخلقي 
بينهماء فلقد جمعت بينهما ظروف الحاجة المتبادلة لكل منهما. 

كان الحكم التركي جاثئمًا بكل ثقله على رؤوس أبناء بلاد الشام» ولم يدع لهم 
قدا وؤائعةا اك فون مره كاذل نسؤات انبمةبواكد ني تعاض الحرية: فكاروا 
لا يرون حتى وميضًا خافتًا من أشعّتها الذهبية» وكان الكبت والظلم والاضطهادء 
مخيمًا على رؤوسهم كالظلمات المدلهمة بعضها فوق بعضء الأمر الذي شل 
حركتهم» فغدوا كالدمى لا يُرى لهم حركة ولا يُسمع لهم صوت ولا همس. 

كانت المجاعة تجتاح مدن سورية وكلّ ركن من أركان قراهاء والموت جاثم 
بينهم باسطًا ذراعيه يستقبل كل من سقطت ورقة حياته من المجموعة السورية وخيرة 
شبابها يتأرجحون بأجسامهم المنهكة على أعواد المشانق» وأجبر من تبقّى من 
أسرهم على مغادرة أوطانهم إلى الأناضول في البلاد التركية» تاركين وراءهم كل 
ما كانوا يملكون من متاع وعقار وأمل وذكريات» وفتيانهم يُساقون إلى الخدمة 
العسكرية كما تُساق البهائم إلى مجازرهاء وكان أفراد الدّرك ورجال الشرطة 
يلاحقون من امتنع من الشبيبة العربية عن الانضمام إلى الجيش التركي. ولَكُم كان 
قليل الحظ من عثرت عليهم الشرطة من الشباب اليافع. كنت تراهم يُساقون 
كالأنعام» ويمشون أمام رجال الدرك والشرطة بخطى متثاقلة مضطربة كما يمشي 
القائد المنكسر العائد مهزومًا من جبهة الحرب» تراهم قاصري الطرف خافضي 
الجناح» يُساقون جبرًا وقهرًا إلى ا 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 39 


كانت دارنا قائمة فى صدر الحارة التى تُعرف بحارة أجليقين» فى محلَّة الحقلة 
المتفرعة من حي الميدان» أحد أحياء دمشق» عاصمة بني أمية» وكان لهذه الحارة 
مدخلٌ واحدء ولدارنا شرفة كبيرة ذات أربع نوافذ تطلّ على كلّ داخل لهذه الحارة. 

وأجليقين اسم لعائلة كردية نزحت من حي الأكراد القائم تحت أقدام جبل 

اورت هله الغائله شيطكى احليقين يعم :رتنه مريكرية مهتا زه :قد لت 
أربعة شبان من زوجتهء التي عرفت بين أهل الحارة بانتسابها إلى قبيلة شمر من 
فخذ العبيد. اقترن هؤلاء الشبان الأربعة بعائلات عريقة من العائلات الدمشقية. 
وكانوا يسكنون جميعهم في منزل واسع» يأكلون على مائدة واحدة» ويأخذون 
مصروفهم اليومي هم وذرّياتهم من والدتهم الشمرية صاحبة الإرادة والإدارة القوية. 
تُعرف بالدلبة التي كانت بنهاية الثمانينيات في آخر عهد لي بها لم تزل ثُدار بواسطة 

كان يقطن هذه الحارة سبع عائلات من أهل القصيم وهم: الكحاماء 
عبد العزيز وصالح الكحيمى» والنجادا حمود وعبود النجيدي» وسالم الطويان» 
والأشقاء الثلاثة عبد العزيز وعبدالله وسليمان المحيسنء ونايف السليمان الصالحء 
ووالدي إبراهيم المحمد الرواف» وعمي محمد الأحمد الرواف» وعائلة الجميل 
من مدينة الرس. وكان يزاملهم في السكن عائلتان من مدينة القبيسة من أعمال 
العراق : رجب العرين» ودياب الشويدر. 

كما كان يشاطرهم في السكن عائلة أحمد محمد عثمان وكانت له سمعته 
الحسنة فى الأوساط الدمشقية» وقد أنجب ولذا سماه (متحمدااه وثلااث نسوة 
إحداهن والدتيء» والثانية اقترنت بسعود بن سليمان الصالحء» والثالثة اقترن بها أبو 
عبدو محمد الكوركلي من كركوك من أعمال العراق. 

كانت هذه العائلات». كعائلة واحدة» يسود فيها الإخاء الإنسانى» وحسن 
الجوار. ومع الأسف هُدمت منازل هذه العوائل جميعها إِلَّا بيت واحد هو منزل 


40 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


اخوالي :من ال تدقعنا 3 وأنقنىء مكاق هذه المتازل طريق: عمومن واسعة 
وأقيم جسر كبير يصل شرقي دمشق بغربها. 
لا تزال دار أخوالي قائمة مسكونة» محافظة على خشبها المنقوش بالذهب في 

إحدى صالاتها الواسعة» وهو من الخشب المتين الذي لا يفسد متانته تقلب 
الأيام» ومر السنين» وهل الأعدات محل بنقوش مزركشة دين الآثار 
القيّمة» فالنقوش تغطي الجدران الأربعة من السقف ولقد دُفع لعائلة عثمان (400 
جنيه) ذهبي مقابل هذه النقوش فأبوا إلا حفظها في هذا المحل» وهي محفوظة 
بزخرفتها الأنيقة المزركشة وألوانها الذهبية الفاخرة» تحكي خبر أعمال صناع مدينة 
دمشق وشطارتهم. 

نشأت في هذه الحارة بين هذه العائلات المحترمة» وقضيتٌ وقت الصبا 
والشباب في أزقتهاء ولا يزال عالقًا بنظري صورة ذاك الشيخ الوقور عبدالكريم 
السناني» من مدينة عنيزة» وهو زائر لهذه العوائل» وبرغم ما أصاب تجارته من 
الخسائر المتتابعة لبعض السنين» بقي محافظًا على ابتسامته العذبة» وكأني أراه 
الآن يسير بخطى وئيدة ثابتة عالي الرأس» يرتدي الملابس الأنيقة الجميلة الزاهية» 
يتوكّأ على عصاه مارًا بمنازل هذه العائلات» ينتقل من زيارة عائلة إلى غيرهاء 
وكان والدي إبراهيم المحمد الرواف» والعمّ محمد الأحمد الرواف يبادلانه 
الزيارات. فرحم الله الجميع. 

كان سوق الجمال في دمشق يسمى (الزفتية) وكان يؤمٌ هذا السوق تجار 
العقيلات لبيع إبلهم أو لشراء الإبل» وكان حي الميدان قريبًا من الزفتية» وفي هذا 
الحي قهاوي عقيل ومنها قهوة عائلة الطميغا من مدينة عنيزة» كان يؤمها التجار 
ويتداولون الأحاديث عن تجارتهم» وعن أسواق فلسطين والقطر المصري» وقد 
رزق الله صاحب هذه القهوة ذرية صالحة» عرف عنهم حسن المعاملة والصدق في 
تجارتهم. ومن غريب الصدف أنني كنت وقرينتي الأميركية الأولى نأخذ غداءنا في 
أحد مطاعم وادي الربوة» وهو متنزه جميل على ضفتيه سبعة أنهر يجري ماؤهاء 
فنّسقي مزارع دمشق وقد أتى على ذكر ربوة الوادي أمير الشعراء شوقي» فوصفها 
بقوله : 


في بلاد الشام وشبه الجحزيرة والعراق 41 


وربوة الوادي في جلباب راقصة الساق كاسية والنحر عريان 
والحور في دُمّر أو حول هامتها ‏ حور كواشف عن ساق وولدان 
عند انتهائنا من الطعامء توجهنا لدفع الثمن» فقيل لنا: إن ذاك الرجل الجالس 
مع رفيقه قد دفع الثمنء فالتفتٌ إليه. وكان متوجهًا نحونا وسلم قائلًا: إني أحد 
أبناء الطميغاء صاحب قهوة العقيلات» فشكرته وقدّرت ضيافته. 
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى» كانت دارنا تضم نفرًا من الشباب 
المتخلفين عن الانضمام إلى الجيش التركي» وأخذت الجندرمة تقوم بتفتيش 
المنازل» عساها تعثر على الأفراد المتخلفين»؛ وكانت دارنا بعيدة كل البعد عن 
الشبهات» أليست هي دار الشيخ إبراهيم الرواف» الملتزم للجيش التركي بتقديم 
الجمال التي تحمل المؤن والذخائر للجيش المزمع توجهه إلى قناة السويس 
لمحاربة البريطانيين؟ وله صلة قوية مع القائد العام للجيوش التركية» جمال باشاء 
وزميل عبدالرحمن باشا اليوسف في سفراته لبيت الله الحرام للمحافظة على 
الحجاج من أهل البادية. 
بهذه الكلمات كان يتحدَّث عمدة الحارة مع الجندرمة والشرطة ليمتنعوا عن 
تفتيش دارناء وقد احتضنت هذه الدار أيضّاء فيما بعدء عددًا كبيرًا من الثوار أثناء 
الثورة الدرزية عام 1342ه - 1924م التي قام بها سلطان باشا الأطرش» ضد 
الفرنسيين عند محاولتهم هضم حقوق الدروز وهدر كرامتهم» واشتعلت هذه الثورة 
مدة سنة كاملة» انضم إليها رجالات القرى والمدن السورية» وذكر أمير الشعراء 
الجماعة الدرزية في مرثاته لدمشق عندما ضربت بمدافع الفرنسيين» وأتت على 
الأحياء الأرستقراطية في درّة الشرق دمشق» فقال: 
وماكانالدروزقبيلشر وإنأخذوابمالايستحق 
ولكن زاده وقُراة ضيفاد كينبوعالحصى خشنوا ورقوا 
لهم جبلأشملهشعاب | فكل جهاتهكرموخلق 
كان يقطن أيضًا مدينة دمشق عائلات كثيرة من النجديين العقيلات» منهم 
البسام؛ والرميح» والعصيمي» وعبدالله الحليسي» التاجر المحترم صاحب المواقف 


42 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


الجليلة في الكرم» والعباس» ونفر من آل الشبل» والربدي» ومن أبناء العقيلات في 
دمشق من أصبح من التجار المرموقين» مثل أبناء محمد العصيمي وحمد القاضي 
والمنيف وولد شقيقتى ي خالد محمود الكحيمي وغيرهم؛ ومنهم من اعتلى الوظائف 
الدبلوماسية والحكومية» فلقد تقلّد أشقائي محمد عيدء وياسين الرواف منصبّي قنصل 
معتمد المملكة العربية السعودية في سورية ولبنان أثناء الانتداب الفرنسي وقد اعتلى 
محمد عيد منصب وزير مفوض في بغداد أثناء الحكم الهاشمي ومنصب قائم مقام 
جدة» في حين عيّن ياسين حاكمًا إداريًا للمدينة ومعاونًا للأمير فيصل. عندما كان 
نائب والده الملك عبد العزيز في الحجاز وكذلك الشيخ عبد العزيز الكحيمي رحمه 
الله سفير المملكة سابقًا في الأردن ولبنان والعراق» وابن شقيقتي الشيخ أحمد 
محمود الكحيمي الذي يعمل حاليًا سفير حكومة خادم الحرمين الشريفين في لبنان 
والذي عمل في الأردن والعراق وسوريا سفيرًا للمملكة العربية السعودية. 

من أبناء عقيلات دمشق أيضًا السفير السعودي المتقاعد. رواف محمد الرواف» 
اس مسا مسقم ل لل ل حو د ل ل ل 
وولد شقيقي محمد عيد» ياس الرواف الكاتم» اعمال الخغارة السوودة ارالإمدان 
رفن الرنامن انا تسل ف المخارة قن الوقت الحاضر أولاد شقيقى ياسين» راي 
ومامون ربجا ارات اماك الدخرر كمال الرؤاق الى تعمل نس الونت لجار 
أستادًا في العلوم السياسية بكلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود بالرياض. ولقد 
عمل في الكلية نفسها في السابق أستاذ القانون الدكتور صالح الكحيمي ولد السفير 
عبد العزيزء رحمه الله» وشقيقه الدكتور رشيد» مدير الخدمات الطبية ورئيس قسم 
الجراحة بالمستشفى العسكري بالرياض . وشقيقهم إبراهيم يعمل بوزارة الخارجية 
السعودية ورابعهم سليمان يدير أعماله التجارية. 


الجدير بالذكر أيضًا أن الأخ ماجد الشبل» المذيع المعروف في إذاعة 
وتلفزيون المملكة» ينحدر من عائلة الشبل النجدية التي كانت مقيمة في دمشق 
ومن تجار العقيلات الذين تردّدوا على دمشق دون أن يستقرٌوا بهاء سليمان العبد 
الله الرواف» وسليمان محمد الرواف الذي أصبح ولده محمد مديرًا لمطار بيشة» 
وعقل الناصر الرواف». الذي أصبح ولده عبدالرحمن بن عقل الرواف من كبار 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 43 


ضباط البحرية السعودية» ومن أولاد عمومتي الذين زاروا دمشق في مرحلة متأخرة» 
أذكر منهم الشيخ محمد الرواف أمير مدينة عرقة. 

من سكان عرقة الشيخ عبدالرحمن الرواف أبو حمدء رحمه الله. وكان من 
أوائل أعوان المغفور له مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز في 
أوائل حكمه تغمّده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته» ولم يزل ولداه محمد وعبدالله 
الرواف وثانيهما نائب أمير عرقة يقيمان في مزرعتهما مع أبنائهما الذين يعملون في 
الدوائر الحكومية في الرياض. ومن أبناء عمومتي أيضًا ناصر الرواف» رحمه الله 
الذي عمل في السابق بإدارة شؤون البادية في وزارة الداخلية. 

أستميح القارىء عذرًا إذا أطلت عليه استعراض أفراد أسرتي» ولكن عاطفة 
القربى أثرت على قلمي أثناء ذكري للعقيلات. 

من المفيد أن أذكر أن كثيرًا من الأسر النجدية كانت تقطن القطر المصري. 
ومنهم الشيخ فوزان السابق» الوزير المفوض للمملكة العربية السعودية في القاهرة 
وأخوه عبد العزيزء وكذلك حمد المديفرء وعبد العزيز الحجيلان وعبد العزيز 
الجاسر ولهؤلاء خيول عربية في إسطبلات خاصة. ومن العقيلات في عمّان عائلة 
الجمعان والمنيف من القصيم. 

أعود مجددًا إلى متابعة حديئي عن جمال باشا السفاح وأعماله: 

كان ما يشغل بال القائد التركي ويأخذ قسمًا كبيرًا من وقته» هو: تهيئة الجيش 
التركي المزمع إرساله نحو مصر وزحفه على قناة السويس. لقتال البريطانيين 
وإجلائهم عن أرض الكنانة» وكان لا بد لهذا الجيش من اجتياز رمال غزة ورفح 
والعريش» الكثيفة والسير عبر مسالكها وطرقها الوعرة» ولمّا لم تكن أدوات النقل 
متوفرة في ذاك الزمن. كما هي الآنء لم يكن أمام الجيش التركي من أدوات النقل 
سوى الجمال والخيل والبغال» فهي وحدها التي كان يمكنها نقل المعدّات الحربية 
الثقيلة والذخائر المختلفة والمواد الغذائية. 

استدعى القائد التركي بعضًا من التجّار الدمشقيين إضافة إلى الوالد الذي التزم 
بتوفير ثلاثة آلاف جمل» وألف من أشدتهاء والتزم بقية التجار بتأمين الآلاف من 
الإبل لتوضع تحت تصرّف الجيش المزمع إرساله للزحف نحو قناة السويس. 


44 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


ولم يتمكن التجار من الوفاء بجميع التزاماتهم من الإبل ومنهم الوالدء إذ 
وعدت الحكومة التركية أن تدفع للتجار بالليرات الذهبية ثمن ما يقدّمونه من الإبل» 
ثم ما لبئت أن استبدلتها بالليرات الورقة التركية وكانت تنقص أربعين في المائة عن 
قيمة الليرة الذهبية» وهكذا امتنعت القبائل العربية عن بيع جمالهاء فما كان من 
القائد التركي إِلَّا أن استدعى التجار ووضعهم في السجن.ء الواحد تلو الآخرء إلا 
الوالد الذي رافق الوفد الذي أرسله جمال باشا إلى الحجاز برئاسة عبدالرحمن 
باشا اليوسف للاجتماع بالشريف حسين» الحاكم الإداري لمكة المكرمة» للتفاوض 
معه بشأن الحرب التي يوشك أن يتطاير شرّرهاء ولم يوقق الوفد في مقابلة الشريف 
حسين» وعاد أدراجه إلى دمشق» بعد وصوله لمدينة الرسول محمد يَللِةِ. 


أقام عبدالرحمن باشا اليوسف حفلًا في منزله دعا إليه كبار رجالات الجيش 
التركي» ودعا أيضًا بعض كبار الأجانب المقيمين في دمشق» وكان من بينهم آنسة 
بريطانية تُدعى (الآنسة بيل)» وكانت موفدة لجريدة الأخبار اللندنية» لدراسة معالم 
الشرق والوقوف على آثاره» وكانت مغرمة بحب الآثار» والوقوف على معالم 
البلدان العربية» والكتابة عنهاء وخاصة آثار العراق ومعالمه» وطلبت أثناء الحفل 
من عبدالرحمن اليوسف المساعدة للوصول إلى العراق» وعرّفها صاحب الحفل 
على والدي إبراهيم الرواف الذي كان بين المدعوين لهذا الحفل» وكان ذلك في 
أوائل فصل الصيف وكان تجار العقيلات الذين يطرقون الطريق إلى بغداد. لم 
يمارسوا السفر في هذا الفصل لانشغالهم لدى القبائل العربية لشراء الإبل منهاء 
والتوجه بها إلى دمشق» وفلسطين والقطر المصريء وأرسل الوالد معها شقيقه العم 
عمر المحمد الرواف واثنين من رفاقه. كان أحدهما رجلا ممشوق القامة حسن 
الوجه سريع الحركة واسمه أبو الروق» فأوصلوها إلى بغداد» ولم تتّصل بوالدي 
ولم يرها طيلة سنين عديدة إلى أن حدث أن قابلها فيما بعد في الكويت وعلم أنها 
موظفة كبيرة في استخبارات الجيش البريطاني . 

لم يشكٌ الوالد يومها في أمرهاء ولم يرتب بمقاصد ذهابها لبغداد ظنًا منه أنها 


كانت تصدّقه القول. وأنه ليس لها أيّ مهمة أخرى في بغدادء ولم تداعب أفكاره 
التصوّرات أو يخطر بباله» أن هذه الآنسة سيكون لها شأن يذكرء وكان يعتقد أن 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 45 


القصد من وراء زيارتها لبغداد الاظلاع فقط على آثارها ومعالمهاء كما أخبرته» 
فلم يطرق ذهنه أن القصد من وراء تنقلها في الأمصار العربية هو سبر غورهاء 
والاجتماع بزعمائهاء والوقوف بنفسها على كل ما خفي من أمور ساكنيهاء 
للاطلاع على ما كانت تكنه نفوسهم, وما اختلج في خواطرهم عن السلطان المقيم 
في إسطنبول الذي يحكم بقايا إمبراطورية مترامية الأطراف التي أصبحت تُعرف 
بالرجل المريض والتي سيخوض البريطانيون معها حربًا شعواء لا هوادة فيها. 

لقد بعد عن تفكير والدي» ولم يخطر ببال أحد في ذلك الوقت أن النساء 
يقمن بمثل هذه الأعمال الغامضة للسياسة البريطانية. 

أعود للحديث عن جمال باشاء الذي ازدادت همومه ومشاكله السياسية» فلقد 
كانت أفكاره مشوشة متداخلة» وحواسه مضطربة» وكان مما يشغله موقف شيخ 
قبيلة الرولة صاحب النفوذ القوي بين القبائل السورية» فقد كانت قبيلته أكثر القبائل 
عددًا وعدة. وأشد بأسّاء وأقواها شكيمة» وأطوعها انقيادًا لشيخها النوري بن 
شعلان» وولده الأمير نواف» الى خلفة ولدين: أكبرهما الأمير فواز الشعلان. 


لم يرتح القائد التركي جمال باشا لتنقلات النوري المريبة بين القبائل العربية وقد 
سبق لهذا القاتد جمال أن ألقى القبض على النوري بن شعلان» وأودعه السجن في 
دمشق لبضعة أيام» فثارت قبيلته» واستشاط ولده الأمير نواف غضبًّاء فخاف القائد 
من مغبّة عملهء لا سيما بعدما هدّد ولده الحكومة العثمانية» فأطلق سراحه. 

في الصباح الباكر لأحد الأيام استدعى القائد التركي والدي وبادره بقوله: 
إنك يا شيخ إبراهيم من المخلصين لهذه الدولة (يعني الحكومة العثمانية) لقد 
خدمتها أكثر من ربع قرن» كما خدمها قبلك والدك بضع سنوات» وإني على يقين 
من إخلاصك لهاء ولولا ثقتي بك» وتقديري لخدماتك لها لما استدعيتك في هذا 
الصباح الباكرء وإني أصارحك القول إنني غير واثق بهذا البدوي» ولا بتنقلاته 
المريبة بين القبائل» وقد علمت أغيرًا بالصداقة المتينة بينك وبين هذا الشيخ وولده 
نواف» وأرغب أن تذهب إلى مضارب ابن شعلان» وتشتري بعض الإبل من قبيلته 
ثم تدعوه وولده نوافًا للارتي بد شق فإذا :وققت بإحصتارهمها إلى وفشق 
سأغض الطرف عمًا تبّى عليك من التزامك للإبل» ووعد والدي ارما 


46 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


احتفظ بها الوالد في نفسه» وبقيت مكتومة في صدره إلى أن قضى نحبه» ولم 
يفصح عنها. رحمه الله . 

بهذا فاتح جمال باشا السفاح والديء وتحدَّث إليه وهو يعبث بشعيرات لحيته 
السوداء التي كانت تملأ أقسام وجهه ثم نهض من مقعدهء وأخذ يسير ذهابًا وإيابًا 
ويترنح بقامته المربوعة وعيناه لا تستقرّان بمكان» فيخيّل للناظر إليه أنه يفنّش عن 
شيء فقده. 

تردّدت في هذا اللحظة الحرجة المثيرة في ذهن والدي أفكار كثيرة واستعرض 
ضورًا سريعة وماك أمافه أكيانا كتكلنة (كماثمرٌ الصور الشركة على القناشة 
البيضاء) تحمل معها هموم الدنيا في فظاعة الإنسان خسّة نفسه وأخذ يردّد بينه وبين 
نفسه قائلا: إن القبائل امتنعت عن بيع ماشيتهاء إِلَا إذا دفع ثمنها بالعملة الذهبية» 
وتوقف التجار أيضًا عن شراء الإبل للسبب نفسه. وأخذ القائد العام يودعهم 
السجن واحدًا بعد الآخرء وخشيّ الوالد أن يحدث له ما حدث لهؤلاء التجار من 
زملائه إذا لم يتظاهر بالموافقة على تقر جمال باشا وقرّر الوالد» رحمه الل 
بسرعة أن يبيّن للقائد جمال موافقته على القيام بما أمر به» وهنا قظَعٌ القائد على 
والدي تفكيره بقوله: ماذا تقول يا شيخ إبراهيم وبمّ كنت تفكّر؟ ألم تستحسن هذا 
الأمر أم أنك لن تتمكن من القيام به؟ 

فأجابه: نعم أيها القائد. إنها لفكرة صائبة» ونظرة وقّادة رائعة» وإنك لعظيم 
أيها القائد الملهم» إن أفكاري سبقتني إلى مضارب ابن شعلان» لقد كنت أفكر في 
كيفية إنجازهاء وبالخظة التي سأتبعهاء وسأقوم بقضائها خير قيام» وأكون عند 
حسن ظنّْكء. وسأترك دمشق في القريب العاجل إن شاء الله. 

كان لكلمات الوالد في نفس القائد وقعها الحسن. فأشرقت أسارير وجهه. 
وارتسمت على شفتيه ابتسامة النصر والظفرء وقبل أن يغادر والدي غرفته» ناوله 
بدرة من المالء» قائلًا: خذ هذه المنحة لتستعين بما فيها على سفرك يا شيخ 
إبراهيم» فتناولها والدي بكلتا يديه المضطربتين» ثم شكره وانصرف». ولكن في 
الحقيقة كيف ودّعه» وبأيّ صورة ترك مجلسه. إنه لم ينتبه لذلك» فكان مضطربًا 
فكريًًا ونفسيًا من الصدمة القاسية التي بادره بها هذا القائد. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 47 


لقد كان موقف والدي حرجا جدًا للصداقة المتينة القديمة العهد التي تربط بينه 
وبين ابن شعلان» وكان الوالد واثقًا من تلبية الشيخ لدعوته» ولم يخامره شك في 
ذلك». وكانت الهواجس والأفكار الطيبة منها والخبيثة تتردّد في مخيلته. سائلًا 
نفسه: أأذعن لرغية القائدء خوفًا منه أو طمعًا في مغرياته ضاربًا عرض الحائط 
بالصداقة المتينة بيني وبين الشيخ النوري وولده الأمير نواف. أم كيف أتعدّى 
الغرف وأتخطى حواجزه؟ لا تربطني بهذا القائد غير رابطة العقيدة التي يتظاهر بها 
وأنا أمثٌ لهذا الشيخ بروابط متينة محكمة, إنها اللغة والوطن والتراث والعقيدة» 
والدم العربي والأصل المشترك والصداقة. 

أين أكون من تأنيب ضميري الذي سيلازمني طيلة حياتي وفي غدوي 
ورواحيء وفي كل مكان أتركه أو أقيم به إذا حقّقت رغبة القائد التركي الخبيثة 
الشرسة؟ لم يقترف هذا الشيخ ما يستنكرء حتى أقدمه لقمة سائغة لهذا القائد 
الطائش. 

كان هذا كله بل أكثر منه يختلج في صدر والدي» كما فهمت منهء وقد فكر 
قليلًا ثم استخار الله وقرّر أن يترك دمشق ويغادرها دون رجعة إليهاء ما دام 
الحكم التركي جائمًا في ربوعها رابضًا على ظهور أهلها. 

كان قرار والدي هذا قاسيًا جدّاء فالبُعد عن مركز تجارته وفراق الأهل» ليس 
بالأمر الهين» ولا بالسهل أبدّاء لقد هانت على الوالدء رحمه الله. هذه الأمور كلها 
في سبيل الحفاظ على صداقة الشيخ ابن شعلان وولده نواف وعدم الغدر بهما. 

حال دون مغادرة والدي لدمشق بالسرعة المطلوبة» شريكه السيد خليل 
السمان» وكان واحدًا من تجار دمشق الأخيارء فقد كان طريح الفراش» وقضى 
العرف واستلزم الشرف والمروءة ألا يدع هذا الرجل الطيب فريسة للقائد التركي 
المتمرّد الشرس. وقضى الله وقضاؤه الخيرء حيث لم تمض إلا أيام قلائل حتى 
انتقل السيد السمان إلى لقاء الله عرّ وجل» وكان والدي على معرفة بأحوال عائلة 
السمان من الوجهة المالية» فأخبر السيد رشدي ولد خليل السمان بما عزم عليه من 
مغادرة دمشق دون رجعة, ما دام الحكم التركي جائمًا عليهاء ثم نصحه بأن يغادر 
دمشق هو الآخر. 


48 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


ترك الوالد مدينة دمشق بعد سبعة أيام من مقابلة القائد التركي» متوجهًا إلى 
البادية»؛ حيث مضارب النوري بن شعلانء» فاستقبل استقبالا طيبًا من قبل صديقه 
النوري» وأسرٌ الليلة التي قدم في نهارها للشيخ بما كان يضمره القائد التركي في 
دمشق من الغدر به والمكر له ولولده نواف. قائلًا له: لقد هجرت دمشق لهذا 
السبب» فَحُذُ حذرك من هذا القائد الطائش» فشكره النوري وقدَّر عمله حق قدره. 

أقام والدي خمسة أيام يتمتع بما يغدقه عليه ابن شعلان من كرم الضيافة» 
ومرّت قافلة التجار العقيلات متوجّهة إلى العراق وكانت القافلة برئاسة العمّ محمد 
الأحمد الرواف» فواكبها الوالد ورجاله الأربعة إلى أن حطّت رحالها في بلدة 
الرزازة» من أعمال العراق» وكانت تابعة للشيخ فهد بن هذال» شيخ قبيلة عنزة» 
وكانت قبيلة عنزة في أوج عزها لكثرة خيراتها من المواشي والإبل والخيل والغنم» 
وبما كان يلقيه على أفراد هذه القبيلة الضابط البريطاني (المستر لثمن) من الذهب. 

غادر الوالد ورفاقه الرزازة متوجّهًا إلى الكويتء. وكانت إمارة الكويت وقتئلٍ 
تحت الحماية البريطانية» شأنها في ذلك شأن الإمارات التسع» القائمة على الخليج 
العربي» وكانت تُعرف بالمحميات البريطانية التسع. ورافقه في سفره هذا رجل يُدعى 
حسين كاشي من شيعة العراق» وأحد العملاء البريطانيين المرابطين في البصرة 
وضواحيهاء وقد عهد إليه بمرافقة والدي ورفاقه الأربعة الشيخ فهد بن هذال» الذي 
كان على اتّصال دائم بالقيادة البريطانية المرابطة بمكان يُدعى (العشار) بين البصرة 
وبغداد. وكان ذلك أثناء توجّه البريطانيين إلى بغداد لاحتلالها . 

عند وصول الوالد ورفاقه بلدة الكويت» أنزله أميرها الشيخ جابر الصباح في 
ضيافته» وفي صباح اليوم الثاني استدعى الشيخ جابر والدي. وتحدثا معًا برهة من 
الزمن عن الوضع الراهن في سورية وبقية البلدان العربية» وفي أثناء حديثهما وجّه 
الشيخ جابر سؤالا لوالدي قائلًا: ما الذي حدا بك لزيارتنا في هذه الأيام الحرجة؟ 

أخبره الوالد عن سبب حضوره وبما كان يضمره القائد التركي» جمال باشاء 
لرئيس عشائر الرولة النوري بن شعلان؛ غير أن الشيخ جابرًا كان قلمًا وخائقًا من 
احتمال الأذى الذي قد ينال الوالد من البريطانيين» وكان يلاحظ على الشيخ جابر 
القلق أثناء حديثهماء وحاول الشيخ جابر أن يغطي قلقه بكلمات الترحيب» لكن 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 49 


تلاشت كلماته الطيبة وترحابه الحارء أمام قلقهء وكان مما قاله للوالد: «إن آل 
الصباح» وسكان الكويت يرخبون بقدومكم» ولكن الإنجليز في ظروفهم الحاضرة 
كما ترى» مقيّدون أيدينا وشالون حركتناء وخازموننا من أنوفنا» (ووضع سبابة يده 
على أنفه) قائلًا: وكما تعلم أن الحرب بين الإنجليز والترك في أوجّ معمعتهاء وقد 
أسرّ لي القنصل البريطاني عندما أخبرته بقدومك» بقوله: لدينا أخبار عنهء إنه 
يساعد الأتراك أعداءناء فأجابه الوالد» سأشرح للبريطانيين سبب قدومي» وأخبرهم 
أنني بطريقي إلى نجد وسوف لا تذكر بسوء أيها الأمير إذا أراد البريطانيون مضرّتي 
أو أصابني مكروه منهم» والناس تعرف حق المعرفة أن ليس لك من الأمر شيء» 
وسأغادر الكويت بعد غد إن شاء الله» فأجابه الشيخ جابر بقوله: هذا إذا لم يحتفظ 
بك الإنجليز كرهينة» أو كجاسوس تركيء ثم سكتا هنيهة» فاستأذن والدي الشيخ 
جابر لأخذ راحته وودّعه ثم انصرف. 

في مساء اليوم نفسه. استدعى القنصل البريطاني والدي وتحدثا حديثًا عاديا لا 
يُشْتَم منه أي نفور أو قلق من زيارته للكويت. وقال له القنصل إن القائد العام 
البريطاني السيد برسي كوكس يرغب في مقابلتك» وفي الصباح الباكر غدًا ستنقلك 
باخرة حربية للبصرة للاجتماع بالقائد العام. 

رافق والدي على الباخرة حسين كاشي» وفهم منه الوالدء أن البريطانيين 
مهتمون براحته وقال له: لقد طلبوا من والد زوجتي السيد عويد ليهيىء لك مكانًا 
فرَيةاةلاتها هي ردارة بالنسازة "لنات سس رصيق أو مدل اثناء:زبارملك. 

رست الباخرة في ميناء البصرة» وكان السيد عويد مع نفر من البريطانيين 
بانتظار الوالد» فصافحهم واحدًا واحدًا ثم توجّه هو والسيد عويد إلى داره. 

أثنى والدي فيما بعد ثناء عاطرًا على الحاج السيد عويد ووصفه بقوله: كان 
في أوائل العقد الخامس» طلِق اللسان» سلس الحديثء ذا عقيدة إسلامية متينة» 
يستشهد أثناء حديثه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأقوال المأثورة» وكأنه 
يقرأ في كتاب» وقد تمتّع بنفوذ كبير في قومه» وحاول البريطانيون أن يكسبوا عطفه 
وصداقته ليُدنوه من حظيرتهم» فلم يفلحواء لأنه كان يعتبرهم دخلاء على بلده 
وقد تخلى عن ولده شكري عندما عيّنه البريطانيون رئيسًا للشرطة في البصرة» فلم 


يجتمع بولده شكري ولم يسمح له بزيارته طيلة أيام الاحتلال البريطاني للعراق. 
ولم يكتم السيد عويد نفوره من نسيبه» حسين كاشيء زوج ابنته» وكان دومًا يؤنُبه 
أمام الناس ويناديه بقوله: يا عميل الإنجليزء اغرب عن وجهي»ء غير أن حسين 
كاشي لم يُضغ لتأنيب ختنه» وبقى يتردّد على منزله أثناء زياراته المتكررة للبصرة. 
وفي مساء اليوم الذي قَدِم فيه الوالد إلى البصرة استدعاه القائد العام للجيوش 
البريطانية السيد برسي كوكس وبعد الترحيب والمجاملة» فاجأ القائد البريطاني 
والدي بعدة أسئلة هذا بعضها: 


ألم تجتمع بالقائد العام التركي في سورياء منذ شهرين وبضعة أيام» وعلى 
انفراد؟ ألم تكن من المتعهدين بآلاف الإبل لتنقل معونات الجيش التركي أثناء 
زحفه نحو القناة؟ ألم تكن من أعضاء الوفد الذي أرسله القائد التركي جمال باشا 
إلى الحجاز» وكان يرأسه عبدالرحمن باشا اليوسف للاجتماع بأمير مكة الحسين بن 
علي وولده فيصل؟ ألم يُسجن زملاؤك التجارء وبقيت أنت حرًا طليًا؟ 

أجاب والدي القائد البريطاني بكل هدوء كعادته» ودون انزعاج أو اضطراب 
أو تلعثم ورد على كل جملة قالها بكلمة نعم. وهنا احمرٌ وجه القائد البريطاني» 
وأبدى انزعاجه لإجابة والدي بهذه الكيفية» وغيّر لهجته الرقيقة التي قابل بها 
الوالد» ثم نطق بصوت عالٍ مزعج» وضرب بيده على طاولة كانت أمامه» إذا كنت 
تعترف بكل هذا ففيمَ كنت تفكر أن نقابلك به؟ 

أفلا نكون على حق إن شككنا بقدومك. واعتبرناك جاسوسًا تركيًا؟ فأجابه 
الوالد: رفقًا أيها القائد إنني لم أكن جاسوسّاء ولم آتِ لزيارة الكويت بطريقي 
إلى نجد لالتقاط الأخبارء ثم حدّئه عن الأسباب التي خرج لأجلها من دمشق 
شارحًا له الظروف القاسية التي مر بها. 

سكت القائد البريطاني قليلاء وأطرق رأسهء ثم رفعه» وكأنه وثّق بما قاله 
الوالد وعاد وخاطبه بلطف وهدوءء ثم سأله عن المدّة التي قضاها بسفره من دمشق 
إلى الكويت وعن ساكني الصحراء التي مر بهاء وعن فهد بن هذال شيخ عنزة. 
وقبل أن يغادر والدي مجلس القائد البريطاني» قال له: غدًا ستقابلك الآنسة (بيل) 
رئيسة القسم السياسي» ألا تذكرها؟ لقد تعرفت عليها في دمشق منذ خمسة أعوام 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 51 


في الحفل الذي أقامه فى منزله عبدالرحمن باشا اليوسف على شرف ضباط الجيش 
التركي» وك طاتك موك با فاقيا للذهاب إلى بغداد ولبّيت طلبهاء. ألا تذكرها؟ 
فقال الوالد نعم» لقد تذكّرتهاء وكأنها أمامي الآن بفستانها الحريري المشجّرء 
وسوارها الفضّيء لقد رجتني أن أهيىء لها السفر إلى بغداد لتدرس معالمها وتطلع 
على آثارهاء وإني لسعيد بلقياهاء ثم ودّعه عائدًا إلى دار السيد عويد» منشرح 
الصدرء مطمئن القلبء. ناعم البال بعد الخوف الذي أصابه إبان وصوله إلى 
الكويت. ولم تصطبر الآنسة (بيل) لليوم الثاني لتجتمع بالوالد» بل بادرت فأرسلت 
إليه بسيارتها وترجمانها الهندي. ففي عصر ذاك اليوم استقبلت الآنسة (بيل) والدي 
انيتالة جا اه وكاتفت كما | خري: الوالد. ها "المت ده عضا فحه ينها 
الثانية تربت بها على كتفه. وكامنا اك ا وزالت الكلفة بينهماء 
وبادرت الوالد بقولها: ها هي الأيام تجمع بيننا مرة ثانية يا شيخ إبراهيم» وإني 
لسعيدة بلقائك وكم تمتّيت أن أجتمع بك قبل هذاء لأعبّر لك عمًا يكته ضميري 
لك من الإخلاص والولاء والشكر على حسن صنيعك معي فيما مضى من الأيام؛ 
تانعة صصريقها بالهيفة تاكذةه ازقون ]3 “فرك للوالن سالا بلسحده مها أو 
مجاراتها بما تبديه قائلة : 


حكاك آمر من الأهيبة بشكان لدف .دائرة الاستهبارات البريطائية سعكلمك 
بالقيام به» وليس هو بالصعب عليك القيام به» إنك وجيه في قومك» ومن عائلة 
محترمة معروفة عند أهل الحضر والبادية» إن القلم السياسي في دائرة الاستخبارات 
البريطانية خصّصت الملايين من الجنيهات لتنفقه في هذا السبيل» وحتى الآن لم 
تظفر بالرجل الحْفْء ليقوم به» وقد تحدَّئت مع القائد العام السيد بيرسي كوكس في 
هذا الموضوع ورشّحتك للقيام به. وقد أخذت موافقته على ذلك وكل ما يُطلب 
منك هو أن تجمع خمسمائة رجل من بلدتك بريدة» ومن القصيمء أو من أهل 
البادية لتشغلوا ابن الرشيد المرابط في الحجر بإحدى محطات سكة حديد الخط 
الحجازي وتضغطوا عليه حتى يعود إلى بلدته حائل. وستقدَّم لك الحكومة 
البريطانية ما تحتاج إليه من الأموال والأرزاق والأسلحة. 


إذا كان هذا يفيدك» فأخبرني غدًا لأهيّىء اجتماعك بالقائد العام وبدائرة 


52 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


الاستخبارات للتداول بينكم» وتطلب ما تريده في إنجاز مهمتكء أليس هذا بالأمر 
الهين عليكء. فما رأيك؟ ولم يصطبر الوالد إلى الغدء بل شكرها على حسن ظنْها 
وثقتها واعتذر عن أداء المهمة بسبب انشغاله بالتجارة» فأردفت قائلة: 


إننا في معركة وفي حرب ضروسء ستغيّر خارطة العالم» وتتطلب مثا الإسراع 
بالقيام بمثل هذه الأمورء ثم سكتت قليلًا وأردفت قائلة: أنت الآن تَعِب وسنتابع 


حديثنا غدًا إن شاء الله . 


بعد ساعة من ذهاب والديء عاد إليه مترجمها الهندي المسلمء, وأبدى 
لوالدي نصائحه ليوافق على ما عرضته عليه الآنسة (بيل) قائلًا له: إنه من الصعب 
عليك رفض ما عرضته عليك الآنسة (بيل)» إن البريطانيين في حرب مع الأتراك 
وحلفائهم من الألمانء وإنك منّهم لديهم بالجاسوسية لحساب الأتراك» أعداء 
البريطانيين» ولولا معارضة الآنسة (بيل) لقلم الاستخبارات» ووقوفها بوجوههمء 
وإزالة ما علق بأذهانهم من أنك جاسوس تركيء لكنت الآن وكأنك لم تكن. 


بهذا التعبيرء وبهذا اللفظء بهذا التهديد. والإنذار خاطب المترجم الهندي 
والدي وقبل أن يغادر المترجم منزل والدي قال له: إننا مسلمون» ونصيحتي لك 
هي نصيحة المسلم لأخيه المسلم» فاتبّع ما أبدته لك الآنسة (بيل)» ولم يستحسن 
الوالد إنذار المسلم الهندي. فصمّم على عدم تلبية مطلب الآنسة (بيل)» وفي 
اجتماعه معها قدَّم لها كثيرًا من الأعذار لعدم تلبيته لرغبتهاء فقالت له: إنك لصديق 
عزيز ولن أنسى معروفك لي من قبل ومن الصعب عليٌ أن أتخلى عن مساعدتك» 
وأتركك فريسة عنادك بين يدي رجال الاستخبارات البريطانية» وأعود وأكرّر قولي: 
إننا في حرب مع الأتراك والألمان حلفائهم وقد سبق أن وصمّك رجال 
الاستخبارات البريطانية بأنك من أتباع أعدائهم الأتراك. فوقفت أمامهم وأزلت من 
أفكارهم السيئة ما وصموك به» فتجبًا للقيل والقال» ورفعًا للشبهات عنك أرى أن 
تلتزم بتقديم عشرين ألف رأس من الغنم للجيش البريطاني» وهكذا كان» وعند 
انتهاء الوالد من تقديم ما تعهّد به والتزم بتقديمه للجيش البريطاني؛ خصّص له 
ولمن معه منزلا في مدينة الزبير»ء تحت مراقبة البريطانيين» مع مائة وخمسين جنيهًا 
تُرسل إليه شهريًا. وبقيت الآنسة (بيل) صديقة للوالد طيلة حياتهاء أي إلى أن 
توفيت عام 1344ه - 1926م. في مدينة بغداد. 


في بلاد الشام وشبه الحزيرة والعراق 53 





مدينة الزبير إحدى المدن العراقية» لا يفصلها عن مدن نجد سوى صحراء 
واسعة وكان يقطن هذه المدينة عدد كبير من العائلاات النجدية المعروفة» ومنهم 
الزامل» والبسامء وأبا الخيل» وآل إبراهيم» وغيرهم» وكان ممّن هاجر إليها أحد 
أجدادي عيسى بن رواف قبل مائة من السنين» وشيّد فيها جامعًا كبيرًا يحمل اسم 
العائلة» ويُسمى بجامع ابن رواف» وحدث آنذاك أن قَدِم شقيقي ياسين الرواف من 
دمشق وأقام بجانب والدي في مدينة الزبير. 

مكث الوالد رحمه الله بهذه المدينة أحد عشر شهرّاء ولم يتسنّ له مغادرتها إِلَا 
مرة واحدة تلبية لدعوة تلقّاها من الشيخ خزعل» حاكم مقاطعة المحمرة» لاستقبال 
الأمير عبد العزيز بن سعود القادم إلى البصرة» وأقام الوالد في قصر الشيخ خزعل» 
الفخم بضخامته وبتنسيقه وبأناقة فرشه وبأدب خدمه» فقد كان فيه كل ما يحتاج إليه 
الإنسان من راحة ومتعة» وكان يتردّد على هذا القصر أمراء الكويت آل الصباح 
أصدقاء الشيخ خزعل ينعمون بالراحة والهدوء وكان آخرهم الشيخ مبارك الصباح» 
وعند مغادرة الشيخ خزعل ووالدي برفقتهما شقيقي ياسين متوجّهين إلى لقاء الأمير 
عبد العزيز بن سعود التفت الشيخ إلى ولده (جاسب) الذي كان يخلفه في ممارسة 
الحكم أثناء غيابه قائلًا: «جاسب ما أريد أن أوصيك ارجع وشوف»». إنها جملة 
صغيرة عظيمة المعاني حمَّلّت بين كلماتها كل المعاني التي أراد الحاكم قولها إلى من 
سيخلفه في الحكم.ء ثم غادر الشيخ خزعل ووالدي وشقيقي القصر الفخم متوجّهين 
إلى البصرة للسلام على الأمير عبد العزيز رحمه الله. 

قدَّم الشيخ خزعل والدي للأمير قائلا : الشيخ إبراهيم الرواف وولده ياسين» 
فأجابه سموه بقوله: إننا نعرف هذه العائلة. إنهم منا يا أهل نجد» وأحب سموه 
ملاطفة شقيقي ياسين» قائلًا له: هل ترافقنا لبلدكم بريدة وتترك هذا الشايب؟ 
- أراد بالشايب الوالد رحمه الله - فأجابه شقيقي بقوله: تأمر طال عمرك» بيد أن 

مقاطعة المحمرة وأميرها الشيخ خزعل بلاد عربية» تقع ما بين العراق 
والكويت وإيران وتُعرف الآن باسم عربستان» وقد أطلق العرب على هذه المقاطعة 
اسم الأهواز (الأحواز)؛ وكانت تُعرف لديهم بهذا الاسم» وكان آخر حكامها 


54 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


الشيخ خزعل» يتمتع باستقلال داخلها ولا سلطة لأحد عليه؛ يتصرّف بإدارة 
شؤونها الداخلية كما يشاء ويريدء ولكن بما أن هذه المقاطعة قريبة من الكويت» 
وكانت الكويت تحت الحماية البريطانية فقد رضخ الشيخ خزعل للبريطانيين» 
وأذعر لأوامرهم فيما يتعلق بالمسائل الخارجية. 

عند قيام رضا بهلوي شاه إيران بثورته على البريطانيين في إيران» ضمّ مقاطعة 
المحمرة إلى الإمبراطورية الإيرانية» ودمجها فى دولته وألقى القبض على أميرها 
الشيخ خزعل » فسيق أسيرًا إلى طهران وحوسب حسانًا عسس رأ وأودع السجن إلى 
أن توفاه الله» ودُفن هذا الأمير العربي في مقبرة دار السلام بالنجف من أعمال 
العراق. 

كان والدي يتمتع باحترام زائد من أهل الزبير وغيرهم». ومع هذا مكث في 
هذه المدينة مسلوب الحرية مقيدًا بأوامر البريطانيين» ولقد ضاق ذرعًا من إقامته في 
بلدة الزبير» وما كان له أن يشعر بهذا الضيق والملل وهو موجود بين أناس يربطهم 
به دم ونسب . فهم كانوا من خيرة العائللات النجدية» أروه من ضروب الإكرام ما 
لم ينْسّه أبد الدهرء غير أن الحرية التي لا يماثلها شيء في هذه الحياة كانت تدعوه 
للرحيلء» ففكّر رحمه الله بمغادرة الزبير والفرار منها خلسة دون أن يشعر به 
الإنجليز. أرسل والدي أحد رجاله إلى البادية لشراء الركائب لتنقلهم من الزبير إلى 
جد وضرب موعدًا مع هذا الرسول أن يأتيه في آخر ليلة من شهر جمادى الأولى» 
وقبل الليلة التي جعلها موعدًا بينه وبين رسولهء أخذ بعض رفاقه في نقل أمتعتهم 
خارج مدينة الزبير وأبقوها وديعة عند رجل للمحافظة عليها . 

كانت ليلة باردة حالكة الظلام» وقد أوى الناس إلى مضاجعهم.ء وعندما 
هدأت حركة الشوارع غادر والدي ورفاقه منزلهم إلى المكان الذي كانت تنتظرهم 
فيه نجائبهم» فامتطوها ميمّمين شطر مدينة حائل ملتجئين إلى آل الرشيد. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 55 





الفصل الثانى 


مع قافلة العقيلات 
من دمشق إلى بريدة وحائل 


عاودت والدي ليلتها ذكريات سلَمّت عن اجتماعه في كلّ عام مع آل السبهان في 
مكة المكرمة - وكان آل السبهان يترأسون الحجيج العراقي المار بمدينتهم - 
والتداول معهم وتبادل الأحاديث الشيّقة طيلة أيام الحجء وبعد سير دام بضعة أيام في 
الصحراء الواسعة بانت لهم على مسافة قريبة مدينة حائل» فدخلوها وهم آمنون. 

لم يكن أميرها سعود بن عبد العزيز بن رشيد موجودًا فيهاء لقد كان هو وبعض 
من رجالات حائل ومن عرب شمر مرابطين في الحجر وهي إحدى محطات السكة 
الحديدية الممتدة من دمشق إلى المدينة المنورة للمحافظة على السكة الحديدية» 
تعزيرًا للحامية التركية المرابطة في المديئة المنورة التي كانت تأتيها أرزاقها من دمشق 
بواسطة القطار الحديدي» وكان الأتراك خلال فترة الحرب الأولى يخشون من الأمير 
فيصل بن الحسين ويخافون من قيامه بتخريب هذا الخظ الذي كان الطريق الوحيد 
الذي يؤمّن الجيش التركي المرابط بالمدينة المنورة بالمؤن والأرزاق. 

استُقبل والدي استقبالًا لاتقًّا من قبل آل السبهان وأنزلوه منزلًا لائقّاء وكان 
الحكم في مدينة حائل بيد سعيد المحمد يمارسه نيابة عن الأمير سعود بن 
عبد العزيز الرشيدء وكان محترمًا من قبل الجميع» ولاستخلاف هذا الأمير لسعيد 
المحمد أسباب خاصة ترتبط بمسألة وصول الأمير سعود إلى عرش حائل . 

لقد دان الأمير بالفضل بوصوله إلى عرش حائل إلى أخواله آل السبهان وأكثر 
من هذا دان لهم بالفضل بالحفاظ على حياته» وإنقاذه من أبناء عمومته من آل عبيد» 
فقد فتك هؤلاء بإخوانه الثلاثة : متعب ومشعل ومحمد أبناء عبد العزيز بن رشيد» 


56 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


وحاولوا القضاء عليه وعلى ما تبقّى من ذرية عبدالله بن الرشيد ليستأثروا بالحكم من 
دونهم» وهنا تدخَل أخواله من آل السبهان ففرّوا به إلى المدينة المنورة. 


تسلّم الحكم في حائل آنذاك سلطان بن حمود العبيد» لكن لم يمْضٍ على 
حكمه سوى بضعة أشهرء حتى دب الخلاف بينه وبين أخويه سعود وفيصل» وقتل 
سعود أخاه سلطانء وفرٌ الأخ الثالث فيصل إلى الرياض والتجأ إلى الأمير 
عبد العزيز بن سعود. وعندما علم حمود السبهان بالخلاف الذي دب بين أبناء 
حمود العبيد الثلاثة» غادر مع آله المدينة متوجهين إلى حائل ترافقه جماعة من 
شمرء ومعهم ابن أختهم سعود الرشيد» وكان في ريعان شبابه» لم يبلغ الحلم 
بعدء واستولوا على مدينة حائل» وألقوا القبض على سعود بن حمود العبيد وقتلوه 
في الغرفة التي قَتَل فيها أخاه سلطانء, واعتلى عرش إمارة حائل سعود بن 
عبد العزيز الرشيد. 

إنها لمأساة عظيمة» ونكبة بالغة شديدة حلّت بآل الرشيدء يقتل الأخ أخاه في 
سبيل الحكم والسلطانء» وما كان لهم أن يقوموا بهذا العمل الذي ذهب بهم 
وبملكهم» وكانوا من قبل ذلك آمنين. 

كان لوالدي معرفة قوية بآل السبهان» وصداقة متينة تربطه بهم. دامت أكثر من 
ربع قرن» وذلك أثناء اجتماعه بهم في موسم الحجء فلقد كان آل السبهان أمراء 
الحجيج العراقي المنّجه إلى مكة المكرمة تواكبهم قوافل أهل العراق كما ذكرت 
سابقًا . وكان من آل السبهان في مدينة حائل عندما قدم والدي إليها الشيخ علي بن 
حمود السبهان وكان شابًا يافعًا لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره» وكان مجلسه 
يضم رجالات حائل. كانت والدته قوية الشخصية وتُعينه على اكتساب بعض النفوذ 
عند النائب في مدينة حائل» وهو الذي خلفه - كما ذكرت - الأمير سعود بن 
عبد العزيز الرشيد أثناء غيابه في الحجرء المكان القريب من مدائن صالح وهذا 
يعيدنا إلى قصة استخلاف الأمير سعود بن الرشيد لسعيد المحمد في حكم حائل 
الذي يرتبط بمسألة صراع الأشقاء وأبناء العمّ على السلطة. فإن إخوان الأمير سعود 
الثلاثة قد قتلواء كما رأيناء على يد أبناء عمومتهم من آل العبيد. ولهذا فإن 
استخلاف أحد أبناء عمّه عبدالله ومحمد الطلال الرشيد كان أمرًا مستبعدًا. ولم 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 57 


يفضّل الأمير سعود من ناحية أخرى أن يستخلف أخواله السبهان» لكي لا يثير نقمة 
أبناء عمه عبدالله ومحمد الطلال الرشيد ويدفعهم للثورة عليه أثناء غيابه في الحجر. 
وسوف نرى أن نهاية الأمير سعود بن الرشيد قد جاءت فعلا على يد ابن عمه 
عبدالله بن طلال الرشيد. في ظلّ تلك الظروف وجد الأمير سعود - كما اعتقد - 
أن من الحكمة استخلاف سعيد المحمد الذي عمل سنوات طويلة في خدمة الأمير 
محمد الرشيد يوم أخضع نجد كلها لحكمه؛ لقد كان سعيد المحمد مقبولًا من قبل 
الجميع في حائل. 
ترك مدينة دمشق الأخ الشقيق الأكبر محمد عيد الرواف» رحمه الله» متوجهًا 
إلى العقبة» حيث كان الأمير فيصل بن الحسين مقيمًا مع جنوده» وتوجّه بعدها إلى 
القطر المصري لمقابلة شركاء والدي أبناء المرحوم خليل السمان لتصفبة حسابات 
شركتهم مع الوالد» حسب التعليمات التي أرسلها إليه الوالد» أثناء إقامته في مدينة 
حائل» وكان آل السمان قد نقلوا تجارتهم من دمشق إلى القطر المصري. 
بعد مضي شهرين من قدوم والدي إلى مدينة حائل لائذًا ولاجئًا بحمى آل 
الرشيد - لا أعني لاجنًا حقيقيًًا كبقية اللاجئين الذين كانوا في حائل من أهل 
القصيم. ومن شيوخ القبائل» لأنه كان زائرًا لائذًا - بقيت وحيدًا في مدينة دمشق 
فقد تركها بعد والدي أشقائي محمد عيدء وياسين» وهكذا بقيت المسؤول عن 
أفراد عائلتي. 
دمشق درّة الشرق ونبراس مجده وسؤدده عاصمة الأمويين» ولقد عناها الشاعر 
أحمد شوقي بقصيدته الخالدة التي بكى فيها المجد الداثرء عندما أمطرها 
الفرنسيون بمدافعهم: 
سلام من صبابردىأرق | ودمعلايكفكففيادمشق 
ومعذرةاليراعةوالقوافي ‏ جلالالرزءعن وصف يدق 
ولي ممارمتك بهالليالي ‏ جراحات لها في القلب عمق 
رباع الخلدويحكمادهاها أحقًاأنهادرستأحق؟ 
وقيل معالمالتاريخ دكت | وقيل أصابهاتلف وحرق 


58 


وللحريةالحمراءباب 
وما كانالدروز قبيل شر 
ولكن سادة وقراة ضيف 
لهم جب لأشملهشعاب 
لكل لبؤةولكل شبل 


صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


وإنزأخذوابمالايستحق 
كينبوع الحصى خشنوا ورقوا 
موارد في سماءالجوعبق 
نضالدونغايته ورشق 


دمشق البلد الذي أبصرت عيناي فيه النور لأؤل وهلة. دمشق البلد الذي 
ترعرت في كنفهء أظلّتني سماؤه ورويت من ماته» وغذّتني ترتبه» بقيت وحيدًا 
فيها. وحيدًا في هذه البلدة العظيمة إحدى عجاتب الدنيا السبع - كما يُقال عنها 
في الأساطير - ولم يقُتني ما كان يقاسيه سكان دمشق ويعانيه رجالها شيبًا وشبابًا 
من كبتٍ واضطهادٍ من زبانية التركي الجائرء وكنت أسمع بأذني وأرى بعيني ما 
يحاك في هذا البلد العزيز من مؤامرات للقضاء على مجده الدائرء وعرّه الغابر 
وإبادة كل أثر عربي فيه؛ لغة وعادات وأخلاقّاء الأمر الذي دفع رجاله إلى مقاومة 
الحكم التركي بجهد متواصل ودأب دائم. كانت اللغة التركية تدرّس إجباريًا 
بالمدارس العربية السورية» وكان الكثير من الطلاب لا يبدون اهتمامًا بدراستهاء 
وكم من مرة أخرجت من الدروس للسبب نفسهء ومرارًا كنت تحت رحمة عصي 
المعلم لعدم انتباهي لما يلقيه علينا الأستاذ من قواعدهاء فقلت رغبتي في ارتياد 
المدارس والوقوف على أبوابها فهّجَرتها جميعًاء لا كرمًا للعلم» بل اشمتزارًا مما 
ألاقيه من عنت وجبروت هؤلاء الأساتذة الأتراك. 

انقطعت الصلات بيني وبين زملائي من الطلبة» وشعرت بوحدة وفراغ لا نهاية 
لهماء وكانت تعاودني دومًا ذكريات طيبة سلفت وما زلت أذكر انصرافنا من 
العدرسة عاندين إلى محاؤلنا» سالكين طرَيفًا متطرقا بعيدًا عن أتنظار الناشس 
وأسماعهم نغني ملء أفواهنا نشيدًا أَسَرٌ به إلينا أحد أساتذة مدرستنا من أبناء 
العرب». فكم كان حماسنا شديدّاء وكان يخيل إلينا أن أصواتنا تخترق أجواء 
الفضاءء وأن العالم كله آذان تصغي إلينا وحناجر تردّد معنا هذا النشيد: 


في بلاد الشام وشبه الحزيرة والعراق 59 


لتدم هذه البنية... تنمو وتغدو صبية... أزفها شجاعًا... فلا ترى 
منسية. . . تلدن كل همام من فارس مقدام... يمزق الطغام بهمّة وردية... يشعل 
نان الاجزت لق عق الكلته :.. واخل تحق: العرت هن أمة تركنة: 

ها أنا ذا وقد تقدّمت بي السن أدرك أنه كان هناك أكثر من سبب واحد من 
الأسباب جعلتني أهجر المدارس» وأهمل تلقي العلوم. 

في هذه الفترة من الزمن قَدِمَ أحد أعمامي: محمد الأحمد الرواف إلى دمشق 
بتجارته» التي كانت تمارسها عائلتي» أب عن جدء وهي شراء الإبل من عرب نجد 
ومن عرب العراق وتصديرها إلى فلسطين ودمشق والقطر المصري. كما كان تجار 
الإبل من العقيلات يفعلون» ومكثت شهرًا واحدًا في دمشق إلى أن أتمّ بيع ما كان 
بيده من الإبل. وكنت دومًا من المثابرين على حضور مجالسه سواء كان ذلك 
صباحًا أم مساءء وكنت أجد لذة ووقتًا ممتعًا وأنا أستمع لأحاديثه الطريفة» وأشهد 
لباقة عدله يوم كان يفصل بخلافات التجّار العقيلات» فقد كان يفصل بين الناس 
في خلافاتهم التجارية بعد أن يستمع لشكاياتهم» وغالبًا ما كان يفصل بينهم بما 
يراه لصالح المختصمين» فيرضون بحكمه. 

حَكم مرة بين متخاصمين من التجارء فلم يَرْضَ أحدهما بحكمه؛. وعند 
عودتهما لبلدهما بريدة أعاد ذلك الرجل شكواه إلى القاضي وعندما علم القاضي 
أن هذا الأمر قد سبق وفَصَل فيه محمد الأحمد الرواف في دمشق ما كان منه إلا 
أن ثيّت ما حكم به ابن رواف وأجبر المشتكي على الامتثال والقبول بالحكم وقال: 

هو تاجر ورضيتم أن يَحككُم بينكم في المسائل التجارية وهو أعلم بها مني 
ورفض شكواه. 

وكان سروري عظيمًا عندما فاتحني العمّ محمد الأحمد في إحدى سهراته 
الليلية التي أقضيها دومًا إلى جانبه» برغبته أن أكون رفيقه في سفرته القادمة إلى 
العراق لشراء الإبل من قبيلة عنزة» وتابع حديثه قائلا : 

لدي ناقلة ذلول شقراء اللون» ذات عينين واسعتين» وعنق طويل» وقوائم 
مستقيمة وظهر عريض يرتاح عليه راكبها. هي غاية في الخفة واللياقة البدنية. 
سأجعلها مطيّة لك إذا استجبت لرغبتي» وعزمت على السفر بصحبتي. لقد كان 


60 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


رحمه الله لبقا فى حديثه؛ وسبك عباراته» واختياره لأرق الألفاظء. وأقربها إلى 
القلب. وأخذ يشوّقني إلى هذه الرحلة ويعدّد مزاياها لأذعن لإرادته» وأتمّ حديثه 
قائلا : 


سيكون سيرنا في صحراء واسعة لا نهاية لهاء وسنقطع في سيرنا جبالًا 
ووهادًا لا حصر لهاء وسنمرٌ بجماعات من قاطني الصحراء أصحاب البيوت 
المشرّعة التي لا أبواب لهاء أفلا يسرّك يا ابن أخي أن تطّلع على أحوالهم» وطرق 
معيشتهم فترى ترحيبهم بالضيف» وحديثهم العذب» وهم يقدّمون له كل ما لديهم 
من نفيس الطعام وشهيّه. هذا إذا كان لديهم شيء منهء فأحيانًا لا يكون عند 
أحدهم غير حبّات من التمر ورشفة من اللبن» فيقدّم كل ما لديه لضيفه بكل 
ترحاب. إنك يا ابن أخي ستقدّر هؤلاء القوم وتعتزٌ بهم كعربي عندما تعلم مقدار ما 
يقاسونه من مشقّة بالغة» وتعب لا يتحمله إِلّا هؤلاء القوم أثناء إحضار طعامهم من 
المدن والأمصار القريبة لهم» إنهم ينقلون قوتّهم وبعض حاجاتهم على ظهور 
أباعرهم» فيقضون في مهمة جلب الزاد يومين أو ثلاثة أيام فإذا ما استضافهم أحد 
قدَّموه له ووجوههم مشرقة وثغورهم باسمه. إن أهل البادية يا ابن أخي أكرم نفسًا 
وأحسن ضيافة من جميع خلق الله من البشر المنتشرين على وجه هذا الكوكب 
الأرضيء إني لا أبالغ في القول» بل هي الحقيقة» فلا يعد كرمنا نحن أهل 
الأمصار شيئًا يُذكر أمام كرمهم. إن طعامنا وما نقدّمه لضيوفنا هو مرجود في 
منازلناء وفي متناول أيديناء فلا نحتاج لسفر طويل كثير التعب والمشقة» ولا نشد 
الرحال كما يفعل أهل البادية» بل نرسل أحد رجالنا ليحضره من الأسواق التي لا 
تبعد عنًا إِلّا خطوات قليلة» ولقد علّمت هؤلاء الذين نتحدث عنهم مفاجآت 
الصحراء وتقلبات المناخ فيها وضيق سبل معايشها - الصبر والتحمل» واختبرتهم 
بوعورة طرقها وقساوة العيش في ربوعها ومع هذا يمارسون كرم الضيافة ببشاشة 
وهدوء. 


إن تغيرات المناخ في البادية» تختلف عنها في المدن والأمصارء ففي البادية 
تتقلب فيما بين برد قارس يقصم العظم إلى جو حار تلفح سمومه الوجوه وتصهر 
شمسه الأدمغة» ويعمي تراب زوابعه الأبصار - إلى جر طبيعي هيّن ليّن كله سرور 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 61 


وحبور عندما تهطل السماء على الأرض مدراراء وتبكيها بدموع غزارء فتكتسي 
الأرض بساطًا أخضر سندسيًّاء فيصبح الحوار (ابن الناقة) إذا رفع رأسه تناول ثدي 
أمهء وإن طعن رأسه في الأرض تناول من عشبها وخضرتهاء ولهذا قيل: أنعم من 
حوار الربيع. هذه يا ابن أخي الأطوار التي يتقلب فيها سكان البادية فيستمرئون 
مضض العيش فيها فنجدهم قانعين بحياتهم التي يتقلبون في أعطافهاء فلا 
يضجرونء ولا سامون ولا يتبرمون منهاء مستسلمين لتقلبات الدهر والزمان» فإذا 
صادفت واحدًا منهم يتجوّل في هذه الصحراء الواسعةء وقد مضى عليه يوم أو 
بعض يوم لم يتذوق في غضونها طعامًاء تحيّيه» فيجيبك على تحيتك بتحية مثلها أو 
أحسن منهاء فإذا ما سألته: كيف حالك يا أخا العرب فيبادرك بلهجة قوية» ونبرة 
شجية» فيها كل معنى من معاني الرجولة: بخير ولله الحمد. لم يشْكُ إليك أمرهء 
أو يسألك طعامًا يسد به رمقه. بهذه الطريقة سلكواء وعلى هذه الصفات جبلوا. 


أما عن أحاديثهم يا ابن أخي فإنها شيّقة ممتعة» فإذا ما أصغيت إليهم وهم 
يتجاذبون أطراف الحديث في رابعة النهارء أو وهم يتسامرون في كنف الليل حول 
مواقد نيرانهم المشتعلة المضيئة كالشمس في رابعة النهارء فلا تسمع كلمة نابية 
تخرج من أفواههم. فجل أحاديثهم تدور حول الرجولة والكرم وإغاثة الملهوف 
ونجدة المظلوم. يتحدثون عن ذاك الرجل الشهم الأبي الذي لا يستنجد به أحد إلا 
أخذ بيده وبِذَّلَ ما في وسعه من جاو ومال ليرفع الضيم عنه. 


وعن الذي قدَّم لضيوفه نعجته التي لا يملك غيرهاء والتي كان يقتات بلبنها 
صغاره» فيذبحها ويقدّمها لضيفه إبقاءَ على حسن سمعته» أو خوفًا من عار يلحق 
عشيرته. وعن ثانٍ يأبى أن يكون أقل قومه شرفًا ونبلاء إذا ما دعي لمكرمة من 
المكارم. هذه هي الأخلاق يا ابن أخي» وهذا هو السمت العربي الذي يتحلى به 
ساكنو الصحراءء إِنك في مقتبل العمرء وأمامك حياة طويلة محاطة بشوائب كثيرة» 
وسيكون سفرك هذا وما ستلقاه في غضونه وما ستلاقيه من خير أو شرء أو نعيم أو 
شقاء؛ لك عونًا في المضي في هذه الحياة وسيهديك إلى الخيرء وشيئًا آخر أهمسه 
بأذنك» أفلا ترغب أن تجتمع بوالدك وأخيك ياسين؟ ألم تشئَق لرؤيتهما؟» فمن 
المحتمل أن تلقاهما. كان رحمه الله يحدّثني وكأنني بلغت الأربعين من العمرء إن 


62 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


حلاوة حديثه» وطلاوة معانيه؛ وعذوبة نبراته كلها حملتني على تلبية طلبه. 
والرضوخ لمشيئته؛ والخضوع لإرادته» قاتلًا: يا عم لقد شوّقتني لرؤيا الصحراءء 
والتجول في ربوعهاء فقد حدثتني عن ساكنيها وقاطنيهاء قبل أن أسير في سهولها 
ووهادهاء ورعّبتني في صحبتك قبل أن أواكبك ولا يخامرني شك في أنني سأكون 
مغتبطًا في هذه الرحلةء فقال: بارك الله فيك وهذا ما تعشمته فيك. ثم وضع في 
يدي جنيهين اثنين قائلًا: اشتر لك فروة لتمنع عنك حرارة الشمس فإنَّ ما يمنع البرد 
يمنع الحرء وبعض ما تحتاج إليه في رحلتك ثم تركني وذهب ليأوي إلى فراشه. 
إنني لعاجز عن التعبير عمّا أبدته والدتي من الغبطة والسرورء عندما أعلمتها بما تم 
بيني وبين العم محمد الأحمد الرواف» فاغرورقت عيناها بالدموع. وضمّتني إليهاء 
وطبعت على جبهتي قبلة حارة ما أزال أشعر بدفئهاء فيها كل معنى من معاني 
الحب والحنانء التي تضفيها الأمهات على أبنائهن» وقالت: وفّقت يا بني إنها 
فرصة لك ستتيح لك الاجتماع بوالدك وأخيك ياسين» وأشارت بيدها إلى سجادة 
صغيرة الحجم ملقاة في واحد من أركان الغرفة» كانت تؤدي عليها فروض الصلاة 
لآخذها معي لتكون فراشًا لي أثناء رحلتيء ما أزال محتفظًا بها حتى الآن» وقد 
سافرت معي كثيرًا إلى بلدان العالم» والقارات الأربع التي تجوّلت في ربوعها. 
ودخلت في اليوم التالي على العم محمد وهو في مجلسه. وجلست في جانب منه. 
وكان مجلسه يضم سبعة رجال» واسترعى انتباهي أكوام من الذهب المرصوص 
رضًا متقئًا على بساط المجلس» وأشار العم محمد إلى الأكوام الذهبية الستة 
قائلًا: هذا حلالكم والله أبدى لكم» وكان هناك كوم متطرّف قال عنه إنه مكسبهم 
هذا العام. وقام رجل منهم وفرّق الكوم الذهبي إلى ثلاثة أقسام» فأعطى العم 
محمد ثلث هذا القسم ووزّع القسمين الباقيين على الرجال الستة كل على حسب 
دراهمه التي استلمها منهم العم محمد منذ ستة أشهر مضت. 


بعد تناولهم طعام الغداء» قال أحدهم: ومتى عزمتم على السفر إن شاء الله؟ 
فأجابه العم: بعد ثلاثة أيام» فقالوا نترك أموالنا معكم يا أخ محمد لشراء الإبل في 


لم يضمّني مجلسٌ كهذا المجلس من قبل ولم يسبق لي أن رأيت مثل هذا في 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 63 


حياتي» فتعجّبت من هذا التصرف البسيط» وبهذه الكيفية التي 05 توزع 
الأموال على الشركاء دون كشوف حسابء. فحاولت سؤال العم لأستفسر منه عمًا 
رأيت» فخانتنتي الجرأة والشجاعة. 

أعرف من الرجال السبعة رجلين فقطء أحدهما السيد شريف السمان من مدينة 
دمشق والثاني أبو مصطفى الضبعء فالأول رضيع والدتي وكان يقوم هو وأفراد 
عائلته بزيارتنا في أيام الأعياد» وفي غيرها من المناسبات» وكان من المحافظين 
على صلة الرحم ومودة القربى» وهما من تراثنا العربي ومثلنا العليا. 

والثاني من بلدة ببيلا - إحدى قرى دمشق القريبة منها - وكان وجيهًا في 
قومهء ويعتبرونه شيحًا لهم في بلدتهم وهو صاحب مزارع كبيرة» مربوع القامة 
ضخم الجثة» كبير الهمة» صاحب ذوق سليم» وكان يقوم بإهدائنا - في كل عام - 
مما تنتجه مزارعه من فاكهة وزيت وزيتون ورأسين من الغنم يعلفهما شهرين 
كاملين؛ ثم يقدّمهما لنا في أيام عيد الأضحىء وكنا نبادله هديته» ونقدّم له الهدايا 
كالكسوة له ولعائلته في فصل الشتاء وفي فصل الصيف». والأرز والسمن والسكر 
والتمر من منتوجات نخيلنا في بريدة» وكنا نتزاور كعائلتين. 

من غرائب الصدف عندما زرت عائلته في ربيع عام 1407ه - 1987م,» قال 
لي ولده: زارنا بعد وفاة والدي عمّك محمد الأحمد الرواف» وقدّم لنا صرة كبيرة 
من الذهب لا أعلم مقدار ما فيها من النقود الذهبية» قائلًا: هذه أموال والدكم 
المرحوم أبي مصطفى مع أرباحها فرحمة الله على عمكم. فقد كان رجلا شهمًا 
كريمّاء وقد استلمها منه شقيقي الأكبر. 

أعود ثانية إلى سياق خبر مرافقتي لعمي رحمه الله لأذكر أنني ذهبت إلى 
المكان المعد للركائب» فألقيت نظرة على الذلول التي وصفها العمّ محمد وجعلها 
مركبًا لي في سفرتناء فأعجبت بها وبجمالها الرائع» وقوائمها الممشوقة. ودّنا مني 
وقتها حمد - المهتم بشؤون الركائب - قائلًا: إنها لجميلة جدًا ومن أنجب 
مثيلاتها من الركائب» إنها صغيرة السن» وخفيفة الجري. أتعرف ما اسمها؟ إنها 
المزيونة» وناداها باسمها فتقدّمت إليه بخطى وئيدة تتمايل على مهل» وتختال في 
مشيتها حتى كانت قاب قوسين منه. وأدنت رأسها منه حتى لمست راحة يده 


64 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


بمشافرهاء حتى ليخيل للناظر إليها ساعتئذٍ أنها أشبه بطفلة تقبّل يدي والدهاء 
وذكرني منظرها وتهاديها في مشيتها بقول شاعر منفوحة أعشى قيس إذ يقول: 

قطع تفكيري بها قول حمد لها: ما عندي سكر يا مزيونة» وكان من عادته أن 
يقدِّم لها قطعة من السكرء كلما ناداها أو اقترب منهاء ثم التفت نحوي بجسمه 
المربوع» وبثغره الباسم, قائلًا: هذه سفن البر يا عم خليل» ما يصبر على قساوة 
الصحراء واختلاف أنوائها إِلّا هي ومثيلاتهاء يمر عليها سبعة أيام وهي محمّلة 
بالأثقال» دون أن تضع في فمها شيئًا من الكل وتقضي سائرة في الصحراء» في 
وقت الصيف أربعة أيام أو خمسة دون أن تدخل في جوفها نقطة ماءء وتلا قوله 
تعالى: طوَتَحْمِلُ أَنَتَالَكَُ إِلَ بَلَ ل تَكونواأ يله إِلَّا شن لشن 274. ولذلك 
سمّيت بسفينة الصحراعء وهنا أخرجتٌ من جيبي ما تبقّى معي من الجنيهين اللذين 
أعطانيهما العم محمدء قائلًا له: اشتر ثوبًا لك. وسكرًا للمزيونة. 

انَجهت الليلة التي سبقت مغادرتنا دمشق إلى مجلس العم محمدء فألفيت في 
حوشه الواسع سبع ركائب: ذلولي وهجين عمي» وخمس نجائب كن يفترشن 
صحن الحوش الواسعء وكان حمد وأربعة أنفار معه يهيئون أمتعة السفر من زادٍ 
وغيره وقد قدّمهم لي حمد كمرافقين لنا في سفرتناء ثم توجّهت نحو مجلس العم 
محمدء وقبل أن ألجه سمعت رنيئًا خافتًا لم أسمع مثله من قبل» فأطللت من نافذة 
الأقمشة البيضاء طول الواحد مترء وعرضه خمسة عشر ستنتميترًا تقريبّاء وخرج 
العمّ محمد من المجلس ونادى الرجال الأربعة» وأعطى كل واحد منهم كيسّاء 
فقاموا بربطها على بطونهم تحت ثيابهم» ثم سألهم هل أنجزتم كل شيء» وأردف 
قائلًا سنصلي الصبح ونغادر دمشق باكرًا إن شاء الله. ثم التفت إلي قائلًا بصوته 
الجهوري. اذهب أنت وحمد وأحضرا متاعك. ثم عُذ إلينا لنقضي ما تبقّى من 
الليلة سوية. 


(1) سورة النحل» الآية: 7. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 65 





كانت تلك أول أوامر تلقيتها من العم محمدء قالها بنبرة غريبة» لم أسمعها 
منه قبل هذاء وبصورة قاسية ليس فيها معنى من معاني اللين واللياقة» فقد كان 
رحمه الله عندما يعتزم على السفرء يلقي أوامره دون هوادة على من معه. كما 
يلقيها القائد على جنوده . 

أثناء وضع ملابسي بالخرج - وهو أشبه بحقيبة السفرء كان استعماله سائدًا 
قبل أن يُستبدل بالحقائب الحديثة» ويسود التنقل بالوسائل المريحة كالسيارات 
والطائرات بدلا من الخيل والجمال - كانت والدتي تراقبني بنظرات من عينيها 
المخمليّتين» وبوجهها الناحل وقد غمره الحزن». وعلته الكابة» فكأنىي بها تخاطب 
نفسها قائلة: بالأمس تركني رب البيت والد أبنائي وبناتي» ثم تبعه واحد منهم» 
ومن بعده غادرنا ثانيهم وها أنا ذا أودّع ثالثهم. 

أقول هذا بعد أن طويت التسعين من العمرء واختبرت الحياة غنّها وسمينها 
وما يتخلّلها من هناء وشقاء وصحة وسقمء وغدوت أبّا لبنين وبنات» ولمستٌ ما 
يجول بخاطر الوالدين» وما تختلج به نفوسهم أثناء توديعهم لفلذات أكبادهم. لقد 
كنت في ذاك الوقت لا أشعر بشعور الوالدين اللذين مارسا الحياة وتقلبا في 
مخاطرهاء فقد كان تفكيري وانتباهي وكل حاسّة من حواسي منصبّة على السفر 
والصحراء التي حدَّئني عنها العم متحيد لجر الله الو دين تند اه وأعحية 
منقلبهم وجعل مثواهم الجنة. 

في الهزيع الأخير من الليل» بعد أن تنفّس الفجرء وكاد الصبح أن يشرق» 
أدنيت الركائب ووضع على ظهورها الأكوار والأشدة» واد كا متا يحكم 
وضعهاء ويثبت ربطها - وأيقظت حركتنا ورغاء ركائبنا - الطيور في أوكارهاء 
وأخذت تودّعنا بتغريدها العذبء. وبتصفيق أجنحتها المتواصل وكأني بها كانت 
تطلب لنا السلام» وبعد أن أذَّينا فريضة صلاة الفجر جماعة؛ امتطينا ظهور ركائبناء 
وخلّفنا جلق وراء ظهورناء وسرنا نستنشق نسيم الصبح العاطر. ونمتّع أعيننا بمنظر 
السماء في الفجر الباكر» مارّين بمتنزهات دمشق وحدائقها الوارفة الظلال» 
وبغوطتها المكتظة بالأشجارء وبأنهارها المبعثرة هنا وهناك؛ ميمّمين وجهتنا إلى 
قرية ضمير» آخر قرية من قرى دمشق الشرقية التي وصلناها بعد أن قطعنا مقدار 
ثلاثين كيلو مترًا في إحدى عشرة ساعة على ظهور ركائبنا . 


66 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


وتكامل في اليوم التالي - الذي انُخذناه راحة لأبداننا» منتظرون - بقية 
القافلة» وكانوا خليطًا من الناس منهم الميسور ومنهم من دون ذلك. 
تكامل عددنا وبلغ مائتين وأربعين رجلاء وكان الوقت صيمفًاء شمسه شديدة 
الحرارة» وهواؤه عظيم السخونة» لذا كانت هنالك حاجة كبيرة إلى الماء ولقد 
ملأنا القَرب من ماء ضميرء لتحمله ركائبنا وجمالناء إذ كان بيننا وبين آبار الماء 
ثلاثة أيام بلياليهاء وعلى هذا لا بد لنا من السير ليلا . 
فلمًا جن الليل» وتلألأت أنجمهء وطلّ الفجر من علياء سمائه» وكشف بنوره 
ضياء النجوم الكواكب» وأخذ يتهادى في سيره بين كواكب السماء ونجومهاء 
يغازل تلك ويلاطف الأخرى فتتمايل أمامه ثالثة فيتغافل عنها ويتركها وشأنها. في 
هذه اللحظة نادى المنادي: توكّلوا على الله وكانت تلك إشارة البدء بالمسير. 
فامتطينا ركائبناء وأخذت تنهب بنا الأرض وتطويها بخطاها الواسعة ومع هذا كنت 
لا تسمع لخطاها وهي سائرة جلبة ولا حسًا لأنها كانت تجاري الليل بهدوئه 
وسكونه . 
إنك لا تسمع لسفن البرٌ على ضخامتها وعظم حجمها جلبة ولا لأقدامها 
صونًا في مسيرهاء وهي بهذا بخلاف الأنعام ذات القوائم الأربعة كالخيل والبغال 
والحميرء لقد جعل الله الإبل للإنسان لينَّخذها مطيته فى هذه الصحراء الواسعة» 
تَحْمَل أنقالناه ونوجيها كنا شاء: ولخد من 5000 وأصوافها (أثانًا 
ومتاعًا) إلى حين والبعير على الرغم من ضخامة جثته» وطول عنقهء وكبر رأسه. 
جعله الله مسالمّاء لا يكاد يميز بين الأشياء» فلو أدرك قوة الخصال التي أنعم بها 
الله عليه لما أمكن لأحدٍ الاقتراب منه» ولكن الله سبحانه وتعالى لطيف بخلقه» 
تجد الوليد يصرفه بكل وجه كما قال الشاعر: 
لقد عظمالبعيربغيرلب> فلميستغن بالعظمالبعير 
يصرفهالوليد بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير 
وتضربه الوليدةبالهراوي ‏ فلا نكر لديهولا نفير 
إن السير ليلا في السفر متعة للمسافرين خاصة في الصحراء وفي أيام القيظ 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 67 


منهاء يوم يكون البدر كاملا يتهادى في القبة الزرقاء» وكانت الرفاق قريبة من 
بعضها في ميولها وأمانيها. 

سرنا تلك الليلة بضع ساعات كما سنسير في الليالي القادمة» وقبل أن تغور 
النجوم وتكشف لمعان أنوار الصباح استرحنا ساعة من الزمن» افترشنا فيها - كما 
يقال - الأرض والتحفنا السماءء وبعدما سرنا ثلاثة أيام بلياليها وردنا آبار الماء 
المعروفة باسم (الماة) وعندما كمل سيرنا اثني عشر يومًا متواصلاء ظهرت لنا عن 
بعد مضارب عرب الدهامشة من قبيلة عنزة بمكان يسمى (الصيهد) من أعمال 
العراق. 

كان العم محمد الأحمد الرواف رئيسًا لهذه القافلة» وكانت قوافل التجّار في 
ذلك الزمن عرضة لغزوات أهل البادية» فقد كانت هذه الفواته وإ علي ايم 
وساق. يتغلب القوي على الضعيف. وكان لأهل البادية قوذ قوي وسلطة 0 
كانوا يتمردون على حكام الجزيرة العربية» أعني الحكام المتنافسين من آل سعود 
في جنوب نجد وآل الرشيد في شمالهاء وكانت التجارة في ذاك الوقت عرضة 
للسلب والنهب والقتل دون مبالاة» لذلك اضطرّت القوافل إلى اصطحاب رجل من 
كل قبيلة خشية بأسها وخوفًا من سطوتها كقبائل شمر والحويطات وبني صخرء 
حماية لبضائعها التجارية وحتى لا يتعرّض لها أحد من هذه القبائل. 

أما بالنسبة إلى قبائل عنزة والسبعة والفدعانء فإن القافلة كانت إذا قابلت 
غزوًا من هذه القبائل تقدّم قليلًا من المال لرئيس الغزو وهو ما كان يُعرف باسم 
اخوّة) . 

لم يعترض قافلتنا في سيرنا في الصحراء أي غزو من عربان البادية ولله 
الحمدء وفي يوم من أيام مسيرنا في عرض الصحراءء كان النهار قائظًا شديد 
الحرء وكانت أشعة الشمس ولهيبها يلفح الوجوهء وأنفاس الصحراء سمومًا تلهب 
العيون» وكنت ترى أفراد القافلة وقد توشّح كل بردائه» ضامًا جسدهء في فروة من 
جلد الغنم» إذ إن ما يمنع البرد وزمهريره يمنع القيظ وسموم هوائه» فلقد كان 
العرق الذي يتصبّب من أجسامنا بسبب لبس الرداء يبرْد الهواء الحار الذي كان 
يلفح أجسامنا ويجعله عليلًا مخففًا لقيظ النهار وحرارة شمسه. وبينما نحن على 


68 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


ظهور ركائبنا كالدمى لا حراك بنا ولا صوت لنا ولا حسء إذا بصوتٍ عذب شجيٌّ 
يقطع أوصال هذا السكونء ويبدّد كآبة هذا الهدوء. صدرٌ عن واحد من أفراد 
القافلة أخذ يترنم بأغنية قديمة معروفة قائلا: 

إن غلربواياويلله وإن شرّقواطابالكيفف 
وردد هذه الأغنية مرارًا حسب غناء أهل نجد ومنهم العقيلات» فسمع من 
بجانبه فأجابه بنغمة حلوة شجية عذبة مثلهاء وردّد البيت الآتي : 

يا أهل الركايب صبي وشايب0 يامنيبادلني صبي بشايب 
ثم صحا آخر من غفوة المسير فوق الإبل وهو يقول: 

يه لالأشدةاللهيرده | معكمعزيزالعين الله يرده 
ثم تبعه آخرء فغنى غناء حماسيًا فيه من الفخر والرجولة الكثير» وكان صاحب 
هذا الغناء الحماسي غازيًا مع قومه من قبيلة العمارات - فخذ من أفخاذ عنزة - 
وجدوا لدى وصولهم إلى الآبار أعداء لهم مرابطين على الماء» وكان ذلك في أيام 
الصيف الشديد الحرارة وكانت مطاياهم شديدة العطشء فما كان منه إِلَّا أن أنشد 
بصوته العذب الأبيات الآتية: 

الجيش مضمي ولهدحنة ‏ مامنعذريالعمارات 
ينا نميا ما هك كفيةهة نيروزاعلي اللبطاء سجيحتات 
منمات خلوهللجنة ماينعى واحدفات 
فنشط أفراد العقيلات جميعًاء وأخذت كل جماعة منهم تنشد الأشعار وتغني 
بها ولكم كان حلوًا شدوهم وغناؤهم وهم يرددون: 
ياصالحهيومدواره عينالغزيلإذاهجت 
ياابطن حمرا ض حى الغارة ‏ قهالرةالزودانهجت 
ماهي منالبيض قماره وأصدق من لي نويالحجه 
ركابهافك ستجاره ‏ يومالبنادق لهنعجه 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 69 


ثم اجتمع أفراد من هذه القافلة يصغون لما يسمعونه من قصيدة التسعة 
المنتمين إلى قبيلة مطير الذين لم يتمكن عبد العزيز بن رشيد من التغلب عليهم طيلة 
النهار كله» فانقلب راجعًا عنهم إلى قومهم المقيمين بمكان بعيد» يبعد عنهم مقدار 
بضعة كيلوات» إنى لا أحفظ غيبًا القصيدة كلها إِلَّا أبيانًا منها: 


يوم نط الرقيبهرأس مجذويه 
قالأنا شفت شوف لا بليتوا به 
لحقه الخيل بالتومان مركوبه 
يوم لحق الأمير لحقهالشوبه 
يا عمارين يسوق الموت مجلوبه 
من شريق الضحى يا غافر التوبه 


قال زالوا وطاكم الحيش زلال 
شوف ريب ومنه القلب يهتال 
واكفت الخيل ومنها الدم شلال 
لاقرايا ولا مزبن ولا جال 
ماهكينا على الدنيالناتال 
لينغابت وحناهوش واقتال 


يقال إن عبد العزيز بن رشيد صادف المطران التسعة أنفسهم بعد سنة في 
إحدى غزواته أثناء تنقّله في البادية» فتمكن من قتل ثمانية منهم وأبقى حيًا على 
الشاعر الذي قال هذه القصيدة. 
كانت هذه أعمالهم وهم سائرون في الصحراء الواسعة أثناء النهارء وفي صيفه 
الشديد الحرارة» أما في أوقأت الليل فكنتٌ تراهم يتحدّثون وهم حول نيرانهم 
النيرة بأحاديتٌ شجية وشيقة. تسمع أحدهم يسرد لهم ويقصٌ عليهم قصة رجل من 
ساكني القرى كان شاعرًا مرموقًا وفارسًا مشهورًا من آل العنقري» طلب يد فتاة من 
إحدى القبائل فرفضته» قائلة: هذا فارس زين يلعب, أما في الحروب فلا يتمكن 
من خوض المعارك وصولاتهاء فغزا هذا الفريق قومًا من أعداء قبيلتهم ولمّا تبيّن 
لهذا الفارس الشاعر أن الغزاة كادوا أن يتغلبوا عليهم» ركب فرسه وأخذ يقاتل 
هؤلاء الغزاة فقتل منهم الكثير وأخذ رسن كل فرس قتل راكبهاء وبعد أن فر الغزاة 
ذهب إلى بيت الفتاة وأنشد قاتلا بعد أن ألقى أرسان الخيل التي قضى على 
فرسائها: 
وراك تزهدياريش العين فينا 
يوم المفضول بحلتك شارعينا 


تقول خيّال القرى زين تصفيح 
والخيل بأخوانك سوات الزنانيح 


60 


يوم انكسر رمحي جذبت السنينا 
الطيب ماهو للطاعنينا 
للبدو والي بالقرى ظاعنينا 
هيااعطني الحق هيا اعطينا 
لصيح صيحة من غدا له جنينا 


صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


أودعت عنك الخيل صم مدابيح 
وامفرق بين الوجيه المفاليح 
كل عطاهالله من هبّةالريح 
520 عطيتينا ولله لاا صيح 
وإلا خدوج ضيعووه السواريح 


فما كان منها إِلّا أن قدِمّت إليه معتذرة شاكرة» قائلة: إذا كنت لا تزال ذلك 
المغرم العاشق فإني على أتمّ استعداد للاقتران بك. 

كنت من بين من أصغى من المستمعين لقصيدة قالها أحد الأشراف لولده 
مالك يوصيه بهاء ليتبع ما جاء فيهاء ويتَّخذها منهبًا وسلوكا لما يفعله في الحاضر 
وفي المستقبل» وإليك أبيات منها : 


أعط الرجال حقوقها قبل تاليك 
وأعرف ترى ما وطيل الفعر واطيك 


حيثك صغير واقدر آمرك وانهاك 
ولا تدعي بالعق والحق يكفاك 
ولا أنت أغلى من الجماعة هذولاك 


واعلم ترى مكة ولاها ابن أخيك لو تطلبه خمسة دواوين ما أعطاك 


بهذه القصص وبهذه الأشعار كانوا يقضون وقتهم ليلا في صحرائهم الواسعة» 
وكنت لا تسمع في أحاديثهم كنبا ولا لغوًا. 

كان النوم في أحد أيام سفرنا هذا يداعب عيون العم محمد الأحمدء وكنت 
تراه مرة يلقي برأسه على صدره ثم لا يلبث أن يرفعه عائدًا به إلى وضعه الطبيعي» 
فدنوت منه حتى حاذى ذلولي هجينه» فالتفت نحوي قائلًا: ما بك يا خليل» هل 
تشكو من شيءء فأجبته إنني لم أَشْكُ من شيء أبدّاء وإني ولله الحمد على ما 
يرام ثم أردفت قائلًا: ولكني أراك هذا اليوم يا عم والنوم آخذ منك مأخذى. 
فقال: يا ابن أخي إننا على ظهور ركائبنا نسرد كما تسرد الخيل» خاصة في مثل 
هذا اليوم؛ شمسه دانية» وحرّه شديدء فعساك لم تشعر بتعب. وأردف قائلًا: هل 
لك في محادثتي ليذهب عني هذا الإغفاء وأنجو من النوم. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 71 


هنا تذكرت مجلسه في دمشق والجنيهات المرصوصة على بساط الغرفة» 
فاهتبلتها فرصة لسؤاله قائلًا : 

لا أزال أذكر يا عم ذلك اليوم الذي دخلت فيه مجلسك وكان يضم شركاءك 
من تجار دمشق». ل ار أن أرى كاتبًا أو شهودًا. فهل لك 
أن تحدّئني عن هذه الكيفية البسيطة التي اتّخذتها يوم ذاك؟ قال: يا ابن أخي قلت 
لك أن تحدثني لا أن تسألني! 

فأجبته عفوًا يا عمء إنني لم أحاول إزعاجك. ولكن شيئًا ما زال غامضًا 
علي» وعالقًا بذاكرتي لم أفهمه بعد. لذا أحببت سؤالك عنه. فهل لك أن تحقق 
رغبتي فتكشف لي عن هذا الغموض إنني بأشد الشوق لسماعه» فأجابني حسنًا إذا 
كنت تريد ذلك فاستمع لما أقول: 

نحن ما يسموننا بالعقيلات من التجار النجديين ليست لدينا أموال طائلة تغنينا 
عن سؤال التجارء ومدنا بأموالهم كشركاء لناء لذا نستعين بما نأخذه منهم من 
الأموال فنضيفها إلى أموالنا ثم نذهب للبادية نشتري الإبل من العربان» عندما تكون 
هذه الإبل هزيلة نوعًا ماء ويكون أصحابها بحاجة ماسّة لبيعهاء ليكتسوا ويكتالوا من 
أثمانهاء ثم نمكث في البادية شهرين أو أكثرء فتخضرٌ الأرض ويكثر عشبها 
ومرعاهاء فتأخذ هذه الماشية بالنمو والاعتدال» فنعرضها في الأمصار: دمشق». 
وفلسطينء والقطر المصري ونبيعها بأثمان مرتفعة عمًا شريت به» ثم نعود إلى 
شركائنا من التجارء وندفع لهم أموالهم مع أرباحهاء ونحتفظ بثلث الأرباح» لأننا لا 
ندفع خسارة إذا حصلت لا سمح اللهء أفهمت يا ابن أخي؟ فقلت: ألا تعرضون على 
شركائكم أوراقًا تبيّن لهم مشتراكم لهذه الإبل وأورافًا مثلها في بيعها؟ فأجاب: لا 
نحتاج لشيء من هذا القبيل» ولو سئلنا أن نقدّم حسابات في أوراق تثبت شراء الإبل 
وبيعها لاستنكفنا عن سؤالهم بمدنا من أموالهم» ولكنها الثقة المتبادلة» قائمة فيما 
بينناء يا ابن أخي : إن تجار دمشق أخيار طيبون» قلوبهم طاهرة نقية لا موقع فيها 
للشك» أو الريبة في معاملاتهم معناء فاضغ لما سأقوله لك: 

كان ذلك منذ ثمانين عامًا خلت». وقد توفي أحد هؤلاء 0 
الذين كانوا يتعاملون مع العقيلات تجار الإبل» بينما الورثة يفتشون في دفاتره» 
عثروا مدونًا فيها الآتي: 


72 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


بيد علي من أهل بريدة (300) ليرة عثمانية استلمها برع الجحعة من جهو زج 
5 أاهء كشريك مضارب معناء له ثلث الربح» ولا يدفع خسارة إذا جلك حازنه 
لا سمح الله. وتحتها مدون بالحبر الأحمر : استلمنا أموالنا كاملة» وكان مكسبنا 
5 ليرة عثمانية أخذناها منه وأرجعنا له رأس المال الأول ومقداره (300) ليرة 
عثمانية في تجارة ثانية كشريك مضاربء. له ثلث الربح» ولا يدفع خسارة. إذا 
حصلت بتجارته لا سمح الله. 

بيد محمد من أهل الزلفي (200) ليرة عثمانية استلمها يوم الجمعة من شهر 
رجب 1274ه كشريك لنا مضارب يأخذ الثلث من الربح ولا يدفع خسارة إذا 
حصلت لا سمح اللهء وهكذا وجد الورثة عدّة أسماء مدونة في هذا الدفتر لم يذكر فيه 
أسماء عائلاتهم؛ بل ذكر البلد الذي كان ينتمي إليه هؤلاء التجارء فلقد كان التجار 
الدمشقيون يثقون بالتاجر العقيلي النجدي» فيسلمونه أموالهم ولا يكتبون بينهم أوراقًا 
تثبت هذه التجارة»ء كما لا يذكرؤن كنيته» بل يشيرون إلى اسمه الأول واسم بلدته» 
وكاتوا فشن الطرفد عن جبرالى بغر اللكنة عزنا مه اشمئزازهم ونفرتهم . 

أفلا يحق لنا يا بن أخي أن نحترم ونقدّر المعاملة الطيبة لهؤلاء التجار 
الأخيار؟! وفيما نحن في ذلك قطع علينا هذا الحديث رؤيتنا للصيهد ومضارب ابن 
هذال. 

بعد شكن نضيت:: أخذات أفكر وأقارن» بين ذاك الزمن» الذي لم يمْضٍ عليه 
سوى عدد قليل من عشرات السنين» وبين هذا الزمن الذي نعيش فيه والذي تتتابع 
أيامه مسرعة» كجري السحاب» تحمل معها البؤس والشقاء» والكذب والخداع 
والنصب والمكر الشيء الكثير. 

في هذا العصر الذي يسمونه بعصر النور والمدنية» عجبًا كيف اختلفت فيه 
القيم الإنسانية وتدحرجت فيه تيجان الثقة عن رؤوس أربابهاء وانتزعت الأمانة 
وانهار فيه الخلق وفسدت الضمائرء وأصبح الرجل لا يأتمن أخاه. 

وإذا ولمخا لآخر أيّ بضاعة مهما كان ثمنها زهيدّاء تسمع صرير الأقلام 
على ورق المكوكء. يشبه حفيف ورق الأشجارء وكم من تاجر اختلس» وكم منهم 
ابتلع أموال غيره من التججار دون خجل أو حياء. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 3 


أعود بعد هذا الاستطراد ثانية إلى سياق الحديث فأقول: كانت رحلة طويلة 
شاقة» وشيقة وممتعة بالنسبة إلىّ» فقد كنت أصغر إنسان في هذه القافلة» التي 
كانت مكونة من مائتين وأربعين رجلاء وقد تمنّعت بقسط وافر من عطف رجالهاء 
حيث كنت أتنقل في مجالسهمء من جماعة لأخرىء أشاركهم أعمالهمء 
وأشاطرهم أنسهم» وهم جلوس حول مواقد نيرانهم» يتداولون الأحاديث الشيّقة» 
في الليالي المقمرة» وكانت لا تخلو أحيانًا من غناء وأهازيج يعطي الليل بهجة» 
والأنفس سرورًا. 

على مساحة كبيرة من سهول هذا الصيهد انتشر العديد من البيوت المنسوجة 
من شعر الماعز وكانت بيوئًا مختلفة الأحجام متفاوتة القياسات طولًا وعرضًا كان 
منها كبير الحجم ومنها الصغير» منها ما هو قائم على عمودين» ويسمّى في عُرف 
العرب ب (المكورن) وآخر على ثلاثة ويسمى ب (المثولث) منها المروبع» 
والمخومس. إلا بيت الشيخ فهد بن هذال» شيخ قبيلة الدهامشة» فقد قام على 
سبعة أعمدة وسمّي بالمسوبع. 

قبيلة (عنزة) قبيلة قديمة كبيرة تتفرع منها: قبيلتا السبعة» والفدعان اللتان 
تقطنان في سورياء وفرع يقطن ما بين تبوك والمدينة المنورة. 

ونظرًا إلى المحل الذي كان يتعاقب على بلدان نجدء هاجرت هذه القبيلة إلى 
بلاد العراق منذ زمن بعيد لما ثُنبته أرضها من العشب. 

تفرّقت القافلة ورجالها المئتان والأربعون شخصًا على هذه البيوت» وأنخنا 
ركائبنا بجانب بيت مربوع». هو بيت جزاع بن مجلادء أحد مشايخ هذه القبيلة؛ 
وكان من معارف العم محمد الأحمد الرواف» بل من أصدقائه. 

إن ما يسترعي الانتباه» ويلفت النظرء في هذه القبيلة هو كثرة مواشيهاء مئات 
من آلاف رؤوس الغنم منتشرة كالجراد في واحات هذا المكان الفسيح» المسمى 
(الصيهد) وآلاف من الإبل ومئات من الخيل المسوّمة آخذة مرابطها أمام كل بيت 
من هذه البيوت. 

كان منظرها جذابًا فيه روعة وبهجة» كنت ترى الآلاف من الجمال عند 
ورودها الماءء خاصة مياه نهر الفرات, آلاقًا مجتمعة بعضها مع بعضء» بألوانها 


74 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


المختلفة.» وأحجامها المتفاوتة وأول ما يتبادر لذهن مشاهدها وللنظار إليها قوله: 
(أنئ) لهذه الآلاف المؤلفة من هذه الإبل» المندمج بعضها مع بعض أن تنفصل كل 
مجموعة منها عن الأخرى؟ وأنى لأوليائها أن يتعرّف كل منهم على ماشيته؟ لم 
يكن الأمر صعبًا فسرعان ما كنت تراهاء بعد أن تطفىء حرارة جوفها من مياه نهر 
الفرات العذبة» تسمع مناداة رعيانهاء ينادونها بأصواتهم العذبة» فيتجه كل واحد 
منها نحو صوت راعيه فتنفصل هذه الآلاف بعضها عن بعضء. ويسير الواحد تلو 
الآخن وراء عتاجية» .وكان 'منظرًا دابا وإنه لمن الفوسف جدًا أن تشمخل هذه 
الآلاف من الإبل» والمئات من الخيل المسومة» وأن تتغير حياة أهل البادية في 
معيشتها وسلوكهاء وحتى في سمتها وأخلاقها. تبدّلت العادات الطيبة في المجتمع 
الصحراوي البدوي» وتغير فيه ذاك السلوك الحسن وأخذ يبتعد عن التراث العربي 
الرائع المجيدء ومثله العليا. 


لم نشاهد أثناء سيرنا من سورية حتى العراق أيّ جماعة من أهل البادية» ولم 
نصادف أي رجل منهمء فقد كان الوقت صيفًاء وسكان البادية كانوا يقيمون في 
فصل الصيف قريبًا من المدن والقرى. حيث كانوا يبيعون بعضًا من ماشيتهم 
ويكتالون بأثمانها ما يحتاجون إليه من الزاد» ويكتسون هم وأفراد أسرهمء 
ويشترون ما يرغبون فيه من الثياب. 

لم نمكّث لدى قبيلة الدهامشة سوى بضعة أيام. ولم يتسنّ لنا شراء الإبل منها 
لارتفاع أثمانهاء فأفراد القبيلة» لم يكونوا بحاجة لبيع ماشيتهم» لكثرة ما بأيديهم 
من الأموال التي كان ينثرها عليهم الضابط البريطاني (ليثمن) بغير حساب. لقد كان 
هذا الضابط الذي يلقّبه الأعراب بالصاحب البريطاني ضابطًا بقلم الاستخبارات 
البريطانية وقد عهدت إليه حكومة الاحتلال البريطاني بتهدئة القبائل العراقية 
والوقوف على أحوالها واختبار ميولها وأهوائهاء فكان يأكل مع أفرادها ويسايرهم 
في ميولهم وأهوائهم. وكان مضرب الأمثال في الشجاعة وتحمّل الصبرء ولم 
تنقصه الجرأة الأدبية ولا الشجاعة؛ فسبر غور هذه القبائل ودرس عاداتها وطبائعها 
ولغتها ووقف على كل خفية من خفاياهاء وكان يلبس ملابس العرب» ويجلس في 
مجالسهيويتجادت تمع احاديتهم ويتضل ينهم في خصوماتهع» 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 75 





كان له مضيف في البادية يمكث فيه دائمًا ويستقبل الضيوف فيه» ويعالج أمورهم 
كواحد منهمء ويقضي بينهم في منازعاتهم» ويفصل بشرعهم وعاداتهم» وقد رأيته» 
رأي العين» في رابعة النهارء ممتطيًا صهوة جواده؛ متوشّحًا بلباسه العربي المكوّن 
من عقال مقصّب وكوفية زرقاء» وثوب ذي أردان» وحذاء ملونء متمنطقًا بحزام من 
الجلد. ودون عباءة يتجول بين بيوت الدهامشة بمفرده» لا حاشية تتبعه» ولا رفاق 
يمشون بجانبه أَوَلّم يكن ضيمًا لفهد بن هذال» شيخ قبيلة الدهامشة؟ الكل يحترمه 
ويجله ؛ يحترمونه كضابط بريطاني» ويجلّونه كضيف لشيخهم فهو شأنه في ذلك شأن 
الكثير من الضباط البريطانيين الذين كانوا يؤمُّون البلدان العربية قبل الحرب العالمية 
الأولى؛ خاصة من كان يتعامل منهم مع القبائل العربية. 

لسوء حظ هذا الضابط أنه دار فيما بعد حديث بينه وبين الشيخ ضاري 
الحمود.ء شيخ قبائل الزوبع» وأحد الناقمين على الحكم البريطاني في العراق» لم 
يستسغه الشيخ ضاريء» وكان ولده خميس حاضرًاء ولما رأى خميس والده قد نفر 
بهذا الضابط» ما كان منه إِلّا أن شهر سلاحه بوجههء ورماه بطلقة من مسدسهء 
فأرداه قتيلا . 

كان لمقتله وقع سيىء لدى قومه من البريطانيين المستعمرين للعراق» وخسرت 
فيه دائرة الاستخبارات البريطانية رجلا هذاه أطلعها علق ماني عليها من أموز 
أهل البادية العراقية من صغيرة وكبيرة» وما لبث البريطانيون أن ألقوا القبض على 
قاتله خميس ابن الشيخ ضاري الحمود شيخ قبيلة الزويع» وأعدموه رميًا 
بالرصاص . كانت الأخبار تتساقط علينا من بغداد عاصمة العراق المحتل» 
فالبريطانيون صارمون في حكمهم يستعملون القوة في تنفيذ مآربهم وغاياتهم. ودون 
هوادة» شأن كل مستعمر وكان للبريطانيين هيبة شديدة» أجبرت ساكني بغداد على 
الخضوع لهمء والركون لإرادتهم» فلم يجرؤ أحد من أفراد الشعب أن يأتي بأيّ 
حركة يُسْتَمّ منها النفور والاستنكار لهذا الحكم الأجنبي الغاشم. 

كان أفراد الجيش البريطاني من الهنود منتشرين في كل شارع» وأمام كل 
مدخل من مداخل أزقتهاء واقفين بالمرصاد لكل مَن تحدّثه نفسه بالتمرّد والعصيان» 


76 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


حتى أفراد الشرطة المنوط بهم حفظ الأمن كانوا من أفراد هذا الجيش من الهنودء 
وكان نادرًا ما يقع نظرك على شرطي وطني قائم بعمل ما. 

لم يكن أمل سكان بغداد ضعيمًا بجماعة المعدان» القاطنين على شط الفرات 
فقد كانوا كثيري العدّة ذوي قوة وشكيمة» ولم يعتصرهم الحكم البريطاني بعدء لذا 
كانوا أمل العراقيين المنشود لوضع حدٌّ لحكم المستعمرين. 

على ذكر المعدان القاطنين على شاطىء الفرات» فإنهم كانوا ولا يزالون أباة 
للضيم ذوي شهامة وكرم وشجاعة ملموسة موروثة كابرًا عن كابر. لقد حفظ التاريخ 
في طياته» أن جميل بن تميم المعداني» الوسيم الأغرء والشاعر اللبق» والفارس 
المقواقة عاق :فو تسل عن فاظن الفرات في زمن الخليفة العباسي أمير المؤمنين 
المأمون. فأرسل قوة وراءه» ولمًا مَثّل بين يديهء رأى الخليفة المأمون أمامه. فتى 
وسيمّاء جميل الطلعة» ذا هيبة ووقارء فأراد أن يختبره ليرى أين وسامته من قوة 
منطقهء وشجاعته وشهامته؛ فأمر بالسيف والنطع فأحضراء فقال الخليفة: يا 
جميلء إن كان لديك حجّة فاذْلُ بها أو عُذر فَأتِ به. فقال جميل: يا أمير 
المؤمنين»؛ إن الذنوب تُخرس الألسنة. وتُصدّع الأفئدة» لقد كبر الذنب» وعظم 
الأمرء ولم يبْقَّ إلا عفوك أو انتقامك. فأرجو أن يكون أقربهما منك وأوفرهما 
لديك أولاهما بأخلاقك وأنشد يقول: 


أرى الموت بين السيف والنطع كامثًا 
وما ذاالذي يدلي بعذروحجة 
واكدطتي انك النييوم قاتلى 
يعر على الأوس بن تغلب موقف 
وما جزعي من أن أموت وإنني 
ولكن خلفي صبية قد تركتهم 
فإن عشت عاشوا ناعمين بغبطة 
فكم قائل لا أبعدالله روحه 


بيراقبني منأيّما اكليفتت 
وسيف المنايا بين عينيه مصلت 
وأي امرىء مما قضى الله يفلت 
يسل عليّ السيف فيه وأسكت 
لأعلم أن أموت حتمًا 0 
وأكبادهم من حسرة تتفتت 

أذود الردى عنهم وإن مت ماتوا 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 77 





فقال أمير المؤمنين: اذهب يا ابن تميم» لقد غفرت لك الصبوة» وتركتك 

غادرنا العراق» والحالة فيه غير مستقرة» وأهله بانتظار الغد. وما يفاجئهم به 
من عبره وتقلباته» وبعد مسير دام عشرة أيام» قضينا ساعات نهارهاء وبعضًا من 
ساعات لياليها نحثٌ السير في منخفضات الصحراء ومرتفعاتهاء وفي وهادها وعلى 
رمالها ألقينا عصا الترحال بمدينة بريدة عاصمة القصيم. 

بريدة المدينة التي تعاقبت عليها من الزمان أحداث واختبر أهلها عبر الدهر 
وتقلبات الأيام» كم من الأمراء تعاقب على حكمهاء منهم من مَلَّكْ ناصية الأمر 
في الإصلاح ومنهم من كان دون ذلك. 

لقد جعلها موقعها الجغرافى محطّ آمال الفاتحين» فهى قائمة فى منتصف 
الصحراء وفي متوسّط البلدان امقر لمت از ا لقره وآل الرشيدء 
فترة من الزمن» فمرّة تخضع لحكم هؤلاء؛ وتارة تميل لأولئك. وأحيانًا تستقل 
وتختار حاكمها من بين أهلها. أضف إلى ذلك جودة مناخها وطبيعتهاء ومواردها 
الزراعية» وما تنتجه من ثمار النخيل . 

لفترة طويلة من تاريخها وقعت تحت تصرّف أمرائها من آل مهناء فتبه شأنهاء 
وازداد نفوذها وأصبح أمراء نجد الآخرين يحسبون حسابهاء ويتودّدون إليها 
ويغازلونها من قريب ومن بعيد. 

لكن بعد أن تمكن الأمير عبد العزيز بن عبدالرحمن رحمه الله من السيطرة على 
نجد ومن توحيد الصفوف», وجمع الكلمة» ولمْ الشمل» أقام عليها أميرًا من غير 
أهلهاء لا حظًا من شأنهاء ولكن لسبب تصارع أهلها فيما بينهم» ولئلًا يفضّل 
عبد العزيز جماعة على أخرى». وقد شارك حاكمها رجال من خيرة أبنائهاء كانوا 
يعرفون ب (الجماعة). 

بريدة» المدينة الجبارة الرابضة على الرمال» والمحاطة بالنفود من جهاتها 
الأربع» لها تجارة واسعة. وزراعة قائمة» ومناخ جاف,. تتعاقب عليها الفصول 
السنوية الأربعة» الصيف وشدّة حرّهء والخريف ولطف هوائه» والشتاء وقسوة 
برده» والربيع وبهجة طقسه. 


78 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


بريدة من أهم المدن النجدية» أهلها مغرمون بحب الأسفار وارتياد الديارء 
والتنقل في الأمصارء يمارسون تجارتهم في البلدان العربية جميعهاء فيجلبون لهذه 
البلاد المواشي والأنعام» وإنها المدينة التي تستقبل التجار من أهلها القادمين 
ومعهم أصناف الأقمشة» ومختلف أدوات القهوة وأنواع من الزاد كالأرز وخلافه. 
يشاطرهم تجار الماشية من العقيلات من مدينة عنيزة» التي ذكرها الريحاني في كتبه 
فوصفها بباريس نجدء وكان هذا اللقب اسمًا على مسمىء ويُقال بأن الريحاني زار 
بريدة ولم يلْقَّ ترحابًا كبيرًا من أهلها. فذهب إلى عنيزة التي استقبله أهلها على 
الوحت والسعة: 

كان بعض تجار العقيلات يطيلون إقامتهم في دول تجارتهم. وبهذه المناسبة 
أسرد قصة طريفة مشهورة بين العقيلات حصلت بين والد وولده منذ سبعين عامًا: 
سافر حمد المديفر من مدينة بريدة بتجارته إلى مصرهء تاركًا ولده محمدًا في الأشهر 
الأولى من عمرهء واستقر الوالد في القطر المصري في مدينة المطرية» مسكن 
الشيخ فوزان السابق» وزيرنا المفوّض في القطر المصري» وكانت المطرية الموطن 
الرسمي لتجار العقيلات» ولهم فيها إسطبلات لخيولهم التي يعدّونها للسباق» منهم 
الشيخ فوزان السابق والمديفر وابن حجيلان وغيرهم. 

كبر محمد ولد حمد المديفر» وتزوّج في بريدة وأنجب أنجالاء ووالده حمد 
ما زال مقيمًا في القطر المصري. 

توجّه محمد (الابن) بتجارته للقطر المصري كما كان يفعل العقيلات» وبرفقته 
كثير من التجار النجديين» ونزلوا بمدينة القنطرة على الضفة الشرقية من قناة 
السويس وجرت العادة أن تستقبل جماعة التجار العقيلات المقيمة بالقاهرة - 
التجار القادمين من البلدان. النجدية لشراء مواشيهم» وكان حمد المديفر والد محمد 
المديفر مع هؤلاء المستقبلين. 

من غريب الصدف أن حمد المديفرء استضاف أحد هدلاء التجارء وكان هذا 
التاجر هو ولده الذي تركه وهو ما زال في الأشهر الأولى من عمرهء وأثناء 
تناولهما القهوة مرَّ بهما تاجر نجدي كان يعرف الولد ووالده. فقال: قرت عينيك يا 
حمد بولدك محمدء فأجابه المديفر أين هو ولدي؟ فقال له: هو أمامك الذي 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 9 





ترشف القهوة معهء وهنا نهض الوالد والولد وأخذا يقبّلان بعضهماء حامدين الله 
على سلامتهماء فكان منظرًا لطيمّاء ومفاجأة سارة لكل منهما. 

بريدة هي المدينة التي كافح أهلهاء وجاهدوا جهادًا مريرّاء في سبيل تعزيز 
كلمتهم والاحتفاظ بعاداتهم وأخلاقهم. فبقيت محافظة على سمعتها وأحدوثتهاء 
ومكانتها الأدبية والاجتماعية والاقتصادية إلى يومنا هذاء كبقية البلدان النجدية. 

وعند قيام الإمام الملك عبد العزيز آل سعودء وفي أثناء عمله لتوحيد الكلمة» 
ولمٌ الشمل المبعثر في الديار النجدية» رأت بريدة فيه زعيمًا ملهمّاء وقائدًا بطلا 
يعمل لصالح البلادء حيث أعاد لها الكثير من مجدها الغابرء وعرِّها الإسلامي 
الداثرء آزره أهلها وناصروه في جميع غزواته وحروبه؛ وقدّموا له المال والرجال. 

في هذه المدينة التي هي موطن من مواطن آبائي وأجدادي» كنت مغتبظاء 
أجالس أهلها في مجالسهمء وأتمتَّع بكرم ضيافتهم» وأمرح في مزارعهم» وأشاركهم 
غدوهم ورواحهم خارج المدينة ونحن ننتقل على طعوس رمالها الذهبية. 

كنت وأبناء عمومتي ذات مرة نتنرّه بأطراف المدينة» فالتقينا سمو الأمير 
تركي» الابن الأكبر للملك عبد العزيز واقمًا بجانب جواده» وهو على أهبة ركوبهء 
وبعد تبادلنا التحية قال سموه لأحد أبناء عمومتي: مَنْ هذا الولد» وأشار سمّوه بيده 
نحوي؟ فأجابه أحدهم: هذا خليل ابن عمنا إبراهيم الرواف» من مواليد دمشق أتى 
لزيارتناء فقال سموه: مرحبًا بك يا خليلء أنت في ديرتك؛» وبين أهلك 
وعشيرتك. ثم امتطى جواده وسار متوجهًا نحو بريدة» وكانت المرة الأولى 
والأخيرة التي قابلت سموه فيهاء فقد انتقل إلى رحمة الله بعد ذلك ببضعة أشهرء 
في سنة الرحمة عند انتشار مرض الإنفلونزا في أنحاء الجزيرة العربية» فقد قضى 
هذا الوباء على كثير من ساكنيها أثناء الحرب العالمية الأولى» وسمو الأمير تركي 
ابن عبد العزيز هو شقيق الملك سعود بن عبد العزيز. 

كان السلطان عبد العزيز في حروبه يستعين بأهل الحضر والبادية» فكان يحدّد 
مكان تجمّع القوات ويأتي المقاتلون من الحضر والبادية مزوّدين بمؤونتهم وبعضهم 
يحمل سلاحه. من الحضر كانت تأتي الخبر وكانت كل خبرة تأتمر بأمر قائدهاء 


60 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


ومن البادية تأتي القبائل تحت إمرة شيوخهاء كان القائد عبد العزيز يوزع عليهم 
الأسلحة والعتاد. وكانت المعارك غالبا لا تدوم أكثر من عدة أيام. وفي بداية 
حروبه الأولى لم يحمّق ابن سعود انتصارات كبيرة كما مُنِي ببعض الهزائم وذلك 
بسبب انسحاب بعض المقاتلين من أهل البادية من المعارك. 


فكر السلطان عبد العزيزء ثم فكرء فتبيّن له الحل في إرسال العلماء من أهل 
الرياض والقرى المجاورة لها إلى أهل البادية» ليزهدوهم في الحياة البدوية» 
وليحبّبوا إليهم الجهاد. والسكن في المدن والقرىء الأمر الذي استفادت منه 
القبائل العربية التي باتت تُعرف بالإخوان» كما حقّق لهم الراحة والحياة الأفضل 
في انتقالهم من الحياة البدوية الجافة إلى الحياة الحضرية» وأغدق عليهم الهبات 
الكبيرة والعطايا الكثيرة» ومنح زعماء هذه القبائل قطعًا كبيرة واسعة من الأراضي 
لإنشاء القرى وبناء منازل لهم ولقبائلهم التي تتبعهم» وبالفعل أقاموا مائة بلدة وقرية 
وأخذ الوعَاظ يهدونهم إلى اتّباع الشريعة الإسلامية التي أمر الله بهاء والتي جاء في 
مواد دستورها القرآني قوله تعالى : «أيلبموا لَه وأيليُوا الول وأو الكت ونل 276 . 

لقد قام العلماء والوعّاظ خير قيام بما كُلَّفُوا به» وأخذوا يحبّبون إليهم 
الجهادء وأخذ أهل البادية يبيعون مواشيهم» بصورة لم يَعتَدْها الناس من قبل» في 
أسواق المدن والقرى لكي يتفرّغوا للجهاد فقد أصبحوا بهذه الأنعام من الزاهدين. 

إنه لأمر عجيبء. بل ومن الغرابة بمكانء وبعيدًا عمًا يتصوّره العقل أو 
يتخيله» أو يخطر ببال إنسان. هل يُعقّل أو يتصوّر أحدء أن البدوي الذي يهتم غاية 
الاهتمام بإبله» ويعنى بماشيته عناية فائقة تزيد عن اعتنائه بنفسه وبولده» ويبذل في 
سبيل نموها كل غالٍ لديه وثمين» وينتقل بها في الصحراءء تلفح وجهه سمومهاء 
وتُعمي بصره أتربة زوابعهاء وتُدمي قدميه وعورة وهادها وجبالهاء كل ذلك يهون 
عليه؛ وهو سيِحَ النفس مطمئن البال» طلبًا للكلأ والمرعى لماشيتهء ويقاسي في 
سبيل ذلك من المشاق ما لا يطاق» ولا يحلو له الكلام إِلّا عنهاء ولا يتلذّذ إلا 


(1) سورة النساءء الآية: 59. 


في بلاد الشام وشيه الجزيرة والعراق 81 





بذكرهاء ولا يطيب له المنام إِلّا في معاطنهاء ينفر منها في يوم وليلة» ويبتعد 
عنهاء وتغدو في نظره تعاسة وشقاءء فينبذها نبذ النواة. 

إن الإنسان يحقّ له أن يتساءل عن الأسباب التي حملت الأعراب على التخلي 

ماشيتهم» والنفور منهاء هو هذا الأمرء أعني أمر الدين. 

وهكذا تمّ للإمام عبد العزيز بن سعود ما أراد من رد أهل البادية إلى أمورهم 
الدينية وبناء المدن والقرى لهم وتعليمهم الحرث والزرع. 

بدأت في هذا الوقت بعض قبائل البادية مثل: مطيرء وعتيبة» وشمرء 
وحربء والعجمانء. تهجر الحياة البدوية» وبدأوا في بناء المدن والقرى في 
الصحراء العربية الواسعة. وأخذوا على أنفسهم الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي 
الحنيف. وبما أنهم كانوا حديثي عهدٍ بتعاليمه. كانت تصرّفاتهم قاسية لا تخلو من 
غلرٌ في العقيدة وخشونة في سبيل الدعوة. 

أرجع الآن إلى ما بدأنا به وهو الحديث عن مدينة بريدة فأقول: أقمنا في 
بريدة مدّة تزيد على الشهرين وقد استقبلت العم محمد الأحمد الرواف ومن معه من 
التجار استقبالا حافلاء إذ كان قد قضى في غربته بعيدًا عنها ثمانية عشر عامًا . 

إني لا أزال أذكر تلك المفاجأة اللطيفة السارّة عند قدومنا إلى مدينة بريدة إذ 
برز من المستقبلين شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره» يسأل الناس» أين 
والدي محمد الأحمد؟ فدُلَ عليه وتوجّه الشاب نحو والدهء وأناخ الوالد مطيتهء 
وعانق ولده عناقًا طويلاء قبّله قبلة حارة لا يعلم إلا الله مدى وقعها في نفسه. فقد 
كان هذا الشاب جنيئًا في بطن أمهء يوم ترك والده مدينة بريدة» متنقلًا بتجارته بين 
مدن العراق وسوريا وفلسطين والقطر المصري. 

غادرت مدينة بريدة» ننه الح قفر مكو هين ن إلى مضارب قبيلة شمر 
لشراة الإبل من الفرمات: فرعدنا وج 55-05 سعود بن رشيدء أخبر العم 
محمدًا أن والدي ما زال في مدينة حائل» وبصحبته شقيقي ياسين» فنظر إلىّ العم 
محمدء قائلًا: هل لك أن ترى والدك؟ فوقعت كلمته مني موقع السمع والطاعة 
فودّعت العم محمدًا وتوجّهت إلى مدينة حائل برفقة رجال ابن الرشيد بقيادة سرور 
العبد العزيز . 


82 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


تقاسمت في مدينة حائل» عاصمة آل الرشيدء الواقعة في شمال نجدء مع 
والدي وشقيقي ورفاقهماء غرف البيت الواسع الذي أعدّه آل السبهان لسكناهم . 
وكان هذا لأحد أمراء البيت الرشيديء وأمام قصر الحكم برزان» وبجانب 
المسجدء لم يفصله عن القصر الرشيدي سوى مكان فسيح يسمّى المسحب. كان 
أمير حائل - كما سبق - أن ذكرت هو سعود بن عبد العزيز المتعب. مخْيّمًا مع 
أخواله من السبهان» ونخبة طيبة من سكان حائل في مكان يدعى (الحجر) على بعد 
أميال قليلة من مدائن صالح» والحجر هذه هي إحدى محطات السكة الحديد التي 
كانت تصل دمشق بالمدينة المنورة» كان يوؤمّها صباح كل يوم قطار قادم من دمشق 
يحمل لها الزاد والزوار» وما تنتجه دمشق من الأقمشة» وكان لفاكهتها الشهية شأنٌ 
يُذكر لدى سكان مدينة الرسول محمد يَلِيَ. 


مكثتٌ في حائل شهرًا واحدًا قبل أن يعود إليها أميرها ابن الرشيدء وهي بلدة 
هادئة جميلة» تختلف عن مدينة بريدة في بعض نواحي الحياة» فقد وهبها الله ما لم 
يهبْ غيرها من البلدان النجدية» لطمًا في هوائهاء وجودة في مناخهاء وعذوبة في 
مائهاء ونظافة في شوارعها ولباقة في أهلها وأناقة» مما جعلهم يختلفون في نضارة 
وجوههم واعتدال أجسامهم عن ساكني نجد ومستوطنيهاء وكان ذلك قبل أن يمنّ 
الله سبحانه وتعالى على أهل بريدة وما حولها بالماء الغزير» فلقد تفجّر الماء في 
هذه البقعة من الأرض بكثرة فتضاعف إنتاجها الزراعي بصورة لم يسيبق لها مثيل في 
المملكة العربية السعودية» وكان اندفاعه من الأرض مقدار عشرة أمتار دون 
استعمال المكائن التي ترفع المياه إلى علوٌ شاهق . 


يتمنّع أهل حائل بقسط من الحضارة» وتغلب على الكثير منهم عادات أهل 
البادية وطبائعهم في حياتهم الاجتماعية» وكانوا دومًا على استعداد للانضواء إلى 
راية آل الرشيد في حروبهم وغزواتهمء لقد كانوا يلبّون نداء أميرهم عندما يستنجد 
بهمء فهم أهل نخوة وكرم وشهامة وإباء»ء شأنهم في ذلك شأن أهل المدن والقرى 
النجدية. إنها بلاد من خيرة البلدان النجدية» تربتها خصبة وثمارها يانعة. وقد راع 
والدي عند تلبية دعوة الشيخ محمد السبهان إلى بستانه بحدر الديرة من مدينة 
حائل» رؤيته فيه كثيرًا من أشجار الفاكهة المختلفة» والأساليب الزراعية التي كان 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 83 


يستعملها في هذا البستان» فقال له والدي: إنك يا أخ محمد من خيرة المزارعين 
وأحسنهم» فأجابه: إننا يا أخ إبراهيم لا نهتم كثيرًا بشؤون الزراعة فلم يترك لنا 
أمراؤناء الوقت الكافي لنقوم بتعهّدها واستغلالهاء فدومًا ينادوننا لغزو فنجيبهم إلى 
ندائهمء فغدونا والحالة هذه لا بدوًا مع البدو؛ نرعى المواشي ونغزوء ولا حضرًا 
مع الحضر نمارس تجارتنا ونهتم بزراعتناء وأتمّ حديئه بمثلٍ نجدي قديم قال: 
«صرنا كمعايد القريتين لا شاف خير ولا سلم من ملامة». 

كان الحكم في مدينة حائل - كما سبق القول - بيد سعيد المحمد وكان في 
الخامسة والثمانين من عمره» ومن المخلصين لأعمامه آل الرشيد وقد استخلفه 
أميرها سعودء أثناء غيابه في الحجرء وكان يشارك سعيد المحمد من آل السبهان 
المتخلفين في حائل» فلهم كانت الزعامة المطلقة في حكم هذه المدينة» وإمارة 
حائل» لكونهم أخوال الأمير سعود بن عبد العزيز آل رشيد الذين ساعدوه على 
استرداد حكمه. وقَدِم آنذاك الشيخ فوزان السابق بصحبة ثلاثة مرافقين إلى حائل 
من القطر المصري بطريقه إلى بريدة» وزار الوالد» وكان مما قاله للوالد: إنك يا 
شيخ إبراهيم بدار الغربة وربما تحتاج إلى بعض المال» وإني لسعيد بأن أقدّم لكم 
كل ما تحتاجونه من الأموال. فشكره الوالد كثيرّاء ثم أخبره قائلًا: أنا بخير ولله 
الحمد. 

كانت تربطنا وفهد العبد الله أبا الخيل - وكان لاجنًا عند آل الرشيد - أواصر 
القربى» وكان فهد من أمراء أبا الخيل المهناء من حكام بريدة» قبل أن يضمّها 
الإمام عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود إلى مُلكهء ويوحٌدها مع بقية البلدان 
النجدية . 

كنت أتردّد إلى منزله الذي كان لا يبعد كثيرًا عن منزلنا في حائل» وأصغي إلى 
أحاديثه التي يتطرّق فيها لأخبار حكم آل مهنا لمدينة بريدة» وكان يقصٌّ علينا 
واصمًا ما كان لمدينة بريدة من مركز سياسي ممتازء ومركز تجاري واسع. 

يقطن بجوار منزلنا لاجىء آخر هو: أبو صفرة من قبيلة مطير وكان مشهورًا 
بشجاعته وفروسيّته . 


مرض أبو صفرة. وقام والدي بزيارته » وكنت بصحبته أثناء حديثهما وما زلت 


84 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


أذكر قوله لوالدي: يا شيخ إبراهيم إن الدنيا تتغير وتتقلب» ففي ريعان شبابي 
خضت كثيرًا من الحروب» وشهدت معارك لا تحصى. ولا تخلو بقعة من جسدي 
من «صواب»» إما برصاصة أو بشفرة سيف أبو بطعنة رمح وما قدّر الله لي أن 
أموت في ساحات القتال» ثم زفر زفرة قلت إن روحه ذهبت معها إلى خالقهاء 
وتابع حديثه قائلا: إنني أموت الآن موت الكلاب على هذا الفراش» فواساه 
والدي بكلمات خيّل إليّ أنها كانت بردًا وسلامًا على قلبه المفجوع . 


كذلك كان فى مدينة حائل لاجىء آخر هو الشاعر محمد العونى» من أهل 
بريدة» وكان يتنقل في مجالس آل الرشيد والسبهان فيصغي الحاضرون في هذه 
المجالس إلى أحاديثه المرحة» ويأنسون لِما كان يُلقيه على مسامعهم من الشعر 
المثير اللاذع. وحدث بين أمير حائل سعود بن رشيد» وقبيلته عربان شمر» بعضص 
الخلافات» فغادرت قبيلة شمر الأراضي النجدية إلى العراق» فقطن قسم من هذه 
القبيلة بالجزيرة التى بين النهرين المتوسطة بين بغداد والموصل». حيث الأرض 
الطيبة والمناخ المعتدل والكلاً والمرعى» وكانت هذه فرصة استغلّها النوري بن 
شعلان زعيم قبيلة الرولة الكثيرة العدد والعدّة الحربية واستعان بعودة أبوتايه» شيخ 
قبيلة الحويطات» إحدى القبائل الأردنية» واستولوا على مدينة الجوف التابعة 
لإمارة حائل. وعَلِم بذلك سعود بن رشيد فاتصل بالشاعر اللاجىء محمد العوني 
ليَنظم قصيدة من قصائده المثيرة» يستنجد فيها بقبيلة شمر ويستنفرها على عدوه ابن 
شعلان» وأرسلها مع ابن أخيه عبدالله الطلال» ثم توجّه إلى مدينة سكاكا القريبة 
من الجوف» منتظرًا وصول النجدة من قبيلة شمر. 

حل ابن أخيه ضيمًا على قبيلة شمرء وتلا قصيدة الشاعر العوني على مسامع 
ومروءتهم وغيرتهم» فما كان منهم إِلَا أن لبّوا نداء أميرهم وتوججهوا إلى مدينة 
سكاكا لنجدة الأمير وإخراجه من مأزقه الحرج الذي هو فيه. 

تقابل الفريقان: فرسان قبيلة شمر من جانب وقبيلة أبوتايه وقبيلة الرولة من 
جانب آخرء وكانت موقعة شرسة انتصرت فيها قبائل شمرء وولت قبيلتا الرولة 
والحويطات الأدبار وتخلتا عن مدينة الجوف. 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 85 





مما يُذكر حول هذه الموقعة الحربية» عن لسان عودة أبوتايه الفارس الشجاع 
الذي لم يُذكر عنه أنّه فرّ من ميدان معركة خاضها قطه. والذي لم يخسر موقعة 
واحدة طيلة حياته» قوله: لم يخطر ببالنا أن تُنجد قبيلة شمر أميرها سعود بن رشيد 
بهذه السرعة بعد نفورها عنهء وتأخذ بيده» لقد اغتنمنا أنا والنوري بن شعلان 
الفرصة واحتللنا الجوف ومنها توجّجهنا إلى مدينة سكاكا لاحتلالهاء فألقينا فيها 
الحصار على الأمير ابن رشيدء فحاصرناه عدة أيام» وفي أثناء تلك الأيام ترامى 
إلى مسامعنا أن شمر قادمة لنجدة أميرهاء وما كان إِلَّا يوم أو بعض يوم حتى نشب 
القتالء بيئنا وبين قبيلة شمرء وبينما كنت أخوض المعركة بثبات وصمود وقعت 
عيني على خيّال يمتطي جوادًا أصفرء عاري الرأس. منتفج الشعرء يحت حواده 
نحويء والله لم يرتعش قلبي في حروبي الكثيرة كما ارتعش ل ؤية هذا الفارس» 
فلمًا قرب مني صاح بأعلى صوته أخو شما ضاري بن طوالة» فما كان مني إِلَّا أن 
أدرت رأس فرسي فرارًا منهء فكانت بداية هزيمتنا . 

من عادات العرب المتّبعة والمستحسنة» بل ومن صميم أخلاقهم, ألا يبخسوا 
أعداءهم شيئًا من قوتهمء ولا يرون من عار إذا أبدوا شجاعة أعدائهم في حروبهم» 
ولا يرون في ذلك سبّة ولا عارًا. 

يذكرني عودة أبوتايه وصراحته في حديثه عن هذه الموقعة التي انهزم فيهاء 
وفرٌ خائًا من وجه ضاري بن طوالة - بقول الشاعر الجاهليء عبدالشارق الجهني 
وهو يصف معركة جرت بين قومه وبعض القبائل: 


فجاءوا عارضًابردًا وجثئنا 
فنادوايا لبهنةإذرأونا 
فلما لمندع قوسّاوسهمًا 
شددنا شددة فقت فقتلت منهم 
وشدواشدةأخرى فجورووا 
وكان أخحي جوينن ذا حفاظ 
فأبوا بالرماح مكسرات 


بأرجل مثلهم ورمواجوينا 
وكانالقتل للفتيان زينا 
وأبنابا لسيوف قدانحنينا 


866 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


فباتوا بالصعيدلهمأحاح 2 ولو خفت لناالكلمى سرينا 

زرت في آخر يوم من أيام شهر رمضان المبارك لعام 1336ه - 1918م - 
وكنا لا نزال في مدينة حائل - قصر برزان مقرٌ الحكم بصحبة الرجل الطيب محمد 
العلي المهتم بشؤون ضيافتناء وكنت على موعد معه ليريني المطبخ الكبير في هذا 
القصر (والقدر جولان) الذي هو مضرب الأمثال في سعته. لقد كان قدرًا كبيرّاء 
قائمًا على أربع قواعد من البناءء يبلغ طوله ثلاثة أمتار» وبدائرة قطرها متر ونصف 
المترء يستوعب ثلاثة من الإبل» تُرفَع إليه بسلاسل من حديدء وتُنزل منه الإبل 
بواسطة هذه السلاسل» وله «حنفيات» - أي (بزابيز) - حسب قول أهل نجدء 
ضخمة يتسرّب منها المرق» وإذا أريد غسلهء ينزل فيه رجل فيقوم بغسلهء وقد 
راقبت إنزال الإبل الثلاثة فيه» وكان المطبخ واسعًا جدَّاء يلعب فيه الخيال - كما 
قال لي محمد العلي - ملقى في أحد أركانه ما يقرب من مائة وخمسين رأسًا من 
الغنم خلاف الإبل الثلاثة وكلها جاهزة للطبخ» فكان منظرًا رائعًا يلفت إليه 
الأبصار. 

مما يذكر عن جلالة الملك عبد العزيز كبن يل بعد فتح حائل أنه لمّا دخل إلى 
هذا المطبخ لم تأخذه غبطة السرور والغرور وإنما ملأت الدموع عينيه بالشكل الذي 
أثار حيرة وزرائه. وأعتقد أن حزن عبد العزيز كان تقديرًا من قائد عربي مغوار 
لمكانة وكرم ورجولة خصومه الذين هزمهم في ساحات المعارك» هذه هي الشيم 
العربية القديمة التي بقيت نابضة بالحياة في داخل نفس الملك عبد العزيز. 

لقد كان عبد العزيز عطوفًا كريم النفس» لذا نَقَل آل الرشيد وأتباعهم بعد 
هزيمته لهم إلى عاصمة مملكته الرياضء وأغدق عليهم من النعم ما خمّف عنهم 
محنتهم ' التي حلت بهم فقرّبهم منه وساوى بينهم وبين آل سعود في العطاء وما 
يحتاجون إليه في هذه الحياة. 

نعود لنواصل حديثنا عن مدينة حائل في صباح عيد الفطر في المسحب» 
المكان الفسيح» أمام قصر برزان» كانت الموائد العديدة منسّقة تنسيقًا جميلاء منها 
ثلاثة مناسف» ذات قواعد ترتفع عن الأرض تليلًاء وكان لكل من هذه المناسف 
ست حلقات كبيرة ضخمة مرصوصة بأطرافه يحتوي كل منها على كمية من الأرزء 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 87 





تعلوه ناقة مقطوع رأسها وقوائمهاء وحولها خمسة رؤوس من الغنم» هذا ما كان 
يحتويه كل منسف من هذه المناسف الثلاثة وغيرها من المناسف العديدة المنتظرة 
في هذا المسحب. 

كان مجلس والدي ومجلسي إلى أحد هذه المناسف الذي خُصّص للأمير 
سعود بن رشيدء فكنت لا أرى الجالسين أمامي من الجهة الثانية من المنسفء لما 
كان يعلوه من الأرز واللحم» فقد كان - كما قلت - على هذا المنسف ناقة 
وحولها خمسة من الغنم. وقبل البدء في الطعام حضر عبدان مفتولا السواعد. 
فارعا الطول بثيابهما البيضاء الناصعة» وشمّرا أردان ثيابهما عن ذراعيهماء وسلا 
سيفيهماء وأخذا يفصلان سنام الناقة عن بعضهء فكان الدهن ينساب من خلال 
مواقع سيفيهماء كما ينساب ماء المطر في جداول الهضاب. 

إن لمنظرٌ شفاف بديع بقي عالقا بناظري منذ ذلك الحين» ولن أنساه. وكان 
من العادات المتبعة عند آل الرشيد» الذهاب في صيف كل عام لبستان السبهان في 
محل يسمى (عقدة) شمال حائل» من جبال (أجأء وسلمى). 

ودعي والدي وكنت بصحبته لحضور هذه النزهة» وأثناء جلوسنا مع أمير حائل» 
قام حمد الغاشم» المعروف بلباقته وظرفه» وخمّة دمه وروحهء وأخذ يخلع مشالح 
الحاضرين من على أكتافهم» ثم بدأ يأخذ مشلح الأمير سعود بن رشيدء وهكذا كان 
شأنه مع بقية الحاضرين واستثنى من الموجودين والدي وأنا معهء وكان يُلقي على كل 
مَنَ أخذ مشلحه كلمات كلها ظرف وخفة ولما انتهى من عمله. غمز الأمير سعود 
عبيده فألقوه في بركة من الماء والطين واغطسوا فيها رأسه حتى توارى عن الأنظار» 
ثم قام وعلى وجهه المكسوّ بالطين» ابتسامة الظفرء وفي فمه لسان ذرب. 

أواصل حديثي عن مدينة حائل وما أحلى الحديث عنهاء لقد أقمتٌ تسعة 
أشهر في ربوعهاء كانت من أنفس أيام حياتي ولم ينعُص علينا عيشتنا اللذيذة التي 
كنا ننعم فيها باحترام زائدٍ وإكرام متواصل لا من آل الرشيد وآل السبهان فحسب» 
بل من سكان هذه المدينة الطيبة» سوى الوباء الذي عم البلدان النجدية كلهاء 
وذهب ضحيته خلق كثير. 

مرّ هذا الوباء فاختطف الأمير تركي» أكبر أنجال الإمام عبد العزيز بن سعودء 


كما توفيت فيه قرينته المحببة إليهء شقيقة الأمير عبد العزيز بن مساعدء والدة نجليه 
الأمير محمد والملك خالد رحمهما الله فقد كان يستشيرها في بعض الأمور 
ويأخذ برأيها ونصائحها. 

أثناء هذا المرض الذي قضى على كثير من رجال نجدء كنت أتردّد مع والدي 
على منازل أهالي حائل نحمل معنا علاجًا من بعض أعشاب الحجاز يسمى 
(سنامكي) كنا نقوم بغليه بالماء مقدار ساعة من الزمن» ونعصر فوقه الليمون ليخقُّف 
من حدة مذاقه ونسقيه للمرضى» فبحكمة الله ما شرب منه أحد إِلَّا عافاه الله . 

مكثنا بعملنا هذا عدة أيام نتردّد على بيوت المصابين بهذا الداء (الإنفلونزا) 
وفي اليوم الأخير مرضتٌ وبقيت طريح الفراش عشرة أيام. 

لمّا عاد سعود بن رشيد ومعه أهالي حائل» من محطة سكة الحديد المسماة 
بالحجرء التي أقام فيها تسعة أشهرء إلى إمارته حائل» عاد وهو يحمل في نفسه 
خيبة أمل من العثمانيين» ويكنٌ في قلبه أمرين هما: الندامة والأمل» الندامة على 
الزمن الطويل الذي واكبّ فيه ركب آل عثمان الأتراك عند أفول نجمهم, والأمل 
بتحسين الصلات مع الحسين بن علي أمير مكة وأنجاله الذين انتشر حكمهم في 
الحجاز كله حتى وصل إلى أطراف نجدء وكانوا الأعداء لخصمه الأمير عبد العزيز 
ابن سعود. 

فأوحى إلى أخواله آل السبهان بما كان يجول في نفسه ويتردّد في خاطره من 
الحسرة والندامة على ضياع الأيام مع قوم مال حظهم وقَربَ أفول نجمهم» وها هم 
يغادرون البلاد العربية بلا رجعة إليهاء فارّين أمام فيصل بن الحسين وجنوده من 
عرب البادية. وما لبث الأمر بنا وبالأمير سعود بن رشيد غير وقت قصيرء لا بل 
ضير جذا ست بوروقها الآجاء كير إلى دغول قيضل حيو الحسية وجكده ديشق 
عاصمة الأمويين منتصرًا. 

كان لانتصار فيصل بن الحسين وتحريره لمدينة دمشق». وقعه الحسن لدى 
والدي إبراهيم الرواف. الذي غادر مدينة دمشق منذ عامين فرارًا بنفسه من حاكم 
دمشق التركي جمال باشاء الذي طلب منه - كما ذكرت سابقًا - الذهاب إلى 
مضارب النوري بن شعلان شيخ قبيلة الرولة» ودعوته وولده الأمير نواف لزيارته في 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 89 





دمشق للقضاء عليهماء فقد كانت الصداقة متينة بين الشيخ نوري ووالدي. فغادر 
الوالد كما قلت دمشق دون رجعة إليها ما دام الحكم التركي جائمًا وقائمًا في 
ربوعهاء وأبى الامتثال لأوامر السفاح التركي. 

طالَ مكوث الوالد في مدينة حائل سنة كاملة» ومن قبلها سنة أخرى أقامها في 
كل من الكويت ومدينة الزبير التي احتّجز فيها من قبل البريطانيين. 

هيأ الوالد الآن نفسه للعودة إلى مدينة دمشق» واستأذن من الأمير سعود بن 
رشيد ومن أخوالهم آل السبهان. شاكرًا لهم حسن ضيافتهم» وفي مقدّمتهم الشيخ 
على بن محمد السبهان الذي كان مجلسه الواسع يضم رجالات حائل» وكم من 
مرّة انتظمنا مع الوافدين للسلام عليه» وفي إحدى زياراتنا له طلب مني تلاوة القرآن 
الكريم فتلوت ما تيسّر من أوائل سورة يوسف. 

في اليوم الذي غادرنا فيه مدينة حائل» بعد مكوثنا فيها ما يقرب من عامء 
وعند عودتنا من وداع سمو الأمير سعود بن رشيد ألفينا أمام منزلناء ثلاث ركائب» 
وفي داخل المنزل رجلين من رجال الأميرء يحمل كل منهما بندقية موزر ألماني» 
من السلاح الذي كانت ترسله لسموه الحكومة العثمانية» فسلماها لوالدي» مع بدرة 
من المال» لا أعلم مقدار ما كانت تحتويه من النقود حتى يومنا هذاء وقال 
أحدهما إن أمام المنزل يا شيخ إبراهيم ثلاث ركائب هدية من الأمير سعودء وكان 
هذا الرجل أحد رجال الأمير سعودء سليمان العنبر والد محمد العنبرء فودّعنا 
هذين الرجلين» وغادرنا مدينة حائل المدينة الطيبة نحن وخمسة أشخاص من أهلها 
مع سرور العبد العزيز الذي كان يحمل رسالة من الأمير سعود بن رشيد إلى الأمير 
فيصل بن الحسين في دمشق» تحتوي على تهانيه الحارّة بدخوله دمشق فاتحًا وطرده 
الأثراك مهالا ومالك في هله الزسالة أن يعية ادا امحولى عله الجيش الغرين 
من الأموال والأمتعة والذخيرة الحربية التي قدَّمتها له حكومة الأتراك: والتي كانت 
بغهدة وكيله رشيد الناصر. لقد أراد الأمير سعود لهذه الرسالة أن تكون فاتحة عهد 
جديد بينه وبين الحسين بن علي حاكم مكة المكرّمة» والمنادي بنفسه ملك العرب» 
وأنجاله الثلاثة الإخوة: علي أمير المدينة المنورة» وعبدالله الذي كان يجهّز حملة 
لقتال الإمام عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعودء وثالثهم فيصل الذي أخذ 
يِذ العُدّة ليتربّع على عرش سورية . 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 591 





الفصل الثالث 





استعراض للجيش ف المدينة المنورة 
ومعركة في تربة 


عقدنا العزم على التحرّك صوب المدينة المنورة مرقد الرسول كَكلِ ودار 
هجرته» وكانت تنتابنا بعض المخاوف من قطّاع الطرق الذين» سمعنا أنهم 
منتشرون في المنطقة بين حائل والمدينة» يعترضون سبيل كل عابر» يهدّدون الأمن 
ويجعلون من السفر عبر تلك الصحراء مغامرة يصعب الإقدام عليها. غير أننا توكلنا 
على الله وبدأنا مسيرتنا نحو يثرب» نستتر تحت جنح الظلام لنتفادى قطّاع الطرق 
وقد يسّر الله لنا طريقنا ولم يقابلنا شيء يُذكر سوى بعض الطلقات النارية التي كنا 
نسمعها من آنٍ لآخر. 

لم يعترض سبيلنا أحدء حتى وصلنا المدينة المنورة» مرقد الرسول 
محمد يكِةِ ودار هجرتهء وكان الأمر خلاف ما ترامى إلينا من الأخبار» أثناء 
إقامتنا في حائل من أنْ حبل الأمن» بين حائل والمدينة مضطرب» وغير مستتب» 
وقطاع الطرق منتشرون هنا وهناك» وتحت كل شجرة من أشجار الصحراءء فهذا ما 
أخبرنا به قبل مغادرتنا مدينة حائل» وكنا نواصل السير تحت تأثير هذه الأخبار 
لقطع المسافة» متسلّلِين بجناح الليل» ومستترين بظلامه الحالك. 

بعد مسيرٍ دام ستة أيام لم تَلْقَّ في غضونها ما نقّص علينا إلا بعض طلقات 
نارية صوّبت عليناء ليلاء لم نعلم مصدرهاء تابعنا السيرء إلى أن تراءت لنا 
المنارات الأربع لمسجد الرسول محمد كك والقبة الخضراءء فدخلنا المدينة المنورة 
وقت الظهيرة» وكان علي بن الحسين أميرًا عليها. 

بلغ عدد نفوس المدينة المنوّرة قبل الحرب العالمية الأولى سبعين ألف 


52 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


مواطن». وكان قطار سكة الحديد الذي يصل المدينة المنوّرة بمدينة دمشقء. يطرق 
أبوابها صباح كل يوم» فيوقظ صفيره المتواصل سكانها من رقادهم» وكان يحمل 
إليهم عددًا كبيرًا من زوّار المسجد النبوي القادمين للصلاة فيه والسلام على الرسول 
محمد وك قادمين من مختلف البلاد الإسلامية» تاركين وراءهم أهلهم وأوطانهم 
وكل ما يملكونه من متاع الدنيا وناقلين معهم ما كانت تحيكه سورية من المنتوجات 
الوطنية» وما تنتجه تربتها من الخُضّر والثمارء فكانت حالتها الاقتصادية تنمو 
بسرعة» وتتطوّر مع تقدُّم الزمن» لذلك عم الرخاء كافة طرق الحياة فيهاء ودخلت 
في طور جديد من التقدم والازدهار. 

عاش أهل المدينة يتمتعون بهذه الحالة الزاهرة» وبهذا الوضع الجميل» وما 
جاءهم به من الخيرات» ولكن للدهر تقلباته وأطوارهء فلقد جاءت الحرب العالمية 
الأولى بويلاتها وفواجعهاء ودخلت الحكومة التركية في معمعتها فكانت حليفة 
لألمانيا والنمساء واستعّرٌ لهيب هذه الحرب الضروسء. وأصاب أهل المدينة الكثير 
من أضرارهاء وداهمتهم خطربها وأهوالها. 

كان في الجيش التركي المتمركز في المدينة المنورة قبل دخول الجيش العربي 
إليها بعض من الضبّاط العراقيين مثل جميل الراوي» الذي رافق الأمير علي بن 
الحسين» أثناء إمارته على المدينة المنورة بعد تسليمهاء وبقي ملازمًا له إلى أن توّج 
ملكا على الحجاز بعد تنازل والده عن الحكم» ومنهم ضابط عراقي آخر يدعى 
شكري البغدادي» وكان شاعرًا لبقّاء وقد قصّ علينا القصة التالية في منزل الشيخ 
عبدالقادر المغيربي» فقد كنا ضيوفًا عنده» قال: 

كان فخري باشا القائد التركي العام» قد سلب نفائس الحرم النبوي» وبعث 
بها إلى الأستانة وكان من هذه النفائسء» التاج الذي كان قائمًا على ضريح مرقد 
فاطمة الزهراء بنت رسول الله َك 

عندما يئس هذا القائد التركي من الصمود أكثر مما صمدء وأدرك عدم مقدرته 
على المحافظة على المدينة من هجمات العرب المتكرّرة» لمّس من بقي معه من 
الضبّاط والجنود يأسه وقنوطه. ولقد قمتٌ بنظم قصيدة عزمت على إلقائها بين يدي 
القائد العربي عند دخوله المدينة المنورة فاتحًاء جاء فيها: 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 53 





الله الله ياأبناء فاطمة هل أخذه التاج يرضيكم ويرضيها 

وواصل حديثه بقوله: وبينما كنت أتأهّبٍ للرقاد إذا بباب منزلي يطرق بشدَّة 
ففتحته منزعجًا فوجدت لدى الباب ضابطاء ومعه جنديان» دعوني لمقابلة القائد 
فخري باشاء فصّعقت لهذا النبأء وكان أوّل ما تبادر لذهني» أن فخري باشا عَلِم 
بهذه القصيدة» فأرسل هؤلاء الجنود لإلقاء القبض علي لتأديبي لهذه الخيانة 
العظمى» التي جزاء مَن يرتكبها الإعدام. 

أدخلتٌ الضابط والجنديين إلى المنزل» وطلبتٌ منهم الانتظار قليلًا بينما 
أستبدل ملابسي» وكات عزني م اعت ورين أوراق القصيدة» وكانت نسخة 
منها عند السيد عبدالقادر المغيربي» ولم أطلِع عليها أحدًا غيره» ثم سرتٌ برفقة 
الضابط والجنديين إلى لقاء القائد فخري. فدخلت عليه وحييته» ولا أدري هل رد 
علي تحيّتي أم لاء لقد كنتٌ بحالة تشبه حالة من فَقّد جميع حواسه» ووجدتٌ 
القائد مضطرب الأعصابء مكفهرٌ الوجه واضعًا كلتا يديه خلف ظهرهء يذرع 
بخطاه أرض غرفته الواسعة فتحمّق لدي ما فككرت به من قبل» ومكثتٌ واقمًا بمكاني 
كأني على رأسي ي الطيرء وقد تسمّرت قدماي فلم أَبْدٍ جرائًا وأخدّت خلجات قلبي 
تضطربء» والهواجس تنتابني وتهزني هرًا عنيفًاء وقلتٌ في نفسي»ء تعد خدمتي 
الطويلة في الجيش العثماني تلحق بي الخيانة؟ ولم أَدْرٍ كم قضيتٌ من الوقت واققًا 
وما نبّهني من ذهوليء وشرود أفكاري إلا قول القائد: اجلس يا شكري. 

فتنفّست الصعداء وجلستٌ على أقرب مقعدٍ مني. ثم التفت إليّء قائلًا: إن 
لدي أمرًا بالغ الخطورة مَلّك تفكيري طيلة الأيام الماضية؛» إِنَّ الحرب قد انتهت 
بفوز بريطانيا وحلفائهاء وقد قرّرت ألا أَدَعَ هؤلاء الأعراب يحتلون المدينة وفيها 
حجر قائم على حجرء وصمّمت على أن أنقل ما أمكنَ من نقله من الذخيرة 
الموجودة في المدينة» وأضعها في الحرم الشريف وأجعله مقر قيادتي وإقامتي» 
حق"' إذ1 :ها تغلب الاعرات علينا قَمِت بتفجير هذه الدخيرة: وتركتٌ المدينة وحرمها 
لهؤلاء الأعراب قاعًا صفصفمًاء وغادرتٌ هذه الحياة وأنا راض بما قمتٌ بهء ونظرًا 
إلى منزلتك عنديء وثقتي بكء أبديتٌ إليك هذا الأمرء رق عل افد 


54 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


لمغادرة المدينة» عند أول إشارة تصدٌّرٌ مني إليك لتقصٌ على الملا قضيتي» 
قمتٌ به من الأعمال في سبيل الإسلام وشرف الجيش العثماني. 

أطرقتٌ إلى الأرض إثر سماعي قوله ووضعتٌ رأسي بين يدي» ومكثت وقنًا 
يسيرًا أفكر بما قاله هذا القائد الطائش» المغلوب على أمره» وتحقّق لي أنه قد مسّه 
شيء من الخبل» وَدَدْتُء لو أنه اطلع على القصيدة وقام بإعدامي فذلك خير لي من 
أن أرى المدينة وحرمها تتفجر فيه هذه الكميات الكبيرة من الذخيرة الحربية» إنها 
مرقد الرسول محمد كَكَّه فرفعتٌ رأسي وبادرتٌ القائد فخري بقولي: أيها القائد إن 
الحكومة العثمانية مقدّرة لك عملكء. ووقوفك بوجه هذه الطغمة العربية طيلة هذه 
السنين سواء فجرت هذه الذخيرة في اليم لحري وريد الروك الحم 315 ألم 
لكيه وجراة تلت روف ارو ل لأ ظداء أم لم تُسلّمهاء ون التاريخ يحتفظ 
بالذكرى لكثير من أمثالك» سيذكرهم بكثير من الإعجاب والتقدير» ولن يبخسهم 
حقهم.ء وإِنّك قائدٌ متدين تخشى الله وتنّقيهء فإِنْ أقدّمُت على هذا العمل. 
فالمسلمون لن يغفروا لك هذه الزلّة قط وستلحقك دعواتهم بما لا يسرّك. ما 
تعاقبت الأيام» ومرّت السنون. وإِنْ التاريخ سيذكرك وحكومتك بما لا يشرّفك» 
ففكر بالأمر قليلًا قبل إقدايك على هذا العمل المشين» وإني سوف أحتفظ بما 
ذكرته لي في قرارة نفسي» فلا أبوح به لأحد. 

ما انتهيت من قولي حتى أخدَّت قواه بالانهيار» ووقع مغشيًًا على الأرض» 
ولم يَفِقْ من غيبوبته إلا بعد وقت طويل» ثم نهض متخاذم'» ولم ينبس ببنت شفة» 
وغادر غرفة مكتبه فاتَّبِعته حتى دخل غرفة النوم واستلقى على الفراش 

هذا ما قصّه علينا الضابط الشاعر شكري البغدادي. وأحبيت أن أدوّن قصيدته 
في أحد فصول هذا الكتابء ولكن أنّى لي هذاء فقد انتقل الشيخ عبدالقادر 
المغيربي والشاعر أيضًا إلى رحمة الله. كما أنني لا أعرف عنوان ولده محمد 
المغيربي الفتيح» فكتبتٌ إلى الشاعر الكبير الشيخ إبراهيم الغزاوي نائب رئيس 
مجلس الشورى» مستفسرًا منه عن زميله الشيخ محمد المغيربي ولد المرحوم 
عبدالقادر المغيربي» فوافاني كتابه وبه عنوان زميله بالإسكندرية» فاتّصلت به؛ 
وتراسلتٌ معه ولكنني لم أتمكن من الحصول على القصيدة. 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 95 





بعد سقوط المدينة المنوّرة» تحت ضغط الجيش العربي» وهجماته المتكرّرة» 
استسلم القائد التركي فخري باشاء وسيقٌ أسيرًا إلى منطقة قناة السويسء وسُلّم 
للبريطانيين» وقلت فيما تقدّم» إِنَّ تعداد نفوس المدينة المنورة قبل الحرب العالمية 
الأولى بلغ سبعين ألقَاء فمنهم مّن هاجر إلى دمشق ومنهم من توجّه إلى مدينة 
حائل» ومنهم من قضى نحبه جوعًاء ومنهم من لحق به الوباء» ففاضت روحه 
لخالقهاء ولم يَبْقَ من السبعين ألفا من السكان» عند دخول الجيش العربي بقيادة 
الشريف عبدالله بن الحسين؛ سوى سبعة آلاف مواطن» كانوا خائري العزائم 
منهكي القوى. هكذا هي الحروب وويلاتهاء إنها آفة الحضارة» وعثرة في سبيل 
التقدم والازدهار. 

بدأت الحياة تذُبٌ في البقية الباقية من سكان المدينة» بعد حصار شديد مُحكم 
دام سنتين» وأخذت شوارعها تعجٌ بأفراد الجيش العربي المنتصرء وقد دخل يحمل 
معه الزاد والكساءء بقيادة الشريف عبدالله الابن الثاني للحسين بن علي ملك 
الحجازء وكان يختلف عن شقيقه الأكبر» الأمير علي بن الحسين أمير المدينة. 

كان الشريف عبدالله لا يهتم كثيرًا بشؤون المدينة وقاطنيهاء وقد ترك ذلك 
لأخيه الأكبر علي وكان كل همّه وتفكيره» موجهًا لغزو البلاد النجدية ومقاتلة 
الملك عبد العزيز بن سعود في عقر داره. 

وكان عدد أفراد جيشه أثناء حصاره للمدينة المنورة» ستة آلاف مقاتل» بكل 
متطلباته من طهاة وحرّاس ومواصلات. مع الفرق الطبية» ولوازمهاء وكان أغلب 
أفراد هذا الجيش من القبائل العربية» وقليل من الحضر من أهل المدن وقد انضمٌ 
إليه الجنود من مخلّفات الجيش التركي من أبناء البلدان العربية كدمشق والعراق» 
فبلغ ثمانية آلاف جندي» ألفان منهم كانوا مدرَّبين تدريبًا عسكريًا ومعهم معداتهم 
الحربية» وقبل أن يعزم هذا الجيش على التوجّه إلى البلدان النجدية» أقام الأمير 
عبدالله عرضًا عسكريًا دعا لحضوره أهل المدينة» وزوّارهاء وكان والدي من هؤلاء 
الزوار وكنت برفقته . 


وقف الشريف عبدالله - القائد الأعلى للجيوش العربية - على قدميه مقدار 
ساعة من الزمن يحيّى الجيش المار أمامه. وفى أثناء هذا الاستعراض التفت 


56 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


الشريف عبدالله نحو والديء قائلًا بنبرة نجدية: «وش تقول يا شيخ إبراهيم في هذا 
الجيش» هل يمكن لابن سعود وبدوه الحفاة مواجهة هذا الجيش والثبات 
أمامه؟». . وواصل حديثه قائلًا: «إنني أريد الأحساء من وراء الرياض». فأجابه 
الوالد: (لا حول ولا قوة إلا بالله ويقضي الله أمره). 

عند عوؤتنا من مكناهدة هذا الأمتعراض قال والدق وكان التائر نادي على 
محيّاه: أنّى لهذا القائد المتعجرف اقتحام حدود نجدء إِنْ دون ذلك خرط القتاد 
ثم أردف يقول: لكنها الفتنة قد استيقظت ولعَنَ الله موقظها. 

كان من حضور هذا الاستعراض سرور العبد العزيز رسول ابن رشيد لفيصل 
في دمشق» وكان طيلة هذا الاستعراض فرحًا مستبشرًا يُبدي إعجابه» عند مرور كل 
سريّة من سرايا الجيش» ومن شذة فرحه قال: سيكون ابن سعود بين هذا الجيش» 
وبين شمر وأميرها سعود بن عبد العزيز بن رشيد كححبٌ البرّء بين راحتي الطاحون. 

هذا ما قاله عبد ابن الرشيد المدعو سرور العبد العزيزء ولم يكن يعلم أن هذا 
الجيش سيّهزم شر هزيمة وستلوكه الألسن في كل ركن من أركان العالم. ولم ينتظر 
سرور عبد العزيز طويلاء في المدينة المنورة» ولم يمكث لتأتيه أخبار هذا الجيش 
المعجب بهء بل واصل سيره إلى مدينة دمشق» لمقابلة الملك فيصل» ليسلمه رسالة 
أمير حائل سعود بن رشيد. 

كنت ووالدي نقضي كثيرًا من الساعات في الحرم المدني نجلس على السدّة 
القائمة خلف مرقد النبي يكِِ وخليفتيه من بعده أبي بكر الصديق وعمر بن 
الخطاب تيتا . وهي السدَّة التي خصّصت للقائمين على مراقبة الحرم الشريف» 
المهتمين بشؤون نظافته من الآغوات كانوا يقيمون عليها شعائرهم الدينية من صلاة 
وتسبيح واستغفارء ويأخذون عليها قسطًا من الراحة بين الصلوات» وكانوا موضِعٌ 
تقدير واهتمام الزائرين والمصلين» فسواد وجوههم الداكن وبياض ثيابهم الناصع 
وطول أجسامهم الفارعة وسكونهم وهدوتهم الملازم لهم:: جغل الإنسان لا يمل 
مشاهدتهم» وكانت الحكومة العثمانية ترسلهم من إسطنبول ليقوموا بخدمة الحرم 
النبوي الشريف والحرم المكي . 

للآغوات هؤلاء أوقاف كثيرة في البلدان الإسلامية» وفي كل عام كانت تقوم 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 57 





جماعة منهم بالذهاب إلى البصرة من أعمال العراق» حيث كان لهم فيها أوقاف 
كثيرة من نخيل وبيوت ومخازن. 

أثناء جلوسي بالحرم النبوي» كانت تعاودني ذكريات جميلة طيّبة مرّت أمامي 
مسرعة الواحدة تلو الأخرى» لقد تذكرت النبي يَكِةٍ تاركًا مكة البلد الطيب مسقط 
أ ومهد طفولته وشرخ شبابه» البلد الذي تلقّى فيه رسالة ربهء فرارًا بدينه وبنفسه 
من أذى قريش» ومن جبروتها وقسوتها عليه وعلى من اتّبعه. 

تذكرته تَكِيهِه عندما أتته الدنيا الواسعة» تسعى بين يديهء فأهمّلها وجعل همّه 
إقامة مسجد متواضع يقيم فيه الصلاة» ويمارس فيه وعظه وإرشاده. 

وتذكرته يَكةِ وأهل طيبة والمهاجرين» وهم يحفرون الخنادق في أطراف 
المدينة» خوفًا وحذرًا واستعدادًا لمقاتلة جيوش قريش وأحلافها القادمين لينغصوا 
عليه َك وعلى المهاجرين حياتهم الهادئة في المدينة المنورة» فكان يَكِةِ ينفض ما 
علق بشعر وجهه من التراب ويترنّم ُنشدًا: 

أناالنبي لاكذب ‏ أناابنعبدالمطلب 

تذكرته يه وحزنه الشديد في موقعة أَحُد التي قُتِل فيها عمه حمزة ليه » يوم 
شقت جوفهء هند بنت عتبة وأخرجت منه الكبد ومضغته بأسنانها تشفيًا وانتقامًا 
لأربعة من آلها قضوا نحبهم في معركة بدر التي نشبت بين المسلمين والمشركين. 

تذكرته يي وهو في موقعة حنين» يوم أن ولَى المسلمون الأدبار أمام الأعداءء 
يوم أن نظر أحد كبار المسلمين» فرأى عددهم الوفير فقال: لا نغلب اليوم من قلة» 
قالها بفخر وزهوء وعدم اكتراث بالأعداء الذين أمطروا المسلمين بنبالهم» وحملوا 
عليهم حملة شعواء لا هوادة فيهاء وبين لحظة وأخرى انقلب المسلمون إلى 
المعركة وقاتلوا قتال المستميت فما سِرٌ هذه اللحظة الطيبة المباركة؟ هل هي 
السكينة التي أنزلها الله على الرسول وعلى المؤمنين؟ أم هي جنود الله من الملائكة 
التي لا تُهزم. والتي أنزلها الله للدفاع عن رسوله الأمين محمد يَكهِ وعن المسلمين» 
حذرًا من تصدّع المؤمنين وحفاظًا على ترابطهم؟. 

تذكرته يِخْ عندما استتبٌ له الأمر بالمدينة» فأرسل سّعاته يحملون كتبه إلى 


58 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


ملوك البلدان المجاورة يدعوهم فيها للإسلام وكان منهم النجاشي ملك الحبشة 
والمقوقس عزيز مصرء وهرقل عظيم الروم» وكسرى إمبراطور الفرس» وقد رفض 
عظيما الفرس والروم دعوة محمد وَكِةْ. 


تذكرته يك ومن هاجّر معه من أهل مكة ومن آزره من الأنصار من مستوطني 
طيبة» تذكرتهم يوطّدون دعائم الدين العظيم والمدنية الحقيقية» وحكم الشورى 
الإسلامي» يتداولون البحث في تبليغ رسالتهم للناس جميعًاء تلك الرسالة العظيمة 
بسماحتها وثُبلها التي غيّرت وجه التاريخ. وأسدت للإنسانية البليغة التي قال عنها 
المنصفون ممّن قُدَّر لهم تدوين ما جاءت به الرسائل السماوية: إنها خير الرسالات 
التق بشريبها الأبياء والرسل: 

تذكرثُ حزن المسلمين عندما انتقل النبي يَكيِةِ من هذه الحياة الدنيا إلى الرفيق 
الأعلى. وتذكّرت وقْمَ هول ما فاجأ المسلمين عند وفاتهء الأمر الذي حدا بعمر بن 
الخطاب ضيه إلى ا دوتوو كنت وتطيع العا مي حوله قائلة : من قال إن محمدًا 
قد مات عَلُوت رأسه بهذا الحسام»ء ولم يهدّىء من روعه ويُنزل السّكينة على قلبه إِلَا 
قول أبي بكر الصديق عندما خطب في الناس - في يوم هرّت فيه الفاجعة قلوب 
المسلمين وتركتهم مذعورين غير مصدقين قائلًا : من كان يعبد محمدًا فإِنَْ محمدًا قد 
ماتء ومّن كان يعبّد الله فإن الله حي لا يموت. وتلا قوله تعالى: #وَما نَحَمَدُ إلا 
رَُولٌ قد ََتَ ين كَل اسل مين كات أو يِل أنقَدمٌ ع أَعَفبَكُمَ وَمَن يَقَلِبْ عَلَّ 
عَقِيوِ كن يََُّ لَه نكا وَسَيَجْرَى أله اللحرِي4() قال عمربن الخطاب يك 
وقتئذٍ: والله كأني لم أُثْل هذه الآية. ثم كانت وقفة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة 
وقوله فيها: لقد اخترت لكم أحد هذين العْمَّرينء وأشار بيده إلى أبي عبيدة عامر بن 
الجراح وعمر بن الخطاب» فنهض عمر بن الخطابء وقال: أيكون هذا وأنت حيٌ؟ 
ثم بايعه وبعد ذلك كانت بيعة الناس في المسجد الجامع . 


تذكرت أيضًا ما أحاط بالمسلمين من الأهوال» في حروبهم مع أهل الردّة؛ 
بعد وفاة النبى محمد يَكِِ عندما امتنعت غالبية قبائل الجزيرة عن أداء الزكاة» 


(1) سورة آل عمرانء الآية: 144. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 599 





وصمّم أبو بكر ييه على قتالهاء وخالفه عمر بن الخطاب» خوفًا على الإسلام أن 
يخذل ولم يمْض بعد على وفاة النبي يكهِ سوى بضعة أشهرء الأمر الذي حمل أبا 
بكر على أن يمسك بتلابيب عمر بن الخطاب» ويجذبه إليه» قائلا: «يا عمرء 
أشُجاع في الجاهلية وجبان في الإسلام» والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدّونه 
لرسول الله لقاتلهم عليه». 

عارّضَ عمر بن الخطاب وكذلك المسلمون أبا بكر طَظيتا مرة ثانية» عارضوه 
في تسيير جيش أسامة بن زيد إلى تبوك في ذلك الوقت العصيبء الذي كان فيه 
المجتهرة نهد روقاة النبى عل من اخيعاة ند خوك اتير هذا الجيشء لكن أبا 
بكر يليه خالفهم جميعًا قائلًا لهم: والله لا أفل لواء عقده رسول الله يك . 

كان أبو بكر على حق في كلا الحالتين» وكان قتاله للمرتدين» لا ليملا 
خزائن الدولة من الزكاة» بل حفظًا لحقوق الفقراء والمساكين الذين ينالهم النصيب 
الأكبر من الزكاة» وليس فيهم من ناصر يذود عن حقوقهم ويحفظها لهم. سوى 
أولي الأمر من المسلمين. 

أمّا وقوفه بوجه من اعترض على تسيير جيش أسامة إلى تبوك؛ فقد جعل مّن 
كان يفكر بالردّة عن الإسلام يرجع عن تفكيره لِما رأى من قوة للإسلام لما سيّر 
مثل هذا الجيش العرمرم. 

أوصى أبو بكر الخليفة الأول للرسول محمد يَكِخِ هذا الجيش وصية بليغة فيها 
كل معنى من معاني الإنسانية» وقد حفظها التاريخ بين طيّاته» بكثير من الإعجاب 
والتقديرء وكان ممّا جاء في وصيته لأسامة بن زيد وقواته: (لا تخونواء ولا 
تغدرواء ولا تمثلواء ولا تقتلوا طفلاء ولا شيخًا كبيرّاء ولا امرأة» ولا تقطعوا 
ضاك"ؤلة عدوا زوق "وله امور كوا ودر مكير ةزر لا دسو اه ول اذ 
للأكل) وكان النبي كك قد أمر أبا بكر وعمر بن الخطاب ييا أن يكونا جنودًا في 
هذا الجيش. ولمّا بويع أبو بكر كيه بالخلافة استأذن من أسامة بن زيد بإبقاء عمر 
ابن الخطاب في المدينة. 

إن الهدوء الشامل الذي تتمتع به هذه المدينة العظيمة وصفاء أديمهاء يوحي 
للمرء بما قام به يقي من جلائل الأعمال لصالح البشرية» وما خلفه من كريم الذكرء 


100 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


لقومه العرب. كل هذا جال بخاطريء؛ وداعب ذاكرتي أثناء جلوسي في الحرم 
الشريفب. 

كنت أتردّد في بعض الفترات على البقيع» المقبرة الطاهرة التي ضمّت رفات 
النخبة الصالحة من آل البيت ومن الأنصار والمهاجرينء فلقد تآخى الأنصار 
والمهاجرون أحياء وأموانّاء أحياء بعد أن قدَّم الأنصار للمهاجرين من أهل مكة ما 
كان لديهم من زاد ومتاع. فأثنى الله تعالى عليهم بقوله: #نحُونَ من هاعر 
لم . ... وَيوْبْرُوتَ ع1 شح ولو كن بم حَصَاصَةٌ 04", وأموانًا حين ضمّهم بقيع 
الغرقد جميعًا. وتذكرت ما أصابهم من الأذى» وما لحقهم من صنوف العذاب 
والآلام. في سبيل نشر الدعوة الإسلامية» ونصرة دين الله.ء حتى تم لهم الفوز 
المبين» ونشر الإسلام راياته في كثير من بلدان هذا الكوكب الأرضي» واندمجت 
فيه خلائق من الأمم المتباينة» والمختلفة ألسنتهم وألوانهم فجعلتهم أمة واحدة 
يُرجى خيرها ويُخشى من بأسها . 

مكثت مع والدي في مدينة الرسول محمد يك خمسة عشر يومًا منتظرين زيارة 
أميرها الشريف علي بن الحسن إلى مدائن صالح.» لنكون برفقة سموّه بناء على 
طلبه . 

كان في المدينة المنورة عدد غير قليل من الجنود السوريين من بقايا الجيش 
العثماني المرابض بالمدينة» وجاء إليها جنود آخرون من مدينة جدّة كانوا قد 
انضموا إلى الثورة العربية عند قيامهاء وبقوا في جدة ومكة المكرمة» فبلغ عدد 
هؤلاء الجنود أربعمائة جندي سوري لم تسمح لهم حكومة الأشراف بمغادرة 
الحجازء إِلَّا بعد أن يقوموا بإصلاح الخطّ الحديدي من المدينة المنورة حتى 
عمان» وكان قد نْسّف قسمًا منه لورنس الضابط البريطاني» ومّن كان معه من أهل 
البادية» وخصّصت الحكومة الهاشمية لكل من هؤلاء الجنود راتبًا شهريًا محترمًا. 

قام هؤلاء الجنود بعملهم خير قيام حتى إصلاح الخط الحديدي إلى مدائن 
صالحء ثم إلى محطة (الحجر) المكان الذي كان يقيم فيه الأمير سعود بن رشيد 


(1) سورة الحشرء الآية: 9. 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 101 





قبل حصار المدينة» ولم يمْض وقت طويل على مكوثنا في المدينة المنورة حتى 
أقلّنا القطار الحديدي برفقة الأمير علي بن الحسين إلى مدائن صالحء فأقام 
الشريف علي بها ليلة واحدة ثم غادرها عائدًا إلى المدينة ليتفقّد شؤون رعيته فيهاء 
وكان الشيخ محمد المغيربي الفتيح مع المدعوين لمرافقة الأمير علي بن الحسين» 
وقد ألحق فيما بعد بالمستشارين لدى جلالة الملك عبد العزيز بعد فتح الحجازء 
والتقينا في مدائن صالح بتاجر من العقيلات هو الشيخ سليمان الرميح» وكان معه 
ستون رأسًا من الخيل» أتى بها من العراق لعرضها في أسواق مكة والمدينة» وكانت 
بريطانيا آنذاك تقوم بتقديم الأموال الطائلة للعائلة الهاشمية في مكة المكرمة» على أن 
ينفقوها على ساكني البادية في الشهر الذي يستلمونهاء وكان الشريف عبدالله يغدق 
الك لاع الا عور نه عياب زعا مه علق اللنون كاترا وكتهرة نذا لو ارا سي 
اعتاد أن ينقدهم أضعافب أثمانهاء لذا كان العديد من التجار ومن أهل البادية» 
يقدمون له الهدايا من الخيل والإبل والغنم» طمعًا في ما ينالونه من الأعطيات. 

أقمنا في الحجر عشرة أيام كاملة ضيوفاء على التاجر سليمان الرميح» وكان من 
أصدقاء والدي المخلصين. وفي هذه الفترة من الزمن أخذت أخبار الشريف عبدالله 
وجيشه الزاحف على الديار النجدية تتساقط علينا تباعَاء وأنه وصل بلدة (تربة) من 
الحدود النجدية وأقام فيها بضعة أيام استعدادًا لمواصلة زحفه على نجدء وأن هذا 
الجيش قد أوقفه عن الزحف قوّ ة مؤلّفة فقط من ثلاثة آلاف مقاتل من قوات الإمام 
عبد العزيز بن سعود من الإخوان ومعهم الشريف ابن لؤيء وهو من أفراد العائلة 
الهاشمية الموالين للملك عبد العزيز». وكان الناس لا يصدّقون أخبار اندخار هذا 
الجيش» وما حدث لهء ويقولون إنها أخبار مبالعٌ فيهاء وهل من الممكن لجيش 
لجب كهذا مؤلّف من عشرة آلاف مقاتل» مستعدًا استعدادًا كاملا ومجهرًا بالمدافع 
والرشاشات, أن تقضي عليه قوة لا تتجاوز الثلاثة آلاف مقاتل من الإخوان من جيش 
ابن سعود؟ ذلك أنه لم يفلت من هذا الجيش إلا عدة مئات» وأربعون فارسًا منهم 
الشريف عبدالله . . . لقد خامرت الناس الشكوك قائلين: إن هذا لم يحدثء. فلسنا 
في زمن الفتوحات الإسلامية يوم أن كان عدد قليل من المسلمين يقاتل العدد الذي 
يفوقهم عددًا وعدّة مستمدين قوتهم من الإيمان بالله ورسوله. 


102 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


إن ملحمة بدر ذهبت مع الأمس الغابر» ولن تعود مرة ثانية» وليس في الثلاثة 
آلاف مقاتل رسول» يبشرهم بأن ربّهم سيمذهم بآلافٍ من الملائكة تقاتل معهم. 
كما حدث للمسلمين في بدر وفي موقعة حنين. وإن موقعة اليرموك وغيرها من 
المواقع كالقادسية وحظين لن تعود مرة ثانية. وبالرغم من أن أخبار انتصار جيش 
الملك عبد العزيز كانت أشبه بالخيال إِلَّا أن والدي كذ كان أكثر المصدّقين لها 
لعلمه بيأس أهل البادية وشدَّتهم في القتال وعمق إيمانهم في عقيدة السلف التى 
يقاتلون لأجلها . 

سرعان ما تعاقبت علينا الأخبار فأزالت ما علق بنفوس الناس من الشكوك 
والأوهام. ولقد كانت الحويظة داضله ببق ابن عرد والاخرافيء وتخلّت بعد هذه 
الملحمة بريطانيا شيئًا فشيئًّاء 0 مدّهم بالأموال الطائلة. وقدّمت 
امسسويام وم يتبوّأ على 
عرشهء يضم البلدان العربية جميعهاء وبدأ نذير الانحلال يعصف بالحسين وأبنائه 
علي وعبدالله وفيصلء ورابعهم زيدء الذي لم يعهّد إليه بعمل يقوم به أثناء الثورة 
العربية الكبرى» وهو من أمٌّ تركية وَلِد أثناء وجود الملك حسين في تركياء وكان 
آنذاك مندوبًا عن مقاطعة الحجاز فى البرلمان العثمانى فى إسطنبول. 

بعد مرور خمسة أشهر على هذه المعركة الدامية اجتمعنا فى دمشق بأحد 
النجديين من أهالى بريدة» وكان من شهود هذه الملحمة». وكان واحدًا من الأربعين 
خيالًا الذين قدّر لهم البقاء أحياء من العشرة آلاف مقاتل فقد كان منهم من | 
إلى جماعة ابن سعود. وقليلهم لاذّ بالفرار. 

حدَّتّنا هذا النجدي قائلًا : عند بلوغنا مدينة الطاتف. أمعنًا السير إلى (تربة) 
فأتتنا أنباء عن أن عددًا كبيرًا من جنود ابن سعود على مقربة منّاء فرتّبنا مواقع 
الجيش على عجل» وكان ترتيبه على غير نظام يكفل له المناعة» فقد كان بلا قلب 
ولا جناح ١‏ وكانت القوّات النظامية بمدافعها ورشاشاتها في وسط المعسكر تقريبا 
تُحيط بها خيام أهل البادية من جهاتها الثلاث وحرص الشريف عبدالله على أن لا 
يغادر القائمون على المدافع وكيّلهم بالحديدء وما كنا نظنّ أنَّ الإخوان جيش ابن 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 103 





الليل إِلّا والطلقات النارية» توّجّه إلينا من كل فج فأخذت مدافعنا تطلق قنابلها 
والرشاشات تحصد من كان أمامها دون تمييز بين الصديق والعدو. وبدأنا نسمع 
صياح الإخوان وانتساباتهم (إخوان مَن طاع الله) وترديد أقوالهم في هذا الليل 
البهيم (هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها)» فهلعت قلوبنا خوفا ورعبّاء واختل 
نظامنا فلم نذْرٍ ماذا نفعل ولا أين نذهبء لولا نباهة رجل من دام الشريف 
عبدالله الذي رأى مكانا لم يصله الإخوان بعدء فنبّه الأمير إليه. فقرّرنا الفرار مع 
الأمير عبدالله مرغمين؛ لولا هذا الخادم لحل بنا الدمار والهلاك؛ ولكن الله سلم 
وأراد لنا الحياة. 

أقمنا في مدائن صالح عشرة أيام» نمتطي ظهور الجياد» وننتقل في هذه 
الصحراء الواسعة من مكان لآخر. ونعرّج أحيانًا بطريقنا إلى ذلك الوادي الموحش 
القائم بين جبلين» مسّت جوانبهما يد الطبيعة مسا متقئًا لا اعوجاج فيه» كأنَّ يد 
البنّاء مرّت بهما منذ وقت قريب وأتقنت صنعها . 


عتا هؤلاء القوم - قوم صالح - عتوًا كبيرًاء ورفضوا أمر ربهمء ونبذوا 
شرائعه وأحكامه. وها هي مساكنهم خاوية على عروشها لم تسكن من بعدهم. 
تنبىء بما كانوا يفعلون» لقد مرّت بها عصور عديدة فأهلكهم الله وتركهم عبرة لمن 
لا يأتمر بأوامر ربه. ويفصل هذين الجبلين عن بعضهماء وادٍ عظيم يتفاوت عرضه 
ما بين مائة متر إلى أن يصل في بعض جهاته إلى مائتي مترء وادٍ موحشء لم تمنحه 
الطبيعة شيئًا من مناظرها الخلابة» فلا شجرة فيه» ولا نبت» ولا ماء» ولا تسمع 
فيه تغريد طير ولا صوت دايّة تدب عليه. 


غادر التاجر النجدي الشيخ سليمان الرميح مكان إقامته في الحجر هو وخيوله 
إلى المدينة المنورة» ومنها إلى مكة المكرمة» وأزمعنا السير على ظهور نجائبنا إلى 
مدينة تبوك» البلدة الهادئة ذات المناخ الجيد. وكانت في ذلك الزمن تستوعب 
القليل من السكان وأقمنا فيها يومًا وليلة ثم توجّهنا إلى مدينة معان» وكانت تابعة 
لحكومة الحجازهء لم تنضم إلى شرقي الأردن بعدء وكان القائم بإدارة الحكم فيها 
رضا باشا الركابي» الدمشقي المولد. 


أقلَّنا في صباح اليوم الثاني القطار إلى مدينة عمان - عاصمة الأردن الآن - 


104 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


وكانت آنذاك تحت الحكم البريطاني» لم يصل إليها الشريف عبدالله بعد. وكان 
جبالها ووديانها كانوا هنا وهناك يزرعون أرضها ويتعهدون تربتهاء وكانوا بسطاء في 
معيشتهم» ومضى بنا القطار الحديدي إلى أن وصلنا دمشق في اليوم نفسه. 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 105 





الفصل الرابع 


دمشق ورحلات البادية 
مشاهد من التاريخ العربي 


دمشق مهد طفولتي» ومرتع صبايء» حيث تمر أمامي دائمًا ذكريات الماضي 
وصور لأيام خلّتء يوم أن كانت الحياة فيها هنيئة مرحة» وذلك قبل الحرب 
العالمية الأولى» وقبل أن يعتري البلدان السورية ما اعتراها من ويلات وفواجع 
أثناء هذه الحرب وبعدهاء لقد عمّت الأوطان العربية جميعهاء وانتشرت فيها 
الفوضى والاضطرابات وتفبّت جمعُها وغدّت بعد عرّها وسؤددها في ذل واستكانة 
وخمول وتفرقة ممقوتة وانحلال جسيم. أذكر شقيقي الأكبر محمد عيد عندما اي 
ذات يوم أعبث بتدخين سيجارة على قارعة الطريق» ولم أكن بلغت العاشرة من 
عمري بعدء وكان قريبًا مني فلم أنتبه له» فضربني على مؤخرة رأسي ضربة كادت 
أن تذهب بِلبّيء فوقعت من شدَّتها على الأرض» وعندما عُدت من أميركاء بعد أن 
تجاوزت الخمسين من عمريء اعتذر لي عمًا بِدَرَ منهء قائلا : سامحني أيها الأخ 
على تلك الضربة القاسية فقد كنتٌ خائمًا أن أذهب من الدنيا قبل أن أعتذر لك» 
وطبَّع على جبيني قبلة فيها كثير من الاعتذار. 


ذكرته يوم أن أخذ الوسادة من تحت فخذي ليرى موضع الكسر فيه» وكان 
الجرح قد أصابته البرودة» فصحتٌ بأعلى صوتي من شدّة الألم» وذلك أنني كنت 
ممتطيًا صهوة حصان» خارج دمشق» فطرحني أرضّاء فكسرت رجلي» وجبرت 
مرتين» وحتى الآن لا أزال أميل قليلًا في مشيتي» وبعدها لم يمنع عني شقيقي 
محمد عيد شيئًا كنت أطلبه منه» حتى ملابسه الجديدة كنت أستعملها قبل أن 
بلبسهاء فقد كنت مليء الجسم. وكانت ملابسه وأحذيتهء قريبة جدًّا مما ألبس. 


106 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


أذكر رفاقي في المدرسةء سالم الطويان وخليل النجيديء وكلاهما من 
النجديين من بلدة بريدة ومن مواليد دمشق. وقد رافقتهما ذات مرة إلى خارج 
المدينة ودخلنا أحد بساتينهاء فتسلقت شجرة مشمشء» وكان بأعلى أغصانها عدَّة 
ثمرات» فقلت لهما: خذا هاتين الثمرتين» وكنت ثالثهما حيث وقعتٌ معهما على 
الأرض فمكثتٌ عشرين يومًا طريح الفراش» كما تذكّرت قفزي من علرٌ شاهق, 
فاختل موضع في قدمي حملني على أن لا أترك المنزل إِلَا بعد ثلاثين يومًا. وأذكر 
خصومتي مع أحد رفاقي» فتناول حجرًا وقذفني به فأصاب جبهتي » ولا يرال :اثر 
هذه الضربة ظاهرًا بأعلى ناصيتي . 

أذكر عمّي عمر الرواف شقيق والدي» عندما نهرني من مجلسه ليلا أمام 
الجالسين» وكان الوقت صيفًاء فما كان مني إِلَّا أن جمعت أحجارًاء وأخذت 
ألقيها لحم وعلى زواره وكان بين الشارع ومجلسه جدار قليل الارتفاع» فخرج 
ليضربني فلذت بالفرار. إنها شقاوة الأولاد. وعبث الطفولة. 

أذكر (أبو الروق) - أحد مرافقي والدي في سفراته للحجازء وكان رجلا كبير 
لجنا قدا حاون السا نيو يم عيوه - ولاك يشا آراد بالعلرين على كرسي كان 
بجانبي وسحبته من تحته قبل أن يجلسء» فوقع على ظهره؛ وبقي يشكو من ألم هذه 
الصدمة حتى وافاه أجله. . . حمًا إنها شقاوة الأولاد.» وعبث الطفولة. 

في أحد الأيام استصحبتني خادمة كانت تتّصل بعائلتي إلى أحد أسواق 
دمشق. فوقفت عند أحد الدكاكين لشراء حاجات العائلة» فانزلقت رجلى ووقعت 
أرضاء :وكانت دي الغريات مبائزة»: قد 'احد دوالييها على رجلي-فنميل اللخم 
عن العظم» فمكثت طريح الفراش مقدار عشرة أيام حتى التأم الجرح وعاد اللحم 
لخطى فظام ريدي البشرى». 

أذكر - وعمري لم يتجاوز السابعة - يوم أخذتني زوجة خالي مع نسوة من 
جيرانها إلى المحكمة الشرعية» وأخبرتني أنه إذا سّئلت في المحكمة عن اسمك؛ 
فقل اسمي نعمان عثمان» وإن هذه السيدة والدتي وأن أشير إليهاء وكان ولدها 
نعمان قد بلغ الثامنة عشرة من عمره» ولم يكن لزوجة خالي ولد غيره» وكانت 
الحكومة العثمانية تطلب كل من بلغ من العمر الثامنة عشرة لينتظم في صفوف 
الجيش التركي فمثّلتٌ بين يدي القاضي الشرعي وسألني عن اسمي فأجبت نعمان 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 107 





عثمان» وهذه والدتي وأشرت إليها بيدي» أي إلى زوجة خالي والدة نعمان بن 
محمد عثمان وكان خالي ذا وجاهة لدى السوريين» ولا أدري هل وجاهته التي 
شغلت دورًا مهما في هذه القضية أم دراهمه التي أنفقها في هذا السبيل لبقاء ولده 
نعمان بعيدًا عن الانخراط في الجيش التركي» لعله استخدام الاثنين معًا الوجاهة» 
والدراهم ليصبح عمر ابنه سبعة أعوام فلا يُدعى إلى الخدمة بالجيش التركي . 

وأرى طيف أستاذي الشيخ محمد بهجت البيطار رحمه الله» وهو يقوم 
بتدريسنا تقفسير القرآن الكريم». في مدرسة التوفيق بدمشق» وأول درس أعطانا إياه 
كان في تفسير سورة «النبأ» لعَمَّ بتسَدَْنَ 2274 عم يتساءلون» وقد وقف أمام السبورة 
وكتب عَم عن أي شيء بَتَسََلون4 يسأل بعض العرب بعضًا 9ب ايا امير 214) 
وهو خبر نبوتك يا محمدء إلى أن أتى إلى قوله تعالى: #إنَّ بوم ألَصَلٍ كن 
م2045 وكان علينا أن نحفظ ما يلقيه علينا غيبّاء وكان يعلّمنا أيضًا التوحيد 
والفقه. وبهذه المناسبة أذكر أنني عندما دُعيتٌ من قبل الجالية العربية في سيدر 
رابدس من ولاية أيوا في أميركا طلبت جاليتها العربية المؤلفة من ثلاث عشرة عائلة 
إسلامية» ثمانية عائلات منها من جب جنين البقاع من أعمال لبنان» طلبت مني 
إلقاء كلمة على مسامع الحاضرين في الحفل الذي أقيم في ناديهم في سيدر 
رابدس» فلم يحضرني أي شي سوئ أ فسرت لهم سورة «النبأ» كما تعلّمتها من 
الأستاذ الشيخ محمد بهجت البيطارء فنال ذلك إعجابهم ورضاهم حتى إن أحدهم 
قال: هذا هو الرجل الذي نطلبه للقيام بتعليم ناشئتناء وكانت مدرسة الجالية تضم 
أربعين طالبًا صغارًا وكبارّاء نساءً ورجالا. 

أعود بالذاكرة إلى مدرستي في دمشقء لأذكر بالخير مدير المدرسة السيد 
عبدالحكيم الطرابلسي». لقد كان يلقي علينا دروسًا في التاريخ وكان ضليعًا به وكان 
يحدّئنا عن الفتوحات الإسلامية وعن الوقائع التي استعّرٌ لهيبها بين المسلمين 
والمشركين» كاليرموك» والقادسية: وحطينء ويعدّد لنا أبطالهاء واصمًا شجاعتهم 
وحسن أحدوثتهم أثناء فتوحاتهم» وروى لنا أخبار فتوح الشام وما قاله هرقل عظيم 





(1) سورة النبأء الآية: 1. 
(2) سورة النبأء الآية: 2. 
(3) سورة النبأء الآية: 17 . 


108 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


الروم عند فراره منها: (سلام عليك يا سورية» سلامًا لا اجتماع بعده) وحدَّئنا عن 
خالد بن الوليد قائد جيش المسلمين» أنه كان مرابظا حول دمشق عندما تلقّى من أمير 
المؤمنين الخليفة الثاني للرسول الأعظم محمد يكٍِ عمر بن الخطابء كتابًا يأمر بعزله 
وتسليم القيادة لأبي عبيدة عامر بن الجراح» وكانت المعركة ما تزال دائرة بين 
المسلمين والروم فأبقى خالد الكتاب معه حتى انتهت المعركة بنصر المسلمين» ثم 
سلّم كتاب العزل إلى أبي عبيدة» وانتظم خالد في صفوف المسلمين كفردٍ منهم 

قف المرء متعجًا تزهولا يجاه صرق عير ين القطاي الى زاف الأخار 
بانتصارات قائد جيش المسلمين خالد بن الوليد» وما أظهره من الشجاعة والبسالة 
والخبرة العسكرية». في حروبه» وفي فتوحاته ما يفوق الوصف. وعند اجتماع عمر 
بخالد أخبره عمر: «إنني والله لم أعزلك من القيادة» إِلّا خوقًا من الناس أن تُفبتن 
بك» فتأخذك نشوة النصرء فتغتر بتفوقك» فتكون من الهالكين»» فأجابه قائلًا : «لا 
فرق عندي بين أن أقاتل قائدًا أو غازيًا مجاهدًا». 

كما أن الإنسان ليأخذه العجب من ثبل هذا القائد المخضرمء وامتثاله لأمر 
الخليفة بتخليه عن القيادة وتسليمها لقائد غيره وتحوّله جنديًا تحت قيادته» ووضع 
نفسه تحت تصرّف هذا القاتد الجديد الذي اختاره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب 
بديلا عنه. إنها العقيدة الإسلامية الثابتة» والأخلاق العالية المتينة التي يقاتلون 
لرفع شأنهاء ويضحُون بكلّ غالٍ لديهم في سبيل نشرها. 

إنه الإيمان الثابت بنبالة أغراضهم من وراء حروبهم وهذا ما دعا كُتَّاب الغرب 
ومفكريه المنصفين: أن يأتوا على ذكر الفتوحات الإسلامية» وأن تدهشهم المدنيّ 
العربية وما لاقاه المسلمون من المتاعب الجمّة في سبيل نصرة الدين الإسلامي 
الحنيف» فقال غوستاف لوبون الفرنسي الجنسية؛ الذي يتبع تعاليم الكنيسة 
المسيحية: «ما عوك ار اه أرحم من العرب» وإن المدنية العربية من أروع 
باكر الحاريق وإن الكرء كلما تعمّق في دراستها ل أ هو د 
وانّسعت الآفاق أمامه. وثبت له أن القرون الوسطىء لم تعرف الأمم القديمة إلا 
بوساطة العرب» وأنهم هم الذين نقلوا 0 مدنية أنعشتها في الماديات» 
والعقليات. والأخلاق. وهم الذين فازوا وحدهم بنشر المواد الجوهرية عن المدنية 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق ً109 





وأعني بها الدين» والأوضاع والصنائع بين عناصر جديدة من غير عناصرهم. وأن 
العرب أول من علم العالم كيف تتقن حرية الفكر مع استقامة الدين» وإذا ما قَستّ 
العرب بالشعوب الأوروبية الحديثة أمكنك أن تقول: إنهم من حيث العقل 
والأخلاق» أسمى مكانة من كل الأمم التي عاشت قبل النهضة. وقد فاقوا 
بأخلاقهم أجداد الأوروبيين بكثير. 

قال الكونت (هنري ديك سترا): إن أتباع محمد هُم وحدهم الذين استطاعوا 
الجمع بين الرفق في معاملة مغلوبيهم والرغبة في نشر دينهم». وهذه الرغبة هي التي 
دفعت العرب إلى الفتوحات العظيمة, فتَشَّر الإسلام راياته خلف جيوشه الظافرة» 
ولم يتركوا أثرًا للجور. 

في هذا الصدد قال (دوسن): إن المدنية الأوروبية» بل المدنية الغربية كلها 
مدينة للعرب بثمرات حكمة الأقدمين» وإِنَّ فتوحات العرب في إمبراطورية الإسلام 
من القرن السابع حتى الخامس عشر تُعَذّ إحدى عجائب التاريخ . 

من المدهش أن يصبح العرب وكانوا في أول أمرهم على الفطرة عنصرًا 
فاتحّاء وأن يصبحوا سادة نصف العالم في مائة عام» ومن أشدٌ العجب حماستهم 
العظيمة وسرعتهم البالغة في تحصيل العلوم» وتكوين الثقافة اللازمة لعظمتهم حتى 
بلغوا مستوى عاليًًا في مائة سنة» بينما الجرمانيون لما فتحوا الإمبراطورية 
الرومانية» قضوا ألف سنة قبل أن يقضوا على التوحُشء وينهضوا بإحياء العلوم. 

كلها ذكريات شيّقة شجية يلذ لي الإسهاب بها. وهذه فقرة قصيرة من كتاب 
محمد والمحمديين للكاتب (سمث). حيث قال: 

«إن أعجب العجب في حياة محمد أنه لم يدع القدرة على إتيان المعجزات 
فأيما شيء قاله إنه يستطيع أن يفعله. رآه أتباعه وهو يفعله ولم ينسب أحذدًا إليه 
معجزة من المعجزات. لقد ظلّ محمد إلى آخر حياته وليس له من لقب يعترٌ به إلا 
أنه نبي مرسل من عند الله دون أن يكون له جيش قائم» ولا دخل ثابت» إذا كان 
لأي إنسان أن يدّعي بحق تلقي الوحي من الله فإنه محمدء فقد كانت لديه كل 
السلطات دون أن يكون له أداتها ولا وسائلهاء وإنه لحدثٌ منفرد بالتاريخ» أن 
يؤسس محمد شعبًا وإمبراطورية وديئًا». 


110 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


وهكذا فقد حفظ التاريخ للعرب إنسانيتهم ورحمتهم وتسامحهمء وإن أوروبا 
التي غزت الشرق في الحروب الصليبية» لتسلبه خيراته» وتنتزع منه طمأنينته وتعبث 
في إصلاحاته وأخلاقه» يدفعها الجشعء ويثير غيظها وحسدهاء قد ارتدّت عنه 
خاسرة الصفقة. خائبة الأمل؛. وأعطاها الشرق من روحانيته وسموٌ أخلاقه» ونبل 
غاياته» درسًا بليعٌاء قال فيه العلماء المنصفون أمثال (لانس) و(بتي) ما معناه: "إن 
الحروب الصليبية عادت على الغرب بخيرات لا تستقصىء ولو لم يكن فيها غير 
تحطيم التعصّب الكنسي» وما رآه الصليبيون عيانًا من تسامح المسلمين وتساهل 
مشاهير أمرائهم. لكفى بها فائدة» وأخذت أوروبا عن العرب عادات الفضيلة 
والمدنية». 

بعد هذا الاستطراد أعود إلى سياق الحديث عن رحلتنا من المدينة إلى دمشق. 
عيث كانت عاصمة الأمويين غند وصولئا إليها+ 'تضطرب اضطرابا شديذاء 
لاختلاف زعمائها فيما بينهم حول توجيه سياستها الخارجية» وذلك على الرغم من 
الغبطة التي كانت تغمر قلوب ساكنيهاء وما كانوا فيه من سرور وحبور» بتتويج 
الملك فيصل على عرش سورية»؛ وظهر على مسرح السياسة فيها آنذاك: السيد 
شكري القوتلي وعبدالرحمن الشهبندرء وجميل مردم بك. ونبيه العظمة» وخالد 
الحكيم» وقد شرعوا يجاهدون مع ساساتها القدامى, أمثال إبراهيم هنانو وإحسان 
الجابري» وفارس الخوريء» وهاشم الأتاسي» وغيرهم من الزعماء والرجالات. 

ونقف قليلًا لندرس الحوادث التي داهمت سورية» وتعاقبت عليهاء بعد تتويج 
الأمير فيصل بن الحسين ملكا عليها. 

أظهر الملك حسين بن علي في بادىء الأمرء استياءه الشديدء وعدم رضاه؛ 
عمًا أقدم عليه ولده فيصل» بمناداته ملكا على عرش سورية؛ من دون أن يأخذ 
رأيه» أو يستشيره» وهو الملك الذي نادى بنفسه ملكا على البلدان العربية جميعها 
بما فيها سورية؛ فإذا بنجله فيصل يُقدِم على هذا العمل» فيقبل أن يتوّج على قطر 
عربي» وكان الحسين بن علي قد أخذ وعدّاء من البريطانيين أن يكون ملكا على 
الأقطار العربية بكاملهاء وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وبناء على هذا 
الوعد قام بثورته العربية وبمناصرة الحلفاء. 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 111 





كان موقف البريطانيين شديد الوطأة على الملك فيصل بن الحسينء فقد كانوا 
ينظرون إليهء كأحد قادتهم يأتمر بأمرهم» وما كان له أن يتسرّع. ويتصرّف هذا 
التصرف الذي اعتبره والده الملك حسين عملا غير صالحء؛ كما أنهم لم يخفوا 
انزعاجهم مما حدث,. فقد رفضت بريطانيا الاعتراف بملكيته وبحكومته وتركته 
وعرقه والسوريين وتقلت عن الت ماتيا" لق اث البريطانيون والفرسون مسفيق 
على أن تكون سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي. 

المعروف عن الفرنسيين شرعة تأر لذلك استشاطوا غضبًاء وامتلاً القائد 
العام الفرنسي» غوروء غيظًا على فيصل وعرشه والسوريين جميعًاء واستدكرت 
فرنسا عمل فيصل أشد استنكارء» وواصلت احتجاجها للبريطانيين» وأخذت تطالبهم 
بتنفيذ معاهدة سايكس - بيكو السرية» التي اقتسموا فيها حينئظٍ فيما بينهم البلدان 
العربية المنفصلة عن الدولة العثمانية» وما كان للبريطانيين أن يتغافلوا عن احتجاج 
الفرنسيين وهم الموقعون معهمء على اقتسام البلدان العربية» المنكودة الحظء 
فكان نصيب الفرنسيين سورية ولبنان» وللبريطانيين فلسطين والأردن والعراق» أما 
القطر المصري فبقي في ظل الاحتلال البريطاني ولم يفلح جنود الأتراك بزعامة 
جمال باشا وقصّروا عن المضي في رمال غزة والعريش للوصول إلى قناة السويس. 
وبينما كانت الأمور على هذه الصورة في أوروباء لم يّرَ الملك فيصل بدا من 
الذهاب إلى باريسء للتفاوض مع الفرنسيين» ولكنه لم ينجح وعاد إلى حلفائه في 
لندن» فأحالوه على باريس» فرجع إليها مرة ثانية» واجتمع بالوزير الفرنسي 
كليمنصو ووافقه فيصل على مشروع اتفاقية» فانقلب إلى سورية راجعًا يحمل معه 
مشروع الاتفاقية» وكان من الصعب على فيصل بن الحسين التوفيق بين حماس 
الوطنيين الراغبين بالمحافظة على وضعيتهم ومكاسبهمء والضغط السياسي 
العسكري الفرنسي . 

اشتدَّ ساعد الجنرال غوروء المقيم الفرنسي في بيروت» وأرسل إلى الحكومة 
السورية برئاسة هاشم الأتاسيء إنذارَّاء يطلب فيه موافقتها على شروط خمسة هي : 

أولًا: التخلي عن الخط الحجازي من رياق إلى حلبء وإعطائه للفرنسيين 
لإدارته . 


112 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


ثانيا : قبول الانتداب الفرنسي . 

ثالنًا: إلغاء التجنيد الإجباري» وتسريح الجيش. 

رابعًا : قبول التعامل بالعملة الورقية. 

خامسًا : معاقبة العصابات والأشقياء. 

أرسل هذا الإنذار في 26/ 10/ 1338ه الموافق 12 تموز/يوليو سنة 
0م . وأعطى الفرنسيون للسوريين مهلة خمسة أيام لتنفيذ هذا الإنذار» وفي 
الوقت نفسه توجّه الجيش الفرنسي من لبنان إلى حدود سورية» يرأسه الجنرال 
(غرابيه) وهو مصمم على احتلال سورية. 

وجد السوريون أنفسهم مجبّرين على قبول شروط الجنرال (غورو) الخمسة. 
رغم ما بها من فداحة» ومس بكرامة استقلالهم. بَيْدَ أن الجنرال (غورو) رفض 
قبول السوريين لشروطه الخمسةء بحجّة أنها أتت متأخّرة عن الوقت المحدّد ببضع 
ساعات. ثم وجّه الجيش الفرنسي لاحتلال سورية» ولم يكن لدى السوريين قوة 
تستطيع الوقوف أمام الجيش الفرنسي الزاحف,» بعدما سرّحت الحكومة السورية 
جيشهاء تحت ضغط الإنذار الذي تلقّته وقبلته» ولم يّرَ فيصل بدا من اللجوء 
لحلفائه البريطانيين» طالبًا منهم التوسّطء لصدّ هذا الجيشء» فلم يصغوا لتوسلاته 
قائلين له ألست أنت ملكّاء ولك عرش قائم» وحكومة مستقلة؟!. 

أجبر السوريون على مقاتلة الفرنسيين حفظا لشرفهم» وإبقاء على كرامتهم 
فجهّزوا أنفسهم بما لديهم من سلاح» وتوجّه قسم من الشعب السوري» ومعه بعض 
أفراد من جيشه الذي سُرّح منذ أيام - إلى ميسلون». وكان من ضمن المقاتلين في 
ميسلون عدد من النجديين الذين قدموا إلى دمشق مع قوات الملك فيصل بن 
الشريف حسين» وقد كتب شقيقي ياسين فيما بعد عدّة مقالات في الصحف 
السورية يذكُر فيها بطولة النجديين في ميسلون. ولم يتمكن الجيش السوري من 
الوقوف طويلًا أمام قوة الجيش الفرنسي» واستشهد وزير الحربية» وقائد الجيش 
السوري يوسف العظمة» ودخل الفرنسيون دمشق منتصرين؛ برئاسة الجنرال 
(غرابيه) وبعد أسبوع من دخول الجيش الفرنسي إلى دمشق. حضر الجنرال (غورو) 
من لبنان» وكان أول عمل قام به في دمشق» هو زيارة ضريح البطل الإسلامي؛ 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 113 





صلاح الدين الأيوى» ورفع رجله على حافة ضريحه. ووضع حسامه عليه وقال: 
«صلاح الدين» ها نحن قد عُدنا»» لقد كانت جملة قوية قاسية» كشفت القناع عمًا 
يكنّه الغربيون من التعصّب الذميم» وأنبأت عن مقدار ما كان في نفوسهم من الحقد 
والضغينة» فسجلها التاريخ بكثير من الاشمئزاز» وود كثير من كتّاب الغرب. لو لم 
يتفرّه الجنرال (غورو) بهذه الجملة» فقد بقيت كلماته يتداولها زعماء العرب في 
خطبهم» وفي كل مجتمع وفي كل حديث لهم يستشهدون بها على تعصّب الغربيين 
الذميم» وصحيح أنه انطوت الآن صفحة مريرة خالدة من الجهاد العربي» لكنَّ نار 
الجهاد بقيت حيّة يكسوها الرمادء حتى يتطاير شررها وتعود مستعرة حامية. 

إن عبارة (غورو) ليست غريبة في الحقيقة عن الغطرسة العسكرية الغربية» ألم 
يقل المارشال (اللنبي) متباهيًا بعد احتلال القدس عام 1355ه (1917م): «اليوم 
انتهت الحروب الصليبية»؟ إن (غورو) ومن قبله (اللنبي) قد خرقا قواعد اللياقة 
العسكرية وأظهرا جانبًا من الحقد الغربي تجاه المسلمين. 

إن المرء لتعتريه الدهشة. ويأخذه العجب كل مأخذ ويستوتفه الاستغراب» 
تجاه الموقف الذي أبداه البريطانيون» نحو الملك فيصل بن الحسين» حليفهم 
بالأمس» وتخليهم عنه في هذا الموقف المؤلم المتخاذل» وخذلانه» وهو في 
أحرج مواقفه. وأشدٌ محنه. 

يتساءل المرء قائلًا : «أين لورنسء الضابط البريطاني» الذي واكب رَكْبَ الثورة 
العربية وقدم لقوّادها الوعود والعهود؟. ولمّا تبين للورنس تغيّر موقف حكومته قدَّم 
استقالته ظئّا منه أنه سيُرضي العرب بتصرّفه هذاء ولكن ضميره لم يرْضّ بذلك» 
فَأمِسَكَ فمه عن الكلام» وأطلق قلمه بتأليف كتاب أسماه (أعمدة الحكمة السبعة) 
خصّص قسمًا كبيرًا منه للحديث عن انتصاراته» ومغامراته وتنقّله في الصحراء 
العربية» وذكر في بعض صحفات كتابه شيئًا عن خبرة ومرونة ولباقة الأمير فيصل بن 
الحسين, الذي واكبه في حروبه وغزواته» لقد كان هذا كلَّ ما تمكن لورنس من 
عمله. وفي زعمه أنَّ في تصرّفه نصرة للعرب» ومساندة لهم في قضيتهم. 

قد يكون لورنس محقًا فيما ذهب إليه» عند تقديم استقالته لحكومته؛ واستيائه 
نهاك لتك ره العرندة. ولك كان وا انه نينا كلم لو كان ادك فنا دهن 


114 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


إليه تجاه نقض قومه عهودهم ومواثيقهم التي أبرموها مع العرب. استبدال 
الاستقالة. بشىء آخرء وهو إعلان التمرّد على دولته واللجوء السياسى إلى دولة 
الخو كات هذا اديه وان اسه إشافة الاي ننه أعيدة الكامية اليعة) 
الذي ذكر فيه مغامراته وانتصاراته. 

هات الورشن نما بعد تحادك الغلاب دراجة كان راكنا غليهاء ركان حادنا 
مديّرًا وفق بعض الأقاويل التى انتشرت فى أعقاب الحادث. 

عند دخول الفرنسيين دمشق فرّ فيصل منها إلى مدينة درعا من مقاطعة حوران» 
والتففٌ حوله مشايخ حوران فأرسل الفرنسيون إنذارًا إلى هؤلاء المشايخ» بقصف 
قراهم بالطائرات ما لم يغادر فيصل مدينة درعاء وحسمًا للنزاع» أو خوقًا من إلقاء 
القبض عليهء ترك مدينة درعا وألقى آخر نظرة على سورية» متوجهًا إلى إيطالياء 
بطريق ا ا و والسوريين؛ م هذا يشبه 
سلام عليك يا سوريا 39 س5 


لقد أخبر جميل مردم بيك أحد الوطنيين السوريين شقيقيٌّ محمد عيد وياسين 
أثناء إحدى زياراته للقنصلية السعودية بدمشق فيما بعد بأنه سأل الملك فيصل بعد 
خروجه من سوريا عمّا اعتزم عمله وأن الملك فيصل أجاب بأنه سيحاول التفاوض 
مع بريطانيا لاسترداد حقهء وإذا لم يوفَّق في ذلك فإنّه لن يعود إلى والده الشريف 
حسين الذي كان لم يزل موجودًا في ذلك الوقت في مكة» ولكن ياه 
عبد العزيز الذي رأى فيه فيصل في ذلك الوقت رمز القيادة القادرة على تحقيق آمال 
العرب. ولم يهدأ الحورانيون ولا مشايخهم, ولم يركنوا للسكينة» رفيا 
الانصياع إلى تهديد الفرنسيين» ولم يُخفهم إنذارهم» بل استمرًوا في تمرّدهم 
وعصيانهم» فأرسل الفرنسيون إليهم وفدًا من السوريين» للاجتماع بشيوخهم بمدينة 
درعاء والتفاوض معهمء وكان الوفد مؤلفا من رئيس وزراء سورية السيد علاء 
الدين الدروبي» وعبدالرحمن باشا اليوسف رئيس مجلس الشورى وعطا بك 
الأيوبي وزير الداخلية» وقد نجا هذا الأخير من الموت بأعجوبة» وأمّا رفيقاه علاء 
الدين وعبدالرحمن فقد أنزلهما ثوار حوران من القطار في محطة خربة الغزالة؛ 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 115 





وقضوا عليهما بالموت» قبل أن يصلا إلى مدينة درعاء وتابع الحورانيون ثورتهم 
حتى أرسل الفرنسيون قوة كبيرة أخمدتها . 

أذكر أنني بعد عدّة شهور من انقضاء هذه الحادثة ذهبتٌ إلى درعا لتحصيل 
بعض الديون المستحقّة لنا لدى بعض أهالي حوران ثمنًا للجمال التي كانوا 
يشترونها من عائلتنا. وأثناء مروري بقرية خربة الغزالة عرّفني بعض المعارف على 
أحد الأشخاص الذي فاتني ذكر اسمه»ء وقيل لي بأنه قاتل عبدالرحمن باشا 
اليوسف. وقد كان يلبس فوق ثوبه العربي - الأبيض متباهيًا - ربطة عنق حمراء 
يقال إنها كانت تخصٌ القتيل عبدالرحمن اليوسف. وكانت بريطانيا تراقب حوادث 
سورية عن كثبء لا سيما بعدما تحقّق من استتباب الأمر في حورانء البقعة العربية 
الملاصقة لحدود شرقي الأردن» الخاضعة للحكم البريطاني» وأخذ الفرنسيؤن 
يتقرّبون من رئيس الجمهورية التركية مصطفى كمالء ويقفون منه موقف التساهل» 
فيما يختصٌ بلواء الإسكندرونة» وكان الرئيس التركي يطالب الإنجليز في الوقت 
نفسه بإرجاع مقاطعة الموصل إلى الجمهورية التركية. 

وافقت حكومة الانتداب الفرنسي على ضْمٌ لواء الإسكندرونة إلى الجمهورية 
التركية بسبب قيام الثورات الداخلية في ربوع سورية» وكان أهمّها ثورة الحورانيين 
وثورة جبل العلويين التي يرأسها الشيخ صالح العلي» وثورة الزعيم إبراهيم هنانو 
في شمال سورية» وقد أخمدت هذه الثورات جميعها بعد مقاومة ضارية» دامت ما 
يقرب من عام واحد. 

في هذه البرهة من الزمن استدعت الحكومة البريطانية الأمير عبدالله شقيق 
الملك فيصل بن الحسين من الحجازء وقد أقام في مدينة عمان» وأعلن أنَّ سبب 
قدومه هو نصرة السوريين» واسترجاع سورية من الفرنسيين» ولم يلبث البريطانيون 
أن بادروا بإعلان إمارة شرقي الأردن» ونصّبوا عليها الشريف عبدالله بن الحسين» 
ووعدوه بتتويجه ملكا في المستقبل. 

رضي الأمير عبدالله بهذه الوعودء وبهذه الإمارة» وخَصّصت له الحكومة 
البريطانية راتبًا شهريًا مقداره (ألفا جنيه) ذهبّاء لكن لم يكن هذا المبلغ كافيًا لتغطية 
نفقاته» فكان يستدين من تجار عمان ومنهم العقباوي» وفْصّلت بريطانيا حدود 


116 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


سورية عن حدود نجدء وأنشأت لهذه الإمارة جيشًا من أهل البادية» بقيادة الضابط 
البريطاني غلوب باشا الملقب (أبو حنيك - نظرًا إلى كسر في حنكه)؛ وتدرّب هذا 
التخيش كدويكا يننا زوه هيات قوية» لعنتى لذ عد أى هجياه على هذه 
الإمارة من داخل الجزيرة العربية» وفي الوقت نفسهء ليكون سيمًا مسلطًا في 
أيديهم» يشهرونه في وجه الفرنسيين» إذا اقتضى الأمر في المستقبل» ولنتذكّر ما 
أعلنه الأمير عبدالله عند قدومه إلى عمان قبل أن تنادي به بريطانيا أميرًا على شرقى 
الأردن وهو ما ردّده بعد ولايته» مِن أنَّ الدافع لفق حداايه ليولي إمارة فترن 
الأردن هو تخليص سورية من الحكم الفرنسيء لذا التفٌٍ حوله رجالات من العرب 
منهم المخلصونء ومنهم من كان غير ذلك. 

لم يلبث الأمير عبدالله بعد ولايته طويلًا حتى قام باستقبال والده الملك 
الحسين بن علي في مدينة معان» واستقبلت الحسين أيضًا وفود عربية قَدِمّت من 
الحجاز وسورية ولبنان والعراق وفلسطين استقبالا حافلًا واستأجر الشريف حسين 
بعض الصحف العربية لتنؤّه بجهاده وثورته . 

لقد كان الملك حسينء أو المنقذ الأعظم - كما كانوا يلقّبونه - أثناء زيارته 
لشرقي الأردن؛ مضطرب الأعصاب» يملا الغيظ قلبه يسبب تنكر البريطاتيين له 
ولمست الوفود التي قَدِمَت لمقابلته عدم مقدرته احتمال عبء هذا المُلك الثقيل؛ 
فتركوه عائدين من حيث أتواء ورجع الحسين إلى الحجاز بنفس حاسرة» وقلب 
مملوء بالضغينة والحقد. 

في غضون السنوات القليلة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى» تطوّرت 
الأمور في البلدان العربية» تطورًا غريبًا مفجعّاء وأخذت الحوادث تنتابها بشكل لم 
تعهده من قبل» فعصفت مطامع الاستعمار بما تبقّى لزعمائها وقادتها من الأماني التي 
كانت تداعب أحلامهم» وأخضع الفرنسيون السوريين لإراداتهم» وأجبروهم على 
الركون لسلطتهمء وقاموا بخنق حرياتهم» وطبَّقَوا الأحكام العرفية في الأمصار 
السورية وأودعوا كثيرًا منهم في غياهب السجون وأبعدوا زعماءهم ونفوهم إلى جزيرة 
(أرواد) مع كل من حدّئته نفسه بالشغب والتمرد. وأخذوا يضغطون على الزعماء 
الدروز ومشايخهم لكسر شوكتهم والحطّ من كرامتهم. الأمر الذي نفروا منهء فقاموا 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 117 





بنورتهم الكبرى» بزعامة سلطان باشا الأطرش» فشن هجومه الأول على ضاحية قرية 
(الكفر) وحاصر رجاله قلعة السويداء» وقضوا على الحملة الفرنسية في معركة 
(المزرعة) التي قُتِل فيها عدد كبير من الجنود الفرنسيين واضطر قائد الجيش الفرنسي 
على إثرها إلى مغادرة سوريا بعد غضب حكومته عليه» وقد امتدّت الثورة إلى غوطة 
دمشق وغيرها من المناطق» حتى عمّت الثورة أنحاء سورية جميعها مدنها وقراهاء 
ولم يِبْقَ بيد الفرنسيين» إلا حيّ واحد من أحياء دمشق هو المعروف (بالمهاجرين) 
وقلاعها القائمة على جبل قاسيون المشرف على دمشق» فعصفت مدافع الفرنسيين 
بأخاء فمشق الثائرة» وتشيت:فيينا البحرائق واتدلعت التيران؛«فذمرت أعياء بأكملياء 
ودامت الثورة زهاء عامين» حَبّت بعدها نيرانها والتجأ سلطان الأطرشء ومن معه من 
الثوار» إلى حدود المملكة العربية السعودية» وشرقي الأردن وأقاموا هناك» وبهذا 
تود حكم الفرنسيين في سورية» ولكن إلى حين. 


أمّا في العراق» فقد قام المعدان وهم عشائر العراق المقيمين على شاطىء 
الفرات بثورتهم الكبرى, الأمر الذي أجبر البريطانيين على الرضوخ لمطالبهم» 
فاستفتوا زعماء العراق وطلبوا منهم أن يختاروا بين عبدالله بن الحسين وأخيه 
فيصل» ملكا عليهم. فاختار قسمٌ كبير من هؤلاء الزعماء عبدالله ليكون ملكا على 
العراق. ولكن البريطانيين رفضوا ذلك وفضّلوا فيصلا على أخيه عبدالله. ويُقال إن 
السيدة بيل قد لعبت دورًا بارزًا في مسألة اختيار فيصل» وهكذا تمٌّ تتويجح فيصل 
ملكا على العراق. ويُنسّبٍ للملك عبدالله بهذا الخصوص قوله: هذا الفيصل يقصد 
أخاه. ضيّع عرشًا (يعني عرش سوريا) واغتصب عرشًا (يعني عرش العراق). بعد 
ذلك توححدت الأحزاب العراقية لا سيما الحزب الوطني. وحزب النهضة» واتفق 
زعماؤها على مطالبة صاحب العرش فيصل بن الحسين» بالقيام بمفاوضة 
البريطانيين حول الاستقلال» فلبّى الملك دعوتهم» ونزل عند رغبتهم» فحزم 
أمتعته. وتوجّه إلى لندن التي كان عامّة أهل الشام يسمونها الوندرة»» ثم عاد إلى 
العراق يحمل معه معاهدة» رفضها العراقيون إِذْ لم تكن كما كانوا يرجونه من 
استقلال كلّي» ولم يواكب التوفيق عبدالمحسن السعدون, رئيس الوزارة العراقي» 
في معالجة الحالة المتوثّرة في البلاد» وكان موقفه حرجًا جدَّاء وأخذ يقرّب بين 


118 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


مطامع البريطانيين» ورغبة الملك في بقائه على عرش العراق من جهة وبين مصالح 
الأحزاب العراقية التي لم تَرْضَ عن الاستقلال بديلًا من جهة أخرى. ولم يحالفه 
التوفيق مرة ثانية» فقضى رئيس الوزارة نحبه» منتحرّاء وأمّرَ المندوب السامي 
البريطاني» بحل الأحزاب العراقية» وأودع بعضًا من زعماء العراق وساستها في 


غياهب السجون. وسِيّقَ نفر منهم إلى (هنجام) في الهند ليقضوا فيه منفاهم . 


فى شرقن الأردن:فن الأمازة المستجدة تيجيرب سورية» امتكل أميرها عبدالله 
لأوامر البريطانيين ورضخ لمطالبهم. وحَمْتَ صوته الذي نادى باستخلاص سورية 
من الحكم الفرنسي ١‏ وبدأ يتنافس مع أمين الحسيني » الزعيم الديني لفلسطين . 


تمكن ابن سعود من توحيد نجد والقضاء على آل عايض في عسيرء وآل 
الرشيد في حائل» بعد حروب مريرة وحصار شديد للعاصمة الرشيدية دام بضعة 
شهورء وتوسّع نفوذ عبد العزيز واستاء لذلك الملك حسين في مكة ووجَّه حملة 
كبيرة تقدّر بعشرة آلاف مقاتل لمقابلة ابن سعود في عقر داره» لكنّها أخفقت وعاد 
تبقّى من الجيش اللجب إلى مكة المكرمة موليًا الأدبارء مهزومًا يتعثر بأذيال 
الخيبة والعارء ولم يكتّف ابن سعود بتوحيد نجد وملحقاتهاء فقد كان يسعى إلى 
توحيد الجزيرة العربية بكاملهاء فتوجّه نحو الحجاز ودخل مكة المكرمة من دون 
قتال وحاصر مدينة جدة» بعد تنازل الملك حسين عن الملك لنجله الأكبر علي بن 
الحسين. وغادر الحسين الحجاز إلى مدينة العقبة لعلّه يجد متَّسعًا من الوقت يأخذ 
فيه راحته» ويسترجع جأشه من الصدمات القاسية والنكبات المتلاحقة» ليستعيد 
قوّته وليسترجع نفوذه» ولم يمكث الحسين في العقبة هادنًا ساكئاء بل أخذ يتّصل 
مع بعض عربان الحجازء ولكن عبد العزيز بن سعود أنذر بريطانيا بقوله: إذا مكث 
الحسين في العقبة فسأرسل جنودًا لاحتلال العقبة ومدينة معان التابعتين للحجاز في 
زمن الأتراك» فاضطرٌ البريطانيون إلى الانحناء تحت إلحاح ابن سعود على مغادرة 
الحسين بن علي مدينة العقبة» فأمروا نجله حاكم شرقي الأردن الأمير عبدالله بتنفيذ 
ذلك وهدّدوه بزوال إمارته» إذا لم يغادر والده مدينة العقبة» فأذعن الأمير عبدالله 
لنصيحة البريطانيين» وذهب إلى أبيه قائلا: يا أَبَتِ إن إمارتي مهدّدة بالزوال إذا لم 
تغادر مدينة العقبة» فلم يَرَ الملك حسين زعيم الثورة العربية الكبرى» الذي كان 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 119 





يرجو أن يكون ملك البلدان العربية جميعها بدا من أن يمتثل لأوامر نجله عبدالله» 
قغاهر فذيئة 'العقبة ليساق منفيًا إلى جزيرة قبرض>» الى كاتنت تحت الحمانة 
البريطانية . 


لم يَبْقَ بعيدًا عن هذا الصراع العنيف بين ملوك العرب وحكامها سوى ملك 
اليمن أحمد حميد الدين» الجالس في عاصمتها صنعاء»ء فاهتبلها فرصة لهء 
ليستريح ويسترجع أثناءها قواه التي أنهكتها غزوات العثمانيين لبلاده» بمساعدة 
الأشراف في مكة المكرمة» وبقي الإمام أحمد حميد الدين قابعًا في عاصمة ملكه. 
يرتقب عن بُعْد ما ستأتي به الأيام من الحوادث والمفاجآت» وخاصة ما كان يقوم 
به حكام عدن من البريطانيين» أمّا أمراء ومشايخ البلدان القائمة على شاطىء 
الخليج العربي فقد ظلوا تحت حماية البريطانيين» وبعد مشاحنات وقتال دام بينهم 
وبين البريطانيين بضع سنين تستى لبريطانيا ربطهم بمعاهدات أخضعتهم بها للحماية 
المباشرة . 

كنت في غضون هذه الأعوام أعمل بتجارة الخيل والجمال أتنقّل بين الأمصار 
العربية» وبينما كنت قادمًا في إحدى سفراتي من فلسطين وقد تبقَى معي عدد قليل 
من الجمال» لم أتمكن من بيعها هناك» حدتٌ أن رأيثٌ وأنا على طريق العودة إلى 
دمشق - قبل أن أصلها ببضع ساعات - سيارة تسيرٌ بسرعة وراء غزال كان يقفز 
أمامها بصورة مدهشة إلى أن وصل إلى مأمنه في مكان وعرء صعب على السيارة 
المضي وراءهء فلم تتمكن من اللحاق بهء لذا عدَّلت وجهة سيرها وتوجّهت 
نحوناء وكانت تقل سعيد اليوسف نجل عبدالرحمن باشا اليوسف الذي قتل كما 
ذكرت وزميله رئيس وزراء سورية السيد علاء الدين الدروبي في حوران». وكنت 
على معرفة بالسيد اليوسف. وفهمت منه أنه كان في طريقه إلى قصر الأمير محمود 
الفاعور. زعيم قبيلة الفضل في مكان يسمّى واسطا بالقرب من مدينة القنيطرة 
جنوب دمشق. لقد كان مدعوًا عند الشيخ الفاعور إلى حفل غداء كبيرء وكان من 
ضمن المدعوين الذين سيلتقي بهم هناك - كما أخبرني السيد اليوسف - الجنرال 
الفرنسي غورو قائد القوات الفرنسية في سوريا. 

ثم واصلنا السير فاعترّضّنا ثلاثة فتية شاكي السلاح يمتطون ظهور جيادهم»ء 


120 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


وكانوا ملثمين لم يتبيّن لنا من وجوههم غير أعينهم» فبدأوا يمطروننا بأسئلتهم. 
ولمّا تحققوا من أمرنا انبرى أحدهم وسألنا: هل مرَّت بكم سيارات قادمة من 


كان الأمير محمود الفاعور يقطن في أواسط الجولان وكان يتمنَّع بنفوذ قويّ 
واحترام زائد» ليس فقط لدى أفراد عشيرته» بل من جيرانه ومن العربان والدروز 
سكان جبل الشيخ» فقد كان شهمًا كريم النفس دمث الأخلاق» وقد سبق له أن ثار 
على الفرنسيين عند دخولهم إلى دمشقء. فأرسلوا ضدّه كتيبة من جندهم تحرسها 
الطائرات وقصفوا قصره في «واسط»., ونظرًا إلى قرب بلاده من الحدود الفلسطينية 
التي كانت ترزح تحت السيطرة البريطانية في ذلك الوقت» ولقربه أيضًا من الحدود 
الأردنية خشيت السلطات الفرنسية أن يلتجىء إلى الأردن ويقوم من هناك بمناوشة 
قواتها في سورية» ومهما يكن من أمره فلقد قضت فرنسا على ثورته» ثم أصلحت 
قصره الذي دمرته طائراتها. 


بعد برهة من الزمن مرّت قريبًا ما خمس سياراتء» كانت الأولى منها تحمل 
الجنرال غوروء الحاكم العام الفرنسي لسورية ولبنان» قادمًا من دمشق ملبيًا - كما 
قلت - دعوة الأمير محمود الفاعور شيخ قبيلة الفضل» لكن لم تَمْضٍ فترة ربع 
الساعة إلا وعادت هذه السيارات بسرعة مذهلة من حيث أتت ومرّت بنا فى طريق 
عودتها لدمشق» وعلِمْنا فيما بعد أن رجالات تعرّضوا لها وأطلقوا عليها أعيرة 
نارية» وقد أصيب سائق سيارة الجنرال ومرافقه» وسَلِمَ الجنرال غورو. وتبيّن لنا 
بعد هذا أن الخيّالة الثلاثة الملثمين الذين مرّوا بنا قبل ذلك بقليل هم الذين أطلقوا 
الرصاص على الجنرال غورو وكان كبيرهم محمد محمود البعلبكي» وقد قتل 
البعلبكي بعد شهرين من هذا الحادث بمكان يُعرف (بأم الشراريط) بالقرب من 
دمشق . وذهبت مرة ثانية مع العمّ محمد الأحمد الرواف للعراق وكان رئيسًا لقافلة 
العقيلاات» وكنت برفقته هذه المرة كتاجر صغير ورأس مالى كان مائة وخمسين 
جنيهًا عثمانيًًا ذهبيّاء ولم نمكث في البادية» بل أقمنا في مدينة بغداد نشتري الإبل 
من أسواقهاء وننتظرٌ من أرسلناهم من رُسُّلنا لشراء الإبل والخيل من الجزيرة في 
شمال العراق». وكانت معاملة العمّ محمد الأحمد لي في هذه الفترة تختلف اختلافا 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 121 





كبيرًا عن معاملته في السفرة الأولى يوم كنت مرافقًا لا تاجرّاء فكنت أقوم ببعض 
الخدمات أثناء إقامتنا في بغداد وبعد مرض طبّاخناء كنت أقوم بالطبخ وإعداد 
الطعام من الأرز واللحم والخضرة في كل يومء وأرنّبٍ ما يحتويه المنزل من 
المفروشات» وأتعهّد تنظيفهاء وتجاه هذا العمل أعفيت من جميع المصاريف المي 
كان يتناولها الرعيان من العم محمد ومن تكاليف الخاوة التي كان يدفعها إلى 
شيوخ العربان. حتى ملابسي كان يدفع ثمنهاء ولا أزال أذكر استياءه ونفوره» 
عندما طلبتٌ منه شراء حذاء جديد.ء خللاف القديم الذي أستعمله فقال بصوت مله 
الغضب: إن الأموال التي بين أيدينا هي أموال الناس» فالواجب علينا المحافظة 
عليهاء ومنذ شهر واحد دفعت لك ثمن حذاءء وليس باستطاعتي أن أشتّري لك 
حذاءً غيره» إنني أدفع لك من مالي الخاص. حُذْ هذا الجنيه واشتر ما تحتاجه. 
فأخذتٌُ الجنيه وألقيت عليه ابتسامة قابلني بمثلهاء فقد كان رحمه الله شديدًا على 
مرافقيه وعلى الرعيان» حريصًا على أموال الناس» وعندما كان ينتهي من بيع 
مواشيه اعتاد أن يَنْقُدَ خدّامه ضعف أجورهم لهذا كانوا يحترمونه ويقذّرونه. 


كان حبل الأمن في البادية مضطربًاء وكانت الأعراب تعيث في صحرائها 
الواسعة فسادًاء فتتعرّض للتجّار ولقوافل العقيلات» ولا تتردّد فى هدر الدماء فى 
سبيل مطامع بعض من لا خلاق لهمء فكم من أرواح أزهِقَت» وكم من أموال 
سُلبَتَء وقد كان هذا شأن العربان من آلاف السنين» وكانوا يعتبرون غزوهم 
والتعرّض لغيرهم من الرياضة» ولم يتمكن حكام الجزيرة وأمراؤها في السابق من 
ردعهم عن هذه العادة السيئة» ولم يكن لهم وازع من أنفسهم يوقفهم عن المضي 
في هذا العمل المشين» وعندما منيت الأمة العربية بعد الحرب العالمية الأولى 
بالاستعمار البريطاني والفرنسي» لم تتمكن هاتان الحكومتان في بادىء الأمر من 
حمل هؤلاء الأعراب على الإقلاع عن هذه العادات السيئة» ومن أمثلتها الشهيرة 
اعتداء شيخ قبيلة الحويطات (عودة أبو تايه) بعد نهاية الحرب العالمية الأولى 
بسنتين على خيل وجمالٍ كانت مثقلة بالأحمال من السججاد وخلافه» قادمة من 
العراق فاستولى عليها جميعها. وكانت تخصٌ أحد العقيلات واسمه علي الكحيمي 
والد عبد العزيز الكحيمي السفيرء السعودي السابق في لبنان والأردن 


12 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


والعراق كد » وقدّرت أثمان المنهوبات بعشرة آلاف جنيه ذهب. وحاولت عبئًا 
حكومة الانتداب البريطاني في شرقي الأردن وفلسطين - إذ كان عودة أبو تايه يقطن 
في شرقي الأردن - استرجاع هذه الأموال. 

حدث لنا في هذه السفرة؛ عند عودتنا من العراق إلى دمشق وكنا على بعد 
مائتي كلم عنها بصحبة أموالنا من الخيل والإبل» وما تحمله من الأثقال» وكان 
عددنا أكثر من خمسين تاجرّاء حدث أن اعترض سبيلناء ستة أنفار» وكان واحدهم 
مشخن الجراح وكانوا جميعًا ينتمون إلى قبيلة بني صخرء من عربان شرقي الأردن. 
لقد كانوا يتنقلون في البادية» لعلهم يجدون. إِمّا جملا ضائعًاء أو يسطون ليلا على 
بيت منفرد في البادية» أو يسرقون ليلا بعضًا من الجمال من أمام بيوت أصحابهاء 
ومن سوء حظّهم أنهم التقوا بجماعة أكثر منهم عددًا فتقاتلوا معهمء ففرّوا من 
أمامهم وقيل واحد منهم. وججرح آخرء وفي عودتهم إلى قبيلتهم عثروا عليناء 
وأقاموا تلك الليلة ضيوفًا عليناء وفيها توفي جريحهم فقّمنا بالصلاة عليه ودفنه. 

كان يرأسهم رجل اسمه مشمشء ولقد كان على ما يبدو من أشدّاء بني 
صخرء وقد يبدو اسم مشمش غريبًا بالنسبة إلى سكان الحضرء ولكن سكان البادية 
لهم شأن خاص عي اخبار أسمائقم: فكثيرًا ما يربطونها بحادثة 0 
أو مشهد. وكيا نأ يتعمّدون اختيار أسماء قبيحة» لكي يبعدوا عنهم ثير العين 
الحاسدة. 


بخصوص أسماء أهل البادية الغريبة أذكر أن شقيقتي سلمى - رحمها الله - 
التي تصغرني بحوالي عقدين من الزمن» ولدت في فترة كان الجراد فيها منتشرًا في 
كل مكان ؤكنا أحيانا لأاتزى السمسن هن كقرئة» لقن قدت إلى دازنا: عجوو من 
البادية تسكن أطراف دمشقء كانت تتردّد علينا كثيرًا لتبيعنا حليب غنمها والاقط 
المجفف من الحليب. وقالت لنا عجوز البادية: يجب أن تغيّروا اسم مولودتكم إلى 
جرادة» لأن الجراد يملا الدنيا هذه الأيام. وأن اثنتين من الفتيات اللاتي ولدن في 
جماعتنا هذه الأيام سميناهما جرادة. قال الوالد يمازح والدتي - رحمهما الله - ما 
رأيك في الأخذ بنصيحة هذه البدوية وتغيير اسم سلمى إلى جرادة؟ فقالت الوالدة: 
إذا تزوّجت يا أبا محمد من امرأة بدوية في رحلاتك الكثيرة إلى الصحراء وأنجبت 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 123 





منها فتاة فسمّها جرادة أو حتى إن شاء الله سجادة أو أي شيء آخرء ولكن ابنتي 

لقد ساعنا في بادىء الأمر اجتماعنا بمشمش وأصدقائه وفي صبيحة اليوم 
التالى عثرنا على آثار غزاة كثيري العدد. عند ذلك قال العمّ محمد الأحمد 
لمشمشء كبير هؤلاء الخمسة: ترانا يا أخ مشمش في وجهك من بني صخر قبيلتك 
ولك خمسة وعشرون جنيهًا ذهبيًا . 

وأجانه مشمكن ضبرة قرية :خنها كير مق الاغعزاق والجهوة: توكلنا علن. اله نا 
محمدء أنتم في وجهيء ولن ينالك من قبيلتي ضرر إن شاء الله. فما لبثنا غير قليل 
حتى تراءت لنا عن بعد مجموعة من هؤلاء الغزاة» فجمعنا ماشيتنا في موضع 
منخفض من الأرض» وأنزلنا الأحمال عن ظهورهاء وتهيّأنا للقتال دفاعًا عن 
أنفسنا وأموالنا . 

كان مجموعنا يقارب المائتي رجل» ولم يكن لدينا سوى عشرين بندقية» وكان 
هذا هو كل سلاحنا الذي بقي معنا بعد أن قام الكثير منّا ببيع سلاحه» حيث كانت 
البندقية تساوي (20) جنيهًا ذهبيّاء ويقوم بشرائها المعدان من أهل العراق أثناء 
ثورتهم. ولكن الذي يرانا عن بُعْدء يظن أن لدى كل منّا بندقية» وأن عددنا كبير 
جدًا فحذر الغزاة من الهجوم عليناء كما حذروا اقتحام موقعنا ليلا » لقد اعتقدوا 
بالفعل أننا أكثر عددًا وعدّة منهمء لما رأوا من النيران الكثيرة التي أمر محمد 
الأحمد بإيقادها والإكثار منها حولناء ولم د النوم في تلك الليلة» لقد كنّا ننشد 
ونحدو بأصوات عالية» ونطلق عيارات نارية فى الفضاء. 


عند انبلاج الفجر وبعد طلوع الشمس مشى إلينا هؤلاء الغزاة. وكان 
مجموعهم مائة وخمسين رجلا» ولم نتمكن من صدهمء وأما مشمش - الذي 
صوته: (لا تلحموا) أي لا تطلقوا النار على أحدء إنهم من جماعتناء إنهم من بني 
صخرء ولمًا دنوا منا ظهر عليهم مشمش» قائلًا: (ما هنا إلا مشمش وأخوياهء 
أعوذ بالله من شرّكمء من أراد السلامة فليمكث في مكانه. لا يتعدّاه» وسنأتيكم 
بالماء والزاد). وهكذا امتثل الغزاة لأمر مشمش ونزلوا عند رغبته» فأخذوا أماكنهم 


1134 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


بموضع قريب مناء وقدَّمنا لهم ما كانوا يحتاجونه من ماء وزاد» وأمضوا ليلتهم 
بجوارنا ورحلوا في صباح اليوم التالي. وهذه عادة طيبة من عادات العرب. 
يتبعونها كابرًا عن كابر منذ آلاف السنين» فأيّ رجل مهما كان مركزه كبيرًا أو 
ضعيفًا في قومهء وبين قبيلته» إذا أمّن أحدًا على حياته؛ أو على ماله» «ووضعه في 
وجهه' يكون في مأمن من أفراد قبيلته» ولا يُمَسَ بسوء. 

لقد كان وجه الشيخ مشمش طيلة ذلك اليوم» باشّا مشرقاء لا تفارق الابتسامة 
شفتيه» وكان يحدو مرة“ ويتحدث مع العمّ محمد مرة أخرى. يقصٌ عليه تفوّقه في 
غزواته» وما لاقاه فيها من متعة» وخذلان» وسعادة وشقاءء وكان يردّد بين الحين 
والآخر جملة يقولها بشدّة وبنبرة قوية: الحمد لله الذي أنجانا من هؤلاء الغزاة من 

يقول ذلك مباهاة وفخرًا واعتزازَاء ولكن مرح مشمش وابتسامته» وبشاشة 
وجهه لم نَدُمْ طويلًا! فلمًا جنَّ الليل علينا وأخذ كل واحد من أفراد قافلتنا 
- العقيلات - يتهيّأ للراحة في فراشه» بعد الليلة الماضية التي لم يغمض لنا فيها 
تحن دروك كذق فحنا لرالخة قن قوسا إذا" بالأرضن تريعتك كاه ونيعنا صاغا 
يقترب مناء فاجتمعنا على صعيد واحدء وقال العمّ محمد الأحمد: هؤلاء من قبيلة 
عنزة» فإنهم وحدهم يغزون على ظهور خيولهم ومن سواهم من العربان يغزو على 
الجمال» ولا خوف علينا فبيننا وبينهم ميثاق أخوّة يشتمل على مال ندفعه لهم. 
فأوقدنا نيراناء واستقبلنا الغزاة» وكانوا بالفعل من عنزة عددهم ثلاثمائة خيال. ولم 
يكن لدينا زاد ولا ماء يكفيهم» فمككث عندنا عشرة أشخاص من شيوخهم» والبقية 
واصلوا سيرهم . 

ضمّت قافلتنا رعيانًا من قبيلة عنزة» فأخبروا جماعتهم الغزاة» أن في القافلة 
خمسة أشخاص من قبيلة بني صخر عائدين من غزو لقبيلة عنزة» فطلب هؤلاء 
المشايخ العشرة من العم محمد تسليم هؤلاء الغزاة الخمسة هم وركائبهم» فأجابهم 
العمّ محمد الأحمد بقوله: هؤلاء ضيوفناء وبيننا وبينكم ميثاق يجب عليكم 
مراعاته». وبالأمس أنقذونا وأموالنا من غزو كادّ أن يذهب بأرواحنا وأموالناء ومن 
الصعب أن نسمح لكم بهؤلاء الرجال. فقال أحد المشايخ: نحن لا نري 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 125 





الأشخاص» ولكن نريد ركائبهم» فأجابه الع مهمد الأحمد: كلا لن سلمكم 
ركائبهم » ولو استدعى الأمر إلى ما لا لحل عقياف: 

هكذا غادر هؤلاء المشايخ العشرة» ولم يتمكنوا من نيل غاياتهم. وفى 
الصباح سرنا على بركة الله وعندها قال مشمش للعم محمد: واحدة بواحدة يا شيخ 
محمد» منعنا عنكم غزو بنيى صخر ولم يمسسكم منهم سوء. وفي الليلة الماضية 
أنقذتمونا من قبيلة عنزة أعدائنا. وهكذا واصلنا السير إلى دمشقء» وتم بيع جميع 
جمالنا وخيلنا في هذه المدينة الطيبة. 

بعد إقامتنا فى دمشق شهرًا واحدًا تقريبّاء عزم والدي على التوجه للقطر 
المصري للاجتماع بشركاته آل السمان المقيمين في الإسكندرية» ورغب أن أرافقه 
أنا وإخواني الاثنان محمد عيد وياسين» وكانت له بعض العلاقات التجارية مع 
عربان الجولان وفلسطين والعريش» وبعد ساعة من مغادرتنا دمشق تشاءم شقيقي 
الأكبر محمد عيد من هذه الرحلة. لوقوع أحد جمالنا في نهر قريب من دمشق» 
وكان يحمل زادنا فاستأذن من الوالد بالعودة إلى دمشق فأذِنَ له وواصلنا السير. 

كان الوقت ربيعًاء والأرض تزهو بفراش أخضر سندسيء وأقمنا في الجولان 
يومين اثنين» والجولان بلاد مشهورة بجوها الربيعي الممتاز» وواصلنا السثيز إلى 
أن وصلنا فلسطين فألفينا فيها حركة تجارية تبشّر بمستقبل زاهرء فالحركة التجارية 
في مدينة حيفا كانت تفوق الوصف وكذلك الحال في القدس ويافا. 

كان الصهاينة يقومون بتخطيط مدينة تل أبيب» يبنون منازلهم على الرمال 
الصفراء وينفقون الأموال بكثرة» الأمر الذي لم تعهده فلسطين من قبل» وكانوا 
يتودّدون للعرب من سكان هذه الأراضي الطيبة» شأن كل غريب ينزل بأقوام 
مجهولين لديه. وقابلنا في هذه المدن تجارًا من دمشق قاموا بفتح فروع لتجارتهم 
في المدن الفلسطينية حيفا ويافا والقدسء. مما جعل حركة التجارة تنشط فى 
أسواقها . 

تابعنا السير إلى العريش وأقمنا ثلاثة أيام فيهاء وتوجهنا منها إلى القاهرة» ثم 
أخذنا القطار إلى الإسكندرية» واجتمع والدي مع شريكه رشدي السمان» وكانت 
بينهما علاقات تجارية قائمة» فاستلم منه الوالد مبلعًا محترمًا من المال» كان لي 


126 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


نصيب منهء وكذلك شقيقي ياسين» وما لبث والدي غير وقت قصير حتى عاد 
أدراجه وشقيقي تاكيخ: إلى دم تلقف عنهنها في القاهرة» أتعاطى في أسواقها 
تجارة الإبل مع شريكي محمد الجلاجل الذي تربطه بعائلتنا صلة قربى» ومرض 
شريكي محمد جلاجل» وأقمت بجانبه أسبوعًا كاملا فقد كان من خيرة الناس» 
قضيت معه وقنًّا طويلًا نمارس تجارة الإبل والخيل في القطر المصري. 

أمضيت مدّة شهرين هناك» لم أوقّق فيها بتجارتي» فغدت إلى دمشق وليك 
الوالد ما تبقَى معي من الدراهم التي استلمتها منه فامتنع عن أخذها. وقال: هذا ما 
خصّك من الأموال التي استلمتها من شريكي ابن السمان بالإسكندرية» وقد 
أعطيت أخويك محمد عيد وياسين مبلعًا أكبر مما أعطيتك. فأبْقٍ هذه الدراهم 
لنفسك وزاول أعمال تجارتك مع جماعتك العقيلات» فإنك الآن رجل تعرف 
منفعتك وفقك الله في أمورك كلها . 

نقف هنا قليلًا للحديث عن أوضاع القطر المصري ولنَّصِف ما كان يعانيه من 
أزمات : 

كان القطر المصري أآنذاك في ثورته الوطنية عام 1377ه (1919م)» بعدما 
نفى البريطانيون زعيم مصر سعد زغلول ورفاقه» إلى جزيرة مالطة» وكان يعجٌ 
بالفوضى والاضطرابات». وكانت آراء ساسته متضاربة بعضها مع بعض» وكانت 
جمعية اليد السوداءء تعمل في سبيل المصلحة المصرية بنشاط واسعء وكان من 
زعمائهاء النقراشي وأحمد ماهر وذلك على الرغم من الاختلاف السياسي بين هذه 
الجمعية» وجماعة سعد زغلول. 

كانت أغلب الأحزاب المصرية تطالب بالاستقلال التامٌ» ولكنها كانت مختلفة 
فيما بينهاء فكان منها المتطرف الذي لم ينفك يطالب بالاستقلال التام وإخراج 
المغتصب البريطاني من هذا القطر السعيد. ومنهم من كان يرى أنَّ من الأسلم 
لمصر والآمن لمستقبلها إذا بقي النفوذ البريطاني قائمًا مع تخفيف وطأة السلطة 

منهم من اختلف رأيه مع الفريقين المتنافسين فكان يقول: (نعقد معاهدة مع 
البريطانيين تحفظ لنا حقوقنا وتطلق بها حريتنا في إدارة البلاد) وأيّد أصحاب هذا 





الرأي الملك فؤاد القابع في قصره.ء لم يفارقه إِلَا في المناسبات الرسمية» فقد كان 
منزويًا يراقب الحوادث بكثير من القلق» وما برح الشعب المصري يجاهد ويجالد 
حتى تم له الظفر فنال استقلاله الذاتي الداخلي» وسنّ دستوره وأخذ يتمتع بالحياة 
البرلمانية كما نال شيئًا بسيطا من استقلاله الخارجي . 

على ذكر زعيم مصرء وقائد حركتها الوطنية سعد زغلول» أرغب قبل أن أنتهي 
من هذا الفصلء أن أدرّن خطبته التي ألقاها عند عودته من منفاه في سيشل في 
إحدى الحفلات التي أقيمت لاستقباله والترحيب به»ء وذلك لِما حوّته من شدَّة 
التأثير وقوة الحجة وصلابة الرأي». وقد جاء فيها قوله: 

«طلب مني بعض خطبائكم أن ألقي كلمة تكون بردًا وسلامًا على قلوبكمء 
والكلمة التي جاشت في صدري عقب هذه الدعوة هي: أن أرجوكم وأرجو كل 
مواطن أن يحافظ على أمر واحد هو فخر نهضتنا الحاضرة:» وذلك الأمرء هو 
(الانّحاد المقدّس) هذا الاتّحاد الذي أرجو مصر جميعها أن لا تتهاون فيه لأنه فخر 
هذه النهضة وعمادها هو الذي جعل خصومنا يضطربون إذا فلت من أيديهم» حجة 
كانوا يعتمدون عليها كلما أردنا تحرير رقابنا من القيد الذي وضعوه في أعناقنا . 

يقول خصومناء إننا جماعة أقلية فيكم لأنكم قوم متعصبونء فلا بد أن نبقى 
بينكم لكي نحفظ العدل فيكمء هذه الجملة قد زالت بانّحادكم» ولكنهم الآن 
ينتهزون فرصة الانتخابات» ليبذروا الانقسام فيكم» فاحذروا هذه الدسيسة. 
واعلموا أنه ليس هناك إلا المصريين» والمصريين فقط». فاحثوا الرماد في وجوه 
أولئك الدسّاسين بين أبناء الوطن الواحدء إنه لا امتياز لواحد على الآخر إِلَا 
بالإخلاص والكفاءة. 

إني أفخر أيضًا بالتفافكم حول شخصي الضعيف». لقد تعوّدتم طاعتي ولست 
أميرًا ولا قريبًا لبيت ملك تعوّدتم الخضوع له. ولست غنيًّا ليكون التفافكم حولي 
طمعّاء ولست ذا جاه أوزَّع الجاه على من يطمع فيه؛ ولكنكم التففتم حولي فدلّلتم 
بذلك على أنكم لا تطلبون مالا ولا جامًا ولكنكم تلتفون حول من يتمسك بمبادىء 
الأمة. 


ثفينا فماذا حصل» لقد حل محلنا آخرون» فكان لهم من الأمة الاحترام نفسه 


128 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


الذي كان لنا لأنهم حلّوا في المكان الذي عهدت فيه الأمة إخلاص الذين حلّوا 
فيه» ولم يكن أمامهم إِلّا السجن والنفي. فدلٌ ذلك على أن الأمة جميعها مستعدّة 
إذا غاب مثا سيد قام سيد. 

حاءدعو لاد :وتآيو | عتااتنانة »وعديو | وأعيتوا:ولقده يروك وعتدها ادن 
قام مَنْ خلفهم وسار سيرهم» فكان لهم ما كان من احترام وسجن واعتقال» وهكذا 
توالى قيام الأبطال» ولكن السجن يفتح أبوابه لكل حر ولكل عامل للحرية وهذا 
دليل على تأصّل النهضة فيكم» ودليل على أنكم مستعدون حمقًّا لأن تضحًوا بكل 
شيء من أجل استقلالكم». 

عند عودتي من القاهرة إلى دمشق وجدت فيها العم محمد وبين يديه ثلاثمائة 
من الإبل تقريبّاء وكانت سوق الإبل في الأمصار العربية في كسادء وأثمان الإبل 
آخذة في الانخفاض» فعزم على بيعها لأجل مسمّى في قرى حوران وقرى سهل 
البقاع والنبطية في جنوب لبنان» فعهد إليّ كما عهد لشقيقي ياسين بمساعدته في 
بيعهاء فاختار شقيقي ياسين قرى حوران» جبل الشيخ. أما أناء فتوجهت بخمسين 
جملا إلى البقاع فمكثت فيه شهرًا واحدًا حتى تمّ بيع ما كان بعهدتي من الإبل 
لأجل مسمّىء وكان ذلك بكفالة الوجيه أبي عمر عراجة من قرية بر الياس» وكان 
شهنا كر الخلق المحدد رجاس بها انا تعر اجتراته يديرم والبقاع 
هذا هو أحد الأقضية الأربعة التي فصلها الفرنسيون عن سورية وألحقوها بلبنان 
فسَمّي على أثرها لبنان الكبير. 

كنا نسهر ليلّا في ضيافة السيد أبي عمر عراجة» وقد تطرَّق بنا الحديث في 
إحدى سهراتنا إلى الوضع الذي كان سائدّاء فسألته: هل أنت راض عن الوضع 
الراهن في لبنان؟ فقال: إن لبنان يختلف عن بقية البلدان العربية الخاضعة للانتداب 
الفرنسي والبريطاني معًا في معيشته وفي معاملاته مع البلدان الأوروبية» واتصاله بها 
اتصالًا وثيقّاء جعل مركزه التجاري ينمو شيئًا فشيئاء إن أبناءه المغتربين في كل من 
أميركا وأفريقياء وبعثاته العلمية في الأمصار الأوروبية» اختلاف عقائده ومذاهبه 
السياسية» كل ذلك جعله يختلف عن سائر أمصارنا العربية في النمو والارتقاء. 


فمن أبنائه من هو محبّذ للحكم الحاضر ومنهم من هو ناقم» ولا أعتقد أن 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 129 





كثيرًا من سكانه ناقمونء أمّا أنا شخصيًا - وكثيرون مثلي - فغيرٌ راضين عن الحكم 
الحاضرء وإنّا لمعذورون إِذ لم نجاهر بهذا الكره للفرنسيين» فليس لدينا قوة تخوّلنا 
الوقوف أمامهمء وماذا سيكون مصيرنا لو أننا قمنا بثورة ضدّهم» أعتقد أننا لن 
نفلح» لقد قامت عدّة ثورات محلية في سورية لم يواكبها النجاح؛ ولنا أمل كبير في 
جارتنا سورية التي فُصِلنا عنها من دون إرادتناء فإن ظروفها وطبيعة بلادها تساعدها 
على القيام بثورة تعمٌ أرجاءهاء وفيها من الرجال الأكفاء ما يكفل لهم التنضصّل من 
الحكم الفرنسي» بشرط أن يتّحد أبناؤهاء وهذا أمر من الصعب الحصول عليه. 

أما طرق معيشة قرى حوران فهي متواضعة» وغير مرضية» لقد لمستٌ ذلك 
أثناء زيارتي لها مع شقيقي ياسين الذي أخذ يجمع ثمن الجمال التي باعها فينا "فى 
قرى حوران» ولكن الحوارنة صابرون على هذه الحياة وما يتخللها من بؤس 
وشقاء» أغلبهم ليس لديهم عمل غير حرث الأرض وزراعتها ثم حصاد غلّتها من 
الحبوب كالقمح والشعير والذرة» يقضون في عملهم هذا خمسة أشهرء منها شهران 
عمل من دون توقف. والثلاثة الأخرى كذلك يقضونها في العمل» والسبعة أشهر 
الباقية من السنة يبدّدون أيامها ولياليها بهدوتهم المتواصل وسكونهم في مضافات 
شيوخهم المفتوحة أبوابها ليلّا ونهارّاء يسمرون فيهاء اللهم إلا قليلًا منهم ذوي 
اليسار حيث كانوا يقومون بعمل بسيط: ينقلون على أنعامهم من الإبل والخيل 
والحمير بعض محصولاتهم الزراعية. 

كانوا يستدينون من عملائهم تجار دمشق كسوتهم الشتوية» وما يحتاجون إليه 
طيلة عام من الحاجيات بأثمان مرتفعة» حتى إذا باعوا غلتهم بعد حصادهاء قاموا 
بتسديد ما عليهم من الديون؛ فلا يبقى لكثير منهم شيء يذكر من ثمنهاء حتى القمح 
الذي كانوا يشْقَوْنَ في زرعه وحصاده. لا يبقى لديهم منه إِلَّا الشيء القليل» فكانوا 
لهذا يفضّلون خبز الذرة» على خبز القمح» لرخص ثمن الذرة. 

لم يكن في بيوت الكثير منهم المتواضعة من حطام الدنيا وبهجتها شيء يذكرء 
اللهم إِلَّا القليل من الماشية» كبقرة حلوب أو بعض شويهاتء أو بهيمة للركوب» 
وهكذا كانوا يقضون سنواتهم» وهم في هذه الحالة البائسة» والبعيدة كل البعد عن 
الرفاهية والسعادة. 


130 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


من الغريب أن تجدهم على الرغم مما هم فيه من البؤس والتعاسة» محافظين 
على الأخلاق الكريمة من شرف وكرمء وحسن ترحاب. فإذا نظرنا إليهم من هذه 
الوجهة التي هم عليها من السكون والهدوءء وعدم المبالاة بشؤون الحياة التي هم 
عليها يمكننا أن نصفهم بالكسل والخمول والتقاعس. 

أما إذا أضفت إليهم» كرم أخلاقهم. والمحافظة على شرفهم. وحسن 
ترحابهم؛ فلا يسعُكَ إِلَا أن تلقي عليهم صفة طيبة من الصفات الحميدة النبيلة. إذ 
كيف يتستى لهمء وهم بهذا الفقر المدقع» والحياة القاسية الشرسة» المحافظة على 
الرجولة وكرم الأخلاق؟ 

لقد ثبت لدى العديد من المفكرين أن البطالة» وعدم السعي في الحصول على 
حياة أفضل مما يثبط أصحاب الفضائل والخصال الحميدة. 

أما بالنسبة إلى ساكني قرى جبل الشيخ» وقرى البقاع» فالمعيشة فيهما تختلف 
عنها في قرى حورانء اختلاقًا ملموسّاء معيشتهم بحالة مُرضِية» ومنازلهم محترمة» 
تحتوي على بعض من اللباقة والذوق. وإنهم يهتمون بالزرع والضرع» يزرعون 
الحبوب» والخضر من جميع الأصناف» ومزارعهم مملوءة بأشجار الفاكهة 
المختلفة» ويقومون بتربية الأنعام» وفي حظائر منازلهم عدد كبير منهاء وهم كثيرو 
الحركة والتنقل من بلد لآخر يمارسون فيها تجارتهم» ويعرضون فيها ما تنتجه 
مزارعهم. 

أقمت في بلدة بر الياس» من أعمال البقاع» عند الوجيه أبي عمر عراجة شهرًا 
كاملا - وكما قلت - كان 'شهمًا كريمًا له مميزات خاضة مرضية» :تحمل النامن 
على احترامه وتقديره. 

بعد مدة من عودتي من البقاع إلى دمشق واستلامي أثمان الجمال التي كنت قد 
بعتها دينّاء شعرت بضيق شديد لم أَْرِ ما سببهء واعتراني فتور تبط مني العزم لم 
أعلم كنههء ومللت البيع والشراء» وتعاطي التجارة في جميع أصنافهاء وأصابني 
نفور من لقاء الناس. وتجثب التحدث إليهم؛ حتى من أفراد عائلتي» فأعرضتٌ 
عنهم جميعًاء وكنت أغادر المنزل وأسير حتى أصل سفح جبل قاسيون المطل على 
مدينة دمشق» أتمنَّع بمناظرها الجميلة». وغوطتها الخلابة» المكتظة بالأشجار 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 1031 





المبعثرة هنا وهناك» أحمل معي منظارًا أرى من خلال عدسته المكبرة كثيرًا من 
البشرء ينتقلون بين قرى غوطة دمشقء كل يسعى في طلب الرزق» محاولًا بعملي 
هذا إعاد :السا »و الصيج ال كاد يحبر انما رادي يعدو المتاطر» إلا بويا 
ونفورًا من نفسي التي بين جنبي» وكنت أسألها لماذا تقاعست عن العمل في طلب 
الرزق» بينما هؤلاء الخلائق الذين أراهم بعدسة المنظار يضربون الأرض بأقدام 
ثابتة» سعيّا وراء الرزق» يغدون جيئة وذهابًا في سبيل الحصول عليه» أليس من 
العار أن أبقى على ما أنا فيه» من دون عملء وبلا أمل؟ . 

أحيانًا كنت آخذ طريقي في وادي بردى» وأسير على ضفاف هذا النهر 
الخالد» مارًا بالربوة» وأنهارها السبعة تجري بلا تعب لتسقي مزارع دمشق 
وحدائقها الغنّاءء وكان إذا قذّر لي رؤية سيارة أجرة لا تحمل أحدًا أستوقفهاء 
فتأخذني إلى متنزهات دمّر مارًا بأشجار الحور الباسقة المنتشرة حولهاء تتراقص 
بأثوابها البهية الجميلة» ذات اللون الأخضر السندسي» والبياض الثلجي . 

مللتُ من التنقل. ومن المناظر الخلابة وفتنتهاء ووجدت ميلا ظاهرًا للركون 
والانزواء فكنت أقضي أوقاتي في قراءة الكتب ليلا ونهارًاء وتجمّع لدي عدد كبير 
من الكتب» وأعجبت بما كتبه المنفلوطي» وبأسلوبه السهل الممتعء وقرأت له كل 
ما دوّنه» وما خظّه قلمه وتعرّفت ما بين سطوره عندظٍ إلى أحوال المساكين» وبؤوس 
المستضعفين» وشقاء المناضلين» وبلاء المجتهدين. 

كنت حريصًا أيضًا على مطالعة المجلات العلمية والأدبية» وكنت مواظبًا على 
قراءة مجلة المنار التي كانت تصدر في القاهرة» لغزارة موضوعاتها العلمية» وما 
خطّه بيراعه صاحبها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ رشيد رضاء في تفسير القرآن 
الكريم المجيدء كما قرأت مجلة العرفان التي كانت تصدر في مدينة صيدا من 
جنوب لبنان لصاحبها الشيخ عارف الزين» وكثيرًا من المجلات العربية القاهرية 
واللبنانية وبعضًا من جرائدهماء وكنت أركن لمجلة الدبور ولهجتها اللبنانية وأتابع 
بشغف زائد ما تنشره مجلة العرفان من الشعر لرجالات العراق» أو شعراء جبل 
عامل خاصة الشعر الحماسي منه» للشاعر محمد سليمان الأحمدء المتكتّم باسم 
بدوي الجبل» ولا سيما قصيدته التي مطلعها : 


132 


تغني وما أجدى الحسام وما أفنى 
أدرت على الأسماع منها سلافة 
يحذرني قرض القريض مهنبًا 
وهددني بالسجن قوم جهالة 
وختمها بالأبيات الآتية: 
إذا أطفأت يا مي نيران يعرب 
ولابدمنيومأغرمحجل 
يصافح فيه قائمالسيف خالد 
وكم في بطون اليعربيات خالد 
ومن قصيدته في أطلال الجزيرة: 
ما للجزيرة لا تفيق من الكرى 
كل الشعوب من الرقاد وبكروا 
هللت للنشء الجديد وقلت ذا 
أبناء جلق والفرات وربما 
تلك المهارةفلا أحس بلوعة 


قال يخاطب الشاعر أحمد شوقى: 


ملك البيانالحر سمعاإنه 
اشكو يت امن اليك وزعنا 
- متباعدين على تقارب نجدهم 


صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


قواف من الأشعار تبقى ولا تفنى 
فأرضيت فيها الله والعرب والفنا 
عصابة شرلا تقيملهوزنا 
فتى العرب والأمجاد لا يرهب السجنا 


هواننا فإناا شوك نو تنها إنا 
تطير الحبال الراسيات به عنا 
بصري عع تعقو النيت ريعي 
سيرجع ظهر الأرض من حنق بطنا 


طلع الصباح. تنبهت آسادها 
للطيبات فهل تمل رقادها؟ 
جند الشآم فمن يطيق جلادها 
يوم النزال كماتها قوادها 
مشت البنون فأدركت أجدادها 
إن مُدَ في عمري شهدت طرادها 


قلب يذوب وهذه خفقاته 
كانت عزءً للحزين شكاته 
في كل قطرعرشهوولاته 


جاء في إحدى قصائده عن الأقطار العربية: 


دويلة فكيف صارت دول 


قال في رثائه فضيلة الشيخ الألوسي في بغدادء والزعيم المصري سعد زغلول: 


نى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 

ماللجزيرةأين نور نبوغها 
بغدادشاكيةومصرمرنة 
تلك الأقاليم الثلاثة واحد 
في كل يومللجزيرة كوكب 
قالوا السياسة قلت رغم دهائها 
تسمه أعجسدر ودروة مضرية 


هذاه والحق الصراح وإنما 


133 





الزيت جف وأحرق القنديل 
والشام حاسرة القناع كول 
بردى وشاطىء دجلة والنيل 
يهوي وسيفايعتريه فلول 


ظل العروبة في الربوع ظليل 
نبت الربيع بها قنا ونصول 
فيها نصول على العدى ونطول 
فول التمجابية كله جمنا 


كان الشاعر بدوي الجبل يتغنى بأمجاد العرب ومفاخرهم» ويدعو العرب إلى 
اليقظة والنهوضء ليرفعوا عن أوطانهم ذلَّ الاستعمار. وأقف هنا برهة وجيزة من 
الزمن لأذكر بعض ما عرفته عن هذا الشاعر اللبق. 

نشأ هذا الشاعرء في مدينة اللاذقية وهي الميناء البحري الذي تبقّى لسورية» 
بعد أن فصل عنها الك عير ميناء طرابلس الشامء وميناء بيروت» ومقاطعة 
البقاع» وغيرها من الأراضي السورية» وأنشأوا جمهورية جبل لبنان» وسمّيت هذه 
الجمهورية لبنان الكبير» وبعدما قدَّم الفرنسيون ميناء الإسكندرونة لقمة سائغة لأفواه 
الأتراك. هكذا يتصرف رجال الاستعمار فيما لا حقّ لهم به فيهبونه لمن يريدون» 
ويرغبون. 

ترعرع الشاعر بدوي الجبل في مدينة اللاذقية مسقط رأسهء وما أن بلغ الثانية 
عشرة من عمره حتى أخذ يقرض الشعرء وفي مطلع السادسة عشرة» بدأت 
الصحف السورية واللبنانية» تنشر ما تبديه قريحته» حتى إذا بلغ العشرين عامًا ألهب 
شعره الحماسي» قلوب السوريين واللبنانيين على الفرنسيين الدخلاء» فكان شعرًا 
مثيرًا لاذعَاء د بحوادث التاريخ العربي» يوحي بالعزَّة والمجد والكرامة» 
يذكر فيه العرب بسالف مجدهم التليد وأيامهم الغر الميامين» وما نالوه من مجد 
وسؤدد. ثم كان يتحسّر على ما هم فيه من الذلة والمسكنة والخنوع. 

المتتبّع لما كان ينظمه هذا الشاعرء قل أن يعثر على قصيدة من شعره» خالية 
من ذكر حادث تاريخي» أو موقعة حربية مشهورة» فاستمع لما يقول: 


134 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


قف على اليرموك واخشع جائيًا وتيمم من صعيدالقادسيه 
تربةطيبةطاهرة ودموع من حياالدمعنديه 
هاهنامئوى الصناديدالألى ‏ دوخواالأرض بيض المشرفيه 
ها هنا مثوى الصناديدالألى ‏ قدلووا قصر عنانالجاهليه 
الأمر الذي حدا بأحد الشعراء العرب واسمه إبراهيم المنذر أن يلقّبه بالنابغة, 
وكاد بدوي الجبل أن يتمتع بهذا اللقب ويحصل عليه من معاصريه الشعراء والكتّاب. 
لولا توقفه فجأة عن قرض الشعر. ولولا ذلك لكانت له المنزلة السامية والشأن الكبير 
المختار في عالم الأدب العربي»؛ وينسب توقفه المفاجىء عن نظم الشعر لأسباب 
منها : عندما قام الفرنسيون بتقسيم سورية إلى أربع مناطق حتى يسهل عليهم حكمها 
استعماريّاء ويستغلوا مرافق الحياة فيهاء وكانت مدينة اللاذقية وما حولها من القرى 
إحدى هذه المناطق السورية» وتسلّم الشاعر يدوي الجبل أحد المناصب المهمة في 
هذه المنطقة» فتقرّب من دار المندوب السامي الفرنسي في سورية» فتوقف عن قرض 
الشعر عدة سنوات لم ينظم أثناءها من الشعر إِلَا قليلًا . 
لقد زار بدوي الجبل الديار المقدّسة وأدّى العمرة وألقى أمام الملك فيصل 
قصيدة مفعمة بالثناء على جلالته وجلالة والده الملك عبد العزيز رحمهما الله . 
أعود مجددًا إلى ما كنتٌ بصدده وهو الحديث عن نفسي وشرح أوضاعي 
وتبيّن لي أنه نتيجة انكبابي على المطالعة» تعلّقت بأذيال الكتاب» وبدأت أدرّن 
بخط دقيق بعض آيات الذكر الحكيم وكل ما استحسنته من الشعر والنثرء واحتفظتٌ 
بما كتبته حتى يومنا هذا وقد حملته معي في جميع رحلاتي» وأسفاري مع 
العقيلات وطاف معي أثناء زيارتي لكل من أوروبا وبلدان آسيا والأميركيتين 
الشمالية منها والجنوبية» حتى أثناء خدمتي في الجيش الأميركي» في الحرب 
العالمية الثانية» كنت أتصمّح ما دوّنته بين فترة من الوقت وأخرى فتعيد إلى ذاكرتي 
أيامًا خلت وتقفني على ما مضى من عِبَّرٍ وجكم. 
لدى انفرادي بنفسي وابتعادي عن الناس» بدأت الأمور تنقلب معي وصرت 
أفكر تفكيرًا جادًا في الوضع الحاضر للبلدان العربية. ١‏ 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 1355 





لقد وقّع ابن سعود معاهدة مع بريطانيا عام 1334ه (1915م) بسبب ظروف 
الحرب العالمية الأولى ثم استطاع رحمه الله إلغاء هذه المعاهدة عام 1345ه 
(1927م)» وأما فيصل بن الحسين ملك العراق فلقد بتي خاضعًا لإرادة البريطانيين 
وتحت حمايتهم إلى ما بعد عام 1348ه (1930م)» وكان وضع عبدالله أمير شرقي 
الأردن وشقيق الملك فيصل مشابهًا لخضوعه لبريطانياء وكانت سورية ولبنان» 
تحت السيطرة الفرنسية» وكانت سلطات ومشيخات الخليج العربي» وما أكثر 
عددها مع الكويت» تحت الحماية البريطانية» وهكذا كان الوضع في القطر 
المصري والسودان على الرغم من ثوراتهما المتعدّدة» لقد كان كل شيء يخصٌّ 
مصر والمصريين تحت إمرة المندوب البريطاني. هذا ولنتذكر البلدان العربية في 
إفريقيا التي تدير شؤونها السياسية والاقتصادية والعلمية السلطة الفرنسية وهي: 
6 والجزائر والمغرب». وذلك منذ عشرات السنين»ء أما ليبيا فكانت تحت 
الحماية الإيطالية» إنه لم يَبْقَ سالمًا من الحماية والانتداب من الوطن العربي جميعه 
غير البلاد العربية السعودية وبلاد اليمن» والبلدان الإسلامية غير العربية فلم يمارس 
الاستقلال في ربوعها غير أفغانستان وإيران» أما تركيا مركز الخلافة الإسلامية 
السابقة» فزعيمها مصطفى كمال قد سنَّ لها دستورًا بعيدًا كل البّعد عن التعاليم 
الإسلامية» وأخذت حكومتها تمارس نصوص هذا الدستور وتقوم بتطبيقه على 
الشعب التركي» وانّجه به وجهة أوروبية غربية بكل ما في هذه الكلمة من معنى 
حتى إن بعض مساجدها الشهيرة حوّله بإرادته إلى دار للآثارء ولم تكن الهند قد 
نالت استقلالها بعد وكانت لم تَرَلُ ترزح تحت الحكم البريطاني الغاشم . 

إن الأفتناق لقف ندعو لا تاه فنا كان راد نتن الاسمحلال:والخدلان 
والخنوع الذي مُنِيّت به الأمة العربية والإسلامية البالغ عدد أفرادها مئات الملايين 
وهي ترزح تحت انتداب وحماية المستعمرين الأوروبيين. 

تعتريني الدهشة؛» ويأخذ العجب مني كل مأخذٍ فأسأل نفسي أين أولئك 
الأبطال؟ أبطال الإسلام الذين فتحوا نصف الكرة الأرضية في غضون أقل من مائة 
عام ونشروا راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها تحمل معها العدالة الإنسانية 
والإصلاح؟ 


136 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


أين بنو أمية وأين فتوحاتهمء والعباسيون وما حفظوه ونشروه من العلوم 
والفنون التي طبقت سمعتها الخافقين؟ فيأتي الجواب من الشاعر الذي يرثي 
الأندلس فردوس العرب المفقود»ء إذ يقول: 
أتى على الكل أمر لا مردٌ له حتى قضوا وكأن القوم ما كانوا 
وصار ما كان من ملك ومن ملك كما حكى عن خيال الطيف وسئان 


فوقفت مفجوعًا مذهولًا والعبرة تتردد بين جفني حائرة» (بين يأس يدفعها 
وأنفة وإباء يمنعها). 

على ذكر الأندلس» فردوس العرب المفقود فلا مانع من أن أدوّن حديث 
الأستاذ الكبير محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي في دمشق (مجمع اللغة العربية 
حاليًا)» قال فيه: 

«اجتمعت في باريس بمستشرق فرنسي فتطرّق بنا الحديث إلى ذكر فردوس 
العرب المفقود الأندلس؟ قائلًا له: وهل زرت الأندلس أيها الصديق؟ 

فأجابني نعم» لقد زرت الأندلس وأعجبت بها كل الإعجاب, مما لفت نظري 
تلك السدود القائمة حتى الآن في واديها الأخضرء ولولا إتقان مهندسي العرب 
لتلك السدود لمات أهل ذاك الوادي عطشّاء وأردف قائلًا : بلادٌ هذه 07 آثارها 
تذهب ولا من يبكيها فتّا لمن أهملوها وأودعوكم بما أنتم فيه من الذلّ والهوان». 

هذا المستشرق الفرنسي الذي لا يمت بصلة للعرب ولا للإسلام ولا تربطه أيّ 
رابطة بهماء يُبدي أسفه ويلوم مَن أهمل شأن هذا الفردوس العربي المفقود. 


بح بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 137 






المؤلف - دمشق 1926م 





محمد عيد الرواف 1928م ياسين الرواف - دمشق 1952م 


138 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 








الملك عبد العزيز أمام الطائرة في جدة ويبدو حافظ وهبة 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 139 








0 ف 
وكان والد المؤلف يمشي خلف الحجيج الشامي ومعه 150 من القصيم لحماية الحجيج 





140 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


ارب 1545/17 بن ا 111 
١ 7‏ 7 





. ساو : سعمب ارك انا : 


مبنى وزارة المالية في أجياد في مكة المكرمة عام 1928م 


الملك عبد العزيز 
وأخوه الأمير عبدالله في جدة 1929م 





الوايلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 141 





الوفد المزمع إرساله إلى طهران برئاسة محمد عيد الرواف وعبد الله الفضل وسعيد رشاش» 
سكرئير القنصلية السعودية في دمشق مع أعضاء البعثة التعليمية - القاهرة 1928م 


142 : صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الوفد المكون من محمد عيد الرواف وعبد الله الفضل وسعيد رشاش» المرسل من 
الملك عبدالعزيز إلى طهران لرد زيارة رئيس التشريفات الإيراني للمملكة عام 7م 





الزعيم سعد زغلول والسيد أحمد بك كرى والد زوجة المؤلف (المشار إليه)؛ 
وبعض زعماء مصر ورجالها - القاهرة 1919م 














او الشام.وشبه الجتزيرة والعراق 143 








0 
خينن 


ملكلا اع : سال 


ياسين الرواف القنصل العام في دمشق (يسباو الصورة) وعن يساره إحدى الشخصيات 
السياسية السورية وبعض قناصل الدول الأجنبية - دمشق 1927م 





عبد الرحمن القصيبي يتوسط أعضاء البعثة التعليمية السعودية في القاهرة 1928م 


144 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





محمد عبد الله البسام» يسار الصورة والشيخ محمد العصيمي 
يمين الصورة وبينهما وكيل الأشراف في دمشق - 1927م 





المؤلف مع شقيقه ياسين في القنصلية السعودية - دمشق 1927م 


لاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 145 





اجتماع الوطنيين في سوريا في منزل هاني الجلاد» 
وفي الاجتماع يبدو والد المؤلف إبراهيم الرواف - 7م 


146 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





المؤلف وشقيقه ياسين الرواف في القنصلية بدمشق 1927م مع الطفلين أحمد الكحيمي» 
السفير في لبنان لاحقا وروّاف محمد الرواف السفير في دمشق 





ياسين الرواف مع رئيس بلدية دمشق زكي المهاني 
وأحد أبناء السيد المهاني - 1928م 


الابلاد الشام وشبه الحزيرة والعراق 


أيام عيد الفطر في القنصلية السعودية بدمشق عام 1928م ومعهم أحد العقيللات 


محمد عيد الرواف والمستشار الفرنسي عند خروجهما 
من دار الاثتداب - دمشق 528 ام 








رئيس الجمهورية السورية محمد علي العابد ومحمد عيد الرواف وجميل مردم بك 


18 


صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 149 





ياسين الرواف» قنصل عام السعودية في سوريا ولبنان مع ولديه المعتصم بالله 


صفحات 3 
ل بي ا د 
2 35 





عبدا 
بدالرحمن بياث 





نا لمؤلف 
أ ذ 
صر لرواف ا 
0 بن عم ا وَل 
موظفي المالية والدا ا عزون 
: خلية ذ 
يمان 
م 


نى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 151 





الفصل الخامس 





أيام مع الملك عبد العزيز في الحجاز 


دخل جند آل سعود مكة المكرمة من دون قتال والتجأ الملك علي بن الحسين 
إلى مدينة جدة» ولاحقه الجند السعودي» وحاصروه في هذه المدينة التي لم يِبْقَّ 
بحوزة الهاشميين غيرها من المدن الحجازية» فكانت آخر معقل لهم. 

كانت الألسن في الأقطار العربية» تتحدّث عن هذا الحصار في أنديتها 
ومجتمعاتهاء فمن محبّذ له ومن ناقم» وأخذت الجرائد المرتزقة في كلّ من العراق 
والأردن وسورية والقطر المصري» تنتقد عبد العزيز بن عبدالرحمن وجنده 
المجاهدين بجدة؛. ولم تجد غضاضة في نعته بالوهابي» لقد كانت كلمة الوهابي في 
ذلك الزمن لدى الجهال تعني المذهب الخامسء الخارج عن الإسلام ولكن الوهابية 
ليست مذهبًا خامسًا ولا خارجة عن الإسلام» وإنما هي التعاليم الإسلامية» التي 
أحياها الممصلح الأكبر الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي كان من رجالات مذهب 
الإمام أحمد بن حنبل» ولقد أراد أعداء الإسلام أن يصِمُوا السعوديين بهذا اللقب 
تمشيًا مع أفكارهم وآرائهم الخبيثة» وجاء - كما ذكرنا من قبل - في مقالٍ لعميد 
الأدب العربي طه حسين عنوانه (الحياة الأدبية في جزيرة العرب) ذكر الدعوة التي قام 
بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب» وفيه وصف الدكتور طه حسين هذه الدعوة بقوله: 

«إنها الدعوة القوية إلى الدين الخالص النقي المطهّر من كل شوائب الشرك 
والوثنية» هي الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصًا لله وحده ملغيًا لكل 
واسطة بين الله وبين الناس. هي إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من 
نتائج الجهل. ومن نتائج الاختلاط بغير العرب. 

من الغريب أن ظهور هذه الدعوة أحاطت بها ظروف تذكّر بظهور الإسلام في 
الحجاز فقد دعا صاحبها إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس» ثم أظهر دعوته 


152 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





فأصابه الإضرار وتعرّض للخطرهء ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء» ورؤساء 
العشائر كما كان النبي محمد يَْةٌ يعرض نفسه على القبائل» ثم هاجر إلى الدرعية 
وبايعه أهلها على النصر كما هاجر النبي إلى المدينة. 

انقاد أهل نجد لهذه الدعوة وأخلصوا لها الطاعة وضحًّوا بحياتهم في سبيلها 
على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه. 

لولا أن الثّرك والمصريين اجتمعوا على حرب هذه الدعوة وحاربوها في دارها 
بقوة وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها: لكان من المرجو جدًّا أن توحّد هذه الدعوة 
كلمة العرب في القرن الثاني والثالث عشر للهجرة كما وخَّد ظهور الإسلام كلمتهم 

في القرن الأول. ولكن الذي يعنينا من هذه الدعوة أثرها في الحياة العقلية والأدبية 
ن عرف وقد كان هذا ل ل ٠»‏ فلقد أيقظ النفس 
العربية» ووضع أمامها مثلًا أعلى أحبّته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم 
واللسان». 

لقد أحدث القذف الصادر عن الجهلة والمتاجرين بالعواطف الدينية» في 
نفسي نفورًا واشمئزارًا ليس لأنني نجدي أنتمي لبلادٍ يحكمها آل سعود وتجمعني 
بهم عقيدة واحدة ووطن واحدء بل لانتقاد هؤلاء الجهّال لآل سعود المحافظين 
على أوطانهمء والمستقلين فيهاء بينما كان هؤلاء الجهّال يرزحون تحت الحكم 
الأجنبي» وينتقدون ويا للخزي من قام بتوحيد كلمة أبناء الجزيرة العربية المتفرّقة 
وصبّها في بوتقة واحدة وجَعَلهم لا يعبدون إلا الله وحدهء ولا يخافون لومة لائم. 

كم من مرة قلت لنفسي: أما آنَ لهذه الألسن أن تكف أذاهاء أمَا حانَ لهذه 
الصحف أن تحظّم أقلام كتّابهاء وتخفض صوتهاء وتوجّه هذا اللوم والسباب 
للأجنبي الغاصب؟ ألا ترى ما حل بها وبأوطانها من الخزي والذل والهوان؟ إنها 
النفوس الوضيعة.ء لا يهنأ لها عيشء. ولا يقر لها قرارء ما لم تَرَ أبناء الأمة 
الواحدة» ينشب فيما بينهم الخلاف ويتفاقم الشر. 

كان شقيقي ياسين شديد الغيرة والتحمّس للسلطان عبد العزيز وللنهضة النجدية 

التي أقامها الشيخ محمد بن عبدالوهاب» يدافع عنها بكلّ ما لديه من قوة ويدحض 
المفتريات ضدهاء بحجج دامغة قوية» ويتجادل مع المتأثرين بالدعاية المغرضة» 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 153 





التي كان يقوم بها المشايخ أثناء وعظهم وإرشادهمء فكنا نشفق عليه لِمَا يناله من 
أذاهم وعنتهم وجبروتهم» وسألناه ليكف عن جدالهم ويتركهم وشأنهم فأبى وأصرّ 
على موقفه الشجاع. 

فما لبثنا غير وقت قصير حتى وافتنا الأخبار بنبأ سقوط جدة» بعد حصار 
طويل استمرٌ طيلة أحد عشر شهرًاء فلقد آثر عبد العزيز - كما فعل في حصار 
حائل - الانتظار الطويل لكي يتجنَّبٍ سفك الدماء. لقد كان بمقدوره اقتحام جدة 
بالقوة فى أي وقتٍ خلال مدّة الحصارء ولكن القائد السياسى البطل العسكري 
أدرك أن المسة وف تبفط سلما سوا عاحة أم أجل 1 فلماذا الاقتحام 
العسكري الذي سيؤدّي إلى قتل الكثيرين من الطرفين المتقاتلين وهو يعلم أن 
المحاصرين سوف ينهارون بعد مدّة من الزمن. لقد كان قرارًا سياسيًا حكيمًا اتخذه 
ملك يسعى إلى توحيد الجزيرة وترسيخ الاستقرار فيها وحكمها بعد السيطرة عليها . 

بعد فتح جدة جمَّت ألسنة المرجفين» وخمّضت الجرائد من غلوائهاء بعد أن 
امتنع عنها ما كانت تتناوله من مساعدات مالية من الأشراف. 

استأذنت والدي بالسفر إلى القطر المصري ومنه للبلدان المقدّسة لأداء فريضة 
الحج. وزيارة المسجد النبوي والسلام على رسول الله محمد يلو وتقديم تقديري 
واحتراماتي للإمام عبد العزيزء فقال رحمه الله وَلِمَ لا تفعل؟ من الذي يمنعك؟ 
عندها هيّأت جواز السفرء وغادرت دمشق بالقطار إلى القاهرة» وأقمت فيها عشرة 
أيام ثم لحق بي شقيقي ياسين قادمًا من دمشق وأرسل برقية للإمام عبد العزيز يعلمه 
بقدومنا إلى الحجازء وبعد ذلك بأيام معدودة أخذنا باخرة الشركة الخديوية إلى 
البلدان المقدسة» فنزلنا ضيوفًا على الحكومة فأكرمتنا غاية الإكرام. ولم يكن هناك 
في جدة فندق» فأنزلتنا الحكومة في دار أحد التجار النجديين من أهل عنيزة وهو 
الشيخ خالد الناصر. ْ 

لقد كانت حكومة ابن سعود تنفق الأموال» وتهبٌ ثمين العطايا لساكني 
الحرمين الشريفين - حتى أصبح كثيرٌ منهم في سعة من العيش - وكانت تستخدم 
عددًا كبيرًا منهم في الوظائف المستجدّة» حيث لم تُنَحّ أحدًا منهم عن العمل حتى 
المقربين للبيت الهاشمي» والموالين للحكومة الغابرة» ولهذا لم يَمْضٍ وقت طويل 


154 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


على خضوع مدن الحجاز للحكم السعودي إِلَّا وأصبح الناس مسروري الأنفس 
وراضي الخاطر. وكانت الوزارات لم تؤسّس بعدء والنظام لم تعرفه بعد أمور 
الدولة الفتية المستحدثة فلا جيش منظمء ولا ميزانية مالية» وكانت هناك مدرسة 
واحدة يقوم بشؤونها نخبة صالحة من المواطنين. 

كان عبدالله الدملوجي يقوم بالشؤون الخارجية» ويوسف ياسين يقوم بشؤون 
المكتب الخاص وبتحرير جريدة أم القرى» (وكانت تصدر باسم القبلة في زمن 
الهاشميين وكان أمير مكة الحسين يدبج فيها المقالات السياسية الطوال؛ ظنا منه 
أنها تترجّم إلى عدّة لغات» من لغات العالم» وتعرض على الزعماء والسياسيين 
منهم). 

كان طيب بك الهزازي رئيسًا للديوان» والشيخ عبدالله السليمان الحمدان 
النجدي يقوم بإدارة المالية والشيخ حافظ وهبة» صاحب النفوذ القوي» والكلمة 
المسموعة لدى الملك عبد العزيزء كان ينتظر إنشاء وزارة المعارف ليقوم بإدارتها 
ولم يكن في البلدان المقدسة دائرة واحدة منظمة غير دائرة الصحة». ومديرها 
محمود حمودة» يعاونه بعض الأطباء السوريين. ومدير الأمن العام» الذي أطلق 
عليه الملك عبد العزيز لقب المصلح لِما كان يقوم به من الإصلاح في دائرة 
الشرطة» فأصبح يُعرف بهذا اللقب. 

تشكّل مجلس الشورى عند دخول النجديين للبلدان المقدسة من بعض أهالي 
البلاد» ومن غيرهم من البلدان العربية المجاورة» ورَأْسَه الأمير فيصل بن 
عبد العزيز نائب جلالة الملك عبد العزيز في البلدان المقدسة. 

قدم الأمعادة ملحس: وترأس المكتب الخاص» عوضًا عن الشيخ يوسف ياسين 
الذي عَيِّن مستشارًا خاصضًا لجلالة الملك» وبعث السيد شكري بك القوتلي فؤاد 
حمزة» نعناوبله شان يذكرء واستدعى طبيب الملك عبد العزيز الخاص مدحت 
شيخ الأرض الطبيب رشاد فرعون وكان موظفًا في الجيش الفرنسي يمارس أعماله 
الطبيّة فيه وطلب منه القدوم للعمل في المملكة فلبى الدعوة. وأصبح فيما بعد من 
مستشاري الملك فيصل البارزين ودُعينا شقيقي وأنا من قبل مدير الصحة محمود 
حمودة لتناول طعام العشاء في المستشفى الحكوميء, وكان من بين حضور هذا 


نى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 155 





الحفل خالد الحكيم وفؤاد حمزة ونبيه العظمة ومحمد النحاس وفوزي القاوقجي» 
والشيخ يوسف ياسين» وتعضن الأطباء القائمين بشؤون المستشفى» وتحدت 
اديع بالأقوال الجارحةء وأخذوا يتفكهون بنوادرهم الغابرة» قُدَّمِ الطعام وكان 
منسمًا من الأرز تعلوه ذبيحة وتهيّأ أحدهم ليتناول لسان الخروف» ومدّ يده لرأس 
الذييحة وهم بفتحه» فما كان من محمود حمودة إِلَا أن أمسك بيده قائلا: والله لن 
أدعك تستولي على اللسان كله لقد قضيت ساعة من الزمن تثرثر عليناء لم تَدَعْ 
لأحد منا فرصة ليبادلك الحديث. فإذا أكلت هذا اللسان» فسنبقى الليل كله ونحن 
نستمع لثرثرتك» ممّا أضحك القوم وقنًا طويلًا. 

استتبٌ الأمر لابن سعود عبد العزيز في البلدان المقدّسة» وتوطدت دعائم 
ملكه في ربوعهاء وكان أول عمل خارجي قام به الدعوة التي وجّهها إلى 
الحكومات الإسلامية يطلب منها أن ترسل وفودًا لتمثّلها في المؤتمر الإسلامي 
المزمع انعقاده في مكة المكرمة» ليتداول وفود هذه الأقطار الإسلامية فيما بينهم 
حول شؤون البلدان المقدّسة مهبط الوحي. ومصدر التشريع الإسلامي ومثلت 
الأقطار الإسلامية بمجموعها في هذا المؤتمر الإسلامي العالمي» وكنت وشقيقي 
من المواظبين على حضور جلسات هذا المؤتمر» نصغي لأقوال وفوده» وكان 
الوفد الهندي يرأسه محمد علي وشقيقه شوكت عليء وعن إيران القنصل العام 
لإيران؛ء حبيب الله خان. في سورية ولبنان» وعن مصر الشيخ المراغي وصاحب 
مجلة المنار الشيخ رشيد رضا مع وفود كل من أفغانستان وسورية والعراق» 
والجزائرء والمغرب وتونس وليبياء كما حضره من النجديين إبراهيم الرشودي 
والعم قاسم الرواف وغيرهم من أخيار القصيم من عنيزة وبريدة والرس. 

مهما يكن من شأن هذا المؤتمر ووفوده العديدين» فقد عاد بفائدة معنوية كبيرة 
اديه وستاسية وأسبحت القرصة لنجؤلة اتلك عبد العدية للععرف على زحالات 
الأمة الإسلامية» واطّلاعه على ما تكنّه نفوسهم وضمائرهم نحو البلدان المقدّسة 
من خير ومن شرء كما اكتسب صلاقة قسم كبير من رجال هذه الوفود فناصروه 
وشَدّوا أزره» بعدما تحقّق لديهم معرفة آماله العظيمة ونواياه الطيبة. 


قدِم في هذه الفترة من الزمن والدي من دمشق لأداء فريضة الحج وزيارة قبر 


156 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





النبي محمد رسول الله يَكِْةِ ثم للتشرف بمقابلة جلالة الملك عبد العزيزء بصحيبة 
مدير مدرستي الأستاذ عبدالحكيم الطرابلسي» واهتبلها الأستاذ الطرابلسي فرصة, 
وبدأ يلقي خطبه الدينية والوطنية في الحرم المكي كل يوم بعد صلاة المغرب». وقد 
تطرّق في خطبته لذكر شقيقي الشيخ ياسين الرواف الذي تحاور في دمشق مع كثير 
من الناقمين على دعوة الشيخ محمدء وأوضح ما كان يلقاه منهم من عنت وغلظة 
أثناء حصار جدة. 

أذن في هذا العام 1344ه (1926م)». لرجال الحكومة المصرية بالقدوم إلى 
البلدان المقدّسة» يحملون معهم ستائر الكعبة المشرفة» كما أذن للمحمل المصري 
بدخول المملكة والجنود الذي يتبعونه وبقي المحمل في جدة. وتوجّه الجنود 
المصريون إلى عرفات» وفي منى أخذ الجيش المصري يصدح بموسيقاه في هذا 
المكان المقدّسء. فما كان من أحد الحججاج إِلَّا أن طالبهم بوقف المزمارء وكان 
من الإخوان المحافظين على اتّباع أوامر الله» قائلًا: إن هذه الأماكن للعبادة لا 
لتصدح فيها الموسيقى وزماميرها . 


اشتكى قبل شهر واحد من الوقوف في عرفات عام 1344ه (1926م)؛ 
صاحب السموٌ الملكي الأمير سعود بن عبد العزيز من ألم في عينيه» واستأذن والده 
الملك عبد العزيز بالتوجُّه للقطر المصري لعلاج بصرهء فقال له إن شاء الله يكون 
هذا بّعد حج هذا العام. وعلم رجال التكية المصرية بمرض عيني صاحب السمو 
الملكي الأمير سعود بن عبد العزيزء واتصل القائم بشؤون التكية بالوزارة المصرية؛ 
وكانت برئاسة فقيد مصر الغالي سعد زغلولء الذي أمر القائم بشؤون التكية 
المصرية بتقديم دعوة لجلالة الملك عبد العزيز لإرسال نجله صاحب السمو الملكي 
الأمير سعود بن عبد العزيز للعلاج في القاهرة» وأشفعت وزارة الخارجية هذه 
الدعوة برسالة رسمية لوزارة الخارجية السعودية» وقيل الملك عبد العزيز الدعوة. 
كان زعيم مصر سعد زغلول يحاول بهذه الدعوة تخفيف حدَّة التوتر بين الملك 
عبد العزيز والملك فؤاد ملك مصرء وكانت الحكومة المصرية لم تعترف بالمملكة 
العربية السعودية أآنْئٍ. 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 157 





كان الملك فؤاد يسعى بكل إمكاناته ليتبوأ مركز الخلافة الإسلامية بعد أن 
يلت عنها الحكومة العثمانية» وعقد بالقاهرة مؤتمرًا إسلاميًا تمهيدًا لذلك» دعت 
إليه الحكومة المصرية أقطاب العالم الإسلامي وزعماءه» وأرسلت للحكومة 
السعودية» لترسل وفدًا يمثلها في هذا المؤتمرء ولكن الملك عبد العزيز تجاهل 
هذه الدعوة ولم يرسل مندوبًا يمثّل بلادف إذ كان يعلم رغبة الملك فؤاد وحرصه 
وسعيه الحثيث للحصول على هذا المركز الإسلامي الممتاز الذي لا يستحقهء 
حامة أنكان خَاضعا لحك الامعمار التريطاتي.فحدّر الملك حب الغرين من 
إرسال وفد ينوب عن المملكةء خوفًا من أن يقع وفده تحت الأمر الواقع» فيما إذا 
قرّر المؤتمرون المناداة بالملك فؤاد خليفة للمسلمين» فيكون الوفد بين أمرين إمّا 
الموافقة على قرار المؤتمرء أو الانسحاب من المؤتمر فكلا الأمرين صعب 
فتحصل فجوة سحيقة بين الملكين. 

كان الملك عبد العزيز رحمه الله لا يقر الملك فؤاد أن يكون خليفة 
للمسلمين» وبلاده خاضعة للنفوذ البريطاني. 

وهكذا قضى الملك فؤاد نحبهء وغادر الحياة الدنياء ولم تعترف حكومته 
رسميًا بحكومة المملكة العربية السعودية فرحمه الله. 

لم أكن من موظفي الحكومة العربية السعودية» ولكني من مؤيدي الملك 
عبد العزيز» ومن محبذي أعماله التي جمعت كلمة الأمة العربية في شبه الجزيرة» 
ووحّدت بين أقطارهاء فقد قضى على الخلافات والمنازعات بين أمرائها ومشايخها 
وساهم مساهمة فعّالة في إعلاء شأن العرب والمسلمين. 

لقد كانت الأمة العربية في جزيرتها مفكّكة الأوصالء مختلفة الكلمة» لا 
رابطة تربط بين أبنائها برباط متين لا تنفصم عراه فَقَّثْلُ وقتال في كل ركن من 
أركانهاء والقوي هو المتفرّق. فقام عبد العزيز فقضى على منازعاتهم وخصوماتهم 
وصهرهم في بوتقة واحدة. وتحت علم واحدء لذلك كنت من مؤيدي هذا الفارس 
البطل. 

خلال عام 1344ه (1926م)» كتبت كلمة بعنوان (تحية العلم) وبتوقيع 
(نجدي مخلص) نشرت في جريدة أم القرى وصادف بعد ذلك بشهر واحد أن 


158 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





استدعى الإمام عبد العزيز بعض كبار النجديين فذهبت مع والدي وعمي قاسم 
وشقيقي ياسين وإبرا هيم الرشودي من أعيان بريدة» كما لبّى الدعوة الشيخ ابن بليهد 
ورجال من أعيان عنيزة أيضًا. وبادر طويل العمر المجتمعين بقوله: ما جمعناكم 
إلا لخير إن شاء اللهء نحن في بلاد لا تخلو من أناس لا يريدون خيرًا لهاء ولا 
لأنفسهم. ولا للأمة العربية» فدعوبكم لاجد رأبكم ف :تنظ حيدق مؤلفا ون 
خمسمائة جندي» ونرغب في مساعدتكم على تهيئة هذه الجندء فماذا ترون. هل 
يمكن الحصول على هذا العدد؟ 

سكت الحاضرون جميعهم» عندها قلت: يا محفوظ. إنه عدد بسيط. فهل 
يمك انكر مولن من أربعة آلاف رجل توزرّع في مدن المملكة» ار 
العمر: بارك الله فيك من أين نأتي بهؤلاء. ولم نحصل بعد على مائة منهم؟ ثم 
وججَه كلامه للحاضرين, قائلًا: انظروا في هذا الأمرء وسنجتمع بكم مرة ثانية؟ 

بعد ثلاثة أيام استدعى الدلك عبد لكؤي عفر ان له امتيقن اين زألفة 
تعيينه قنصلًا عامًًا في سورية ولبنانء وأردّف جلالته قائلا: أما أخوك خليل فنرغب 
في أن يكون قريبًا مناء ونكلّفه ليكون كبيرًا على العسكر النظامي المزمع إنشاؤه 
وأن يكون بمعيّة ولدنا فيصلء إن والدكم سبق له القيام بخدمة الحكومة التركية؛ 
فكان يمشي هو وجنوده المائة والخمسينء. وراء الحسجاج الأتراك والسوريين 
للمحافظة على مؤخرة الحجيج. أليس كذلك يا ياسين؟ فأجابه» نعم إن هذا 
صحيح طال عمرك. 

لم أمكث في الحجاز لأستلم مهام ما أمَرَ به الملك لأكون كبيرًا للعسكر 
المزمع إنشاؤه» بل استأذنت الملك في الذهاب إلى دمشق» لأنهي أموري التجارية 
ثم أعود لأستلم مهام عملي فأذن لي رحمه الله وتوجّهت إلى دمشق» وقد عزمت 
على مغادرة المملكة بصحبة الوالد إبراهيم المحمد الرواف وشقيقي ياسين» ومدير 
مدرسة التوفيق في دمشق التي تلقيت بها تعليمي الابتدائي. في الحقيقة لم يكن لي 
بدمشق علاقات تجارية» بل كنتُ مترددًا في قبولي الوظيفة» ولم يكن لدي الجرأة 
الكافية لأطلب من الملك إعفائي من القيام بما أمرني به. 

قبل أن نغادر الحجاز سبقتنا وفود بيت الله الحرام لمغادرته» بعد أدائها 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 159 


الفريضة الدينية الخامسة من أركان الدين الإسلامي» وقامت الحكومة بإكرام الوفود 
خير قيام» وكان جلالة الملك متعبًا جدًا من قيامة بأعباء الدولة وما كان يتطلّبه 
تأسيسهاء وإني لا أزال أذكر ذلك اليوم الذي حظيت به مع شقيقي ياسين بالجلوس 
منفردين مع جلالته على مائدته الملكية المكونة من (منسف) أرز تعلوه ذبيحة وأخذ 
جلالته يوصي شقيقي ياسين أن يكون عند حسن ظنْه به» وأن يكون لبقا وحذرًا في 
سياسته مع رجال الانتداب الفرنسي» وأن يهتم بأمور الرعايا السعوديين ومشاكلهم 
وأن يرعى مصالحهم. 


كان والدي من المعجبين بما يلاقيه الحجيج من اليسر والتيسير في ربوع هذه 
البلاد المطهّرة باديتها وحاضرتهاء ومأخوذ باستتباب الأمن في عهد جلالة الملك 
عبد العزيز آل سعود الذي لم يعهده ولم يعرفه الحجاز من قبل» إذ لم تكن تلك 
الزيارة الأولى التي يقوم بها لهذه البلاد» فقد سبق أن زارها سبعًا وعشرين مرةء 
حيث كان كما أسلفت سابقًا هو وجنوده النجديون يمشون وراء الحجاج القادمين 
من سورية في العهد العثماني ليحافظوا عليهم من اللصوص وتطاع الطرق الأشرار 
من عرب البادية» فعلى الرغم مما كانت تنفقه عليهم الحكومة العثمانية في أيام 
الحجٌ لم يَسْدِ الأمن. وقصّ علينا الوالد في أحد مجالسه المملوءة بالحاضرين ما 
كان يلاقيه هو وجنوده أثناء مسيرهم من دمشق مارين بالأراضي الحجازية» من ذلك 
حادثتان وقعت إحداهما في البادية والثانية في مكة المكرمة. 





قال رن : في إحدى السنين الغابرة أثناء سيرنا بالأراضي الحجازية بين مكة 
والمدينة نزلنا منزلًا محاطًا من جهاته الثلاث بالجبال» وأقام قسمٌ من الجنود 
خيمتهم بعيدًا عنا مقدار مائتي ذراع» وكنا قبل نبني خيامنا بجانب بعضهاء وأخذ 
كل منهم يباشر العمل المنوط بهء فتسلّل أحد الأعراب وانحنى ليأخذ قدر طعامهم 
من على الموقدء فانتبه أحد الجنود فركض نحوه وأطبق يديه على خاصرة الأعرابي 
فما كان من الأعرابي إِلَّا أن أمسك بكلتا يدي الجندي ووضعهما تحت إبطيه 
وحمله؛ وفر هاربًا والقدر بين يديه والجندي على ظهره؛ لكن ما أن لحق به الجنود 
حتى ترك الجندي وواصل فراره والقدر بين يديه ولم يتمكن الجنود من اللحاق به 
فوعورة الطريق حالت دون ذلك» واختفى الأعرابي بين الجبال» وكان الجنود 


160 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





بإمكانهم إطلاق النار على الأعرابي ليردوه قتيلاء لكنهم كانوا مأمورين ألا يطلقوا 
النار إلا على من يُشهر السلاح عليهم. 

قال أيضًا: كنت راكبًا دابّة» وأحد الجنود المحافظين على مؤخرة الحجيج 
يمشي أمامي وكان من عائلة الطميغة من مواليد بلدة عنيزة» وكنا في رابعة النهار 
متوجهين إلى مكة المكرمة بطريق الحجونء فأطلق علينا أحد العربان بضع طلقات 
نارية» وأتت إحدى هذه الطلقات على صخرة فتناثر من هذه الصخرة بعض 
الحجارة الصغيرة» فأصابت إحداها الجندي في فخذه فصاح الجندي: صوبت يا 
عمّ إبراهيم» فقلت له لم يُصِبْك أذى والذي أصابك هو حجر صغير من إحدى 
الصخور. 

كان على ظهر الباخرة التي أقلتنا من جدة إلى السويس بطريق عودتنا إلى 
دمشق أحد الإيرانيين واسمه حبيب الله خان وبعد السلام والمجاملة بالكلام عرفنا 
بشخصيته كوزير مفوّض لإيران لدى حكومة الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان؛ 
وكان من الناقمين على حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأخذ في انتقادها. 

كان المفوض الإيراني يتكلم بحماس وانفعال شديدين» فتصدّيت أنا وشقيقي 
ياسين له ودحضنا كل افتراءاته» وجاء في رد شقيقي ياسين عليه» أن ابن سعود 
اليوم هو استمرار لسلفه من النجديين الأوائل الذين نشروا دعوة الشيخ محمد في 
القرن الثاني عشر من الهجرة. وأن عبد العزيز ليِّن العريكة» ماضي العزمء يتبع 
الحكمة في جميع أعماله الداخلية منها والخارجية» وهو يقدّر الظروف التي 
أحاطت بجيرانه من البلدان العربية» التي يسيطر عليها النفوذ الأوروبي» ويتمتع 
بنفوذ قوي كبيرء ليس فقط في البلدان العربية» بل في الأقطار الإسلامية جميعهاء 
وله في نفوس ساكنيهاء احترام وتقديرء وكما تعلّم سعادتكمء أن الوطن العربي 
اليوم تطور تطورًا ملحوظًا ونفض عنه غبار الذل والمسكنة» وأخذ يدرس أوضاعه 
السياسية والاقتصادية والاجتماعية» درسًا دقيقًا وافيّاء وما أن وصل شقيقي بحديثه 
عند هذا الحدّء حتى حضر خادم الوزير المفوّض يدعوه لأمر يتعلق بعائلته؛ 
فانصرف دون أن يتفوّه بكلمة واحدة. 

في اليوم الثاني غيّر رأيه» ففي غرفة الطعام» أثناء تناولنا الغداء كان يجلس 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 161 





مع عائلته في أحد أركانهاء فما أن راآنا جالسين مع والدناء حتى نهض من مكانه 
تاركًا عائلته»ء وجلس إلى ماتدتناء وأخذ يعتذرء عمًّا صدر منه بالأمس تجاه دعوة 
الشيخ محمد والرجال الذين حملوا لواء دعوته» وكان بطريقة اعتذاره مؤدبًا جدًا 
فقال: إنني أثناء إقامتي في الحجاز لم أجتمع بأحد من الأفراد السعوديين» ولم 
أسمع من أحد عن حقيقة دعوة الشيخ محمد وعن حرص الملك عبد العزيز على 
توحيد شمل المسلمين؛ فإذا كنت قد تعدّيت العُرف بالأمس وأثقلت بالكلام؛ كان 
ذلك من آثار ما علق بذاكرتي من الدعاية الأجنبية غير الصحيحة. وبعد هذا أخذ 
حبيب الله خان الوزير المفوض الإيراني يلازمنا طيلة الرحلة؛ حتى وصلنا 
السويس ٠‏ 

أقمنا في القطر المصري يومين اثنين» حضرنا خلالهما بعض الاحتفالات التي 
أقامتها الحكومة المصرية للأمير سعود بن عبد العزيز الذي دعته - كما أشرت من 
قبل - برئاسة الزعيم سعد زغلول؛» للكشف على عينيه من قِبَّل الأطباء المصريين» 
ثم توججهنا إلى دمشق» واستلم شقيقي ياسين عمله في قنصلية المملكة العربية 
السعودية فيها. 

دمشق المدينة التجارية العظيمة» الحبيبة إلىّ» والقريبة من قلبي» لقد دوّنت 
بمداد من الحب بين طياته» ونقشت على ضلوعه بأحرف من ود لا يمحوها 
اختلاف الدهر وهلي الأنا فهي ذكرى عهود الصبا والشباب. 

إنه ليخيّل إلى حينما أذكرهاء أنني لا أزال في عنفوان شبابي» أرتع في 
مروجها ورياضها ولقد ذكرتها وسأظلُ أذكرها دومًا ما دمت حيًا . 

إنها المدينة التي تذكرني بالعهود التي غمرتني بأريجها العطرء عهود الصبا 
والشباب كلما مرّ ذكراها بخاطريء أو طرَّقّ مسمعي, أو تراءت أمامي بجبلها 
الأشم قاسيون, أو منظر غوطتها الفتان» وأشجارها الوارفة الظلال الدانية القطوف 
الكاسية الرأس» العارية الساق» والمبعثرة أنهارها في أطرافها هنا وهناك تنساب 
في مجراها على مهل» أنهار تسقي الأرض فينبت الزرع» وتكتسي الأرض سندسًا 
أخضرء وتبدى شامخة الأنف غالية الرامن.. 

حمًا إنها جميلة كالجنة؛ كما سمّاهاء الشاعر بدوي الجبل» يوم أن كان 


162 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


الانتداب الفرنسي». جائمًا في ربوعهاء مهيمنًا على أرزاقهاء رابضًا بكل ثقله على 
أنفاس ساكنيها لم يِدَعُ لهم منفذًا واحدًّا يستنشقون منه نسمة عطرة من نسمات 
الحرية» ولا يرون شعاعًا من أشعتها الذهبية. 

دمشق المدينة التي يعاودني دومًا ذكرهاء ولِمَّء لا؟ أليست هي المدينة الأولى 
التي أبصرت فيها النور؟ وانتظمت في هذا الوجود؟ 

أليست هي المدينة التي ظللتني سماؤها ورواني ماؤها؟ وخذتى اترتبتها؟ 

إنه الحنين المتواصل» يلازمني أينما ذهبت» وحيثما أقمتء في المدن 
والقرى» في القصور الفخمة, أو في العشش المتواضعة» في الصحاري والقفارء في 
منابت الكل والأعشاب. أو في وسط الرمال الجرداءء إنه الحنين القوي لين 
الذي عناه الشاعر على لسان أحد الجنود الفرنسيين وهو في ساحة الحرب» مضرّج 
بدمائه ينفث ببطء أنفاسه الأخيرة» والظمأ أخذ منه مأخذه. حيث قال: 


يحنإليك يا وطني أواري فهل من نظرةتروي الأوارا 
أرى الأيام قد عبست بوجهي فهّبٌ لي من مباسمك افترارا 
ترى عيني هنايبسًا فهلًا تريهامن سهولكاخضررا؟ 
أحنٌ إلى الديار حنين طير 2 نأى عن عشهالزاهي وطارا 
ديار قدربيت بها صغيرًا أأنظر بعدهاتيك الديارا 


إلى الأوطان تستعراستعارا 


أجل لقد حافظ هذا الجندي الشجاعء على العهدء حتى الموت» وظلَّت نار 
الشوق للوطن مستعرة في فؤاده حتى لحظاته الأخيرة» لقد نسِي الأهل والولد 
وآخر ما تذكّر هو الوطن؛ فالوطن عزيزء ولا شيء يفوق عزَّته ومعزته. 

مكثت في دمشق شهرين كاملين وكانت أيامها ولياليها متعة الفؤادء ثم توجّهت 
إلى الحجاز فوجدت هناك السيد محمد النحاس الخبير المالي الذي عيّنه جلالة 
الملك عبد العزيز مساعدًا لوزير المالية الشيخ عبدالله السليمان قد ترك خدمة 
الملك. 

ينتسب السيد النحاس إلى الكتلة الوطنية في دمشق». وكانت تضم خيرة 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 163 





رجالات دمشق» وعندما يئس رجالها من تعيين السيد النحاس قنصلًا لدى الانتداب 
الفرنسي في دمشق» سعت سعيًا حثيئًا ليكون قريبًا من الملك عبد العزيز من كثرة 
السلا امس الموظفين في المملكة لتقوية صلة هذه الكتلة الوطنية بهذا البطل 
العظيم صاحب النفوذ القوي بالأوساط العربية والإسلامية والعالمية» وليكون لها 
النفوذ القوي لدى السوريين من جهة والاحترام من رجال الانتداب الفرنسي» 
ولكنها لم توفق في مسعاهاء فالسيد النحاس الذي كان ينتمي إلى أفرادهاء لم يعيّن 
قنصلًا في سورية» ولم يبّْقَ وقنًا طويلًا في المالية كمساعد للوزير. 


كان الملك عبد العزيزء غفر الله له وأسكنه فسيح جناته» يحترم الغرباء 
احترامًا زائدًا ويقدّرهم. ويعاملهم معاملة طيبة فيها كل نُبْلٍ وشهامة؛ يصغي بكل 
انتباه لأحاديثهم إليه» ويُغدِق عليهم الهبات». فتلك كانت عادته. والذين كانوا 
يطلبون منه الاستعانة بخبراتهم بإدارة شؤون الدولة ولم يكُنْ بحاجة إليهم أو لم 
يرغب في تعيينهم فلقد كان رحمه الله يردُهم بأدب ولطفيء ولم تكن خبرات 
الكثيرين من الأجانب تماثل مقدرة ابن سليمان فلقد كان الشيخ عبدالله بن سليمان 
وزير المالية» عند ابتداء الحكم السعودي في الحجاز. يشتري من التجار البضائع 
المتنوعة» لمدّة معينة» وبأثمان مرتفعة» فيحتفظ بما يحتاجه منها الملك. ثم يبيع 
الباقي إلى تجار آخرين» بثمن منخفض عمًا اشتراه» ويستلم ثمنها نقدّاء ليقوم بتلبية 
ما كان يطلبه جلالة الملك من النقودء فقد كانت خزائن الدولة أفرغ من فؤاد أم 
موسى» وكان شأن الشيخ عبدالله السليمان من هؤلاء التجار الذين يشتري بضائعهم 
ثم يبيعها إلى آخرين غيرهم - كالذي يأخذ طاقية هذا من على رأسه ويضعها على 
رأس تاجر آخمر - وكان هذا دأبه إلى أن صار للدولة وارد ثابت» وهكذا كان 
موقف عبدالله السليمان تجاه جلالة الملك عبد العزيز ممّا جعل عبد العزيز يثِقٌ به 
وثوقًا كاملا لا حَّ له. 

ممًا يُذكر عن الملك عبد العزيز أثناء وجود جلالته في بريدة هو وجنده أنه لم 
يكن لديه مال وفير لسداد ما يحتاج إليه من الطعام وما ينفقه من الهبات للقادمين 
إليه من وفود ومشايخ العربان للسلام على جلالتهء وفي هذه الأثناء أتت إليه قافلة 
كبيرة تحمل معها الأموال الطائلة. والزاد الوفيرء وكل ما كان يحتاجه طيب الله 


164 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


ثراه. فقال: هذا هو عمل ابن سليمان» إنني أثق بمقدرته وحرصه على تحقيق كل 
مالي 


إني سمعت من جلالته أثناء وجودي في مجلسه في صبيحة أحد الأيام قوله: 
عندما كنا في الرغامة محاصرين لمدينة جدة» لم يكن لدينا شيء من الطعام فأحضر 
عبدالله السليمان خبرًا يابِسَاء فأخذنا نبُلّه بالماء فنأكل منه أنا وهوء وكان طعامًا 
لذيذك لا :زلنا تشهر يلدت 

ليس من أحدء يتجاهل ما لجلالة الملك عبد العزيز» من شخصية محترمة 
ممتازة تُعتبر من أعظم الشخصيات في زمنه» وما له من سمعة طيبة» ونفوذ واسع. 
ليس فقط في الجزيرة العربية فحسب. بل في العالم الإسلامي بأسره. 

وتعدّاه حتى تغلغل في بعض أنحاء العالم العربي» إلى الأميركيتين» لقد 
عرفت عنه أنه كان جوادًا سخيّاء يبذل كل جهده لتوحيد كلمة العرب» وعزهم 
وسؤددهمء وأنه محافظ على عهوده ووعودهء إذا أخذها أو أعطاهاء وأنه حليم 
رحيم لرعيته تفوق رحمته رحمة الوالدين» وأنه كان يعفو عن المسيء إليه؛ لقد 
تجلت هذه الصفات الممتازة» في جلالته» وبجانب هذه الصفات الممتازة» فإنه 
كا ناد قمة وقكمفف ناذا احاظره ارهق الأمور لعفي كان يعوفتة فلن 
مستشاريه» وكثيرًا ما كان يأخذ برأيهم» إذا قرب من رأيه» وإِلّا رفضهء رفضًا بانًا. 

لقد كان في أشدٌ الحاجة» عندما وهب زكاة أهل الهفوف. عندما زاره أحد 
مشايخ عتيبة (ابن هندي) ذلك الرجل الشجاعء النافذ الكلمة لدى قومهء لقد جاء 
ابن هندي للسلام على جلالة الملك لينال من رفده وكرمهء وعاد إلى قومه جذلان 
فرحًاء فأنبأهم بالهبة الملكية» التي تكرّم بها جلالته؛ ومهما كانت هذه الهبة كثيرة 
أم قليلة» فإنها تنبىء عن معدن السخاء الذي في نفس جلالته» وعن طبائع بعض 
مشايخ العربان» إن لم تقل الكثير منهمء فهم يحترمون الحكام الذين يبذلون 
الأموال» ويقدّرونهم حق قدرهمء كانت هذه الهبة من جلالته إلى ابن هندي» يوم 
كان الخلاف ناشبًا بين عبد العزيز بن سعودء وبين خصمه اللدود عبد العزيز بن 
رشيد أمير منطقة حائل» وكان النزاع بينهما شرسًا وعلى أشدهء فبهذه الهبة» بقي 
ابن هندي وقومه إلى جانب عبد العزيز بن سعودء يقاتلون معه خصمه ابن رشيد. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 165 





بعد عودتنا من الحجاز إلى دمشق انتابني من جديد الضيق الشديد السابق 
وأصبحت دنيا الحياة الواسعة في نظري أضيق من سم الخياط. ولكن في هذه المرة 
أعتقد أنني أدركت سبب ضيقي وعرفت سر حسرتي وعزوفي عن الناس» فلقد كنت 
أبحث عن نفسي أريد أن أعرف من هو خليل الرواف» هل أنا تاجر من العقيللات؟ 
هل أريد فعلًا امتهان تجارة الإبل والمواشي كل حياتي؟ هل أتفرّغ لهذا العمل؟ أم 
أريد وظيفة حكومية مثل شقيقي محمد عيد وياسين» وها هي وظيفة عسكرية كبيرة 
تنتظرني عند الملك عبد العزيز؟ أم أريد التفرغ لقراءة علوم الدين والأدب والثقافة 
وتدوين التاريخ؟ أم أريد أن أبقى متنقلًا من مكان لآخر هربًا من الاستقرار؟ أم 
ماذا أريد لمستقبلي الذي لم أعثر فيه على بارقة أمل تبدّد هذا الغموض والالتباس؟ 
وذمَبَ بي التفكير شتى المذاهب واعترتني الظنون والأوهام من كل جانب فلم أَعُدْ 
أدري معها ماذا أفعل. وكيف يمكن لرجل مثلي بعد أن طوى ربيعه الثلاثين أن 
يقف لكي يسأل نفسه ماذا يريد من هذه الدنيا؟ ألم يأْتِ هذا السؤال متأخرًا بعض 
الشيء؟ ألم يفترض بي أن أعرف الإجابة عنه منذ مدة طويلة؟ 

من وسط هذا الظلام الدامس أطلَّت في حياتي إشراقة أمل غريبة. فلقد 
أدركت أنني لست بالتاجر ولا بالموظف وقرّرت أن أترك حياتي في طيات 
المغامرة. نعم هذا هو أنا إنني مغامر في هذه الحياة» أعيش حلوها ومرها. لقد 
كنت ولا أزال شابّاء أتطلع نحو الحياة الحرّة الكريمة» فلن أنظر إلى المستقبل» 
نظر الضعيف ولكنني سأقف وقفة الرجل رافع الرأس قوي الإرادة» أستقبل كل 
مفاجآت الدهر وتقلباته»ء بجأش قوي وعزم ثابت» فأقتحم الحياة» وأواكب سيرها 
بخطى وئيدة . 

لح اتمكن فتزة طويلة غلى مكوثي ف ماقو تحتو سائرت الوك الجكرمة؟ 
فلقد كنت حمًا رجل سفر ومغامرات. 

يحكى أن حاتمًا المشهور في كرمه» وحسن ضيافته» ضافه رجل فتعمّد إهماله 
فلم ينتبه إليه؛ وقد مكث هذا الرجل في ضيافته يومًا واحدّاء وفي اليوم الثاني 
استأذن من حاتم وقبل أن يذهبء عرف حاتم» وجهة سفرهء فذهب 0 
له في الطريق» وكان حاتمء ملئَّمًا لم يُبْدِ من وجهه غير عينيه؛ فسأله حاتم: من 


166 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





أين أنت قادم يا أخا العرب؟ فأجابه الرجل بقوله: أتيت من عند الرجل الكريم 
حاتم الطائي» وقد مكثت لديه يومًا واحدّاء وودثٌ لو طالت إقامتي عذّة أيام» لِما 
لقيته من كرمء وحسن ضيافة» فقال له حاتم: ويلك يا هذكء إننى أنا حاتم» وأماط 
اللثام عن وجههء فقال له الرجل: يا حاتمء لا يأخذك العجب. إذا قلت: إن 
حاتمًا لم يكرمني. لا يصدّقني أحد من الناس» لأن حاتمّاء أخذت شهرته فى 
الكرم مأخدًا لم يسبقه إليه أحد من قبله» وأردف قائلا ولكن بربك أخبرني؛ ما 
الذي حملك على القيام بهذا العمل؟ فقال حاتم: أحببتٌ أن أعرف ماذا يقول 
الناس عنى .2 فارجع معي » وستلقى إكرامك» وحسن وفادتك. 

لقد كان هذا الرجل مرائيّاء وليس لديه الجرأة الكافية» ليقول الصدق. إنه 
كان يخشى الناس الذين يعلمون أن حاتمًا كريمّاء فإذا قال غير هذا لم يصدقوه. 
أمّا أنا فلست مرائيًا ولا كاذبّاء ولا أخاف إن صدّقني الناس أم لم يصدقونيء إذ 
إننى لست مبالعًا ولا مفتريّاء لأننى أكتب الحقيقة التى شهدتها ووقفت على ما بها 
من خير وشرء وقد عاهدت نفسي ألا أدرّن في كتابي هذا إِلَّا الحقيقة الناصعة؛ ولا 
تطاوعنى نفسى أن أكتب غير هذاء فأنا الآن قد وضعت قدمى على حافة القبر» ولا 
أدري هل أتمّم كتابة هذه الذكريات أم تزلٌ بي القدم» فيطويني تراب هذه الأرض 
التي نشأت على ظهرها وتجؤّلت في ربوعها. 

إنني أكنُ احترامًا كبيرًا وتقديرًا عظيمًا لِما قام به الملك عبد العزيز من 
الأعمال الجسام في الجزيرة العربية حيث أمَّن سبلهاء ووحّد أبناءهاء وجمع 
كلمتهم. وقضى على المنازعات فيما بينهم») وحسم خصوماتهم» وأوقف كل 
امرىء منهم عند حدّه دون اعتداء أو قتال» وربط بينهم برباط محكم متين من 
التوحيد. وإذا أمعنت النظر في سلوكياته وجدته الرجل الكريم والقائد الملهم 
العظيم. ولكم ودّدْت لو أن الله أبقاه وأطال عمره سئين عديدة» ليرى ما وصلت 
إليه مملكته الفتية التي أقام دعائم العدل في أنحائهاء وليمتّع نظره الثاقب فيما هي 
عليه اليوم من التقدم والازدهار فى كافة نواحى الحياة. 

إن ما أكتبه على هذه الصفحات البيضاء عن هذا الرجل العبقري الممتاز ليست 
صادرة إِلَا عن نفس مطمئنة. ولست مبالعًا فيما أقول» ولكنها الحقيقة الصادقة التي 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 167 





ملت عليٌ ما كتبتهء وكنت بعيدًا كل البعد عن التفكير بالمادة التي ينظر إليها كل مَن 
طرق هذا السبيل» لقد دونتها وكلّي فخر واعتزاز بما قام به من الأعمال الجسام في 
سبيل تقدّم هذه البلاد وازدهارها ورفع مكانتها عالية فى سماء هذا الكوكب الأرضي . 


عزم الملك على زيارة المدينة المنورة» وكانت هذه أول زيارة يقوم بها لها 
بعد فتحهاء ودُعيتٌ لمرافقة جلالته» وكان ينقل الملك وحاشيته ثماني عشرة سيارة 
فقطء لم يكن غيرها في المملكة. وكان ذلك في أوائل سنة 5ه (1927م). 
وكان سائق سيارة الملك هنديًا ميكانيكيًا يدعى صديق» وهو الميكانيكي الوحيدء 
فى هذه القافلة» وإذا تعظلت إحدى السيارات وقفت سيارة الملك وأخذ سائقه 
الهندي ليقوم بإصلاح ما عطل وكان الطريق وعرًا غير معبّدء وكثيرًا ما كان جلالة 
الملك يضطر للسير خلف السيارات الثماني عشرة ولكن كان يومها متعبًا من غبار 
السيارات التي كانت تتركه وراءهاء لقد كانت أشبه بزوابع رملية ثائرة» وكأني 
أشاهده الآن وهو متلثّم لم ير من وجهه غير مناظره التي تحفظ عينيه من وهج 
الشمس وزوابع الغبار» ووصلنا مدينة رسول الله كك بعد تعب السفر ومشقّته 
ولكنها كانت رحلة جميلة أتاحت لي فرصة الاطلاع على اهتمام الملك عبد العزيز 
بمرافقيه وحرصه على راحتهم . 

عندما استسلمت حامية المدينة نودي بالأمير محمد بن عبد العزيز أميرًا عليهاء 
وعيّن مشاري بن جلوي نائبًا له. وممًا يُحكى عن مشاري» صرامته في الحكم 
وحزمه فيما عهد إليه؛ حيث لم يهمل أمرًا من أمور الحكم» وكان ينجز كل أمور 
إمارته بسرعة» وقد اشتهر بإقامة حدود الشريعة» فالقاتل كان يُقتل والسارق تُقطع 
يده؛ وشارب الخمر يُجلّدء والزاني يُقام عليه الحدّ. 

هناك قصّة مشهورة أثناء إمارته في المدينة المنورة» حيث تعرّض بعض 
الأعراب لسيارة قادمة من جدةء وكانت وجهتها المدينة المنورة فجرّدوا الركّاب 
ممًا كان بحوزتهم من المتاع والمال؛ بعد أن وضعوا الأحجار أمامها فتوقفت عن 
السير؛ فما كان من الأمير مشاري بن جلوي إلا أن أرسل جنوده.ء فتتبّعوا آثارهم 
وأخبارهم. حتى عثروا عليهم» فساقوهم إلى المدينة المنورة» للحكم عليهم من 
قبل الشرع. فأمرٌ بجَلدهم وحبسهمء وكتب لجلالة الملك بشأنهم» وبما فعلوه مع 


168 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 





الركاب وبما حكم به الشرع عليهمء وكان فيما كتبه قوله: إننا في بلاد اعتاد أهلها 
على السلب والنهبء وإني أستسمح الإذن بالقضاء على حياتهم» ليكونوا عبرة 
لغيرهم» لنوقف السالبين والناهبين عند حدّهم «وَكك ف الْقِصَاصٍ َيه يولي 
الذَبِ74" فأجابه الملك إذا كنت تعتقد ذلك فافعل ما تشاء بهم حفطًا للأمن 
ولجلاي النساسة. 

فأمر مشاري بقتل ثلاثة منهم وتعليق جثثهم على أشجار السدرء المنتشرة على 
الطريق قريبًا من مكان الحادث الذي فعلوه؛ وتُركت هذه الجئث خمسة أيام وهي 
معلقة : الآمر اللآئ وجلت عنه قلوت الأعرات المنتشرين بين المدينة المثورة 
ومدينة جدة» وبعد هذا الحادث كان إذا رأى أهل البادية سيارة تسير في طريقها 
ذاهبة أو قادمة بين جدة والمدينة المنورة» فرّوا من أمامهاء وولُوا الأدبار خوفًا من 
معاقبة أمير المدينة» لذلك حفظ الأمن بسرعة فائقة» واطمأن الناس على أموالهم 
وأرواحهم». بعد أن كانت تمل دين وقضى على الغزاة وعلى اللصوص. 

كثْرّت الوفود القادمة إلى مدينة الرسول محمد يكل من عربان بادية الحجاز 
وأطراف نجد للصلاة في المسجد النبوي والسلام على الرسول محمد يك وتقديم 
التحية والطاعة والسلام للملك عبد العزيزء وكان يستقبلهم بما عهِد فيه من لطف. 
وعطف. ويمذهم بالعطاياء ويُغْدِق عليهم الهبات. 

كنت ترى جماعات الإخوان بعمائمهم البيضاءء وملابسهم الفضفاضة. 
يسيرون زرافات زرافات وصفوفًا صفوفًا متلاصقة» ولقد ذهبت عصر يوم برفقة 
شكري القوتلي وصبري العسلي اللذين قَدِما من سوريا مرورًا بالقطر المصري. 
للسلام على إمام المسلمين الملك عبد العزيز والتحدّث معه بشأن الثورة السورية» 
وكان بصحبتهم خالد الحكيمء الذي صار فيما بعدء من مستشاري الإمام 
عبد العزيزء والتقينا بجمعات من الإخوان وكانوا متوجّهين للسلام على الملك. 


وذّع شكري القوتلي ورفيقه صبري العسلي جلالة الملك». وأخذا منه وعذّاء 
تمد نيد المعوية الهادية والمتكونة. 


(1) سورة البقرة» الآية: 179. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 169 





وكان من الأسباب التي قَدِمَ شكري القوتلي من أجلها إلى الحجاز لمقابلة 
الملك عبد العزيز هي مدٌّه بقوة سعودية لمحاربة الفرنسيين في سورية» ولكن الإمام 
عبد العزيز اعتذر عن مده بقوة سعودية» إنما أعطاه وعدًا بمذٌ يدِ المعونة المادية 
والمعنوية» للثورة السورية» وقد جرى حديث مطوّل بين الملك وشكري بشأن 
الثورة السورية» ودَّع شكري القوتلي كما ذكرت ورفيقاه» خالد الحكيم وصبري 
العسليء جلالة الملك عبد العزيز وقدم الشيخ عبدالله بن سليمان وزير المالية 
خمسمائة جنيه استرليني ذهبًا إلى شكري القوتلي» فقال له شكري إذا كانت هذه 
الهبة خاصة لي فإني لست بحاجة إليهاء وإذا كانت لمساعدة الثوارء فبإمكانكم 
تسليمها إلى الأخ صبري العسلي»ء وهكذا استلم العسلي هذا المبلغ وأنفقه على 
إخوانه المجاهدين اللاجئين بالقطر المصري. 

أثناء إقامة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة» حضر المفوض البريطاني» 
المستر (جوردان) وأقام في وادي العقيق خارج المدينة» والمعروف عن (جوردان) 
هذا أنه كان عنيدًا عصبي المزاج» ويختلف عن جماعته البريطانيين المعروفين 
بهدوئهم ورزانتهم» ولست أدري كيف اعتمدت الخارجية البريطانية هذا العصبيّ 
العنيد» باوص امام ييل العرين وهي تعلم عناده وعصبيته؛ خاصّة في مثل تلك 
المفاوضات التي كانت تتطلّب من القائمين بها الهدوء والحكمة والرزانة وبُعد النظر. 

لقد كان عرد اورجه النظرة اع الافي» مرن السياسة» كان أول نشأته 
لا يمت حكمه إلا على الرياض فقط. فما انفكٌ يجاهد ويُجالد ويقضى على أعدائه 
الواحد تلو الآخر حتى امتدَّ حكمه وتوسّع وعَمّ نجدًا كلها اشيج جميعةء 
وعسيرًا برمتهاء وبعض مناطق الخليج» وقضى على منازعات القبائل» وعلى ما 
كان لها من القوة والسيطرة في أنحاء الجزيرة العربية» وأمن الناس على أموالهم 
وأرواحهم وتربّع على عرش الجزيرة. فوطّد الحُكم. وجمّع الشمل» ووححد الكلمة 
وفق تعاليم الشريعة الإسلامية التي حكمت بين الناس بالعدل» فأنصفت المظلوم 
وردّت إليه ظلامته وبذلك أراح الناس» واستراح. 

ما أن استتبٌ له الحكم في داخل مُلكه حتى تطلّع إلى الخارج لتنعم البلاد 
وينشط الاقتصادء ويعمّ الرخاء في أنحاء المملكة» ففارق هذه الحياة ناعم البال 
مطمئن القلب, تاركًا هذا المُلك العظيم الذي اعتنى بتأسيسه اعتناء كاملاء لذريته 


10 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 





الكريمة» وها هم سائرون به على منهج من أسسهء خطوة خطوة» لم يهملوا أيّ 
خظّة من خططه » بل عيلوا وزادوا وأنشأواء وها هي البلاد يزداد دخلهاء وتتوسّع 
في بناء ما يتطلبه اقتصادها من توسيع الموانىء البحرية» وتأسيس المنشآت بهاء 
وإنشاء المطارات وتمديد رقعتهاء واهتمام أولي الأمر بالعلم والتعليم فأنشئت 
الجامعات والكليات في غرب البلاد وشرقها فانتظم فيها شباب البلاد وفتيانها 
وأرسلوا البعرث لتنهل من العلم على اختلاف فروعهء ومنشآته. إن عشرات 
الآلاف من الفتيان السعوديين طلبة العلم موزعون في أوروبا وأميركاء وأقيمت 
المدارس. وفتحت أبوابهاء فوَلّحَ فيها النشء الجديدء يتلقّى فيها من العلم ما يفيده 
ليصبح رجلا ينظر في مصلحته ومصلحة وطنه وبلاده» وأسست جيشًا قويًا يحمي 
البلادء يهابه الأعداء» وطرحت المشاريع لشقّ طرق المواصلات بين المدن 
والقرى» وإنشاء العديد من المستشفيات» وإقامة السدودء وتنظيم البلاد» وبناء 
المصالح الحكومية» وما يتطلبه مركزها القيادي في الصالح العام للعرب والإسلام. 

يعمل حكامها على توطيد أواصر الجوار والأخوة مع البلدان العربية 
والإسلامية» ومع الحكومات المتّبعة للتعاليم السماوية في العالم أجمع؛ وكما كان 
يفعل والدهم منشىء هذا الوطن ومؤسّسهء وهم صرحاء بكل ما تعنيه هذه الكلمة 
من الصراحة» فلا غش. ولا خداعء ولا نفاق لديهم» يمشون بخطى وطيدة ثابتة 
وسط المجموعة البشرية» التي يحترمونها جميعًا وتبادلهم هذا الإجلال والاحترام. 

أعود بعد هذا الاستطراد لأبيّن أن المفاوض البريطاني المستر (جوردان) لم 
يوفق في مفاوضاته مع حكومة الملك عبد العزيزء فلقد كان في غاية الغباوة 
والجهل. لا سيما عندما تكلم بأمور خارجة عن صلاحيته؛ فرفضت الحكومة 
التفاوض معه» وعاد بحُفيَ نين . 

كان يرافق المستر (جوردان) سكرتيره الهندي المسلم» وكان يخفض رأسه 
عند دخوله على الملك عبد العزيز وتكاد هامته أن تلمس الأرض» من شدَة 
انحنائه» فقال له الملك عبد العزيز رحمه الله إِنْ التذلل والخشوع لله وحدهء ارفع 
رأسك وعدّل قامتك فأنا بشرٌ مثلك. فمن طبائع عبد العزيز رحمه الله كُرهه لمّن 
يتذلّل لغير الله» سواء أكان من أعدائته أو من أصدقائه ومعارفه. 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 11 





كان من عادة جلالته أن يقضي الفسحة اليومية بعد صلاة العصرء هو وحاشيته 
خارج البلدة المقيم فيهاء وقد اتَّبع أكثر أنجاله الأمراء هذه العادة المحيّبة لديهم. 
وفى المديئة المنورة كان في عصر كل يوم يمارس هذه العادة المحبّبة إليه» ويجدٌ 
فى هذه الفسحة راحة له. فكان يصطحب مرافقيه وضيوفه ويتحدّث إليهم ويداعبهم 
وكنت أحضر هذا المجلس كل يوم. 

ذهب جلالته في عصر أحد الأيام إلى مكان قريب من قصر عمرو بن العاص 
القريب من المدينة» وأحبٌ أن يداعب أحد موظفيه وهو الشيخ يوسف ياسين» 
وكان الشيخ لا يرغب أن تؤْحَذ له صورة فوتوغرافية» فأمّر الملك أحد الحضور 
ليأخذ له صورة فأبى يوسف ذلكء فألحّ عليه الملك فلم يمتثل لأوامره. وقال: إن 
هذا منكر لا أحبٌ أن أقترب منهء وكان يوسف من المتشددين الذين يرون أن 
الصورة غير مستحبة دينيّاء فقام الملك والابتسامة طافح بها وجهه. وأمسك يوسف 
بكلتا يديه فبدا كعصفور بين يدي باشق وأخذت صورة ليوسف. 

غادر الملك عبد العزيز المدينة المنورة» ضحى يوم الأربعاء» وعدتٌ بعد أن 
ودّعته لمنزلي» ثم توجّجهت برفقة السيد شكري القوّتلي» ورفيقيه خالد الحكيم 
وصبري العسلي إلى المسجد النبوي للصلاة فيه» ثم لزيارة الحبيب العظيم رسول الله 
سيدنا محمد يِه وصاحبيه أبي بكر وعمر بن الخطابء تَتيهاء واستقبلنا القبلة» 
ومكثنا بضع دقائق» ندعو الله تعالى أن يعيد إلى الأمة العربية سالف مجدها الغابر 
وعرَّها الدائثر. 

لم نمكث بعدها طويلًا في مدينة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم. 
ففي اليوم الثاني من مغادرة الملك للمدينة المنورة» دُعيت من قبل نائب أمير 
المدينة المنورة مشاري بن جلوي لأكون برفقة السيد شكري القوتلي» ورفيقيه للسفر 
إلى جدة حيث خصّص للجميع سيارتان لتنقلانهم إلى جدةء وحاولت ألا أزعج 
شكري ورفيقيه بالسيارة التي تقلّهمء ورغبت أن أكون في السيارة الثانية» فأبوا 
الإصغاء إلي. وهكذا أقلتنا سيارة واحدة. وتركنا السيارة الثانية تحمل أمتعتنا . 

غادرنا المدينة صباح يوم الخميس وكان الجو لطيمًاء وفصل الخريف لا يزال 
ينقل إلينا نسماته اللطيفة المنعشة. 


12 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





وكان الطريق وعرًا لم يمهّد بعد» وتوقفت إحدى السيارتين وغرزت دواليبها 
في الرمال» فلم نستطع نشلها من الرمال الكثيفة» فانتظرنا برهة وجيزة لاستعادة 
قواناء فتراءى لنا عن بُعد ثلاثة أشخاصء قادمين إليناء فما أن قربوا منا وصاروا 
على بعد مائة متر حتى تجنّبوا الطريق وابتعدوا عنا فناديناهم» فلم يلبوا نداءناء 
فذهب سائق السيارة إليهم قاتلا لهم: نحن ضيوف جلالة الملك ونأمل مساعدتنا 
في إخراج السيارة» فأجاب أحدهم لسنا قليلي المروءة ولكنّا نخاف أن يعلم أمير 
المدينة ابن جلويء أننا وقفنا عند سيارات الأجانب فيُعاقبنا . 

هكذا مكثنا بضع ساعات نحاول إخراجها إلى أن أعاننا الله فأخرجناها 
وواصلنا السيرء وصبيحة اليوم الثاني وصلنا جدة وواصلنا السير إلى مكة المكرمة 
للسعي والطواف ولصلاة الجمعة في الحرم المكي . 

وصلت مكة المكرمة وأنا خالي الوفاض إِلَا من جنيهين اثنين كانا يتراقصان 
في جيبي ولم يكونا يكفيان لثمن تذكرة الباخرة حتى ولو في الدرجة الثالثة» حاولت 
سؤال بعض التجار من معارفي لمدَّي ببعض المال وأرسله إليهم بعد وصولي 
دمشق» ولكنني فضّلت سؤال عبدالله السليمان وزير المالية» لأسباب كثيرة لا محل 
لذكرهاء ومن دون تردّد حقّق الشيخ عبدالله السليمان مطلبي ولا أعلم حتى هذه 
الساعة هل تلقّى أوامر من جلالة الملك أن يدفع لي المبلغ الذي استلمته منه أو أنه 
قام بهذا من تلقاء نفسه. فقد دفع لي خمسين جنيهًا ذهبّاء وأمر لي بتذكرة ركوب 
في إحدى البواخر الخديوية وفي الدرجة الأولى» وودّعني قائلا: سلم على 
إخوانك» ثم ذهبنا إلى جدة عروس البحر الأحمر. 

جدة هي الباب الأول للدخول إلى مكة المكرمة من الجهة الغربية من الطريق 
البحري حيث البيت العتيق وكعبته المشرفة المطهّرة» إنه أول بيت وضع للناس؛ 
شرّف الله به العرب» بجعله قبلة لكافة المسلمين يتوجهون إليه بقلوبهم النقية 
الطاهرة خمس مرات في اليوم والليلة» يقفون بين يدي الله خاشعين وضارعين 
يتلون آياته طالبين منه سبحانه وتعالى العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا 
والآخرة. 

كان ذلك في يوم جمعة والأعلام السعودية ترفرف فوق الأبنية والمصالح 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 113 





الحكومية وعلى شرفات جدة» وفي أرجائهاء وقد نقش على سطحها كلمة 
التوحيدء «لا إله إلا الله محمد رسول الله»» تعلو السيف الذي يجمعها وتوحي 
للناظر إليها بالطمأنينة وقوة العقيدة» فهذه الجملة العظيمة هي التي وححدت بين 
قلوب المؤمنين على اختلاف ألوانهم وألسنتهم» وصهرتهم في بوتقة واحدة لا 
يعبدون إِلَا الله ولا ينَخذون من دونه وليّا ولا نصيرًا. إن عَلَّم البلاد بلونيه الأخضر 
والأبييض يمثّل العرب بكل شمائلهم : الشجاعة. والكرم والرجولة وحفظ العهد 
والوعد من عاداتهم وأخلاقهم والسماحة ولين العريكة» والإنسانية والرحمة» وكلها 
معان تجري في عروقهم وتنساب في دمائهم سواء كان ذلك في سلمهم أم في 
حربهم ذلك أنه (ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب) كما قال واعترف من لا 
يعسن إل ومن لا يعتقد معتقدهمء وأعني بذلك الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون 
فكل هذه الصفات الطيبة» في صفائح العرب البيضاء النقية من كل شائبة. 


كانت مدينة جدّة ببياض أبنيتهاء والأعلام السعودية باخضرارها مع أديم 
السماء وصفاء زرقة الماء لوحة رائعة» وكان لهذه الألوان التي امتزجت وقعٌ حسن 
في نفوسنا إنه لمنظر باهرء رائع وجميل» ولا تزال ذكرى تلك الأيام ومناظر جدة 
الفاتنة عروس البحر الأحمر مدوّنة بالذاكرة لا يمحوها تعاقّب الأيام ولا كرٌ 
العصور. 


مرة ثانية اجتمعتٌ بالسيد شكري القوتلي ورفيقه صبري العسلي. لقد كانت 
غرفتاهما بجانب غرفتي على الباخرة الخديوية (الطائف).» ولقد أنِست بصحبتهماء 
وكانا خير رفيق في سفرنا هذا نتداول أطراف الحديث في شتى المواضيعء؛ وكان 
السيد القوتلي يحدّئنا عن أيام صباه ودراسته ويقصٌّ علينا ما كان يلقاه هو ورفاقه 
من قساوة المعلمين الأتراك وسلوكهم في المدرسة وعدم إنصافهم لصغار الطلاب 
رفاقه من التلاميذ الذين كانوا ينظرون إليه باحترام زاتدء ويقدرون آراءه وأفكاره. 
وكانوا يلقبونه بالزعيم بالرغم من وجود من هو أكبر منه سنًا بينهم. وكان لا يفوته 
في بعض الأحيان الئّناء على الملك عبد العزيز بن سعود ويرى فيه الزعامة الحقيقية 
التي تخوّله أن يكون منقِذ العرب من سيطرة الأمم لما انّصف به من اللباقة السياسية 
والحكمة والرأي الصائب وكان مما قاله: لقد وححد الجزيرة العربية وقضى على 


114 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





الاضطرابات التي كانت تهرٌ مضاجع سكانها في مدنها وقراهاء لقد كان حبل 
الأمن مضطريًا فالقوي يقضي على الضعيف. فإن لم يقْضٍ عليه يستغله. ويوجّهه 
حيث شاءء وها هو اليوم أمّن المملكة المترامية الأطراف من البحر الأحمر حتى 
الخليج العربي» ومن الخليج العربي حتى مشارف سورية والعراق والأردن والتي 
هي تحت السيطرة البريطانية» ولولا هذه القوة الأوروبية التي قهرت الجيوش 
الألمانية والتركية والطليانية في الحرب العالمية الأولى لكانت هذه البلاد اليوم 
تحت حكمهء ولا بد لهذه البلدان أن تنال استقلالها يومًا ماء قَرّبَ هذا اليوم أم 
بَعْد ولا بد لها تحت ظروفها الحاضرة أن تتّحد وتتوحدء فعسى الأيام القادمة 
تَحقق أمالنا: 

قبل وصولنا إلى مدينة السويس بيوم وبعض يوم» هاج البحر. وعلّت أمواجه 
وطالت ثورته واشتدّت» وكانت أمواجه الصاخبة المتلاطمة» تمثل معركة حربية 
حَمِي وطيسها واشتدٌ لهيبهاء وكانت الباخرة بين هذه الأمواج تميد بنا كالشارب 
الثمل» وتترنح يميئًا وشمالاء ثم ترتفع حتى كدنا أن نطاول السماء» وتنخفض 
حتى نكاد أن نلمس قاع البحرء ونلتقط منه الأسماك. 

إِنَّ هياج البحر وتلاطم أمواجه وشدّة ثورته» قد هيّح أعصاب السيد القوتلي؛ 
ولكنه لم يتأثّر كبقية ركاب الباخرة من تصادم الأمواج وزمجرة الرياح» فكنتٌ أراه 
يتنقل في ممرّات السفينة وبين حجراتها يذرعها بخطاه الواسعة ذهابًا وإيابًا. وآخر 
مرة رأيته يصعد سلالم الطابق العلوي للسفينة» وبعدها لم أتحمّل اضطراب السفينة 
وأصابني كما أصاب العديد من الركّاب دوار شديد فلزمت غرفتي» إلى أن وصلنا 
مدينة السويس. ْ 

توججه السيدان شكري القوتلي وصبري العسلي إلى القاهرة» أما أنا فلقد أقمت 
في السويس يومًا واحدّاء أسترجع قوايء مما أصابني أثناء هياج البحر وثورته» ثم 
واضئلت الهفربالتطاريمن السوين ال تمشق:. 

أقمت بدمشق شهرين من دون عمل إلى أن أقبل موسم الحج فانَّخِذّت 
القنصلية في دمشق مكتبًا لها في بيروت وكلمّتني بالاهتمام بشؤون الحجاج القادمين 
لأداء فريضة الحج من العراق ومن البلدان التركية. 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 175 





الفصل السادس 





تجارة قي معان ورحلة إلى نجد 


الحياة لذيذة ممتعة مملوءة بالمفاجآت الطيبة» كما أنها مزعجة ومحاطة 
بشوائب كثيرة تجري وراء أهداف وغايات مرسومة لهاء تُخالف أهدافنا وغاياتنا. 
فهى وآمالنا وأحلامنا على طرفي نقيض» تقدر وتخلف الأقدار» فلا يمكن للمرء أن 
عاذ عراخليا راع زمدوء رامن واطسان» هالو يجاريها فى ميرلهاوافوانيا 
ويواكبها في سيرها . 

بعد انتهاء موسم الحج والعمل المؤقت الذي قمتٌ به لحساب القنصلية في 
يروث شافرت إلى معان في الأردن ووجدت نفسي دون تفكير طويل أعود ثانية 
لممارسة التجارة. ووفّقت في تجارتي حتى غدوت وكيا للتجار النجديين» أهتم 

بشؤونهم» وأقو ويد السرم عر مرا فيوس اتن ابر وتو اكاك من التجسا رامن 
كل نتف ل ان روك لشي د ببيعهاء وكنتٌ أقوم بهذا العمل بكل إخلاص فأرسل 
لهم أثمانهاء حسب طلبهمء 00 كانوا يحتاجونه من البضائع 
المتنوعة. وكان هناك محل تجاري آخر لأحد النجديين في معان في ذلك الوقت 
هو محل الشيخ ناصر الإبراهيم العساف وكان يعمل معه في هذا المحل الأستاذ 
محمد البساتنة من دمشق 

كان تعداد سكان مدينة معان لا يتجاوز الألفين من السكانء تمر بها القبائل 
الأردنية أثناء تجوالهاء أما الآن فقد تضاعف العدد حتى بلغ الخمسة آلاف نسمة» 
وذلك لأن الأخطار الناجمة عن ظروف الثورة السورية قد دفعت تجار العقيلات 
الذين كانوا يتاجرون مع سوريا إلى تحويل تجارتهم إلى فلسطين ومصر مارين 
بمدينة معان. وكان خط الحجاز الحديد ينتهي في ذلك الوقت بمدينة معان بسبب 
الدمار الذي لحق به أثناء الحرب العالمية الأولى. وكان هناك قطار يأتي من دمشق 


116 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





إلى عمان يوميّاء وكان هذا القطار يُكمل رحلته إلى معان في أحد أيام الأسبوع 
فقط. 

كان حاكم معان الإداري يكره النجديين ويتعمّد الإساءة بالرغم من حاجة بلده 
لتجارتهم. ولعله أراد بهذا إرضاء أمير الأردن عبدالله بن الحسين الذي كان فى 
ذلك الوقت يناصب العداء للسعودية. ولقد حاول السيد التل مضايقتى فى عدَه 
مناسبات» ثم عدَّلَ عن موقفه هذا بعد أن تصدّيت له بقوة وحزم. 

كان يُرابط في الجهة الجنوبية من مدينة معان معسكر بريطاني من مخلّفان 
الحرب العالمية الأولى أنيط به حفظ الأمن بالمنطقة كلها وكان يضم عددًا من 
أهالي معان منهم الملتزم بإعاشات الخيل ومنهم من ينقل إلى رؤسائه أخبار الحضر 
وأهل البادية لتنقل إلى مدير الاستخبارات البريطاني المستر (أسترنج) الذي كان 
أيضًا على اتصال دائم بالمواطنين من سكان مدينة معان» ومن أهالي مدينة العقبة, 
كما ضمّ هذا المعسكر بعض المرتزقة من الأوطان العربية الأخرى. 

كان الشريف عبدالله بن الحسين بن علي أميرًا على شرقي الأردن لم يتوّج بعد 
ملكا عليها يعيش عيشة متواضعة بعيدة كل البعد عن أبّهة الإمارة وجلالهاء ويتقاضى 
راتبًا زهيدًا من البريطانيين مقداره ألفا جنيه إسترليني كل شهرء إلى جانب ما تترك له 
مما تتقاضاه الحكومة الأردنية من الجمارك والضرائب» وكان هذا المبلغ البسيط لا 
يفي بمطالبه وحاجاته. لذا كان يضطرٌ أحيانًا إلى اللجوء إلى التجار فيستدين منهم. 
وأول مرة زرثُ فيها الأمير عبدالله كانت على إثر حادث الزلزال الذي عمّ شرقي 
الأردن وفلسطين سنة 1346ه (1927م): وكان ضرره فادحًا في مدينة نابلس» حتى 
أن قصر رغدان مقر الأمير عبدالله لم يسلّم من هذا الزلزال» لقد تصدّعت جدرانه 
فنصبت لسموه خيام بجانب القصر يجلس فيها ويقابل زواره ويتناول الطعام مع 
حاشيته وضيوفه فى بعض الأحيان وينَّخْذ منها منامًا له. 

أدخلني مدير التشريفات إلى إحدى هذه الخيام وكانت لاصقة بالخيمة التي 
يجلس فيها الأميرء وباستطاعة الجالس في خيمة الانتظار أن يسمع الأحاديث التي 
تدور في خيمة سمؤهء وبعد ربع ساعة من انتظاري أَذِنَ لي بالدخول على سموه؛ 
وكان يضم مجلسه كلّا من الشريف شاكر بن زيد والشيخ فؤاد الخطيب شاعر الثورة 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 177 


العربية الكبرى» والشيخ مثقال الفائز والشيخ الشنقيطي الذي أصبح فيما بعد سفيرًا 
للأردن بالسعودية والذي أقام في المدينة المنورة بعد تقاعده عن العمل . 

بعد أن قمت بالتحية الإسلامية بادرت سموّه بقولي: لقد أتيت لبلاطكم 
ونشرّفت بمقابلتكم لأرفع لسموّكم تهانيّ الحارة على سلامتكم من حادث الزلزال» 
ولأشكو لسموكم ظلامة التجار النجديين الذين يمرّون بشرقي الأردن في طريقهم 
إلى فلسطين والقطر المصريء. من موظفي الرسوم الجمركية في مدينة معان» إنهم 
يتقاضون رسومًا باهظة على مواشيهم, الأمر الذي قد يحملهم على التوجّه إلى 
مناطق أخرى إذا لم تخمّف الرسومء فأتيت مسترحمًا سموّكم إنصافهم لتخفيف هذه 
الرسوم لئلا يصيب تجار معان الضررء وتشل حركة تجارتهم. فقال سموه: سننظر 
فى الأمر إن شاء الله» ثم استأذنتٌ بالانصراف» فقال: لك ذلك بعد أن تتناول 
لاه لقراء معنا 





أثناء تناولنا طعام الغداء أفاض سموه بحديث طويل عن البلدان العربية 
وحكامهاء ولم يترك شاردة ولا واردة إلا أتى على ذكرهاء وتطرّق بحديثه إلى شتّى 
المواضيع» فذْكَرَ جهاد أبيه الحسين بن علي في تعزيز كلمة العرب ونصرتهم» ورفع 
شأنهم وأنه قام بمفرده وأعلن الثورة على الأتراك الذين أخضعوا العرب لسيطرتهم 
ولم يقيموا لهم وزناء ثم ذكر الإمارات القائمة على الخليج العربي» ومنها 
الكويت» وأتى على ذكر زعماء سورية» ثم القطر المصري ومليكه فؤاد. 

أما عن أخيه فيصل ملك العراق فقال عنه: إنه غدا بين أيدي البريطانيين 
كأحجار الشطرنج» ينقلونه من مكان لآخرء كان ملكا 2 سورية فحاربه 
الفرنسيون وطردوه منها وذهب عنها خائهًا ترتعد فرائصه» وبعدها عينوه ملكا على 
العراق فكان بعمله هذا أن ضيّع عرشًا واغتصب عرشاء ضيع عرش سورية 
واغتصب مني عرش العراق» لقد رُشّحت من قبل العراقيين على أن أكون ملكا 
عليهم؛ وفيصل اليوم على طرفي نقيض في السياسة مع العراقيين» فهم يلحون عليه 
بعقد معاهدة يذكر فيها كلمة الاستقلال» ليسترجعوا فيها بعض حريّاتهم المسلوية 
وحقوقهم المهدورة. والبريطانيون يَعِدونه ثم يماطلونه» ولم يتمكن حتى الآن من 


18 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





تحقيق مطالب العراقيين» وبقي متربعًا على عرش العراق محرومًا من التقدير 
والاحترام» فللا سلطة له فهو والحالة هذه كما وصفه الشاعر العراقى معروف 
الرصافى حيث قال: يعدد أيامًا ويقبض راتبًا. 

أما اليمن وإمارة الإمام يحيى حميد الدين فليس له من الأمر شيء » فهو منزو 
في عقر داره» ولا يرى منه خير للعروبة والإسلام ومن المحتمل أل يخريه 
البريطانيون بالتعاون معهم» فيصبح من الضعف أقرب منه إلى القوة وسيكون بيد 
البريطانيين كسبحتي التي بيدي يلعبون به ويوججّهونه كما يشاءون ويريدون. 

إني لست من الشامتين بزعماء سورية المتذبذبين الجاهلين الذين وصفهم 
معاوية بن أبى سفيان إذ قال لخصمه وعدوه: والله لآتينك بسبعين ألف مقاتلء لا 
يفرقون بين الجمل والناقة» فهؤلاء الزعماء والساسة» بعد أن أخمدٌ الفرنسيون 
ثورتهم وقضوا على القائمين بهاء رجعوا يتزلفون إلى الفرنسيين الواحد تلو الآخرء 
فلو لجأوا إليها لكان مركزهم السياسي. ووضعهم الاجتماعي خيرًا مما هو عليه 
الآن. ولبقيت سمعتهم مصونة وكرامتهم مرفورة. ولكنهم فضّلوا البقاء تحت سيطرة 
الغاصبين الفرنسيين يتقاضون منهم الرواتب ويعملون لصالحهم. 

هذا الملك فؤاد ملك مصر كمه للقطر المصري أشبه بحكم فيصل في 
العراق» غير أن فيصلا يظهر في المجتمعات العامة ويختلط مع الشعب. وله حرية 
تامة بالتنقل من مكان لآخرء أما الملك فؤاد فهو قابع في قصرهء وبينه وبين شعبه 
هوّة سحيقة فلا يروا وجهه إِلَا فى الأعياد وفى المناسبات. 

ما أن أتمّ حديثه حتى نهض عن المائدة وجاريناه نهوضه عنهاء أما أثناء سرده 
لحديثه فكنا صامتين مستمعين فقطء إذ إن طريق الكلام كان مشغولًا بشهي الطعام 
ونفيسه. وكانت رغبة الأمير عبدالله على ما تبيّن لى أن أجاريه حديثه أو أن أوافقه 
قوله أو أن أعترض عليهء أو أن أبدي أي شىء حول ما يقولهء فقد كان جُلَّ حديثه 
موجها إليّ. ولقد كان يلقي أحاديثه بصورة تبدي غضبه وانزعاجه الكامن في طيّات 
قلبه والذي تشرّبت به نفسه وأفصح عنه لسانه. 


بعد أيام قلائل من مكوثي في مدينة معان». وبعد زيارتي للعاصمة الأردنية 


فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 19 





عمان زارني شيخ قبائل الأردن مثقال الفائزء وفاتحني برغبته في الاتصال بالملك 
عبد العزيزء فكتبتٌ له رسالة بخط يدي لعدم إلمامه بالكتابة وبعثتُها مع رجل 
استأجرته خصيصًا ليذهب إلى عبد العزيز بن مساعد, أمير منطقة حائل» وهو بدوره 
كان يرسلها إلى مقر الملك عبد العزيز بالرياض» كما كانت عادتى عندما أبعث 
برسائلي إلى الملك عبد العزيز إذا كان في الرياض وجاء بهذه الرسالة قوله - أي 
مثقال الفائز : 

ئِقْ أيها ا لملك ١‏ لمعظم أنني أنا و عشير ني والقبائل التي تنتمي ود تصغي لحديثي 
كلنا من المعجبين بقيادتكم الحكيمة ومن المخلصين لسدتكم الملوكية. وإننا جميعًا 
رسالته بهذا الختم فقلت له: لاء ولم لا توقعها بالخاتم الذي تلبسهء ففعل ذلك 

كان البريطانيون يسيطرون على شرقي الأردن باديتها وحاضرتها سيطرة تامة» 
وكان جواسيسهم ينقلون إليهم أخبار كل حركة في هذه المنطقة. 

كانت المعلومات عن تنقلات المستر (أسترنج) واجتماعاته المتواصلة تنقل 
إلى بواسطة سائقه العراقى المدعو حسن الموصلى. 

كنت على اتّصال دائم مع أمير حائل عبد العزيز بن مساعدء وأمير القريات 
عبد العزيز بن زيدء وفى أحد الأعياد أهدانى عبد العزيز بن مساعد كسوة فاخرة. 

كان مدير الاستخبارات كثير التردّد إلى محل عملي وكان أحيانًا يزورني في 
منزلي» وفي بعض الأحيان كان يتطرق بالحديث عن السياسة ويسألني أسئلة كنت 
أجيب عنها بقولي: إني أقيم في معان كتاجر وليس لدي إلمام بالسياسة لأجيبك عن 
أسئلتك» ويمكنك أن تسألني عن تجارتي ومعاملاتي مع التجار فأجيبك» أما غير 
ذلك فأرجو عدم مفاتحتي به وواصلت حديثئي قائلا : 

لقد عُرف عنا نحن العقيلات التجار النجديين أننا لا نهتم بالسياسة مطلقّاء 
وجل اهتمامنا بما يعود علينا بالمصلحة والفائدة المادية فى التجارة» فإذا كان لديك 
معرفة بها أو عنها فحدّئني بها. 


150 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





بلدة معان لطيفة هادئة معتدل جوّهاء طيِّب مناخها تكثر بها الفاكهة اليانعة 
اللذيذة وقد حَبِّب إلى الإقامة فيها أهلها الذين يميلون بطبيعتهم للبداوة وذلك لكثرة 
تردّد أهل البادية عليها ومسابلتهم لهاء هكذا كان شأنها أثناء إقامتي فيها منذ ما 
يقارب الستين سنة ولا أدري» هل لا تزال كما وصفتها أم تغّرت؟ 

ازداد دخلها في العشرينيات من هذا القرن فقد غدّت محطة للقوافل النجدية 
تجلب إليها مواشيها من خيل وجمال وأغنام» ويأتي إليها تجار من فلسطين ومن 
القطر المصري يشترون هذه الأنعام من العقيلات تجار الجمال والخيل» وكان قسم 
من هؤلاء التجار يذهبون إلى فلسطين والقطر المصري يعرضون فيها إبلهم وخيلهم . 

كان أرباب هذه القوافل النجدية يتَجهون بتجارتهم إلى سورية» ولكنهم امتنعوا 
عن مسابلتها أثناء الثورة السورية التي عمّت أنحاء سورية» لقد قام السوريون 
بثورتهم ضدَّ الحكم الفرنسي وامتدت ثورتهم وطالت بضع سنين» أحرق الفرنسيون 
خلالها أحياء كثيرة في وسط مدينة دمشق وقد أصبحت الأماكن التي أحرقت تُعرف 
ب: (الحريقة) تذكارًا لتلك الثورة» ودليلًا قاطعًا على فظاعة الغاصبين الفرنسيين» 
وقد رثاها الأمير الشاعر أحمد شوقي في قصيدته ورثى مجدها الضائع . 

استجدت بشرقي الأردن المحلات التجارية يعمل بها نجديون وسوريون 
وفلسطينيون ذوو الخبرة التجارية الواسعة. في مدينة معان وفي كل مدينة من مدن 
شرقي الأردن» وكان يسكن في العاصمة الأردنية عمان في أواخر القرن الثامن 
عشر قليل من أبناء الشراكسة» أما اليوم فحدث عن المدينة الأردنية التجارية 
الكبرى ما شاء لك الهوى. لقد هاجر إليها خلق كثير من أبناء سورية وفلسطين ومن 
نجد واتّخذوها مقرًا ومقامّاء فهي اليوم أوسع المدن الأردنية بسكانها وبتجارتهاء 
ومن ألطف المدن العربية وأنظمها. أما جبالها السبعة المكتظة بالسكان فهي من 
أروع الجبال في المناطق العربية جميعهاء لوسع مساحتها وبناء منازلهاء فجوّها 
لطيف» وهواؤها عليل شديد البرودة في فصل الشتاء وقليل الحرارة في صيفهاء 
وربيعها في غاية الروعة والجمال. كانت مدينتا جرش وإربد مشهورتين بتجارتهما؛ 
قبل عمان العاصمة» تعججان بالتجار السوريين» فمنهم من أخذ الجنسية الأردنية 
ومنهم من لا يزال محافظًا على جنسيته السورية. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 151 





لشرقي الأردن مكانة محترمة مرموقة منذ مئات السنين في زمن اليونان 
والرومان وفيها من الآثار البتراء وفي مدينة معان ملعب روماني وفي مدينة جرش 
آثار لهم تنبىء عن مكانتهم وتحدّث عمًا كانوا يعملون» وكانت الأردن في أوج 
عظمتها محطّ رحال القوافل تؤمها من جهاتها الأربع إِمّا طمعًا في مسابلتها أو لأنها 
واقعة في طريقهم يأخذون فيها راحتهم. 

مدينة جرش كانت في غابر الأزمان تُعرّف بمدينة الملاهي والملذّات» والترف 
والرخاء»ء وشاهدت الحضارتين اليونانية والرومانية» لقد كانت يونانية تتمتع 
بالحقوق والحريات التي كان يتمتع بها اليوناني في عاصمته أثيناء فهي يونانية في 
منشئهاء رومانية في تشييد قصورها الفخمة ومسارحها الأنيقة. 

يَذكر لنا التاريخ أن المسيحيين أحرقوا معبد (أرتميس) الذي كان يُعَدَّ أبدع 
وأمتع المعابد الرومانية وأروعهاء فقد كان قائمًا على ربوة مرتفعة» تطل على مدينة 
جرش بأكملهاء ولم يَبْقَّ بعد حريق هذا المعبد إلا شيء من أعمدته الأثرية القليلة. 
وقد تعاقبت على مدينة جرش هرّات أرضية عنيفة أطاحت بالكنائس الأنيقة الجميلة» 
التي بُنيت على أنقاض معبد (أرتميس) في القرن الخامس للميلاد» وقضّت هذه 
الهرّات على جميع التماثيل المصنوعة من البرونز الجميل» والخشب الجيد. 
والحجارة الملساءء وبقِيَ من آثارها قليل من الصور الأنيقة المصنوعة من الفسيفساء . 

اكتّشِف مؤْخَرًا آثارٌ تعود إلى العصر الحجري. وخارج أسوارها آثار تعود إلى 
أكثر من 220 سنة ق.م. وكتّبَ العالم الجغرافي ياقوت الحمويء إن حاكم دمشق 
أرسل أربعين رجلا لحراسة الآثار في جرشء أقاموا في قلعتها وفي أوائل القرن 
الثاني عشر للميلاد هجم جنود بلدوين الثاني ملك القدس بقيادته على جرش وحَرَق 
قلعتها وقضى على الحرّاس الأربعين الذين أرسلهم حاكم دمشق» وأصبحت مدينة 
خاوية كما جاء عند ياقوت. 

قبل غروب شمس أحد أيام شهر جمادى الثانية سنة 1346ه (1927م)» دخل 
علي بمنزلي في معان رجل سَّمِح الوجه مربوع القامة؛ لم أرَّهُ من قبل» فرحًّبت به 
وعرّفني على نفسه قائلًا: أنا خالد القرقني» وناولّني رسالة ممهورة بتوقيع محمد 
العصيمي. أحد النجديين المقيمين في دمشق» يوصيني فيها بهذا الزعيم الليبي 


1562 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





المحكوم عليه بالإعدام من قبل الإيطاليين» فقد سبق لهم أن استولوا على أمواله 
وممتلكاته في ليبيا لمحاولته الثورة ضدّهم. والتجأ إلى ألمانياء ثم قَدِمَ خلسة إلى 
دمشق» حيث كان يقطن زميله ورفيقه بشير السعداوي». وطلب مني السيد محمد 
العصيمي أن أسهّل لخالد طريقه لجلالة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية 
السعودية. 

كان خالد القرقني خالي الوفاض لا يملك من المال إِلّا الشيء الزهيد, لا 
يكفي لشراء ذلول» وحتى أجرة الدليل لم يتمكّن من دفعهاء فقّمت بتأمين جميع 
حاجاته وبعد ساعات من قدومه إلى معان أخذ طريقه مع دليله إلى المملكة. 

كتب رسالة شكر عند وصوله للحجاز وأوصاني أن أرسل له نرجيلة (أركيلة) 
حسب ما هي معروفة بهذا الاسم في سورية» وبعض التبغ» وكان مغرمًا بشرب 
الشيشة على قول سكان المنطقة الغربية من المملكة» فلبّيت طلبه. 

بعد سنتين من توجّه خالد إلى الحجازء زرتُ الحجاز واجتمعتثٌ بخالد 
القرقني في مدينة الطائف» حيث كان يقيم الملك عبد العزيزء فأقلّتني سيارة أنا 
وخالد من الطائف إلى مكة المكرمة. 

في الطريق عرض علي رغبته في فتح محل تجاري في منطقة الهفوف 
بالأحساءء قائلا: إن لديه توكيلا للأتاريك من ألمانيا وبمقدورك أن تكون مديدًا 
لهذا المحل» والأتاريك هي فوانيس شديدة الضوءء فاعتذرتٌ عن القيام بذلك. 

تونّقت العلاقة بين الملك عبد العزيز وخالد القرقني» فائّخْذه جلالته مستشارًا 
خاضًا لهء وبقي يُمارس هذا العمل حتى بعد وفاة الملك عبد العزيزء واحتضنه 
الملك سعود بضع سنين وعندما نالت ليبيا استقلالها عاد خالد إليها وأعيدت إليه 
أمواله وممتلكاته» وظلّ بعد تركه المملكة يتناول راتب تقاعده من المملكة نظير 
عمله مستشارًا لجلالة الملك سعود إلى أن توقاه الله. 

تبدّلت الأحوال التجارية في مدينة معان من رواج إلى ركودٍ كان سببه هبوط 
نسبة الماشية في نجد هبوطًا مفاجنًاء لارتفاع أثمانهاء ولم يترك ذلك للتجار من 
فائدة لتصديرها للخارج» وأخذت قوافل العقيلات بالاختفاء تدريجيًا من ارتياد 
الأقطار العربية التي كانت ترتادها. 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 153 





استّبدلت تجارة المواشى بتجارات غيرها متنوعة ويَمّمت نحو بلدان المملكة 
وطرّقت أبوابها ووجد ارا مجالا لهم ولتجارتهم؛ فتواضع المركز التجاري 
لمدينة معان» الأمر الذي حمل التجار السوريين على إغلاق متاجرهم الواحد تلو 
الآخرء ولكن وجدت بعض العائلات التجارية التي استوطنت معان وجعلتها مقرها 
التجاري مثل عائلة الجمعان النجدية. 

هذا من جهة التجار السوريين والنجديين» أما من جهتي فقد كانت علاقتي 
التجارية لا تزال قائمة في نجدء فقرّرت السفر إليها وتصفية حساباتي فيها ولأحقق 
رغبتي الأكيدة» التي طالما كانت تراودني حيئًا بعد حين» وهي السلام على جلالة 
الملك عبد العزيز ولأنقل له شفهيًا أخبار ما يقوم به البريطانيون في شرقي الأردن 
خاصة بين القبائل العربية 

غادرت مدينة معان برفقة ابن عمي ناصر الرواف» وأحد التجار النجديين 
واسمه أحمد العبدالله الحميدهء وكان دليلنا في سفرنا هذا محمد النجيدي 
الحويطي» متوجّهين إلى الجوف فحائل فبريدة فالرياض حيث كان يقيم جلالة 
الملك عبد العزيز. 

كنا نواصل السير ليل نهار عشرين ساعة نقضيها في ظهور ركائبنا من ساعات 
الليل والنهار الأربع والعشرين. 

في منتصف إحدى الليالي بينما كنا على مقربة من الجوف اعترض سبيلنا سرية 
من سرايا أميرها عبدالرحمن بن سعيد في موضع بعيد عن الجوف أربعين كيلومترًاء 
وانتبه أحد رفاقنا فغامرٌ بنفسه وتوجّه لهذه السرية» وأبلغ أهلها أننا تجار من نجد 
فتركونا وشأننا . 

كان حبل الأمن مضطربًا اضطرابًا شديدّاء وكان أفراد من جماعة الإخوان 
منتشرين في البادية يريدون فرض سيطرتهم عليها . 

كان زعماء الإخوان على وشك القيام بثورتهم على ابن سعود التي عُرفت فيما 
بعد بثورة الدويش وقضى عليها بموقعة (السبلة). 

من الأسباب التي حَدّت بجماعة الإخوان - جند الملك عبد العزيز الأشدّاء 


184 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الأقوياء الذين أعانهم على تشييد القرى وسكانها ونقلهم من البداوة إلى الحضارة 
وأعطاهم النفوذ القوي - بثورتهم على الملك عبد العزيز احتكاكهم ببادية العراق 
وشرقي الأردن وكانتا تحت حماية البريطانيين» وكان بين الملك عبد العزيز 
وبريطانيا معاهدات مبرمة تنص على حفظ الأمن» وعلى عدم قيام قبائل نجد وقبائل 
العراق بالاحتكاك ببعضهاء وكان الإخوان جند الملك يقومون من وقت لآخر بشن 
الغارات على حدود هذين البلدين وكانوا أحيانًا يتوغلون داخل أراضيهاء يقتلون 
وينسحبون ويقلقون مضاجع الحكام فيهاء متوخين من وراء ذلك رضوخها 
لإراداتهم» بغية السيطرة عليها. 

ما كان لابن سعود عبد العزيزء أن ينقض العهد الذي أبرمه مع البريطانيين 
وهو المحافظ على عهوده ومواثيقه» لقد سبق أن اعترف لهمء بالحالة الراهنة في 
البلدان المجاورة لمملكته» ومنها العراق وشرقي الأردن وفلسطين والمحميات 
التسع مع الحكومات القائمة على الخليج العربي» وحَرص على عدم نقض هذه 
العهود والمواثيق لأسباب عديدة» منها : 

أولا: إحاطة البريطانيين ببلاده من جهاتها الأربع البحر الأحمر» وفيه تسبح 
سفنهم الحربية» وفي مدخل البحر الشمالي قناة السويس. ومن الجنوب رأس 
الرجاء الصالح. وفيها قواعد بريطانية. 

ثانيًا: ومن الجهة الشمالية» والشمال الشرقي لمملكته تقع العراق» وشرقي 
الأردن» يحكمها باسم البريطانيين» ابنا الحسين بن علي: فيصل وعبدالله أعداء ابن 
سعود اللدودين» فقد سبق وانهزم الأمير عبدالله بن الحسين شر هزيمة أمام القوات 
السعودية في ملحمة تربة» عندما كان متوجهًا هو وجنوده الثمانية آلاف (ألفان من 
الجند النظامي» وستة آلاف من القبائل العربية). 

ثالنًا: ويحدٌ بلاده من الجنوب والجنوب الشرقي» المحميات البريطانية» 
القائمة على الخليج العربي» وجميعها تخضع للحماية البريطانية. 

رابعًا: ويحدّها من الجنوب أيضّاء اليمن تحت حكم الإمام يحيى حميد 
الدين» وكان لا يستبعد أن تغريه الحكومة البريطانية بالاحتكاك بابن سعود فقد كان 
الخلاف قائمًا بين المملكتين على مناطق الحدود. 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 185 





كان من الصعب على عبد العزيزء ووضع بلاده كما أسلفناء إغضاب 
البريطانيين أو نقض عهوده معهمء ولم يكن من صالحه مخالفتهم برغم تمتّع 
عبد العزيز بسمعة طيبة ونفوذ قوي ليس فقط في البلدان العربية» بل في البلدان 
الإسلامية التي كانت تحت السيطرة البريطانية وخاقة في الأوساط الإسلامية ف 
البلاد الهندية» المستعمرة البريطانية الكبرى. 

كان لدى عبد العزيز قوة كبيرة قادرة» أقوى من أيّ قوة عربية مهما عظمّت 
وكانت بريطانيا تحسب لهذه القوة ألف حساب. وأخذت تسعى منذ بضع سنين إلى 
إضعافها ولقد حاولت استغلال ثورة الإخوان التي رأسها فيصل الدويش» لإضعاف 
عبد العزيز وتشتيت طاقاته ويهدينا إلى ذلك اع سل ]دوي كما سوف 
نرق يعيذ إخفاق ثورته إلى البريطانيين في الكويت. 

بالرغم من علاقات عبد العزيز ببريطانيا فلقد وجّه إنذارًا شديد اللهجة خاليًا 
من المجاملة يطلب فيه تسليم ابن دويش. 

أرسل عبد العزيز هذا الإنذار للحكومة البريطانية وهو شديد تأر منها ومن 
أعمالهاء يوم كانت في أوجٌّ عظمتها وسؤددها يوم كان قرص الشمس لا يغيب عن 
مملكتها. وما كان لبريطانيا إِلّا أن ترضخ لإنذار عبد العزيز الذي ضعضع ناه 
وأربك خارجيتهاء وهي ترى العراق يتخبّط في أموره السياسية» والموقف القاسي 
للملك فيصل بن الحسين مع زعماء العراق ومُطالبتهم الملحّة له ليقوم بالوفاء بما 
تعهّد به عند توليه مقاليد الحكم في العراق» حول إبرام معاهدة مع البريطانيين يشير 
مضمونها إلى الاستقلال» ليمارسوا بموجبها حرياتهم وينهضوا ببلادهم . 

كما كانت ترى نشاط الإسرائيليين في مستعمراتهم في فلسطين وذلك استعدادًا 
لتنفيذ ما وعدّهم به وزيرها بلفور في إنشاء وطن إسرائيلي في فلسطينء وكان 
غاندي قد ظهر في مستعمرتها الكبرى الهندء التي تضم مئات من الملايين البشرية 
وطالب بالاستقلال التام عن التاج البريطاني» وكانت بريطانيا ترى غاندي يزداد 
نفوذه كل يوم وتتبعه الخلائق الهندية تشد أزره» كل هذا مما حمل البريطانيين على 
الرضوخ لإنذار الملك ابن سعودء فسلّموه فيصل الدويش بعدما التجأ إليهم. 

كانت هناك مشكلات كثيرة بين الساسة البريطانيين» فقد اختلفوا حول 


1866 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





سياستهم في مستعمرتهم الهندية»؛ وشبه مستعمرتهم المصرية» وكان الساسة 
البريطانيون في الهند يرون في ابن سعود عبد العزيز الزعيم العبقريء» القوي 
الإرادة» الصلب العودء صاحب النفوذ القوي» في الأقطار العربية وفي البلدان 
الإسلامية» وأنَّ باستطاعته أن يوؤثّر في النفوذ البريطاني» لأن العرب والمسلمين 
يصغون إليه ويروا فيه الكفاءة» ليتبوأ عرش العراق مع عرش شرقي الأردن» وذلك 
بعد أن أقام البراهين على حُسن إدارة مملكته. ولم ينازعه في حكمها أحد. 


أما البريطانيون المقيمون في القطر المصريء فيرون أنَّ نجلّي الملك حسين 
ابن علي» فيصل وأخيه عبدالله. حليفي الأمس أحقٌ من ابن سعود في حكمهم 
تحت إشرافهم في كلا البلدين العراق وشرقي الأردن. وأنْ مما يثبّت هذا 
الإشراف» بل التحكّم»ء هو ضعفهماء وكان في هذا الضعف أمان وضمان 
لاستمرار وجود العلم البريطاني يرفرف فوق أجزاء الجزيرة العربية. 


بقي هؤلاء الساسة البريطانيون في الهندء وفي القطر المصري» يتأرجحون بين 
هاتين الفكرتين بضع سنوات» غاضين الطرف بعض الوقت» عن تثبيت عرش فيصل 
بالعراق وتثبيت إمارة أخيه في شرقي الأردن» حتى يتحقّقوا من نوايا عبد العزيز 
تجاه حكم فيصل في العراق» وحكم أخيه عبدالله في شرقي الأردن» وهل يرغب 
في احتكاكه بالعراق وشرقي الأردن أم لا؟ وأخيرًا أرادت أن تتبين موقفه بجلاء 
وتستطلع نواياه تجاه هذا كله فأرسلت في أوائل عام 1927م مندوبها المستر 
(جوردن) الذي أقام في وادي العقيق قريبًا من مدينة الرسول محمد يك حيث كان 
الملك عبد العزيز وكنتٌ مع جلالته في زيارته الأولى للمدينة المنورة» وحمل 
جوردن تفويضًا من الخارجية البريطانية بشأن إبرام معاهدة مع الحكومة السعودية» 
وقد أعلنت بريطانيا عن ذلك. لكن الحقيقة كانت غير ذلك» لقد استهدفت من 
إرساله الوقوف على نوايا عبد العزيز بشأن العراق وإمارة شرقي الأردن» وعجز 
المستر جوردن فلم يتبيّن شينًا مما أوصته به حكومته» وعندما يئسء ألمح قائلًا: 
إن بريطانيا لم تعقد معاهدة حتى الآن مع هذين القطرين» لكن المفاوض السعودي 
لم يُعِرْه أي انتباه وتجاهّلّه. عندها أخذ المستر (جوردن) يعمل على تشويش 
المفاوضات وأبدى تشدّده في أول بند من بنودها مخاطبًا مندوب جلالة الملك 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 1657 





كلمات لا تصدّر عن دبلوماسي مثله» فتوقّفت المفاوضات وانقطع حبل وصلهاء 
وعاد جوردن إلى حكومته. ولم يحقّق لها رغبتهاء وكانت هذه هي الأسباب التي 
أوقفت سير المفاوضات. 

حين يئست بريطانيا من الوقوف على نوايا ابن سعود حول العراق وشرقي 
الأردن أرسلت عند رجوع الملك إلى الحجاز مفاوضًا آخر قَدِمَ إلى جدة هو المستر 
(كلايتون) الذي أبرم المعاهدة التي عُرِفت بمعاهدة الندّ للندّ» وبها اعترفت بريطانيا 
باستقلال ابن سعود. 

على إثر هذه المعاهدة التي نعتتها صحف العالم بمعاهدة الند للند» أخذت هذه 
الصحف تكيل لابن سعود المديح والثناء» الأمر الذي ازداد فيه نفوذه عمّا كان عليه 
من قبل ويمّم زعماء البلدان العربية التي كانت تحت الحماية الفرنسية والبريطانية» 
وجوههم شطر مكة والرياض» يباركون هذه المعاهدة» ويبدون استعدادهم لخدمة 
حكومة الملك عبد العزيز فكان يستمع إليهم» ويغدق عليهم هباته. 

بعد توقيع معاهدتها مع عبد العزيز أبرمت بريطانيا مع العراق معاهدة سمحت 
بموجبها لزعمائه مباشرة حرياتهم وهكذا كان موقفها مع شرقي الأردن فعقدت 
معاهدة مع الشريف عبدالله. وضمّت إلى مُلكه بعض الأراضي الفلسطينية بما فيها 
القدس الشريف ونادت به ملكا على الأردن. 

لم يَتَلِ العراقيون ولا الأردنيون حريتهم ولم يمارسوا استقلالهم إِلَا بعد 
مجهود كبير بذلوه ومشقة قاسية مارسوهاء دامت ما يزيد على اثني عشر عاما . 

لقد اعتادت بريطانيا أن لا يهدأ لها بال» ولا يركن لها حال ما لم تَفُضٍ على 
كل قوة ضاربة تقوم في الجزيرة العربية ليأمنوا شرهاء فإن هذه الجزيرة في نظرهم 
باب الهند الواسع. ومن صالح بريطانيا قفل هذا الباب. 

هذه لمحة عابرة عن بعض أحداث الإخوان والمعاهدات» ولنا عودة إلى هذا 
الموضوع ولنَعْدٍ الآن إلى موضوعنا لنتكلم قليلًا عن الجوف ودومة الجندل وليغفر 
لنا القارىء هذا الاستطراد. 


لم نمكث في الجوف أثناء سفرنا من معان إلى الرياض إلا يومًا واحدّاء وهو 


1568 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





بلد قائم في شمالي نجدء على منخفض من الأرض تَؤمّه في فصل الخريف كل من 
بادية العراق وسورية والأردن. 

كان للجوف قبل الفتوحات الإسلامية مركز ممتاز»ء وكان من حكامه فيما 
مضى من الزمن رجل قوي الشكيمة صلب العود» فبنى قصرًا فخمًا فيه وسمّى هذا 
القصر بقصر «مارد»» وإذا ذكرت الجوف ذكرت معه الشجاعة والقوة» ثم أتى عليه 
زمن أهمل فيه شأنه وانطفأت ذكراه كما انطفأ من قبله ذكر البتراء»ء وجرش وعمان 
العاصمة الأردنية» وفي القرنين الأخيرين أخذ يستعيد بين فترات الوقت ذكراه. 
وأقيمت فيه إمارات عربية» مختلفة الميول والعقائد والتطوّرء فكان الحكم فيه لآل 
سعود ثم تحوّل إلى آل الرشيد بعد اختلاف الأمراء السعوديين فيما بينهم» ثم تولى 
الحكم فيه النوري بن شعلان شيخ قبيلة الرولة» ثم أعيد فيه الحكم لآل الرشيد بعد 
معركة شرسة بين النوري بن شعلان وبمساعدة عودة أبو تايه شيخ قبيلة الحويطات» 
المشهور بفروسينة :ونين آل الرشيد وقبيلتهم شمر. والجوف الآن في حكم آل 
سعودء آخذ بالازدهار وأَسّست فيه المدارس والمستشفيات وأقيمت الأبنية الأنيقة 
الجميلة وكثّر سكانه وأَمّه نزلاء من الخارج» ووسعت فيه التجارة والمسابلة ونمّت 
اقتصادياته» وأنشىء فيه مطار واسعء. وهو قريب من وادي السرحان ذي المياه 


3 
- 


الكثيرة» وحمّقت يد العمران زراعته التى أخصبت إخصابًا عظيمًا. 


جاء ذكر الجوف في التاريخ الإسلامي أثناء الفتوحات الكبرى» عندما مر 
خالد بن الوليد بجيشه اللجب قادمًا من العراق ليساهم مع جيوش المسلمين في 
قتال الروم بفلسطين؛ وكانت مرحلته هذه من أخطر المراحل التي تمَّت في هذه 
الصحراء الواسعة» وكان الوقت عند اجتيازه الصحراء صيفًاء حرارة شمسه تفلح 
الوجوه ورمال زوابعه تعمي الأبصارهء أَضِف إلى ذلك شم المياه» فغامر بجيشه 
المغامرة التي لم يسبق أن قام بها أحد من قبله»ء لقد اتخذ هذا الطريق لقصره؛ 
ولسرعة النجدة فحضّر الموقعة برفقة جيشه حتى ثم للمسلمين النصر. 

هذا يحكن أن بنا ةقفر كارة المذكرن وو قرتدوا عن :الاباك كه قدد اوسن 
في أوج سؤددها وعظمتهاء فجهّزت حملة قوية توجّهت نحو الجوف لإخضاع بناته 
وحماته؛ ومكثت شهرًا كاملا محاصرّة القصر فقصّرت عن إدراك مطلبهاء ولم 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 159 





تذرك غايتهاء فرجعت أدراجها إلى عاصمتها تدمر خائبة حاسرة»؛ وقد حاولت قبل 
هذا الاستيلاء على (الأبلق) مقرّ السموأل الدائم في مدينة تيماء شمال الحجاز (من 
أعمال المملكة العربية السعودية) فلم تفلح. وحفظ عنها قولها: (تمرّد مارد وعرٌ 
الأبلق) . 
على ذكر السموأل» نقف قليلًا لنتتحدث عن الوفاء الذي اتَصف بهء» خلق 
السموأل بن عادياء بالوفاء» ولا يزال يقال: أوفى من السموأل» ومن وفائه ما قيل 
أن امرأ القيس الشاعر الكندي لما عزم على اللجوء إلى جستنيان قيصر الروم» 
حمل رسالة من السموأل إلى الحارث بن أبي شمر الغساني في الشام ليوصله إلى 
قيصرء وأبقى امرؤ القيس دروعه لدى السموأل قائلًا: إذا قدّر لي أن أراك ثانية 
اها وال قله مسلمهنا إلذ للورة 
بعد وفاة امرىء القيس في أنقره (العاصمة التركية) أتى رهط من قومه وطلبوا 
من السموأل تسليم الدروع فأبى السموأل قائلا: إنكم لستم من الورثة» وكان ابن 
السموأل خا الفضرد ع سرامن قريه يرتادون مواضع الصيدء فأسره هذا 
الرفظ »وقالوا مهو اله إنا :أن تسليها الدروع أو نقضي على حياة ولدك» فلم 
يمتثل السموأل لتهديدهم فقتلوا ولده» وهو ينظر إليهم من شرفات قصره الذي 
حوصر فيه» ورجعوا أدراجهم» وححففظ عن السموأل قوله: 
وفيت بأدرع الجنديإني إذا ما خانأقواموفيت 
وقالواإنهكنتزثمين أماوالله أغدرمامشيت 
بنئى لي عاديا حصئًا حصيئًا ‏ وبثرًاكلماشئتاستقيت 
لا يزال هذا القصر بممرّاتة الواسعة المتعرّجة» وأبوابه المتعدّدة وأسواره 
الشامخة قاتمًا حتى يومنا هذا فى مدينة تيماء» وهو من القصور الفخمة بهندسته 
المعمارية وشكله الداخلي» 50 رمان أمير تيماء. 
إن قاطني هذا القصر تختلف أجسامهم وألوانهم عن بقية أبناء الأمة العربية 
درجوههم قريبة من الحُمرة» فهي نضرة ناصعة أجسامهم فارعة الطول؛ معتدلة» 
وأمام هذا القصر بثر يُعرف باسم هداج واسع البناء غزير ماؤهء تَرِدُه القبائل. 





وكان السموأل الشاعر اليهودي وأجداده من بني عادياء» إذا ما تعرّضوا 
لمهاجمة أهل البادية أغلقوا أبواب القصر وانَّخذوا موقف الدفاع. بعد دفنهم لآبار 
الماء القريبة منه» فلا يتمكن الغزاة من محاصرتهم طويلا فيعودون خائبين 


السموأل شاعر فحل فمن شعره بالفخر قصيدته المشهورة: 


إذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه١‏ فكلرداءيرتديه جميل 
وإذاهو قم يخبل علي الفس مونها" ٠‏ تلج إلى بحسن النناءسييل 
تعيرنا أنا قليل عديدنا ‏ فقلت لهاإنالكرام قليل 
وما قل من كانت بقاياه مثلنا شبايًا تسامى للعلا وكهول 
وما ضرنا أنًا قليل وجارنا 0 عزيز وجارالأكثرين ذليل 
لناجبل يحتلهمن يجيره | منيعيردالطرف وهو كليل 
رسا أصله تحت الثشرى وسماؤه 2 إلى النجم فرع لا يزال طويل 
هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره ‏ يعزعلى من رامه ويطول 
وإِنّا لقوم لانرى القتّليسبة إذامارأتهعامر وسلول 
يقرب حب الموت آجالنالنا ‏ وتكرههآجالهم فتطول 
تسيل على حد الظبات نفوسنا 20 وليست على غير الظبات تسيل 
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ‏ كهامولا فينايعدبخيل 
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ‏ ولا ينكرونالقول حين نقول 


وما خمدت نار لنا دون طارق 


قؤول كما قال الكرام فعول 
ولا ذمنا في النازلين نزيل 
لها من رؤوس الدارعين فلول 


معودة أن لاا تسل نصالها فتغفمد حتى يستباح قتيل 
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم فليس سواء عالم وجهول 


أما امرؤ القيس كما يخبرنا التاريخ هو أبو الحارث حندح بن حجر الكندي؛ 
وامرؤ القيسء لقب لهء وكان والده حجر سليل الملوك من كندة. بطن من بطون 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 1131 





كهلان» وآخر من ملك على بني أسد من المضرية» وأمه فاطمة بنت ربيعة» أخت 
كليب ومهلهل التغلبيين» فنشأ امرؤ القيس متقلبًا في أعطاف النعمة واليسارء وشبّ 
يقول الشعرء وفي نفسه صبوة ولهوء فأراد أبوه أن يأخذ نفسه بما يأخذ به أبناء 
الملوك أنفسهم» من الاعتداد للملك. فلم يرعو من غوايته» فطردهء فخرج في 
أخلاط من شعراء القبائل» يرتاد الرياض ومواطن الصيدء حتى بلغه وهو في 
(دمون) من أرض اليمن مقتل أبيه» لاستبداده في قومهء فآلى على نفسه»ء أن يكفتث 
عن غوايته» ولا يأكل لحمّاء ولا يشرب خمرًا حتى يثأر لنفسه. وقال كلمته 
المشهورة: «اليوم خمرٌ وغدًا أمرّء لا صحو اليوم ولا سكر غدًا» وارتحل يثير 
القبائل ويستنجدها على بني أسدء فأعانته بكر وتغلب» فعُلب بنو أسدء وكثْرٌ القتلى 
والجرحى فيهم وانهزمواء فلم يَشْفٍِ ذلك من غلته»ء وأراد اللحاق بهم. فأبى 
منجدوه» وقالوا لقد أصبت ثأرك وانصرفوا عنهء فلجأ إلى مرثد الخير من قبائل 
حميرء وكانت بينهما قرابة» فأمدّوه بجيش من القبائل فسار بهم إلى بني أسدء 
فظفر بهم» واهتبل المنذر بن ماء السماء هذه الفرصة. ووجّه جيشًا في طلبه. 

كانك ا يس المندر عخيية على آل افرع القمين_ وامد كسرئ” الونترواك. بن 
قباذ المنذر بجيش من عنده فظفر بهم» وتفرّقت جموع امرىء القيسء ونجا بنفسه» 
في عصبة من رهطهء يتنقل من قبيلة إلى قبيلة» يطلب النصرء حتى سَدْت عليه 
الطرق» فاستجار بأحد بني فزارة فأجاره ثم دلّه على السموأل» وأصحبه رجلا 
إليه» فأكرمه السموأل» وبدا لامرىء القيس أن يستنصر (بجستنيان) قيصر الروم» 
فكتب السموأل كتابًا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني في الشام ليوصله لقيصر 
الروم؛ فوفّق في وساطتهء فبلغ بلاد جستنيان فأكرم وفادته وطمع أن يكون له قوة 
في بلاد العرب» تُضعِف قوة الأكاسرة فجهّزه بجيش كثيف. وفيه جماعة من أبناء 
الملوك؛ ولكنه لم يكد يفصل به عن بلاد الروم» حتى بدا لقيصر استرجاع هذا 
الجيش لأسباب لم يتبيّنها المؤرخون على وجهها الصحيح؛ وعلى كل حالء فإنه 
قفل» ولم ينل مآربهء فنزلت به في طريق عودته» علّة جلدية تقرّح منها جسدهء 
وتساقط لحمهء فمات منهاء ودّفِن بأنقرة» وذكر بعض الأدباء الذين ألقت بهم عصا 
الترحال في أنقرة» أن على قمة جبل يعرف (بعسيب) على مقربة من أنقرة ضريح 
امرىء القيسء منقوش عليه الأبيات الآتية : 


152 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





أجارتناإنالمزاربعيد وإني مقيمماأقام عسيب 
أجارتناإناغريبانهاهنا وكل غريب للغريب نسيب 
الأتراك يسمون هذا الضريح بضريح ملك العرب وهذا قوله» بعد قتل أبيه 
وسعيه في إرجاع مجده: 
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليلًا من المال 
ولكنماأسعى لمجدمؤثل وقد يدرك المجد الموثل أمثالي . 
قال أيضًا: عندما توجه إلى بلاط جستنيان قيصر الروم هو ورفيقه: 
ولما بدا حوران والآل دونه نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا 
تقطع أسباب اللبنات والهوى 02 عشية جاوزنا حماة وشيزرا 
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقانبقيصرا 
فقلت لهلاتبك عيناك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا 
لقد أسهبت فيما قصصته عن مدينة الجوف» وتاريخها المجيد. وقصرها 
الشامخ الذي بناه الأكيدرء وتعاقب حكام العرب على إمارتهاء وعن السموأل 
ووفائه» وفخره وانتسابه» وعن امرىء القيس ذاك الشاعر الطائش الذي فقَّدَ ملكه. 
وهدر ماء وجهه لدى القبائل العربية» يوْلّبها على بني أسدء ويستنجدها عليهم. 
يذكٌرنا موقف امرىء القيس من قومه بموقف حككام العرب في الأندلس» في 
أواخر أيامهم لقد كان موقفهم قريبًا جدًّا من امرىء القيس. فلقد اقتطع كل حاكم 
منهم قطعة من هذه البلاد الجميلة» فردوس العرب المفقودء وأخذوا يستنجدون 
بأعدائهم بعضهم على بعض وآخر حكامهم استنجد بأعدائه فكان لقمة سائغة في فم 
العدو القن 
بكى عبدالله آخر ملوك بني النصر في حكم الأندلس بكاءً مُرَّا على مُلكه 
المسلوب ومجده الضائع» مما حدا بأمه أن تقول له كلمات حفظها التاريخ : 
(إيك مثل النساء ملكا مضاعًا لم تحفظه حفظ الرجال). 
بعد هذا الاستطراد» أعود إلى سياق الحديث: لم نُقِمْ في الجوف إِلَا يومًا 
واحدًا كما ذكرت سالقّاء وكنّا نبحث فيه عن دليل يهدينا الطريق ويرينا سبل لنصل 


نى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 13 





إلى مدينة حائل» فلم نعثر على أحدء وقلت لابن العم ناصر: هل لك معرفة 
بالطريق؟ فأجاب: طرقته منذ سنتين وأعتقد أنني على علم به وقال هذا وهو لا 
يعلم مقصدي من وراء سؤاله. فظن بادىء الأمر أن سؤالي عابر» ولمّا تحقق من 
يُخيتى وما أعنيه من طرق هذا السبيل بمفردناء أردف قائلًا: ولكنها مغامرة إذا 
ل دون دليل» إنه طريق لا معالم له. فيه نفود ورمال تذروها الرياح فلا 
عك ائرا يتكَدل يه السدافر سوئ زموءواحد هن ججل مرطقع يمن (الثليه) »اقم 
في وسط هذه الرمال يُرى من مسافات بعيدة» يُخْيّل للناظر إليه كرأس حربة يشير 
إلى منتصف الطريق بين الجوف وحائل» فلم أدَعْه يواصل حديثه» فقلت له: لماذا 
لا نطرقه دون دليل ما دمت تصفه وصقًا دقيقاء فلم يجبني عن سؤالي وواصل 
حديئه قائلا: إذا اهتدينا لرؤية هذا الجبل سَهُلَ علينا معرفة الطريق بأكمله إذ 
سنواصل السير على حدود خل من النفود وهو سبيل مطروق» فقلت له: توكلنا على 
الله وسنغادر الجوف في الهزيع الأخير من الليل البهيم. 

انطلقنا في تلك الليلة بمفردنا أنا وابن عمي ناصر الرواف لا ثالث لنا وواصلنا 
السير طيلة النهارء وقبل الغروب بقليل تراءى لنا رجلان يسيران خلفنا على مطية 
واحدة فلم نحبّذ هذه الرؤياء وعند اللقاء بهماء فهمنا أنهما ذاهبان إلى مدينة 
حائل» وهما من قبيلة الشرارات التي تقطن وادي السرحان بين الجوف والقريات» 
فأخذنا حذرنا منهما في تلك الليلة وفي الصباح أخبرناهما أن يسيرا أمامنا ليريانا 
الطريق» إذ إننا على غير معرفة تامة به» فامتثلا الأمرء وشّعَّرا باحتياطاتنا منهما 
فأرادا تطميئناء وقال أحدهما لا حرج عليكما وعليكما الأمان منّا. 

واصلنا السير ليلا ونهارًا دون أن نستريح غير ساعات قليلة إلى أن وصلنا 
مدينة حائل في صباح اليوم الخامس من مغادرتنا الجوف. 

تغيّرت الوجوه وتبدلت قامات الرجالء وغادرها آل سبهان». ومن بقي من ذرية 
آل الرشيد إلى الرياض عاصمة آل سعودء وانتقلت الأبهة والعظمة إلى غربي حائل 
إلى قصر سماحء والذي أقامه أميرها عبد العزيز بن مساعد» وألقيت نظرة على 
مسكننا السابق أمام قصر برزان الذي ضمّني سابقًا مع والدي ما يقرب من سنة 
واحدة كنا فيها ضيوفًا على آل الرشيد وآل سبهان. 





أقمثُ في مدينة حائل بضيافة الأمير عبد العزيز بن مساعد يومين كنتٌ أتنقّل 
في غضونها بين الأماكن التي كنت مع والدي نتردّد إليها وكان سمو الأمير 
عبد العزيز بن مساعد من خيرة الأمراء وكان محترمًا من الجميع» يَحذر من بطشه 
الذين يسعون في الأرض فسادًا ويركن إليه الرجال الصالحونء لقد أكرمنا وأحسن 
وفادتناء وأثناء انفرادي به قصصت عليه أخبار الأردن وفلسطين» وأهداني ذلوله 
العمانية التي يطلقون عليها اسم (المجينينة) لخمّتها ورشاقتهاء إنها لم تعرف 
العصاء فقد حدث أن لمست عصاي قسمًا من جسدها فنفرت من هذه اللمسة, 
وكأنها قالت: «تجوّد على ظهري إن كنت ولدًا وقيًّاه وأخذت تنهب الأرض نهبًا 
كالسيارة» ولم تقِف عن جريها إِلّا بعد ربع ساعة تقريبّاء فخمّفت السير حتى لحق 
بي رفاقي بعد ساعتين من الزمن» وكان طعامها التمر والبرسيم لا تأكل غيرهماء 
وكانت معودة على ألا تقوم من الأرض حتى يعتلي راكبها على ظهرها . 


بعد مسيرنا من حائل بثلاثة أيام وصلنا أنا وابن عمي ناصر مدينة بريدة من 
مرة ثانية» فألفيتها كما تركتها منذ عشرة أعوامء لم يتبدّل منها شيء: أسواقهاء 
أبنيتهاء أهلها إنها كبقية المدن النجدية» الطين المدسوس بالتبن هي مواد البناء 
فى ذلك الزمن» ولكل منزل منها مدخلان اثنان» أحدهما خاص بالرجال والمدخل 
غرفة صغيرة يطلق عليها اسم المخزن» يخزن فيها القهوة والهيل والسكر والشاهي» 
وأدواتهاء كما كان يوضع فيها الأشياء الثمينة الخاصة بصاحب المنزل» وكثير من 
هلاه الغرق الصغيزة المسمّاة بالمخازن مظلمة له توافل لهاء له بانهاء: كما أن كيرا 
يُنََحْذْ كغرفة للطعام» خصص للضيوفء ويرتكز هذا المكان على قوائم من الطين 
مغطاة بنقوش من الجصء ويطل هذا المكان الذي يطلق عليه اسم المصباح على 
غرفة الجلوس . أما باب النساءء فكان يليه حوش واسع. خصّص للماشية» إذ إن 
العديد من أصحاب المنازل» لهم بقر وغنم يستعملون سمنها وألبانها لأولادهم 


نى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 155 





ولضيوفهم» وفي أحد أركان هذا الحوشء بثر مالح أجاج» يستخدم ماؤه للوضوء 
وللغسيل وليس للشرب» وبجانبه مصلّى تؤدي النساء فيه فروضهن الدينية. وفي 
أطراف هذا الحوش غرف للنوم والجلوس. 

كثير من هذه المنازل لا يعتنون بفرشهء فكثير من غرفها خالية من المفروشات 
إلا من حصيرء أو سمط بساطء ووسائد للراحة» فهم يهتمّون كثيرًا بفرش غرف 
جلوس الرجال فالسجاد يكسو أرض هذه الغرف» والزرابي مبثوثة على جدرانهاء 
ومراكن عديدة يستندون عليها لأخذ راحتهم. 

كان طعامهم في ذلك الوقت يشتمل على الأرز واللحمء وبعض الخضر 
المسلوقة واللوبية والجريش والمرقوق» والطماطم التي يوجد لأكلها في بريدة قصة 
طريفة. فلقد أخبرني العم عبدالرحمن الرواف يدنه وقد تجاوز المائة من السنين» 
أن الطماطم كانت تنمو في مزارعنا بكميات قليلة» ولا ندري ماذا نعمل بهاء ولا 
نتجاسر على أكلهاء فنترك معظمها على أعوادها في المزارع» وكنّا نحضر بعضًا 
منها إلى منازلناء ونضعه تحت قربة الماء» المعلقة على قوائم من الخشب فتتساقط 
نقط الماء على الطماطم» ويكون لمنظرها رونق وبهجة. وكا لا نعلم أنها تطبخ » 
وإذا كنا نعلم فلا نعرف كيفية طبخهاء أو استعمالها في الطبخ. 

بعد مكوثنا في بريدة ثلاثة أيام وإنهاء حساباتنا مع عملائنا التجار أزمعنا السير 
إلى الرياض عاصمة المملكة للسلام على الملك عبد العزيز ولنتمتع بالجلوس في 
مجالسه العامة» ونستمع إلى أحاديثه الشيقة اللذيذة» ومررنا في طريقنا إلى بلدة 
العيينة التي كانت في ذلك الوقت شبه خاوية من سكانهاء الحركة فيها مشلولة» 
وآثار الحياة التي تدل على قاطنيها شبه معدومة» ومعظم آبار مياهها جافة مطوية 
بأحنجار مرصوفة بدقة على جوانبها. إن بلدة العيينة كانت منشأ أجدادي الأولين» 
يوم أن كان أميرها ابن معمرء أحد حكام نجد المتنفذين يعود نسبه إلى بني تميم . 

لقد مُنِيَت هذه المدينة بوباء قضى على العديد من قاطنيهاء فغارت مياه آبارها 
وتفرّق من بقي من أهلهاء ونزحوا عنها إلى البلدان المجاورة» وتوزّع أجدادي من 
الرواف بين بريدة والرياض والدرعية وعرقة. وكانت لأجدادي صلة قوية بالبسام 


156 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الذين استقروا في مدينة عنيزة فكَثّر نسلهم وعلا ذكرهم. وانتشروا في مدن الجزيرة 
العربية» والأقطار المجاورة» ومنها البلاد الهندية» كما توسّعت تجارتهم فيها, 
واحتفظت الرياضء وبريدة بالرواف وهاجر بعضهم إلى مدينتي بغداد والزبير من 
أعمال العراق ودمشق في سورياء ففي الزبير مسجد كبير يحمل اسم أحد أجدادي 
عيسى بن رواف» وفي بغداد وقف كبير يعرف بوقف الرواف أوقفته زوجة عيسى بن 
رواف» وكان جدي محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن الرواف يستغل خيراته ممًا 
ُنتِجه أشجار النخيل من التمور وما ثُنبته أرضه من البقول والخضرء وعندما توفي 
جدي محمد كان عمومتي صغار السن» فاستولت عليه الأوقات العراقية» كذلك 
كان لنا مُلك في مدينة حلب عبارة عن عدة مخازن» ودكاكين وبعض المنازل» وباع 
هذا المُلك والدي إبراهيم المحمد الرواف», أما وقف الرواف في بغدادء فبعد أن 
استولت عليه دائرة الأوقاف في بغدادء أخذت تبيع بعض قطعه. فأنشأت فيه 
عمارات ومنازل» فكان من أجمل أحياء بغداد. وفي هذا الوقف فتِحَ شارع على 
شاطىء دجلة سمي شارع أبي نواس» وفي هذا الوقت كان مسكن عبدالمحسن 
السعدون. رئيس الوزراء العراقي» الذي انتحر فيه عندما كان رئيسًا للوزارة 
العراقية» وسأتحدث فيما بعد عن وقفنا الكبير في بغداد» وأوضِحٌ ما آلَ إليه. 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 157 





الفصل السابع 


زيارة الرياض قبيل ثورة الإخوان 


الرياض مدينة خالدة» ظلَّت طوال تاريخها تنعم بالاستقلال» فعلى الرغم من 
وقوعها قبل الإسلام بين قوى عظمىء. هي إمبراطورية الفرس الساسانيين» ودولة 
اليمن والأحباش لم تخضع لأيّ منهاء وقد دانت للإسلام بعد مقاومة عنيفة» 
وبعدها تعاقب على حكمها أمراء كثر ومشايخ من أبناء الجزيرة. 

لقد كانت هذه هي زيارتي الأولى للرياض ولقد وجدتها تعجٌّ وتموج 
بجماعات الإخوان الوافدين إليها من كل فجّ». وكنت لا ترى غير جماعات وراء 
جماعات تسير في شوارعها وكانت أبواب قصر الملك مفتوحة طيلة النهار وزلفا 
من الليل لهم وللناس جميعًا سواء منهم زوار الرياض أو القاطئون بهاء وكان 
الإمام العادل عبد العزيز يستقبلهم برحابة صدر كما عَرِف عنه» ويغدق عليهم 
الهبات من الأموال والمتاع» ويقوم بتحقيق كل أمانيهم ويعطيهم ما يطلبون من خيل 
وإبل» وأسلحة ونقود» وكانوا يسألون عبد العزيز ويلححون عليه بمطالبهم في إطلاق 
سراحهم ومنحهم الحرية ليواصلوا زحفهم على العراق وشرقي الأردن» وكانوا في 
ذلك الوقت في أوجّ عظمتهم وأشدٌ قوتهم. وكان قد مضى على جهادهم في فتح 
غربي المملكة والحجاز وقت طويل» ولم يمارسوا فيه نشاطهم ليحققوا أهدافهم في 
نصرة دين الله وإعلاء كلمة التوحيدء وكان الملك عبد العزيز يخفف من غلوائهم 
ويهدّىء أعصابهم الثائرة بما عرف عنه من اللين والحكمة. 

كان ينظر إلى جنده من الإخوان نظرة عطف وتقدير واحترام ولا يرى لأحد 
عليهم فضلًا ولا منَّةَ» وكان يحافظ عليهم محافظة الوالد على أولاده. ولا يجعل 
أنوفهم العالية ترضخ إلى الأرض بعد شموخهاء ولا أن يخدش شرفهم وتهدر 
كرامتهم. وثُّهان أنفسهم. ورغب أن يبقى جنده» عزيزي النفس شديدي البطش 


1538 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





أقوياء الجنان» وسعى غاية جهده» ليرق هذا الجند» وقد استكمل نشاطه وقدرته. 
وبأحسن مما هو عليه وقتئلٍ. 


نعود إلى ذكر مدينة الرياضء إنها من العواصم العربية» التي يتردّد إلى زيارتها 
عظماء العالم من ملوك ورؤساء الجمهورياتء لما لها من المكانة السياسية 
والاجتماعية والاقتصادية» ولقد اجتمع بطلهاء وفارس نهضتها الملك عبد العزيز قبل 
انتهاء الحرب العالمية الثانية» بوقت قصير برئيس الولايات المتحدة الأميركية الرئيس 
روزفلتء» ورتيس وزراء بريطانيا المستر تشرشل وكانا يحكمان دولتين عظيمتين؛ 
قهرتا ألمانيا واستولتا على كل مقاطعاتهاء. وكان القصد من هذا الاجتماعء أن يعلن 
الملك عبد العزيز الحرب على ألمانياء لأن سلوكه الحسن في إدارة مملكته الفتية 
ونفوذه عند العرب والمسلمين كان واسعًا على الرغم من أنه لم يملك من القوة إلا 
الشيء الزهيد» فلا طائرات لديه لتحوم في الفضاء يسمع أزيزهاء ولا أساطيل تمخر 
عباب البحار يسمع الناس صفاراتهاء وحتى المال يكاد يكون مفقودًا لديه»؛ ومع كل 
هذا فقد حذت الحكومات العربية حذو ما قرّره الملك عبد العزيز من إعلان الحرب 
على ألمانيا. ولقد حاولت أميركاء وإنجلتراء وروسيا من قبل أن يجتمع روزفلت؛ 
وتشرشل بالملك عبد العزيزء 0 
ورؤساء الدول العربية» ولكن مصر في ذلك الوقت» كانت تفتقر إلى ما كان يملكه 
الملك عبد العزيز من المركز القيادي الممتازء الأمر الذي ذهب ضحيته النقراشي 
رئيس الوزراء. فلقد حصل بين النقراشي رئيس الوزراء المصري وبعض من الزعماء 
المصريين مشادّة قوية ذهب ضحيتها . 


كان الملك عبد العزيز في تلك الأيام التي قضيتها في الرياض مهتمًا اهتمامًا 
بالعّاء بأمر الإخوان. فكأنني أراه الآنء وهو يتنقّل بين غرف قصره بالدور الثاني 
من غرفة إلى غرفة غيرهاء وبيده مسواك يستاك به وكان في الطابق الأرضي من 
القصرء غرفة واسعة تقدن يعشرة أمغاز طولا وحجية أمثار عرضاء تضم أربعة 
أشخاص من ن الكتّاب» أبقاهم الملك عبد العزيز» لتدوين مطالب الإخوان» لعرضها 
على جلالته ليُصادق عليها ويأمر حتى تُقدَّم لطلابها من الإخوان. وفى 7 في اليوم الثاني 
من قدومي للرياض مثّلتُ بين يدي الملك عبد العزيز على انفراد في الغرفة الصغيرة 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 159 





الضيّقة في قصر الرياض التي اتّخذها مختصرًا له. وكانت الغرفة مفروشة بحصيرة 
عادية وكان فيها كرسي طويل من القش كثير الشبه بالكراسي ي التي كانت تُستعمل في 
قهاوي مكة والمدينة للجلوس عليهاء وأعتقد أن الشيخ عبدالرحمن الطبيشي رحمه 
اله كان يعرف هذه الغرفة جيدًا . 

أفرغت ما كان بجعبتي من الأخبار التي كنت أحملها وما يُختزن بذاكرتي من 
معلومات عن مدن شرقي الأردن وباديتها وما يقوم به البريطانيون وأتباعهم من 
أعمال» وأخبرتٌ الملك عبد العزيز عن زيارة المستر أسترنج» مدير الاستخبارات 
البريطاني» لمحل عملي وعن المعلومات التي كانت تصلني من سائقه العراقي. 

بعد عدة أيام طلبتٌ من جلالة الملك عبد العزيز السماح لي بالعودة من حيث 
أتيت فأذِنَ لي ودعا لي بالتوفيق. وفي اليوم الثاني لمغادرتنا الرياض لحِقّ بنا أحد 
التجار النجديين وكان متوجهًا إلى مدينئّي مشهد والحسين من أعمال العراق 
وبصحبته ذلولان خاصّتان بناء وأخبرنا أن شلهوب الخادم الخاص للملك قد 
أحضرهماء وطرق باب المنزل الذي كنت أقيم فيه ليقدّمهما هدية من الملك 
عبد العزيز فلم يجد أحدًا. ولا يسعني الآن إِلَا أن أشكر هذا الأريحي العظيم على 
هباته المتكرّرة . 

أثناء الأيام القلائل التي مكثتها في الرياض مع ابن عمي ناصر الرواف زارني 
أحد الإخوان وكان من قبيلة مطيرء من أقوى القبائل النجدية ومن أكثرها عددًا 
وعذّةء ولها شهرتها الواسعة في الغزو والقتال» وزعيمها فيصل الدويش من شيوخ 
القبائل المقربين للملك عبد العزيز وصاحب الكلمة ا ب 
أكثر القبائل في الجزيرة العربية. . . طلب مني الرجل المطيري العربي 
ذلولي العمانية التي أهدانيها أمير حائل مه ا لمرو موا فيه قل اد ا 
هذا العربي ذلولي فأعجبته» فجاء يبحث عني يريد شراءها وأظهر من حصيبته 
الصغيرة التي كان يحملها خمسين جنيهًا ذهبًا لكي يدفعها ثما للذلول العمانية 
فرفضتٌ طلبته بصورة حسنة وأفهمته أنها هدية من أمير حائل ابن مساعد وأنها 
عزيزة عليّ ولا أنوي بيعهاء وبعد محاولات متكرّرة وإلحاح شديد غادر الأخ 
الأعرابي مستاءء فلقد أعجبته ذلولي وأراد الحصول عليها . 


200 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





عدتٌ إلى مدينة بريدة ولم أمكث فيها سوى ثلاثة أيام انتهت ت خلالها حساباتي 
التجارية مع عملائي» وتركت بها ابن عمي ناصر الرواف وتابعت سفري برفقة 
بعض السيارة» إلى مدينة حائل مقر الأمير عبد العزيز بن مساعدء أمير حائل. 

مما اعتاده أهل حائل» وقبائل شمرء أن يقدّموا لضيوفهم الطعام والماء؛ ثم 
يتركوهم ليأخذوا حريتهم في تناول طعامهم حسب ما يشاءون» وهذه العادة ميّبعة 
عندهم يمارسونها منذ عصور كابرًا عن كابرء وقد استرعى انتباهي بادىء الأمر هذه 
العادة» وقد استفسرت عن سبب ذلك» يت بالآتي: إن كثيرًا من الضيوف يأتون 
من البادية» ومن مسافات بعيدة فيكون طعام بعضهم قد نفد» ولم يذوقوا طعامًا منذ 
وقت طويلء فإذا جلس رب البيت مع ضيوفه» وشاركهم في تناول طعامهم. فلا 
يأخذ الضيوف حريتهم في الأكل» لذلك يتركون الضيف يتناول طعامه بمفرده كما 
يشاءء وممًا يُقال بهذا الشأن. إنه في العصور السالفة» استضاف رجل أحد مشايخ 
شمرء فقدّم له طعامّاء وجلس يأكل معه يؤانسه بالحديث أثناء الطعام؛ وكان 
الضيف يلتهم الطعام بصورة غير عادية» ا الدار» وبعد انتهاء 
الضيف من الطعام سأل المضيف ضيفهء من أين أتيت» وبأيّ العربان مررت؟ 
فأجابه : تركت منازل أهلي لزيارة فريق من العربان القاطنين قريبًا مناء فوجدتهم 
راحلين؛ فائَّبعت أثرهم حتى بانت لي مضاربكمء فقال له كم يومًا لك عن أهلك؟ 
فأجابه منذ يومين» وكنت لا أحمل زادّاء ولا ماء. 

فمنذ ذلك الوقت. أخذ هذا الشيخ يترك لضيوفه الطعام» دون أن يشاركهم 
فيه» يتناولونه كما يريدون» وهكذا أخذ فريق الشيخ مأخذه في الضيافة» وانتشرت 
هذه العادة بين القبائل الشمرية» وأخذوا يعملون بها. 

لم تَظلْ إقامتي في حائل سوى بضعة أيام» وكنت عازمًا على الإقامة فيها 
أسبوعين أو أكثرء ولكن نعّص علي هذه الإقامة الطيبة» موت معارفنا القدامى. 

إن حائل بلدة محبّبة إليّ كنت أتردّد فيها إلى الأماكن التي لي فيها ذكريات 
جميلة وكانت إقامتي فيها أربعة أيام فقطء كنت خلالها أبحث عن دليل يرافقني إلى 
الرطبة من أعمال العراق لأستقل منها سيارة إلى دمشق» وعثرت على دليل من قبيلة 
الرولة» وعند سلامنا على الأمير ووداعنا لسموّه. قال: عندنا رجل ليس منّا يحاول 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 201 


الاظلاع على أسرارناء خذوه معكم إلى أن تصلوا حدود العراق» واتركوه عند 
العربان هناك» ولا تدعوه يفلت منكم حتى يتعدّى حدود المملكة. 





تركنا حائل عند منتصف الليل» بعد أن أخذنا زادنا من الأسواق» وماءنا من 
بئر سماح» وكان ماؤها من أجود المياه وأكثرها عذوبة» واصطحبنا معنا الرجل 
العراقي الذي لم يكن يعلم أن أمره مكشوف للأمير وحرصنا على ملازمته لنا حتى 
دخلنا الأراضي العراقية عملا بتوصية أمير حائل. 

كانت نجد في ذلك الوقت بأكملها واقفة على قدم وساق» كل ما فيها يشير 
إلى الفوضى والاضطرابات فالطرق غير مؤمنة» وأهلها لا يدرون ما سيحمله لهم 
الغد من مفاجآت» من الإخوان الثائرين على الملك عبد العزيز» وكنا نسير ليلا 
ونقيم نهارّاء ولم نسلك سبيلا مطروقاء وكنا نجتاز الصحراء الواسعة» ورمالها 
الكثيفة» مارّين بطعوسها الرملية» نطرق جبالها الوعرة» أو نغدذ السير في 
منخفضاتهاء ولم نُرِدْ آبار المياهء لنتزوّد منها بالماء خوقًا من أن نجد عليها أحد 
الغزاة الثائرين» وقبل وصولنا الرطبة بيومين» انتهى ما كنا نحمله من الماءء وكان 
ذلك في فصل الشتاء» فلم نشعر بمشقة من قلة الماء. 

انتظرت في الرطبة يومًا واحدّاء وقد حاول رجال الجمرك أخذ رسوم ما أنقله 
معي من المال» ولكنهم عدلوا عن ذلك فودَّعت رفيقي الدليل الدهمشي» وتوجّهت 
إلى دمشق على متن إحدى السيارات القادمة من العراق. بعد أن أعطيت ذلولى 
عد الود اخد ستانا لك لسصيرة مد ماشيكنى الجمال إلى مدعو 0 

في مساء ذلك اليوم» هبطت مديئة دمشق» وفي صباح اليوم الثاني سلّمتَ 
تجار دمشق أموالهاء ولازمتٌ منزلي يومين كاملين» وعدت إلى مدينة معان ومكثتٌ 
فيها ثلاثة أشهر لقضاء بعض الأمور الخاصة بتجارتي السابقة. 

كانت القضية الفلسطينية آخذة بالتطور تطورًا ملحوظاء وكان الأمير عبدالله بن 
الحسين حاكم منطقة شرقي الأردن» والسيد أمين الحسيني الزعيم الفلسطيني 
يتنافسان على الزعامة لهذه القضية الفلسطينية قبل أن يظهر لها زعماء فلسطينيون 
آخرون؛ فلم يكن هناك حواتمة ولا حبش» ولا أبو عمار» وكان زعماء سورية 
ولبنان يشدّون أزر بعضهم بعضًاء واقفين بالمرصاد لحكومة الانتداب الفرنسي» 


202 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





يؤلّبون عليها الكثيرين من أبناء هذين القطرين. وكان الحكم الفرنسي في سورية 
ولبنان جائمًا بكلّ ثقله على أنفاس الزعماء السوريين واللبنانيين لم يَدَعٌ لهم منفذًا 
واحدًا يستنشقون من فجواته نسمة من نسمات الحرية» ولكن لم تثبط عزائم هؤلاء 
الزعماءء فبقوا على اتفاق جيد فيما بينهم وبقي الزعيمان عبدالله» أمير شرفي 
الأردن» والسيد أمين الحسيني» الزعيم الديني في فلسطين» على اختلاف فى 
تنافسهما على القضية الفلسطينية» واشتدٌ النزاع بينهما إلى أن استعرت الحرب 
العالمية الثانية وحاولت بريطانيا إلقاء القبض على أمين الحسيني ففرٌ هاربًا إلى 
ألمانيا ملتجئًا إلى عاصمتها برلين» وكانت ألمانيا في أوجّ عزها وسؤددها. 


كان الانتداب الفرنسى جائمًا بكل ثقله على صدور زعماء سورية ولبنان» كما 
أسلفنا سابقّاء بعد أن ين على ثورات البلدين التي قامت ضدّهء وهي ثورة 
إبراهيم هنانو والأستاذ الجابري وثورة الحورانيين وثورة الزعيم صالح العلي؛ 
وثورة محمود الفاعورء وأخيرًا الثورة الدرزية الكبرى بزعامة سلطان باشا 
الأطرشء لقد أخمد الانتداب الفرنسي هذه الثورات جميعهاء وأخذ يملي إرادته 
على رجال سورية ولبنان وأبعد كثيرًا من رجالات دمشق إلى جزيرة (أرواد) وحكم 
بالإعدام غيابيًا على العديد منهم» وكان من بينهم الشيخ كامل القصاب صاحب 
النفوذ القوي والكلمة المسموعة بين زعماء العرب» والتجأ الشيخ كامل القصاب 
إلى فلسطين وكانت لا تزال تحت الحكم البريطاني» ولم يتوفف عن الاتصال 
بزعماء سورية ولبنان وإبداء رأيه في القضية العربية. 


في هذه الفترة من الزمن زار القنصلية العربية السعودية في دمشق الزعيم 
المسلم اللبناني» رياض بك الصلح. صاحب النفوذ القوي والمواقف المشرفة في 
القضية العربية العامة» وكان شقيقي محمد عيد الرواف هو القائم بشؤون القنصلية» 
وطلب منه رياض بك أن يجد له شخصًا سعوديًا موثوقًا لكى يذهب إلى القدس» 
ويتّصل بالشيخ كامل القصاب الموجود في فندق الملك داود ويخبره بأن رياض 
الصلح سوف ينتظره صباح يوم السبت القادم في قرية (المطلة) القريبة من مدينة 
درعاء فقال له شقيقي القنصل : هذا أخي خليل يقوم بهذه المهمة إذا وافقتم على 
انتدابه لهذا الأمرء فشكره الزعيم رياض بك الصلح. فذهبت للقدس واجتمعت 


3 


لكم 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 203 





بالشيخ كامل القصاب وأخبرته بالذي أوصاني به الزعيم رياض بك وتم اجتماعهم 
على الحدود الفلسطينية» ثم عاد رياض الصلح إلى دمشق . 

لسابق معرفة والدي بالأستاذ رضا بن أحمد باشا الصلح., والد معالي 
المرحوم الأستاذ رياض بك رئيس أول وزارة شكلت للجمهورية اللبنانية في عهد 
استقلالهاء بقي الأستاذ رياض بك محافظًا على صلة والدي إبراهيم المحمد 
الرواف إبقاءً لصلات والده رضا نجل أحمد باشا الصلح» الذي كان يجتمع بوالدي 
أثناء زيارته لدمشق. وإني لأذكر أنه عند وفاة والدي عام 1345ه (1927م)» حضر 
الأستاذ رياض بك من بيروت وشيّع جنازة والدي ومشى مع عدد من الدمشقيين 
والنجديين وراء نعشه رحمه الله. وبقي السيد رياض إلى أن توارى جسد والدي في 
لحده بين قبور أصدقائه وجيرانه» صبحي بك أجليقين وأشقائه الثلاثة طاهر وفوزي 
وممدوح رحمهم الله لقد كان أفراد هذه العائلة العريقة جيرانًا لنا في مدينة دمشق» 
وقد أرضعت زوجاتهم عددًا من أشقائي وشقيقاتي. 

لم يرزق رياض بك ولدًا ذكراء وكانت خلفته كلها من الفتيات» إحداهن 
نزوجت الأمير السعودي المرموق طلال بن عبد العزيز وخلّف منها ولدين هما 
الوليد» وخالد والثانية اقترنت بالأمير عبدالله النجل الثانى لملك المغرب محمد 
الخامس. وعلى أثر اغتيال والدهم في العاصمة الأروية عمان عام 1370ه 
(1951م)» ألّبت هؤلاء الفتيات رجال الوطنية في لبنان مسلميه ومسيحييه وألهبت 
حميّتهم وبقِي هذا الحادث المؤسف العظيم مدوّنًا على صفحات تاريخ لبنان 
الحزين. 

عند عودتى لدمشق ألقى الفرنسيون القبض علي فى مدينة درعا بتهمة اجتماعى 
بالشيخ القصاب المحكوم عليه بالإعدام من قبل حكومة الانتداب» وسُئلت من قبل 
رجال الأمن عن سبب اجتماعي بالشيخ القصابء فأجبتهم إِنَّ ذلك مجرد صدفةء 
وبقيت موقوفًا ست ساعات انّصلت خلالها بشقيقى محمد عيد الرواف تليفوتيًا 
فأطلق سراحي دون أن أسأل المزيد. فقد كانت الجكرة الفرنسية تعامل رعايا 
المملكة السعودية معاملة طيبة» لما تمنّع به المرحوم جلالة الملك عبد العزيز من 
مكانة رفيعة ولحفاظه على العهود والمواثيق. 

أثناء وجودي في القدس زرت الحاج أمين الحسيني في مكتبه بالمسجد 


204 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الأقصى فألفيته منهمكا في قراءة تقرير سياسي ورد إليه من مدينة عمان عاصمة 
شرقي الأردن» وقد أطلعني الحاج أمين على بعض أوراق هذا التقرير» قائلًا: انظر 
ماذا يفعل عبدالله مع الصهاينة» لقد كان عبدالله على اتّصال دائم مع زعماء 
الصهاينة (بالشونة) المكان الذي كان يقضي فيه أيام الشتاء الباردة» كما قابلت أحر 
رجال المستر (أسترنج) مدير الاستخبارات السابق في شرقي الأردن» فأخبرني أن 
المستر (أسترنج) ثُقِل إلى مدينة حيفا. 

أعود مرة أخرى للحديث عن ثورة الإخوان. فبالرغم من المحاولات الكثيرة 
التي بذلها الملك عبد العزيز لاحتواء وإرضاء الإخوان وإنهاء ثورتهم بالسلم. إلا 
أن خلافهم مع عبد العزيز اشتدء وازدادوا في غلوهم وعَظُمَ شأن ثورتهم مما دفع 
عبد العزيز إلى قتالهم والقضاء عليهم. 

كان من زعماء هذه الثورة خمسة من أقوى قبائل الجزيرة وأكثرها عددًا وعدَة 
وهم: فيصل الدويش زعيم قبيلة مطيرء وسلطان بن بجاد زعيم قبيلة عتيبة» يشاركه 
في الزعامة مقعد الذهينة» وفرحان بن مشهور أحد مشيخ قبيلة الرولة» وضيدان بن 
حثلين زعيم قبيلة العجمان» وقد قتل في إحدى المعارك التي دارت بينه وبين 
عبدالله بن جلوي أمير مقاطعة الأحساءء كما قُتل في هذه المعركة فهد نجل الأمير 
عبدالله بن جلوي» وخلف ضيدان بن حثلين على زعامة قبيلة العجمان أحد شيوخ 
القبيلة المعروف بأبي الكلاب» وكانوا يرمون من وراء ثورتهم القضاء على ابن 
سعود الذي (كما يزعمون) صدَّهم عن الجهاد في سبيل الله وشلّ حركتهم ووقف 
دون مبتغاهم وهو إعلاء كلمة الله وتحرير البلاد الإسلامية من الكفارء ورفع شأن 
المسلمين وتحسين مكانتهم. واتّفق هؤلاء الزعماء ورؤساء مشايخ القبائل الخمس 
على أن يورّع مُلك ابن سعود فيما بينهم؛ هذا إذا نجحت ثورتهم. 

فخصّص لفيصل الدويشء زعيم قبيلة مطيرء نجد بأكملهاء بما فيها مقاطعة 
حائل وما حولها. 

خصّص لابن بجاد ورفيقه مقعد الدهينة» زعماء قبيلة عتيبة» الحجاز بحدوده 
الطبيعية. 


كان نصيب ابن حثلين» زعيم قبيلة العجمان. مقاطعة الأحساء وما حولها. 


٠. 
2 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 205 
ولابن مشهور أحد زعماء قبيلة الرولة بادية الجوف والقريات وشرقي الأردن 

إذا وفُقوا في غزوها والاستيلاء عليها . 

أثناء هذه الفترة من الزمن التي اشتدَّت فيها الخلافات في نجدء بين الملك 
عبد العزيز وجماعة الإخوان ومع ما كان يترامى إلينا من الأخبار المثيرة عن انتشار 
بورة الدويش واستفحال أمرهاء وقفت القنصلية في دمشق موقفًا حازمًا مشرفًا تجاه 
نلك الأحداث» فأقامت الحفلات» ودعت أرباب الصحف وحَمّلة الأقلام» 
واستدان القنصل شقيقي ياسين الرواف من أحد بنوك سورية مبلعًا وافرًا من المال» 
لكي تحافظ القنصلية على مظهرها الاعتيادي اللائق وهو الذي جعل كثيرًا من 
الناس د يتساءلون بينهم عن أهمية ثورة الإخوان؟ خاصة أن شقيقي ياسين تزوج من 
إحدى كريمات رجال دمشق في ذلك الوقت. 

فكتبت إحدى الصحف السورية تقول لو أن أمر الدويش مهم حقًّا وأنه سينجح 
فعلّا في ثورته ويقتسم هو ومن معه من مشايخ القبائل النجدية مقاطعات المملكة. 
كما قرَّروا في اجتماعاتهم الأخيرة في مدينة الأرطاوية» لّما بقيت الأمور عادية 
طبيعية في القنصلية السعودية ولّما تزوّج القنصل في هذه الأوقات الحرجة. 

بعد أيام من زفاف القنصل وردت أخبار إلى القنصلية تقول: إن الملك 
عبد العزيز جمع قوة كبيرة من الحضر وسكان المدن والقرىء. ومن الإخوان 
الموالين له وتوجّه لمقاتلة الإخوان الثائرين. 

كان فيصل الدويش يعتمد اعتمادًا قويّا على ولده عبد العزيز الدويش» فاختاره 
ونصّبه على رأس سبعمائة رجل من الإخوان الأشدّاء» وكانت هذه القوة التي تُعرف 
(بالمنقية) - أي القوة المختارة - تعيث في الأرض فسادًاء تسفك الدماء وتقتل 
الكثيرين وتنهب الأموال. وتعقَّبٍ هذه القوة الأمير عبد العزيز بن مساعد أمير منطقة 
حائل» وأخبّر هذا الأمير أن عبد العزيز الدويش ومن معه من قبيلة مطير والإخوان 
سيّردون على ماء يسمى (أرضمة)» فما كان من عبد العزيز بن مساعد إِلَّا أن اهتبلها 
فرصة»؛ فسبقه إلى هذه المياهء وهكذا لم يتمكن عبد العزيز بن فيصل الدويش من 
الوصول إلى غايته وبقي ظمآن وفي أشدٌ الحاجة إلى الماء. واضطر أفراد قرّته إلى 
التسثّل يَباعًا لورود الماء» فكان جنود ابن مساعد لهم بالمرصاد حيث قتلوا كثيرًا 





متهم وسلّم الباقون أنفسهم. وبذلك قضى ابن مساعد على هذه القوة الجبارة التى 
كان يعتمد عليها رئيس الثورة فيصل الدويش. 


لقد كان القضاء على قوة (المنقية) هو بداية النصر النهائي لعبد العزيز على 
جماعة الإخوان في معركة السبلة» فتوفيق الله الذي واكب الملك عبد العزيز رحمه 
الله ثم حظّه الكبير وخبراته الحربية وحنكته فيهاء والتفاف أهل الحضر حوله بعد 
معاناتهم من غلوٌ الإخوان ومضايقاتهم واعتداءاتهم على القوافل التجارية» كل هذه 
الأسباب أعانت الملك عبد العزيز في القضاء على هؤلاء الزعماء الخمسة وإخماد 
ثورتهم» ووقعوا في الأسر جميعهم وسيقوا للمثول بين يدي الملك عبد العزيز, 
را السجنء والتجأ فيصل الدويش إلى الحكومة البريطانية في الكويت وثقِل 
إلى إحدى البواخر البريطانية المرابطة في الخليج العربي» فهدّد الملك عبد العزيز 
الحكومة البريطانية بقوله: إذا لم تأتوني بفيصل الدويش في مدة ثمانٍ وأربعين ساعة 
فجميع المعاهدات التي بيني وبين بريطانيا ملغاة» فامتثلوا أوامره وطلبوا من ابن 
سعود إرسال من يستلم فيصل الدويش فأرسل الشيخ إبراهيم بن معمر إلى الكويت 
ونقلت طائرة بريطانية خاصة فيصل الدويش إلى حيث كان يقيم الملك عبد العزيز 
قريبًا من مدينة الكويت» وأودع الدويش السجن مع رفاقه ابن بجاد وابن حثلين 
وأبي الكلاب وغيرهم من زعماء الثورة. وأعقب الحادثة رسالة من لندن تعتذر فيها 
بريطانيا على توجّه فيصل الدويش إلى اللجوء إليهاء وهي على غير علم بقدومه. 
فقّبل الملك عبد العزيز عذر البريطانيين» وهناك من يرى من المؤرخين أن موقف 
بريطانيا من ثورة الإخوان كان غامضًا. وما لبثنا غير أيام قلائل حتى وافتنا بدمشق 
الأخبارء تحمل هزيمة فيصل الدويش وكسب ابن سعود المعركة بعون الله ثم 
بجنوده من أهل المدن وممّن كانوا لا يزالون موالين له من القبائل» ارتاح ابن 
سعود من أذى الإخوان» وقد شق عليه إذلالهم» نعم إنه انتصر عليهم ولكنه خسر 
أعظم قوة كانت تأتمر بأمره وثُلقي الرعب في قلوب أعدائه» ثم عاد إلى الحجاز 
للنظر في شؤون مملكته. 


بعد القضاء على ثورة الدويش وزعمائها قضاء مبرماء وبعد أن أمَّن الناس 
على أرواحهم وأموالهم لم يعد ابن مساعد بقوته الكبيرة إلى مدينة حائل مركز 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 207 


إماراته» بل أخذ يتنقل في البادية حتى وصل إلى الجوف» وطلب من القنصلية في 
«مشق بعض المؤن والأرزاق» وتوجّهت مع قافلة السيارات التي تحمل المؤن 
والأرزاق للأمير عبد العزيز بن مساعد المقيم في بادية الجوف؛, وكان دليلنا قد مال 
إلى حدود العراق وقرَّبنا من مدينتي «مشهد والحسين» فأوقفتنا سيارات الحدود 
العراقية من رجال (الميجر كلوب) الضابط البريطاني وكان يعرف بأبي حنيك إذ كان 
ذه الأسفل ملتويّاء إثر رصاصة أصابته أثناء وجوده في الجيش البريطاني عند 
استيلائه على العراق» وكان كلوب يخدم في الجيش العراقي ولم ينقل مركزه بعد 
إلى شرقي الأردن» وبعد ساعات قليلة حضر الميجر كلوب, فوجّه كلامه لي قائلا 
بنبرة شديدة: ألم تعلم أنك دخلت حدود العراق دون إذن من حكومتها؟» فأجبته 
بنبرة أشد من نبرته : إن الذي أعرفهء أن البادية العربية جميعها هي من ممتلكات 
ابن سعود» وإِنّ حدود العراق هما مدينتا المشهد والحسين» نأجابني بقوله: إنك 
مخطىء في تعريفك هذاء وبعد ساعة من المناقشة بيني وبينه أطلق سراحناء 
وواصلنا السير حتى وصلنا مدينة الجوف. 


لم أقابل الأمير عبد العزيز بن مساعد في الجوفء فلقد كان مقيمًا على بعد 
عشرين ميلا من الجوف» فسلّمت الأرزاق إلى مندوبه» ثم عدتٌ إلى دمشق» 


توججه الملك عبد العزيز إلى الخليج العربي واجتمع بالملك فيصل بن 
الحسين ملك العراق» وكان ذلك أول وآخر اجتماع بينهما على ظهر الطراد 
البريطاني» وكان بصحبة الملك فيصل بن الحسين» شيخ قبيلة عنزة (فهد بن 
هذال). كما حضر هذا الاجتماع (الميجر كلوب) وأخبر الميجر كلوب الملك 
عبد العزيز عمًّا دار بيني وبينه من الأقوال بمناسبة دخولي حدود العراق وما كان 
معي من الأرزاق» وعند عودة الملك عبد العزيز إلى المنطقة الغربية كان عمي قاسم 
الرواف مقيمًا في مكة المكرمة فأراد الملك عبد العزيز ملاطفة العم قاسم فقال له 
جلالته: تحسبون أنفسكم دللة يا آل الرواف» هذا ابن أخيك خليل ضاع في 
الصحراء ودخل حدود العراق بالسيارات التي نقلت المؤن لابن مساعد في الجوف 
وكاد خليل أن يتشاكل مع الإنجليز وأخبر (كلوب) أن البادية جميعها لابن سعودء 





لهذا المغوارء ووضع جلالته يده على رأسه - يعني بذلك أن الحكم لهذا الرامن: 

كتبتٌ رسالة لجلالة الملك عبد العزيزء أخبره فيها أن بقائى فى مديئة معان قر 
طال أمره ممًّا أودع الريبة في نفوس أفراد الحكومة فيهاء وإني لا أزال أرتقب 
أوامره وانتظرت من جلالته جوابًاء فلم يصلني منه شيى» وسافرت إلى دمشق, 
فالتقيت فيها بأحد كبار موظفى جلالته الذي كان يزور دمشق. وسألنيى ماذا أعمل 
الآن؟ قلت إنني منتظر جوابًا من جلالة الملك». فأبلغني هذا الموظف. أن جلالة 
الملك لم يعْدْ يعِرْ أيّ انتباه لِما أوافيه به من الأخبارء وأوصاني أن أكُفَ عن 
الكتابة إليه» فاستغربت هذا الأمرء وأحببت أن أقف على صحة ما أخبرني به هذا 
الموظف. فكتبت لجلالة الملك كتابًا وأخبرته بالأمرء ولكنني لم أذكر اسم 
الموظف, وأنهيتٌ رسالتى بالكلمات الآتية: 

وإني كنت ولا أزال من المخلصين لجلالتكم . 

بعد أسبوعين 5 تسلمت من جلالة ا لملك عبد العزيز تغمده الله بر حمته الكتاب 
اليه 





الرياض في 28 جمادى الآخرة 1350ه (9/ 11/ 1931م). 

من عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى جناب المكرّم خليل الرواف سلَّ 
الله تعالى» السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد» فقد استلمت كتابيكم المؤرخين 
في 4/24/ 1350» 5/ 6/ 1350ه. وأحطنا علمًا بما شرحتم بهما من الأخبار 
بارك الله فيكم»ء ولا بد إن شاء الله تواصلونا على الدوام بما يستجدٌ عندكم من 
الأخبارء أخبار طرفنا لله الحمد ساكنة ولم يحدث ما يوجب الذكرء إِلَّا دائم الخير 
نحمد الله على ذلك» هذا ما لزم بيانه والله يحفظكم والسلام. 

ومرفق بهذا الكتاب ملحق جاء فيه : 

ملحق خير وسرور إن شاء الله لخليل الرواف 

ما ذكرتم كان معلومًا وقد عجبّنا من الخبر الذي ذكرتموه من أنَّ بعض كبار 
الموظفين أبلغكم أننا لا نحبٌٍ الاطلاع على ما تكتبونه لناء وأننا لا نئِقُ بأقوالكم؛ 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 209 





وأن ذلك كان الداعي لتأخركم» إن هذا كله غير صحيح» وأنتم محسوبون عليناء 
وإن كان بإمكانكم أن تخبرونا عن اسم الشخص الذي ذُكّر لكم ذلك وما نظّه إلا 
من الأشخاص الذين قد يكون ممَّن يكرهون قربكم منّاء فلا تكن لديك فكرة من 
هذا القبيل. 

فكرت طويلًا عند استلامي جواب جلالة الملك. هل أنزل عند رغبته» وأخبره 
فم هذا الموظف الكبير الذي افترى علي» وأبدى لي أمورًا لم تكن صحيحةء 
واستخرت الله وقررت أن أبقيه بيني وبين نفسي تجنبًا للفتنة» وبعد ذلك بعدة أسابيع 
سافرت إلى مكة المكرمة للسلام على الملك عبد العزيزء وخلال هذه الزيارة 
توطّدت عُرى الصداقة بيني وبين السيد عبدالله الدملوجي الذي كان في ذلك الوقت 
موظمًا كبيرًا في الخارجية السعودية. 

في أحد الأيام أقلّني سيارة والسيد الدملوجي من قصر السقاف الذي انَّخَذْه 
جلالة الملك مقرًا له إلى الحرم المكي الذي كنت أسكن قريبًا منه» وكانت 
السيارة خالية من «الزمور» أي المنبّه وأثناء مسيرناء لم ينتبه أحد المارة للسيارة 
التي تحملناء فاضطر الدملوجي إلى إيقاف السيارة والترجل منهاء للتكلم مع 
الفران الج لكي لينم ليا الطزرق؟ ولقد كان الرجل المكي عصبي المزاج 
وكذلك الدملوجي 

بعد أيام من هذا الحادثء رافق عبدالله الدملوجي صاحب السمو الملكي 
الأمبر فيصل بن عبد العزيز بزيارته التي قام بها إلى بريطانيا. 

عند عودة سمو الأمير فيصل من لندن» طلب عبدالله الدملوجي الإذن من 
جلالة الملك لزيارة أهله في العراق» فأذن له» ومرّ الدملوجي بدمشق في طريقه 
إلى العراق وزار القنصلية السعودية فيها وتمشّى مع القنصل في غرفهاء فلفت نظره 
مفروشاتها القديمة فقال للقنصل: لِمّ لا تطلبون من الحكومة ثمنًا لمفروشات جديدة 
عوضًا عن هذه المفروشات البالية وسوف أوافق على طلبكم عند رجوعي إلى 
المملكة. فشكره القنصل ولكن غادر الدملوجى و إلى الغرافد وك ريك نه إن علباد 
في الخارجية السعودية فلقد عهد إليه صديقه نوري السعيد الذي كان رئيسًا للوزارة 
في ذلك الوقت بوزارة الصحة في العراق. 


يلاد الشاغ وشيه الجزير؟ والعراق 211 





الفصل الثامن 





وقف للرواف ف العراق 


كنت أسمع من والدي وعمومتي أن للرواف وتققًا في بغداد» في حي الباب 
الشرقي من المدينة» ويمتد هذا الوقف على شاطىء دجلة» ويبتدىء من شارع أبي 
نواس» وكان فيه قصر عبدالمحسن السعدون. رئيس وزراء العراق وكان جدي 
محمد العبد الله الرواف» يقطن أثناء وجوده في بغدادء في هذا الوقف» ويستغل 
خيراته» ولمًا توفاه الله كان والدي وعمومتي صغارًا لم يتجاوزوا الثامنة من العمرء 
وقد مضى على مديرية الأوقاف أكثر من خمسين عامًا وهي تستغل هذا الوقف»ء 
ولها حق التصرف في بيعهء وكان هناك إعلان صادر عن مديرية الأوقاف في 
الجرائد العراقية» حول بيع قطع من هذا الوقف. وقد زرت هذا الوقف سنة 
9ه (1921م). أثناء سفرتي الثانية للعراق مع العم محمد الأحمد الرواف 
وتجولت فيه» وجلست بإحدى المقاهي القائمة على شاطىء دجلة» وكان هذا 
المقهى في وقف الرواف. 

خلال عام 1349ه (1930م)» توجهت للمملكة؛ وتشرفت بمقابلة المغفور له 
الملك عبد العزيزء وفاتحته برغبتي عمًا أريد أن أقوم به في بغداد من المطالبة بهذا 
الوقف. ورجوته أن أحمل رسالة من جلالته إلى الملك فيصل ملك العراق» يوصيه 
بمساعدتي في هذه القضية لتكون رسالته مستندًا يضاف إلى المستندات التي حصلت 
عليهاء ولأستعين بها على تحقيق مطالبي» فتكرّم رحمه الله فحقّق رغبتي وكتب إلى 
الملك فيصل كتابًا لبقا يلاحظ القارىء فيه صفاء النية ورغبة في تحقيق المطالب: 

من عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل 


إلى صاحب الجلالة الأخ فيصل ملك العراق المعظم حفظه الله 


212 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





السلام عليكم ورحمة الله أما بعدء فإني أسأل الله أن يكون جلالة الأخ 

متمتّعًا بكل ما أتمناه من الصحة والعافية» وإن تفضل بالسؤال عن أخيه فإنني من 

فضل الله على أحسن حال ثم إنني أقدّم لجلالته الأخ خادمه خليل الرواف حامل 

كتابي هذاء الذي أرجو أن ينال عطف جلالة الأخ ونظره الكريم» لمساعدته فى 
ملاحقة قضية وقف تتعلق بعائلة الرواف ببغداد. 

التاريخ 4 ذي القعدة 1349م 

التوقيع الملكي 

الختم الرسمي 


قد كتب فؤاد حمزة رسالة منه إلى كامل الكيلاني» وأوصاه فيها بتقديم 
المساعدة لي في موضوع الوقفء كما أخذت رسالة من عبدالله فيلبي إلى المستشار 
البريطاني بوزارة الأوقاف. 
في هذه الفترة قَدِمْ من العراق إلى مكة وفد رسمي برئاسة نوري السعيد؛ 
وعضوية كل من طه الهاشمي» وتوفيق الألوسي. وأحمد المناصفيء وعبدالله بن 
مسفرهء فعرّضتٌ على الملك عبد العزيز مرافقة هذا الوفد» عند عودته إلى بغداد 
واستأذنت منهء غفر الله له» السفر مع الوفد العراقي» فأجاب بالموافقة قائلًا 
أتذهب قبل الحج؟ فقلت: إنني قمت بأداء الفريضة مرتين» وإني أعمل الآن في 
طلب الرزق لأجل أفراد أسرتي وسيكون قدومي للعراق مع هذا الوفد» مما يسهل 
مهمتي» فتكرّم رحمه الله. وأذن لي بمرافقة هذا الوفدء» وأخبرت رئيس الوفد نوري 
السعيدء وبقية أعضاء الوفد العراقي» أن جلالة الملك عبد العزيز أذِنَ لي بمرافقتهم 
رسام رمال إلى أخيه الملك فيصل. وهكذا غادرت مكة برفقة الوفد العراقي إلى 
مدينة بغداد» ونزلت في فندق تايكرس بالاس وبدأت حياتي في بغداد التي بقيت 
أتردد عليها طيلة ثلاث سنوات متتالية ألاحق قضية وقف الرواف فيها. 
في اليوم الثاني من قدومي إلى بغداد» توجّهت للسلام على الملك فيصل؛ 
وقابلت رئيس الديوان السيد رستم حيدرء وأخبرته بأنيى أحمل رسالة من الملك 
عبد العزيز إلى أخيه الملك فيصل بن الحسين ملك العراق» فاستضافني بقهرة 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 213 





تركية» قائلًا: انتظر قليلاء ثم عاد مسرعًا وقال: تفضل وأشار بيده» وهو لا يزال 
يرحب بي إلى أن أدخلني إلى مجلس واسع بين مكتب جلالة الملك» والجناح 
المُعَدَّ لسكنى جلالته» وأجلسني على مقعد مريح. وكان يجلس في صدر هذا 
المجلس الأمير عبدالله شقيق الملك فيصل» وكان أميرًا على شرقي الأردن لم 
ينادى به ملكا بعدء وكنت قد قابلته من قبل أثناء مكوثي في بلدة معان كوكيل 
للتجار النجديين المعروفين بالعقيلات»؛ قمتٌ من مكاني وسلّمت على سمرّهء 
وسألني عن سبب قدومي للعراق» فأخبرته أنني أحمل كتابًا من جلالة الملك 
عبد العزيز إلى أخيه الملك فيصل ملك العراق يوصيه فيه بمساعدتي في الحصول 
على وقف الرواف في بغداد. ولمّا سمع اسم عبد العزيز اعتدل في جلسته وتبدّلت 
ملامح وجهه وبدا عليه الانفعال» وقال: هل عبد العزيز أرسل معك كتابًا لفيصل 
لمساعدتك: فأجبت نعم لقد أوصاه فيه بخليل الرواف؛ وأراد الأمير عبدالله 
مواصلة الحديث ولكن أحد الخدم حضر يخبرنا بقدوم الملك فيصل ودخل جلالته 
(الصالون) والابتسامة تشرق على وجهه النحيل» فبادرنا بالتحية وصافح شقيقه سمو 
الأمير عبدالله ثم تكرَّم وصافحنيء وقدّمت لجلالته الرسالة التي كنت أحملها من 
جلالة الملك عبد العزيز مع سلام رقيق أوصاني به الملك عبد العزيز لألقيه على 
مسامع أخيه الملك فيصل» وبعد تلاوته للرسالة» قال: حيِّذا يا خليل ولكنني لا 
أستطيع أن أعمل عملا بمفردي تجاه وقفكم من دون عرض الأمر على البرلمان 
العراقي وعلى مديرية الأوقاف العراقية» فقدّم دعواك إلى المحكمة» وإني أصدقك 
القول» ستجد مني كل مساعدة في قضية وقفكم. 


لا أدري هل كان صادقًا بحديثه» أو كان ذلك إكرامًا للملك عبد العزيز بن 
سعود صاحب الرسالة. وكان الملك فيصل لطيقًا جدًا في حديثه إليّ» وقد عبّر لي 
عن إعجابه بالملك عبد العزيز بن سعود. وكذلك أطراه كثيرًا وأثنى على جهوده 
وكان مما قاله: إنني أحمل له في نفسي كل تقدير واحترام» إنه مخلص في عمله 
ويتعجب جماعتي » كيف أني بسطت يدي للأخ عبد العزيزء مصافحًا ومتناسيًا كل 
ما جرى بين عائلتينا ولكنها المصلحة العربية العامة» والواجب الوطني المقدّس 
هما أجبرا كلا منا على تناسي الماضي» وإني أرى بأخي جلالة الملك عبد العزيز 


214 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





ما لا يراه الناقدون» فنحن العرب سنضطر تحت التأثيرات الدولية الحاضرة أن نل 
شملنا ونجمع صفوفناء ونوحٌد كلمتناء ونعمل في الحقل العربي لصالح الأمة 
العربية يدا واحدة» رضي بذلك زعماء العرب المتنافسون الناقدون» أم لم يرضواء 
وإن قوتنا بانّحادناء وسنحقّق بهذا الاتحاد أماني العرب وآمالهم. 

قبل استئذاني لمغادرة القصرء بيّنت من طرف خف أنّي لا أطمع إِلّا بمساعدة 
جلالته الأدبية والمعنوية وقلت مخاطبًا الملك فيصل: وقد وعدتموني جلالتكم 
بهاء وإن شاء الله سأتبع إرشادات جلالتكم»ء وسأقدّم لجلالتكم مجرى قضية وقفنا 
من حين لآخر. وأخذت أبحث عن المحامين لأعرض عليهم قضية وقفناء وقف 
الرواف». وعرضتٌ الأمر على ياسين باشا الخضيري أحد وجهاء بغداد وتججارها 
المحترمين فاختار ثلاثة محامين منهم نقيب المحامين بهجت بن زينل والمحامي 
الأستاذ إبراهيم الراوي وأحد المحامين الذين يمارسون أعمالهم بالمحكمة 
الشرعية» وكان قريبًا إلى القاضي الشرعي في مدينة بغداد» وتم الاتفاق بيني وبين 
هؤلاء السادة المحامين على أن يقوموا و الت ب العيدنة الحرية عادمين 
يتقاضونه عند نجاحهاء وعرّضتٌ عليهم أوراقنا الرسمية التي تك - تثبت حقوقنا في هذا 
الوقف. 

بعد عقد جلستين في المحكمة الشرعية طلب القاضي إثبات النسب وأن عائلة 
الرواف التي تقطن في دمشق والعراق ونجد هي واحدة وأنه ليست هناك عائلة 
أخرى تحمل هذا اللقب. 

في الجلسة الثالثة» قدَّمنا الشهود والإثباتات أن عائلة الرواف هي الوحيدة 
بالأقطار العربية وليست في هذه الأقطار عائلة أخرى تحمل هذا الاسمء وتأجّلتَ 
الجلسة إلى الأسبوع القادم للبت فيها. 

استبشر المحامون خيرًا في نجاح القضية وقدَّموا تهنئتهم لي. وكان من 
السهل البرهنة على صحّة النسب الذي يثبت حق عائلة الرواف الشرعي في هذا 
الوقتف» فقد كان جدّي محمد العبدالله الرواف يستغلٌ هذا الوقف عند وجوده في 
بغداد» وقد اقترن بإحدى العائلات العراقية التي يعود أصلها إلى نجد خلّف منها 
العمّ قاسم الرواف» وكان يُرسل بعض الأموال إلى إمام جامع الرواف الواقع في 


ني بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 215 





مدينة الزبير»ء وهو جامع كبير لا يزال قائمًا في هذه المدينة ويُعرف بمسجد 
الرواف. 

قبل الجلسة بيومين اثنين عُزِل القاضي الشرعي وعيّن قاض غيره وحدث ضغط 
على القاضي الجديد من قبل مديرية الأوقاف. وأخذت المحكمة في التسويف 
والمماطلة ولكن القاضي كان إنسانّاء كالقاضي الأول» وبعد عدَّة جلسات استمعت 
المحكمة أثناءها إلى المحامين» أحيلت الجلسة إلى الأسبوع التالي للبت فيهاء 
فهنأني المحامون مرة ثانية قائلين إن القضية ستنجح بالرغم من كل الضغوط» لكن 
حدث مجددًا أنه قبل انعقاد الجلسة بيومين اين نشي القاضي عن منصبه وَعزِل 
واستّبدِل بقاض غيره أعاد النظر في القضية مرة ثالثة من بدايتها . 


في إحدى زياراتي لجلالة الملك فيصل بن الحسين ملك العراق كان في 
حضور مجلسه مدير أوقاف بغداد السيد رؤوف القبيسي» من أقرباء زوجة عمي 
قاسم الرواف فأمره جلالة الملك فيصل بإنهاء القضية سواء بالاتّفاق على شيء 
معيّن من المال والتساهل معهء وأكّد عليه ضرورة إنهائها بأيّ صورة»: وهكذا 
أخذتٌُ وعدًا من مدير الأوقاف على أن أجتمع معه بدائرة الأوقاف لنتباحث معًا في 
موضوع الوقف. وكان هذا الوعد أمام الملك فيصل بن الحسينء لكن أثناء 
اجتماعي بمدير الأوقاف توجّه نحوي قائلا: إن قضية وقفكم معقّدة فمن الصعب 
على أن أَحُلَّ هذه العقدة لأسباب كثيرة منها أن معظم أوقاف العراق كثيرة الشّبه 
بوقف الرواف وقد وضعت مديرية الأوقاف يديها عليها بحبّة مرور الزمنء وإذا 
تساهلت مديرية الأوقاف وأنهت قضيتكم وأعادت إليكم الوقف فإن العراقيين من 
ورثة الأوقاف المحجوزة لدى مديرية الأوقاف ستطالب المديرية باسترجاعها إليهم. 
فالأمر يحتاج إلى الوقوف بقوة أمامكم. وأمام بقية الورئة للأوقاف العراقية» التي 
هي تحت تصرّف المديرية» وإذا لم تقف هذه المديرية موفقًا صلبًا فستخسر 
المديرية كثيرًا من الممتلكات التي هي بحوزتهاء وستصبح المديرية أفقر من فقير» 
وإني أقدّر مسعاكم في استخلاص وقف الروافء ونظرًا إلى القرابة التي تربطنا 
بعائلتكم فإني أتقدَّم إليكم بخالص النصح في أن تقلعوا عن المطالبة بهذا الوقف 
وتسحبوا القضية من المحكمةء خوفًا من أن يكون قضاء المحكمة لغير صالحكم 


216 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





وعندها تطالبك الأوقاف بأتعاب المحامين» ثم نهض من مجلسه وقدَّم اعتذاره 
بصورة لبقة» فقلتٌ له: لماذا لم تَقْلْ ذلك أمام جلالة الملك فيصل؟ فأجاب إني لا 
أرغب في أن أصدّع جلالته» ثم استأذن» وغادر مكتبه لحضور اجتماع في إحدى 
صالات مديرية الأوقاف وتركني جالسًا في مكتبه: فغادرت المكتب بعد أن أدركت 
أن مديرية الأوقاف لن تسمح بالتنازل عن هذا الوقف وهي متشددة في الدفاع عنه 
ليبقى من ممتلكاتهاء وأمر آخر كان له أثره البالغ في نفسي فقد أوحى لىٍِ السادة 
المحامون بهجت زيئل وإبراهيم يم الراوي أن يستقيلا من العمل في ملاحقة 
وقف الرواف وتلقّيا هذا الإنذار من المراجع الحكومية العلياء الكتهما لم يعوا مل 
الإنذاق أ العباءة وكان من شهامتهما ونبلهما الإصرار على ملاحقة القضية بقرة 
وعزم وصبرء وهكذا قُرّر لهذه القضية أن تدرسها المحكمة من جديد نظرًا إلى 
استقالة القاضي وتعيين قاض آخر. 

كان مما يخمّف علي وطأة الثلاث سنوات أثناء ترددي إلى مدينة بغداد 
لملاحقة قضية وقف الرواف واحتمالي المرير لشقائهاء هو انّصالاتي واجتماعاتي 
0 والإصغاء ء لأحاديثهم المتنوعة في شتى المواضيع» وقد عرفت 

منهم الكثير عن العراق» غابره وحاضره» وكنت أشترك في أحاديثهم عن الثورة 
العربية وفيصل بن الحسين ولورنس البريطاني» ذاكرًا مساهمة أهل نجد البواسل 
وشجاعتهم وتضحياتهم ومواقفهم الحربية أثناء حكم فيصل لدمشق ق وأن عددًا كبيرًا 
منهم قضوا نحبهم عند دخول الفرنسيين إلى سوريةء قد جاهدوا وجالدوا في سبيل 
العروبة ولكن الحظ خانهمء نقد كان الى الف تسيل أسلحة فتاكة لم يكن لدى 
الجيش العربي مثيل لها. ولمست من العراقيين تحمسًا وإخلاصًا لبلادهم لم يزعزع 
إيمانهم في جهادهم المبرور» ما كان يعترضهم من صلف البريطانيين وعنتهم . 

عندما توّج فيصل بن الحسين ملكا على العراق» لم يكن له نفوذء إِلَا على 
خدم قصره المقيم فيه أما الكثير من العراقيين فكانوا لا يقيمون له وزنًا . 

كان أثناء تجواله بسيارته في شوارع بغداد» يسمع بكلتي أذنيه. سبّه وشتمه؛ 
ولكنه تحمّل ذلك بصبر وتجمّل وجَلّده وتحمّل من العراقيين فوق ما يحتمله 
الإنسان» كان ذلك في سبيل العروبة» كما كان يقول جلالتهء ولكن الحقيقة الأولى 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 217 





مي حفظه وحرصه على التاج» التاج الذي وضعته بريطانيا على هامته؛ فما زال 
صابرًا مستكيناء يجامل هذاء ويتقرّب من ذاك» حتى التفٌٍ حوله بعض زعماء 
العراق» وفي مقدّمتهم ياسين باشا الهاشمي صاحب النفوذ القوي في البلاد» فقد 
كانت له الكلمة المسموعة بين طبقات الشعب وعبدالمحسن السعدون. الذي انتحر 
أثناء توليه الوزارة العراقية» وكان من هؤلاء الزعماء جميل المدفعي». ونوري 
السعيد» وكان لنوري السعيد طموح ونشاط يفوق جميع الزعماء. وكان ذا تفكير 
واسعء وحركة دائبة» ينظر إلى البلدان العربية» نظرة من يريد ابتلاعهاء وضمّها إلى 
التاج العراقي» غير أنه كان كبقية العراقيين لا يقيم لزعماء البلدان العربية المجاورة 
وزناء ينظر إليهم نظرة القوي للضعيف, والذكي نحو البليد» فإذا ذُكر أحد هؤلاء 
الزعماء في مجلسه أو في مجلس آخر كان يقول مستهزًا (شنو هذا) أي مَن يكون هذا 
ارك )و لكتوم 1 الخ ا فونه كاتا مما بدن قف تلاك بريعد ور عفد سس عل لخ 
البريطانيين» واسترداد حريتهم والتمتع باستقلالهم» فلبثوا أحد عشر عامّاء وهم 
يعملون جادين في سبيل إبرامهاء فتمّ لهم ما أرادوا عام 1350ه (1930م). 


بعد إبرام المعاهدة العراقية البريطانية» عم التنافس بين الأحزاب في بغداد. 
وانتشرت الخلافات فيما بينهاء أكثر مما كان عليه الحال من قبل» ونشط الزعماء 
والمتنفذون في الحصول على أهدافهاء وإدراك غاياتهاء وأخذ كل حزب يختلف 
بمناهجه في إصلاح البلاد وتقدّمها عن الأحزاب الأخرى» فلّمّع اسم نوري 
السعيد» والتفٌّ الناس حولهء لميله الشديد نحو البلاط» والمشاركين في الحكم 
من البريطانيين» واستاء ياسين باشا الهاشمي من هذا الأمرء وكان الهاشمي من 
ألمع الزعماء في العراق وأقدرهم عملاء فهو رئيس أكبر حزبء وله مكانته 
المرموقة» ومركزه السياسي والاجتماعي ولعائلته المكانة المحترمة في الأوساط 
العراقية» وله مواقف مشهورة في الحرب العالمية الأولى أثناء انضمامه لرجال 
الثورة العربية» ومرافقته للملك فيصل بن الحسين في سورية» وكان يعترٌ بهذه 
المميزات على سائر الزعماء. 


كان شديد الحرص على تمسّكه بصداقة معارفه المخلصين من الرجال وفيا 
لهم . وكان موقفه مشرقًا تجاه صديقه القديم محمد العبد الله البسام التاجر النجدي 


218 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الواسع الثراءء فقد كانت تجارته منتشرة في الأقطار العربية وكان يتعاطى تجارة 
الأقمشة المتنوعة وتجارة الإبل والخيل» ويستورد كل عام من بادية نجدء وبادية 
العراق عددًا كبيرًا من هذه المواشي». كما اشتغل بتجارة (الصيرفة) بين دمشق 
وبغداد. فكان يرسل المبالغ الطائلة من الذهب إلى العراق» ويشقٌ طريقه 
بالسيارات بين سورية والعراق بصحراتها الواسعة» فصادرت له سلطة الانتداب 
الفرنسي في سورية مبلعًا كبيرًا من الذهب. أثناء نقله من سورية إلى العراق. فقد 
كان محظورًا إخراج الذهب من سورية» ويقدَّر ما صادرته السلطة الفرنسية بخمسة 
وعشرين ألف ليرة عثمانية ذهبّاء وكان هذا المبلغ يُعتبر ضخمًا في ذلك الزمن, 
فمَئِي بخسارة فادحةء وأخذت تجارته بالانهيار» حتى تمد ما بين يديه من الأموال. 
استدعى ياسين الهاشمي السيد محمد البسام إلى بغداد» وسهّل له أخذ 
الجنسية العراقية» وعيّنه نائبًا في البرلمان العراقي: وأغدق عليه الخيرات» فحَفِظ 
مكانته» إلى أن وافته منيته في مستشفى الحكومة في بغداد وكنت ملازمًا له أثناء 
مرضه حتى فارق الحياة الدنياء وحضرّت زوجته من دمشق بصحبة نجله الأكبر 
إبراهيم لحضور مراسم دفنه في بغداد. 
كان ياسين الهاشمي يقوم بزيارة صديقه محمد العبدالله البسام كل يوم صباحا 
ومساء مستصحبًا معه نفرًا من رجال البرلمان العراقي» ومن علية القوم في بغداد 
وتوّدت الصّلات بيني وبين ياسين الهاشميء وكان في ذلك الوقت خارج 
الحكم» ووعدني أن ينهي قضية وقف الرواف عند استلامه الحكم في العراق. 
أثناء إقامتي في مدينة بغداد» قَدِم من القاهرة محمد علوبة باشاء وبصحبته 
مفتي القدس الحاج أمين الحسيني فاسيّقبلا استقبالا حارًا من العراقيين» وأقامت 
جمعية الشبان المسلمين لهما حفلا حضره رجالات العراق الدينيين والسياسيين. 
كنت من حضور هذا الحفل وكان الحسيني من المنافسين السياسيين لحاكم 
شرقي الأردن» الأمير عبدالله بن الحسين» وكان سبب قدومهما لجمع التبرعات 
للقضية الفلسطينية» وقد لقيا فيما قَدِما إليه بعض التوفيق» ولقد ضرب الحاج أمين 
الحسيني بحضوره لبغداد عصفورين بحجر واحدء كما يُقال: فقد أتى إلى بغداد 
لجمع التبرعات للقضية الفلسطينية التي كانت تشغل العرب أجمع» - ولا تزال - 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 219 





ولسبب آخر أهم لديه من جمع التبرعات وهو التحدّث مع العراقيين» عمًا كان يقوم 
به خصمه السياسي اللدودء الأمير عبدالله بن الحسين» من الأعمال التي كان يراها 
الحسيني» تخالف المبادىء العربية» ولا تواكب الأماني القومية» كاجتماعه برجال 
الصهاينة» في مكان يسمى (الشونة). 

بعد عشرة أيام من مغادرة الحسيني للعراق. قَدِم إليها الأمير عبدالله بن 
الحسين» وفي ذلك الوقتء كان الخلاف ناشبًا بين ابن سعود وإمام اليمن يحيى 
حميد الدين» وكان من أسباب قدوم الأمير عبدالله للعراق للتحدث مع شقيقه الملك 
فيصل عمًا يمكن أن يفعلاه تجاه هذا الصراع لا سيما إذا نشبت الحرب بينهما. 


لم يهتم الملك فيصل بن الحسين بما أبداه شقيقه عبدالله» إذ لم يكن الملك 
فيصل في مركز قوي يخوّله القيام بأعمال ضدَّ الملك عبد العزيز»ء إذ إن أي عمل 
في هذا السبيل كان يتطلب جهدًا متواصلاء ويحتاج إلى طاقات كبيرة ونفقات 
باهظة وقوة كبيرة ولقد كانت مشاكل العراق الداخلية اخذة جميع مجهودات الملك 
فيصل بن الحسين» فمشاكل الأكراد»ء ومشاكل الآشوريين لا تزال قائمة» كما أن 
صحته كانت لا تساعده على أن يجهد نفسه بمثل هذا العمل. أضف إلى ذلك 
معاهدته مع الملك عبد العزيز بن سعود وسعيه في التقرب إليه» وكان أحد بنود هذه 
المعاهدة ينصٌ على عدم تحكيم السيف بينهماء ووجوب حل خلافاتهما سياسيًا لا 
حربّاء وكذلك فلقد كان الملك فيصل» كما ذكرتء يكن تقديرًا واحترامًا خاصّين 
للملك عبد العزيزء رحمهما الله. 

قبل الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة» كان هتلر يؤلّف حزبه ولم يستلم 
الحكم بعد. وكانت الدعاية الألمانية تتقبّلها البلدان العربية التي كانت تحت 
الانتداب الفرنسي والحكم البريطاني لا حبًّا بألمانياء بل كرما بهاتين الدولتين» 
وكانت مدينة بغداد مسرحًا لعملاء النازية ينفثون سمومهم بين العراقيين وزعمائهم» 
بحدّثونهم عن هتلر وحزبه القوي النازي» وما يقوم به من الأعمال في تنظيم شؤون 
ألمانيا الإدارية والسياسية والعسكرية وعن مخترعات ألمانيا الحربية الجهنمية» 
وكان العراقيون يصغون إلى هذه الدعايات التي يديرها عملاء الألمان بكل انتباه. 
وقد تعرّفت بمهندس ألماني كان يقوم بإدارة قسم الكهرباء في مدينة بغداد» وطيار 





ألماني كان يتردد على مدينة بغداد من حين لآخر ويقيم في فندق تايكرس بالاس 
وطبيبة للأسنان وتاجر شاب كان في الخامسة والعشرين من سني حياته . 

كان اسم هتلر منة منتشرًا في الأوساط العراقية» وكان هذا التاجر الشاب عندما 
يُذكر اسم هتلر يشتعل الحماس بوجهه الأملس ويضرب بيده على الطاولة. قائلا 
نريد هذا الرجل ليتبوّأ مقاليد الحكم في ألمانيا (هاي هتلر) وكان تحمّسه لهتلر 
والنازية يفوق الوصف. 

هكذا كانت الدعاية النازية بقوّتها منتشرة في الأوساط العراقية» حتى قبل أن 
يصل هتلر لحكم ألمانيا. 

قد علمتٌ فيما بعد. عندما تولى حكم العراق الملك غازي بعد وفاة والده 
الملك فيصل أن الملك غازي كان يستقبل في بلاطه كثيرًا من النازيين» وأنَّ ميوله 
أخذت تقترب من الألمانء الأمر الذي استاء منه البريطانيون فأوعزوا إلى 
الآشوريين أن يمتنعوا عن تلقي أوامر البلاط الهاشمي والمطالبة بالانفصال عن 
العراق» واستمرٌ دعم البريطانيين لهم حتى قاموا بثورتهم وكان جلالة الملك غازي 
على علم بما يُضيره البريطانيون نحوه» فجهّز حملة حربية ترأسهاء وقبل أن يغادر 
بغداد على رأس هذا الجيش الذي أعدَّه لقمع حركة الآشوريين» نصحه البريطانيون 
أن يأخذ الأمر بالروية والهدوء» وأن يفاوض الآشوريين ويتّفق معهم على أمور لا 
دراك جو حو ريات لالم اك قار لامي وَضَربها 
عرض الحائط. ومشى ل ل ودخل بغداد 
منتصرًا ولم يُبّقِ للآشوريين بعد ذلك اليوم مطلبًا 

قام نوري السعيد بمجهود كبير وسعي متواصل لصدّ الملك غازي عن الاهتمام 
بالنازية» ولكن جلالته لم يم يضغ إلى نصائح السعيدء وأخذته صيحة النازية» 
واكتلات كاه افيا وقزنها رتتوقواة :ها اعظر الويظاتين متكا كان يد 
معظم العراقيين - إلى القضاء عليه بواسطة نوري السعيدء فديّروا الأمر مع سائق 
سيارته فاصطدمت بعمود كهرباء وقضى جلالته نحبه. ولم يصدّق الكثيرين ما قالنه 
حكومة بغداد عن موت الملك بحادث السيارة وكانوا يعتقدون أنه توفي نتيجة ضربة 
قوية على رأس جلالته» ودليلهم على ذلك نجاة سائق السيارة الذي كان معرّضًا 
للموت أكثر من تعرّض الملك غازي 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 2201 





كان يسكن في فندق تايكرس بالاس أثناء إقامتي في مدينة بغداد الأمير عادل 
أرسلان» وكنا نقضي بعضًا من ساعات الليل في بهو الفندق بعد تناولنا طعام 
العشاء وكذلك في فترات ما قبل الغداءء وكان حديثنا يدور حول الانتداب الفرنسي 
فى سورية ولبنان» وكان من المغضوب عليهم من قبل حكومة الانتداب الفرنسي» 
واستصحبني معه ذات يوم لزيارة الصديق فوزي بك القاوقجي» وكان يقطن في 
منزل كبير أعدَّته له الحكومة العراقية» يقع على شاطىء دجلة الغربي» فألفينا فوزي 
ببدي نفوره واشمئزازه من وجوده في بغداد دون عمل» وأول ما بادرنا به بعد 
السلام» قوله: ماذا تريد مني حكومة العراق يوم أن استدعتني؟ هل تريد أن تريني 
أو يُطلعني على آثار بغداد ومعالمها؟ أو لتحتفل بي وتكرمني» وتنزلني في هذا 
القصر الفخم وتقدّم لي شهي الطعام ونفيسه؟ إني أريد عملاء ولا أريد ضيافة» إني 
لا أزال شابًا في مقتبل العمر وأمامي واجبات نحو قومي وبلادي وأرغب في تحقيق 
هذه الواجبات والمضي في سبيلهاء وإِنْ ما حملني على النفور والاشمئزاز هو هذا 
الحبس» حبس الإكراه. وتكلم كثيرًا ثم سكت وأخذ الأمير عادل يخمّف من 
حدته» ويلظف من نرفزته» ويثني على شجاعته وحيّه لوطنه وقومه. 


في أثناء زياراتي المتكررة لفوزي بك القاوقجي» كان مرة في زيارة الأمير زيد 
النجل الرابع للملك حسين بن عليء. من والدته التركية» وكان زيد هادنًا متواضعًا 
ملمًا بالقضايا العربية إلمامًا واسعًا عارقًا بما كان يُحاك من مَكرٍ وخبث وخديعة» 
هكذا بان لي شأنه من حديثه. وكان يُرجى منه خير للقضية العربية لو عُهِدٌ ! ليه بعملٍ 
بذكرء ولكن أهمل وعُيّن سفيرًا للعراق لدى الحكومة التركية» فأهمّل العمل في 
الصالح العربي العام» وانزوى في بلاد أخواله الأتراك. 


أثناء ترددي إلى البلاط الملكي في بغداد لمحتٌ عن بُعد الملك علي بن 
الشريف حسين خارجًا من القصر الملكي». فقد مكث الملك علي في العراق بعد أن 
أبهد عن الحجاز حتى توقّاه الله» ولم نسمع له أثناء إقامته في العاصمة العراقية ذكرًا 
إلا قليلاء وبقي قابعًا في قصره يتردّد أحيانًا على البلاط لزيارة شقيقه الملك فيصل 
وكأنه أحد الزوارء يرتدي ملابسه الحجازية من جبة» وقفطان» وعمةء وكان أحيانًا 
بستبدل العمة بالكوفية والعقال المقصّب . والجدير بالذكر أن الشريف حسين كان قد 





تنازل عن المُلك في أواخر أيام حكم الهاشميين في الحجاز إلى ولده الأكبر علي. 
ولقد قابلت الأمير عبدالإله نجل الملك علي على جسر (مود) [نسبة إلى الجنرال مود 
الذي استولى على العراق سنة 1335ه (1917م) في الحرب العالمية الأولى]؛ وكان 
الأمير عبدالإله قد تخرّج في كلية فكتوريا بالإسكندرية» وكان يمشي على مهل بمفرد. 
فحيّيته» فردٌ التحية» وعرّفني بنفسه» فغيّرت وجهة طريقي ومشيت بجانبه بعض 
الوقت» وأثناء الحديث معه ألقيتُ على مسامعه السؤال الآتي: هل قرّرتم سموكم أيّ 
عمل ستقومون به في الحكومة العراقية بعد انتهاء دراستكم؟ 

فأجاب قائلاً: ذلك مما يعلمه الله إنني لم أقرّر حتى الآن أن أعمل في 
الحكومة العراقية» وإن كانت قد أبدت لي رغبتها في تعييني في وزارة الخارجية. 
لقد كان سموه في ذلك الوقت لم يفكر بعد أن يعمل في العراق» ولم يخطر بباله 
أنه سيكون وصيًّا على عرش العراق» بعد مقتل الملك غازي في انتظار بلوغ الملك 
فيصل الثاني سن الرشد وكانت بريطانيا قبل ذلك قد استخلصته لنفسها وتعهّدته 
وأوحت إلى نوري السعيد أن يحتضنه» فعهد إليه نوري باشا السعيد بعمل في وزارة 
الخارجية يوم أن كان وزيرًا لهاء فكان ذلك أول عمل له في العراق. 

كنت أقوم بين فترة وأخرى بزيارة طه باشا الهاشمي في مكتبه بوزارة الدفاع 
وكان محيًا للأحاديث العامة» ويتجتّب البحث في القضايا السياسية» وكنت إذا ما 
وجّهت إليه سؤالًا فيه ذكرٌ للسياسة يأتي جوابه مقتضبًا. فقد سألته ذات مرة: وإلى 
متى ستبقى الحالة كما هي الآن في البلدان العربية» فهل من أمل في فضٌ مشاكلها 
كلهاء والاختلافات القائمة بين ملوكها وأمرائها؟ فأجاب: إن البلدان العربية ستبقى 
كما هي ما دام الأجنبي له نفوذ فيهاء إلى أن يهِيّىء الله لها من أمرها مخرجاء قال 
هذا دون أن يزيد كلمة واحدة» ثم غيّر مجرى الحديث. 

كان يجلس في غرفة بجانب الغرفة التي يجلس فيها طه الهاشمي» مستشار 
بريطاني له الصلاحية التامة في شؤون الجيش العراقي. ولا يمكن لوزير الدفاع أن 
يقوم بأيّ عمل إلا بعد استشارته. كما كان في كل وزارة مستشار بريطاني له 
الصلاحية التامة في إدارة شؤونها . 


بدأت زياراتي للقصر يعتريها بعض الفتور» ولم أَعُذْ أجد من رئيس ديوان 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 223 


الملك رستم حيدر صدرًا رحبا كما كان من قبل» وآخر جلسة حظيت بها لدى 
الملك فيصل بن الحسين كانت في أواخر عام 1351ه (الشهر الأول من سنة 
3م) وكان وقتئذٍ نوري السعيد ورستم حيدر يتحدثان في بهو البلاط مع 
القنصل الأميركي» الذي انتقلّت وظيفته إلى تركياء وبعدها لم أرَ فيصل بن الحسين 
إز توجّه جلالته لأوروبا للعلاج وكان يشكو من وجع في قلبه . 





عيِّن إبراهيم بن معمر وزيرًا مفوضًا للحكومة السعودية في مدينة بغداد. 
فأكرمني غاية الإكرام» وقدّم لي مساعدات كبيرة في قضية وقف الرواف» ولكن 
المحكمة الشرعية في بغداد أهملتها وحجزتها لديهاء ولعبت فيها أيادي الأوقاف 
ففئّرت همّتي بملاحقتها وييِستٌ من نجاحهاء إذ لم أجد وميضًا من الأمل. ولا 
بارا من النجاح يُعيد إلى الثقة في المحكمة. 

في عصر أحد الأيام حملت إلينا الأنباء خبرّاء اهترَّ له كل محبٌ لابن سعودء 
وهو خبر اعتداء أحد أبناء اليمن عليه رحمه الله أثناء طوافه ببيت الله الحرام» وكان 
لهذا الخبر وضعه السيىء في نفسيء» فأبرقتٌ لجلالته مهدئًا على سلامته من هذا 
الاعتداء الشنيع» وقد استلمتٌ من جلالته برقتي شكرء إحداهما وردت بخطأ 
مطبعي باسم خليف الرواف, والثانية باسمي الصحيح خليل الرواف» وغادرت 
بغداد إلى الحجاز لتهنئة جلالة الملك على سلامته» بعد أن أخبرت المحامي 
بهجت زيئل بسفري هذا. 

مكثت ثلاثة أيام في أم القرى» وأخذت برقية من بهجت زينل يدعوني فيها 
للحضور إلى بغداد» ورجعت إليها وأخبرني المحامي زيئل أن المحكمة ستُدلي 
بحكمها ضدّنا والأحسن أن توؤْجّل الجلسة إلى ما بعد أشهر الصيف فعسى أن نجد 
في هذه الفرصة طريقًا ممهدًا نتبعه» وعسى أن يكون الملك فيصل تمائّل للشفاء 
وعاد إلى العراق» فلتُعرض عليه مجريات القضية» وعساه أن يجد لنا مخرجًا في 
فضيتنا يكون لصالحناء كان جلالة الملك فيصل آنذاك لم يزل في سويسرا يتلقى 
العلاج. وبعد أيام قلائل قضى نحبه هناك ونودي بولده غازي ملكا على العراق 
فأصابني اليأس من نجاح مهّمتي» فالملك فيصل رحمه الله الذي كنت أجد منه كل 
مساعدة معنوية انتقل إلى رحمة الله . 


234 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





عندها تحقّق لدي أن قضية الوقف لن تنتهي ذلك العام» ولن ننجح في تلك 
الظروف وهذا ما لمسته ممّن كانوا على صلة بمديرية الأوقاف؛ ومن رجال 
المحكمة الذين يفضلون إرجاع الحق إلى أهله وحتى من المحامين أنفسهم» فقد 
أبدوا لي نصحهم في أن أترك القضية» لوقت يكون أكثر مواءمة» ولكن لم يكن لنا 
حظ في تحصيل هذا الوقف أبدّاء فلقد تابع شقيقي محمد عيدء الذي أصبح بعد 
ذلك وزيرًا مفوّضًا للسعودية في العراق خلمًا للشيخ إبراهيم بن معمرء الذي عُيّن 
في منصب قائم مقام جدة» تابع مسألة الوقف وخضعت المحكمة العراقية لنفوذ 
مديرية الأوقات العراقية ولم تحكم لصالحناء وخسرنا القضية ولكن المحكمة 
أسقطت عنّا دفع تكاليف الدعوى. 


كي يلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 225 








شقيق المؤلف محمد عيد الرواف مع أمين الريحاني في لبنان 


226 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديل] 





محمد عيد الرواف القنصل العام في سوريا ولبنان 
وولده رياض والأستاذ شاهر سمان - دمشق 1930م 





ياسين الرواف مع الشيخ بهجت الأثري والشيخ علي الطنطاوي 
والشيخ محمد بهجت البيطار والشاعر عز الدين التنوخى 7م 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 227 








الشيخ عبد العزيز القصيبي والشيخ محمد عيد الرواف» القنصل العام في سورياء 
وخليل الرواف وسعيد الرشاش » سكرتير القنصلية السعودية في دمشق عام 2م 





في بغداد بحضور عدد من رجالات العراق» ومن بين الضيوف الزعيم الفلسطيني أمين الحسيني 
وعلوي باشا وخليل الرواف والواقف على يمين الصورة الشيخ محمد بهجت؛ء عام 1932م 


258 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 








المؤلف أثناء تعطل الطائرة التى أقلته 
من بغداد إلى بيروت 3م مع زوجته 
الأميركية الأولى 








المؤلف أثناء اشتراكه في فيلم 
«آي كفرذا وور» 1937م المؤلف عام 1941م 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 229 
1 








ذا 


المؤلف في فلوريدا ممتطياً الفرس (راشو) في المعرض العام للخيول العربية الذي أقيم في 
نيويورك وقد شاركت الخيول البريطانية والفرنسية والمكسيكية 





١‏ المؤلف في معرض للخيول في نيويورك 


230 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 








المؤلف» الجندي في الجيش الأميركي مع 
الدكتور أبي علي خير الله 1942م المؤلف في روما 1934م 


محمد عيدالرواف القنصل 
العام في سوريا ولبنان مع 





في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 231 








النؤلف.وعلى يعينه أحد الفلسطيين ثم إبراعيم السليمات ثم سكزثير جمعية 


و به5 





المؤلف مع أحمد الشقيري في إحدى الحفلات التي أقيمت في نيويورك 6م 


232 
صفحات 

ت مطوية 3 

من تاريخنا العر 

بي | 

ي الحديئ 

هه 














عبد الحي 

الذهب» 7 وت ْ 

ّ وى مين أبو | 

يام 5 

2596 5 

عقي م به ١‏ 

الي ماف ام 
ي فيلا ني |3 


السسقير 'المصم شنطر 

١ -‏ 
محمود حسر 000 
1540 انا ّْ ظ 
0 م. وكان 00 
لسمقبرا اه ١‏ 1 

ِ 1 نفد #/ 
الولايات |( 0 5 
يداه 3 : : َ 2 
لعرب وا و ظ 

لمسلمين. 6 





فى بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 





شقيق المؤلف محمد عيد بن 
إبراهيم الرواف. 


الملك فيصل أثناء زيارته لفرنسا 


234 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





: +6 ١ 59 
ا‎ ١ 00 8285! 1 


محمد عيد الرواف قائم مقام جدة - أواخر الثلاثينيات. 





لالد الشام وشبه الجزيرة والعراق 235 





جلوساً من اليمين السليمان» وفي اليسار عبدالله الفضل 
والوقوف الأول يمين مرزوق بن ريحان والرابع رشدي ملحس 


236 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





4 5 0 
ل كه 


ويقابله فؤاد حمزة وسليمان الحمد السليمان - السفارة السعودية فى واشنطن 7م 


في بلاد الشام وشبه الجزيرة والعراق 2237 





1 6 9 قا‎ . ١ 
ابراسعود بن عبدالعزيزن وعن يساره السفير السعودي أسعد الفقيه وطبيبه ثم المؤلف» وعن‎ 
يمينه فؤاد حمزة وفي الصف الثاني من الصورة يبدو سليمان الحمد‎ 
واشنطن - مقر السفارة السعودية 7م‎ - 


238 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





وعن يساره محيي الدين من أبناء لبنان المهاجرين في أميركا 1947م 





المؤلف مع الأمير نواف بن عبدالعزيز عندما كان قائداً للحرس الملكي - 1949م 


الحزء الثان 
١‏ : 1 
لهجرة إلى الولايات المتحدة الأ 
5 الأميركية 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 211 





لفصل التاسع 


لقاء في بغداد وزواج في دمشق 


لقد أمضيت من حياتي في بغداد ثلاث سنوات كاملة 1349 - 1352ه 
(1930 - 1933م)» حاولت خلالها استرجاع وقف الرواف في مدينة الرشيد» 
وكنت أغادر العراق بين الحين والآخر في زيارات قصيرة لدمشق وعمان ومعان 
والقاهرة ومكة والمدينة. 

لم يكن يخطر ببالي ولا حتى في الحلم وأنا مشغول بملاحقة الوقف أنَّ 
حياتي سوف تنتقل بعد بغداد إلى الولايات المتحدة الأميركية» ولكن هذا ما تم 
نعللاء فلقد التقيت بسيدة أميركية في بغداد وقدّر لي الله سبحانه وتعالى الزواج منها 
ورافقتها إلى الولايات المتحدة كما سوف أحكي للقارىء الكريم. 

لم أكن أعرف شيئًا عن أميركا إِلّا من خلال بعض الروايات التي تتحدث عن 
عظمتها وثروتها الكبيرة. وخلال السنة الثانية لإقامتي في بغداد قابلت أحد 
اللبنانيين المهاجرين إلى أميركا. فلقد حل في فندق تايكرس بالاس رجل جسيم 
البنية» فارع الطول. حسن المنظر وبعد أن قيّد اسمه في سجل الزائرين توجه إلى 
صالة الاستقبال حيث كنت جالسًا فبادرني بالسلام والابتسامة تملأ فمه» وذكر 
اسمه أبو علي خير الله وفهمت منه أنه قادم من أميركا وأنه من مواطنيهاء وأخذ 
يخبرني عنها وعن أهلها وتجارتها الواسعة» واحترامها للغرباءء وعن عظمتها 
ومعيشتها وأعطاني عنوانه في مدينة نيويورك قائلًا: إذا قُدَّر لك زيارة أميركا فأرجو 
الانُصال بي» وأخذنا نتحدّث عن البلدان العربية» خاصة عن المملكة العربية 
السعودية فَأَنِسْتٌ بصحبته طيلة إقامتنا في هذا الفندق حيث كان يسكن في الغرفة 
المجاورة لغرفتي . 

لم أكن أعلم أنني سأقابل هذا الرجل ثانية في نيويورك بعد سنة ونصف فقطء 


242 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





فلقد كانت البلدان الأميركية بعيدة كل البعد عن تفكيري وقتئذِء ولم يخطر ببالي أو 
يداعب خيالي في ذلك الوقت زيارة أميركاء وبعد أيام توجّهنا معًا إلى دمشق 
وواصل هو سفره إلى بيروت حيث كانت تقف إحدى البواخر في مينائها فتنقله إلى 
نيويورك. وفي أوائل فصل الشتاء كان يَفِدُ إلى الأمصار العربية جماعات من كافة 
أنحاء العالم يتمتعون بجودة طقسها ومناخهاء وشمسها الدافئة» وهوائها المنعش 
اللطيف» يدرسون معالمهاء ويشاهدون آثارهاء ويقفون على عادات وطبائع أهلها 
وأخلاقهم. وكان منهم الكتبة ومراسلو الصحف وحملة الأقلام» يدوّنون ما يرونه 
في هذه الأقطار التي يمرّون بهاء والقليل منهم يسجّل ملاحظاته دون تحريف أو 
تغيير أو تبديل» ومنهم ذوو الأغراض وأصحاب المصالح الشخصية» كانوا يمرّون 
بالبلاد مرور السحابء فيكتبون ما شاءت لهم أهواؤهم وأمْلّته عليهم ميولهم. 
فيتقوّلون الأقاويل الكاذبة وينشرونها في صحف بلادهم وغير بلادهم» ومنهم من 
كانت تستأجره دور النشرء وكانت هذه الدور تكتب المقالات عن البلدان العربية؛ 
وتعدّها للنشر قبل أن ترسل عملاءها لهذه الأقطارء حتى إذا عادوا من طوافهم 
نشرت بتوقيعاتهم ما كانت دوّنته من قبل» دون أن يضيفوا معلومات هؤلاء 
العملاء» وما رأوه في هذه الأقطارء كل ذلك لتشويه الحقائق» وتبلبل الأفكار عن 
البلاد الإسلامية والعربية. 

أخبرني مدير فندق تياكرس بلاس وقد توطّدت بيني وبينه صداقة متينة» طيلة 
إقامتى في مدينة بغدادء إنه رجل آشوري من آشوريي العراق طوى الواحدة 
والشعين سَ سني حياته» وتغيّرت نضارة وجههء فاده تجاعيد تشبه تجاعيد 
رمال صجراننا" العزينة 1 ولكن ايتستاطتة اتن باازالت ماذزمة له فى تويدل شواء في 
سروره أو في حزنه. 

لقد أخبرني أحد موظفي الفندق أنه رجل صادق الرجولة» وقد لمست منه أثناء 
وجودي في بغدادء ميلا ظاهرًاء واحترامًا زائدًا للعرب. وكان له اطلاع واسع على 
تاريخهم, وكان يسرد لي الوقائع الفاصلة بين العرب وبين الروم والفرس» حتى نم 
للعرب النصر عليهم. ويحدّئني عن مشاهير قوّادهم ونبلهم ومروءتهم. وعن 
الصليبيين الذين طردهم صلاح الدين الكردي الأصلء, والمسلم الحقيقي» من بيت 
المقدسن : 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 213 





عرّفني مدير الفندق» بأناس من هؤلاء الصحفيين» وبيّن لي أسباب قيامهم 
بهذه الرحلات وأسماء الجرائد والمجلات التي كانت تنتدبهم للقيام بمثل هذه 
الرحلات. 


قدّمني إلى رجل يدعى مستر بلاك» قال لي إنه صحفي له انّصالات مع هيئات 
التنصير وهو يزور العراق والبلدان العربية مرة أو مرتين كل عامء وأردف قائلا : 
أحببتٌ إطلاعك على أعمال هؤلاء الأشرار الذين يضمرون الحقد والكراهية للعرب 
والمسلمين» وإنك شاب في مقتبل العمرء وأمامك حياة حافلة بالخير والشرء 
وبلادك قادمة على عهد جديد بزعامة الملك البطل عبد العزيز» فلا تدّعوا مثل 
هؤلاء الأشرار تطأ أقدامهم بلادكم» فإنهم شر ووبال على البلدان التي يفدون 
إليهاء فشكرته على نصائحه ومعلوماته. 

بعد أسبوع مضى على حديثه معي طرق باب غرفتي ثانية» وأخبرني قائلا: إن 
سيدة أمي ركية » رأتك الليلة الماضية في غرفة الطعام» واستفسرت مني عن شخصيتك 
ومن تكون وهي ترغب في التعرّف إليك. وهي الآن في بهو الفندق تنتظرك» فهل 
تحبٌ التعرف إليها؟ قلت: من تكون هي؟ هل هي صحفية كمستر بلاك» الذي 
عرّفتني به منذ أيام؟ فأجاب بنعم ويلاء إنها كاتبة كمستر بلاك ولكنها تختلف عنه 
بكتابتها وأخبارها اختلافًا كبيرّاء إنها تنشر ما تكتبه عن رحلاتها وما تشاهده أثناء 
هذه الرحلات بتوقيع مستعار» وتقوم بهذا العمل لتشبع رغبتها. ولتقضي وقت زيارتها 
في بلدان العالم دود ملل» وزيادة فى معلوماتك». زارتنا هذه السيدة في العام 
الماضي ومكثت في هذا الفندق ثلاثة أيام» وهي الآن قادمة من الهند في طريقها إلى 
القاهرة. ثم إلى ألمانيا 2( لتأخذ المنطاد (زبلن») إلى الولايات المتحدة الأميركية» 
فقلت: لا مانع عندي» ورجوته أن يقدّم لها شكريء وإذا لم يكن لديها مانع» 
فسأدعوها غدًا لتناول طعام الغداء» وطلبتٌ منه أن يكون ثالثنا ليقوم بالترجمة» وقلتٌ 
له: احرص على أن تكون مائدة الطعام بمكان منزو عن الأنظارء فقال: لا يكون لك 
فكر من هذا القبيل» وسيكون غداؤكما على نفقة الفندق» هذا إذا كان ذلك لا 
يسوءك. فقلت أرجو أن تقدّم لها عذري عن عدم تمكني من الاجتماع بها هذا اليوم؛ 
إذ إننئي مشغول بالكتابة إلى رجل أقدّره حق قدره. 


244 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





أثناء الغداء» فهمت من السيدة أنها ستغادر بغداد في اليوم التالي إلى القاهرة, 
ووجّجهت لي بعض أسثئلة تتعلق بالمملكة العربية السعودية» عن مُنشئها الملك 
عبد العزيز الذي قرأت عنه كثيرًاء وتحدّثنا قليلا عن الولايات المتحدة خاصة عن 
مدينة نيويورك ثم استأذنت» وانصرفتء بعد أن ناولتني بطاقة تحمل اسمها 
وعنوانها في أميركا. كانت سيدة محترمة» متواضعة» بسيطة الملبس» في أوائل 
العقد الرابع» ما تزال تحتفظ بجمالها الطبيعي الهادىء ولقد تعرّفت على هلم 
السيدة في السنة الثالثة من إقامتي في بغداد. ولقد كان أملي في تحصيل وقف 
الرواف يتضاءل في ذلك الوقت بعد أن أدركت المصاعب التي كانت تعترضني 


بسبب موقف مديرية الأوقاف العراقية. 


في اليوم الرابع من مغادرتها بغداد» وصلتني رسالة منها تذكّر فيها بعض ميل 
نحوي وتتمنى أن تكون بجانبي طيلة حياتها - لقد كانت الرسالة مكتوبة باللغة 
الإنجليزية وطلبتٌ من مدير الفندق أن يقوم بترجمتها - ولم أرَ بدا من إجابتهاء 
فشكرتٌ لها سن ظنْهاء ورجوتٌ لها رحلة سعيدة» وسفرًا ميمونًا ممتعاء وكنت 
أرغب أن أقف عند هذاء ولكنني جاريتها أمانيها وميولهاء وشطّ بي القلم فذهبتُ 
أكثر من هذاء وأوضحتٌُ لها شيئًا عن تآلف القلوب. وتقارب الأفكارء لقد كتبت 
لها بالعربية وكنت متيقنًا بأنها ستجد من يُترجم رسالتي لهاء وتسلّمت إثر هذا برقب 
منها تقول فيها: بعد خمسة وأربعين يومًا أكون في بغداد فانتظرني» وجاء رفقتها 
خوالةكالية: 

يعدها أخذت ترِدّني رسائلها يِباعَاء وفي كل منها حوالة مالية. 

ومكثتٌ عشرين يومًا وكأنني في دوامة من الأفكار المتضاربة لا أدري ماذا 
أفعل معهاء ففي الأيام العشرين التي خلت إثر مغادرتها إلى القاهرة وردني منها 
خمس رسائل عبَّرت فيها عن تلهّفها للعودة إلى بغداد ومع انعدام خبرتي في هذه 
المسائل فلقد ازدادت حيرتي وأخدّت الهواجس والأفكار المشوشة تنتابني مع كثير 
من القلق وكنت أخاطب نفسي قائلا: هل أكتب لها أبين أن ظروفًا هقاهرة اضطرتني 
للسفر وأرجوها التوّف عن الكتابة إليّ؟ وأخبرها أن حكومتي عهدت إليَ بعمل في 
مكة التلد المتحظور وغول علن الأورومنن رالأمركيو ناغير المسلمين» أذ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 245 





أغادر بغداد دون أن أترك عنواني في الفندق» حتى إذا قدِمّت إلى بغداد لن تدري 
أبن أنا؟ كل هذاء لاء بل أكثر منه كان يتردّد في خاطري ويشغل أفكاري. 

عزمت على مغادرة العراق إلى غير رجعة؛, لكن القدر عزم على غير ذلك» 
وقدر لي اللقاء بها ثانية» فقد عادت إلى بغداد وأنا على نيّة مغادرتها ولقيتها دون 
موعد محدد. وكانت تجيد اللغة الفرنسية» التي كان لي بعض الإلمام بمفرداتها مع 
بعض الجمل والكلمات العربية التي كانت تلم إلمامًا ضئيلًا بهاء ولم أجد صعوبة 
تذكر في التفاهم معهاء وكانت عند وعدها وحضرت إلى بغداد كما ذكرت في 
برقيتها . 

في الأيام القليلة السابقة التي قضيناها معًا في بغدادء لمست هذه السيدة 
اضطرابي وتبرمي وتشاؤمي من الحياة التي كنت أعيش في غمراتهاء من تأجيل 
قضية الوقف». لوقت يكون أفضل من الزمن الذي نحن فيه» فأخدّت تخقّف عني 
هموم الحياة» وتبيّن لي من طرفي خفيء أن لديها من الأموال ما يحملني على عدم 
التفكير بالمستقبل» وقالت: سأكون عند حسن ظنك» وسأحقق جميع مطالبك» مما 
بجعلك تعيش عيشة مُرضية» فشكرْتهاء وذهب كل منا لغرفته. 

في اليوم الثاني» فاتحني مدير الفندق» بما كانت تُضمره نحوي من الإخلااص 
والمحبة وأنها ترغب في أن أرافقها في السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية» 
وقال لأجل تسهيل سفرك, ودخولك إلى أميركا دون مشقّة أو معارضة من الحكومة 
الأميركية» لا بدّ لك أن تعقد قرانك على هذه السيدة» وبإمكانك إذا رغبت أن 
تنفصل عنها عند بلوغك أول مدينة من المدن الأميركية» إني أنقل لك هذا عن 
لسانهاء وأردّف قائلًا : إنك تعلم مقدار نصحي واحترامي لشخصكء والذي أراه 
لكء أن تنزل عند رغبتهاء إنها سيدة محترمة» تعلّقت بكء إنك تعلم مقدار معزّتك 
عندي . فَحُذْ نصيحتي كأب يريد لك الخير»ء وفكر بالأمر مليّاء ثم تركني وانصرف. 

عدتٌُ إلى نفسي أسائلها : هل ينتهي بي المطاف بالهجرة إلى أميركا؟ وكيف 
سأتزوج امرأة أجنبية؟ وهل أستطيع أن أترك حياتي في الدول العربية وما وقفت 
عليها من خير وصلاح؟ حياتي التي عشتها في طيات الأحداث والمغامرات 
والتجارة والجهد والجهاد؟ 


216 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





إذ ليس من السهل على المرء أن يغيّر مجرى حياته وعاداته بين يوم وآخر, 
خاصة من بلغ من السنين مقدار ما بلغت» فقد كنت قد طويت الخامسة والثلاثين 
من العمر ومع هذا فقد انبعت إرشادات المدير وأخذتٌ أفكر في الأمرء وأقلبه على 
كافة أوجهه لعلّني أجد مخرجّاء أو بارقة أمل تنقذني مما أنا فيه» سواء في تردّدي 
بالاقتران بهاء أو عزيمتي على الاقتران بهاء وأخذت أعدّد الفوارق بيننا عساها 
تقف حجر عثرة بيننا فتنقذني ممّا أنا فيه. فمن جهة تفاوت العمرء فهي كانت 
تكبرني بحوالي سبعة أعوام» أما العادات والطبائع فهي غربية وأنا شرقي» فالغرب 
غرب والشرق شرقء ولن يجتمعاء إنني لم أدرس حقيقتها درسًا وافيّاء ولم أتمكن 
من تبادل الود الحقيقي بيننا . 

أما من جهتي الخاصة, فإن مركزي واختلاطي مع كثير من الخلق. يخؤلاني 
أن أعيش عيشة مُرضية» إنني لا أزال في مقتبل العمرء وأمامي مستقبل زاخر في 
بلادي» ولكني لا أعلم ما يفاجئني به الدهر من الخير أو الشر في البلدان 
الأجنبية» وينقصني فهم اللغة التي يتخاطبون بهاء ولا أعلم شيئًا عن ميول أهلها 
وعاداتهم وطبائعهم وأخلاقهم» وكل ما أعلمه عنهم أنهم يعيشون عيشة يسر 
ورخاءء وأن بلادهم عظيمة» وتربتها غنية» وأن كثيرًا من أبناء العرب هاجروا 
إليهاء واتَّخَذُوها مقرًا لهم ومقامّاء ومن جهة أخرى كنت أتخيل نفسي ونحن نسير 
في قارعة الطريق» ترمقنا الأنظار وتتخطفنا الأبصار وتلوك حديثنا الألسن» فمن 
ناقدء ومن مستهزئ» وأهم من هذا كله ما كان يتردّد بخاطري» وما يخامرني من 
شعور فيّاض» نحو مّن كنت أؤمهم في المساجدء وأتحدّث إليهم عن المواضيع 
الدينية وأحدّئهم على التمسّك بعقائدهم وبأخلاق من درجوا من آبائهم وأجدادهم. 

بهذا كلهء بل بأكثر منه كنت مكيًّا على نفسي أناجيها طيلة يومين اثنين» فحينًا 
أجد ميلا ظاهرًا إلى الرضوخ لمطالب السيدة في الاقتران بهاء وتحقيق رغبتهاء 
وأحيانًا كانت تحول بيني وبينها شيمتي وكرامتي وإبائي. 

عزمت على أن لا أحقّق طلبهاء وكان وقت الظهيرة قد حان فوجّهت وجهي 
لله عزَّ وجل أستنجده في أمري ليجعل لي منه خيرًا ويسرّاء وذهبت لمدير الفندق»؛ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 217 





وأخبرته أن يقدّم للسيدة فرانسيس جزيل شكري وامتناني على ما لمسته منها في 
المدّة التي تعرّفت بها من المودة والظرف واللطف والإنسانية» وإني أقدّر عاطفتها 
نحوي» وبيّنت له الأسباب التي تقف في طريقي وتحول دون تحقيق رغبتها في 
الاقتران بها. وكنت أرتقب منها بعد هذا الذي قلته أن تبدي اشمئزازهاء وتُظهر لي 
استياءها لرفضي الاقتران بهاء ولكن شيئًا من هذا لم يحدث» لقد كانت أنبل 
وأشرف من ذلك» لقد أظهرت لي بعد ذلك مودّتهاء وباحت لي بحبهاء وبما يكنه 
ضميرها من الود والإخلاص. 

ثم غادرت بغداد إلى أوروباء وتركت لي رسالة جاء فيها : إنني لم أيأس بعد من 
ُريك» برغم ما أبديته نحوي» وأبعدت روحك عني» فعسى الأيام المقبلة تعرف فيها 
مقدار حبي ومودتي لك وإخلاصي» وكتبت عنوانها في روما ورجتني أن أواصلها . 

إنني وإن كنت قد أصابني بعض الحزن عند مغادرتها وشعرت بفراغ في 
نفسي» لفراقها فقد تنشقت نسمات الحرية» وعزمت على السفر إلى دمشق» ولكن 
الوزير المفوض السعودي إبراهيم بن معمرء أشار عليّ أن أبقى في بغداد بعض 
الوقت» وأنه سيكتب لجلالة الملك ويطلب منه أن يعهد إلي بعمل في المفوضية 
السعودية وأنه بحاجة إلى رجل مثلي يساعده فيما كان مهتمًا به وقال: أعتقد أنك 
ستقوم بهذا العمل خير قيام لِما لمسته منكم من همّة ونشاط» فقلت له: وما هذا 
العمل؟ فقال: ستعرفه فيما بعدء فامتثلتٌ لقوله. وانتظرت في بغداد» وعلمت فيما 
بعد من شقيقي محمد عيد بأنني كنت أحد المرشحين لمنصب الوزير المفوّض في 
السفارة السعودية في العراق» وأخدّت تَرِدني رسائلها تباعّاء وأزعجني أمرهاء 
ومكثت عشرين يومّاء وكأنني في دوامة من الأفكار المتضاربة. وفي صباح أحد 
الأيام أعطاني مدير الفندق رسالة قائلًا: إنها من فرانسيسء تقول فيها إنها ستصل 
بعد عشرة أيام من تاريخ هذا الكتاب. 

سرعان ما انطوت الأيام» وإن كنت أعتبرها طويلة ومرهقة بالنسبة إليّء 
وجلستٌ صبيحة أحد الأيام» في بهو الفندق» أرتقب زيارة صديقي الشيخ إبراهيم 
ابن معمرء وتحدثنا بعض الوقت ثم أنهى الزيارة» فودّعته حتى بلغت معه باب 
الفندق الخارجي» وإذا بي وجهًا لوجه أمام فرانسيس وبصحبتها شابة أجنبية أدركت 


218 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





أنها ابنتها كارولين التي حدثتني عنها في السابق كثيرّاء وبادرتني بقولها: كيف 
حالك» هل نجحت قضية وقفكم؟ قالت ذلك بلغة عربية ركيكة» فقدّمتها للشيخ 
إبراهيم الذي تجادّب معها أطراف الحديث لبضع دقائق ثم ودّعنا وانصرف وتوجّهنا 
نحن إلى مكتب الاستعلامات» وتقيّدت اسمها. 

في عصر ذلك اليوم» دخل مدير الفندق إلى غرفتي والابتسامة تملأ فمه. 
وأخذ يتلو عليَّ بعض النصائح فتقيّلتها منهء ولمًا انتهى من إبداء نصائحه قال: إن 
السيدة لها رغبة أكيدة فى التقرّب منك» ولاحظتٌ أنَّك تصدّهاء فإذا كنت تريد 
المال فإنها على أتمُ استعداد للتنازل لك عن قسم من ثروتهاء وكانت طيلة هذه 
المدّة مضطربة الأعصابء فآمّل موافقتك على عقد قرانكماء فأجبته بقولي: إنى 
أشكرك على نصائحك» وأرجو تقديم شكري للسيدة على نبل عواطفهاء ولم 
يمنعني من الاقتران بها غير ما أخبرتك به سابقّاء وأما المال» فأرجو ألا يُقَحَم في 
هذه المسألة غير السهلة» فلتحافظ على أموالهاء فإنى لست بحاجة إليهاء ولكننى 
سوف أفكر جديا بموضوع الزواج منها وسوف أعلمك عن موقفي النهائي في الغد 
إن شاء الله . 

لم تغمض لي عين طيلة تلك الليلة» أفكر في الأمر ثم أفكرء وفي صباح اليرم 
التالي وكّلت أمري لله وقرّرت الاقتران بها. ولم أكن أدري سبب هذا القرار» هل 
لأنني سئمت حياة العزوبية؟ أم لأنني مغامر أحببت المغامرة والأسفار ومعرفة 
المجهول أكثر من أي شيء آخر؟ لقد قرّرت أن ألِجَ سبل هذه التجربة القاسية» كما 
كان ظنّي بهاء والتي لم أجد عنها مناصًا أو تحويلا. 

في ذلك الصباح نفسه» غادرتٌ غرفتي وجلستٌ في بهو الفندق أنتظر قدوم 
فرانسيس» فما أن استقر بي الجلوس حتى قَدِمت وتوجّهت نحوي وجلست بجانبي 
قاتلة بعد أن بادرتنى بالتحية: بماذا كنت تفكر قبل قدومى إليك؟ فأجبتها: يسعدني 
تحقيق رغبتك فلقد قررت الاقتران بك . 

شعرت بالسعادة تغمر عينيهاء وجلسنا سويًا على مقعدين كانا في بهو الفندق» 
وأظهرت دفتر الشيكات من حقيبتهاء ودوّنت به ما دوّنت وقدّمته إلى قائلة: هذه 
هدية منى إليك» فامتنعت عن أخذهء قائلا: لا رغبة لى فى المال» وكان سبب 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 219 





إقتراني بك لا لأجل المادة» بل هو لتقارب ميولناء واتّحاد أفكارناء وتعارف 
قلوبناء فأجابتني بقولها: إني متحيرة في أمرك بالأمس استغنيت عن قسم من 
تروتية وها أنت ذاء لا تقبل شيكًا أقدّمه لك كهدية» احترامًا لك وتقديرًا مني» 
وأرجو ألا يكون لديك مانع إذا قمت بمصروف الطريق حتى نصل إلى نيويورك» 
فابتسمتٌ وشكرتهاء وكانت ابتسامتي لما كنت أعلمه وتعلمه هي أيضّاء على أن 
ليس باستطاعتي أن أقوم بنفقات السفر كله بمفردي. 

في الصباح الباكر من اليوم الثاني غادرنا بغداد نريد دمشق لنتوجه منها إلى 
بيروت وذلك بعدما ودّعت أصدقائي ومعارفي في بغداد وكان أولهم الشيخ إبراهيم 
ابن معمر ومنهم محمد بهجت الأثري وآل الراوي والمحامي بهجت زينل وعمي 
قاسم الرواف وعلي الكحيمي والد السفير عبد العزيز الكحيمي» ونوري فتاح» 
وفوزي القاوقجي والأمير عادل أرسلان وكنا أنا وفرانسيس قد ودّعنا قبل أربعة أيام 
ابنتها كارولين التي سافرت بالطائرة إلى روما. 

غادرت بغداد بصحبة فرانسيس بالطائرة إلى بيروت وكانت هذه أول مرة أركب 
فيها الطائرة ولا أخفي على القارىء أنني شعرت ببعض الخوف ينتاب قلبي» 
فركوب الطائرة لم يكن مثل ركوب الجمال والسيارات التي اعتدت عليهاء وأثناء 
رحلتنا تعطّلت الطائرة واضطرٌ قائدها للهبوط بمطار الرطبة على الحدود العراقية 
السورية» وانتظرنا بالمطار نحن وبقية ركاب الطائرة الخمسة عشرء وبعد بضع 
ساعات قَدِمَ في طائرة خاصة عدد من المهندسين والفنيين وأصلحوا طائرتناء ثم 
تابعنا رحلتنا الجوية إلى بيروت وبعد وصولنا إليها استأجرنا سيارة لنقلنا إلى 
دمشق. وبعد عدة أيام عدنا إلى بيروت ورافقنا السيد سعيد الرشاش سكرتير 
القنصلية السعودية في دمشقء وتوجّهنا إلى السفارة الأميركية فاستقبلنا السفير 
الأميركي استقبالًا طيبّاء وبارك لنا فيما عزمنا عليه من عقد القران» وقد فاتحت 
فرانسيس السفير أننا سنغادر الشرق إلى الولايات المتحدة عما قريب فتمنى لنا 
السلامة في الل والترحال» ثم عدنا إلى دمشق وفيها تم عقد قراننا في دار شقيقي 
ياسين» وبحضور شقيقي الأكبر محمد عيد مع عدد من الأقارب والأصدقاء. 

أقمنا في دمشق بضعة أشهر في منزلٍ استأجرته في الصالحية خلف المستشفى 


2530 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





الإيطالي قبل أن نغادرها إلى أوروبا لقضاء شهر واحدء ثم نعود إلى دمشق ونتهبا 
لمغادرتها إلى الولايات المتحدة الأميركية» كنا نقضي أيام هذه الأشهر متنقلين في 
متنزهات دمشق ودور آثارهاء ومعالمهاء وكنا مرارًا نقضي بعض الوقت في 
مرتفعات جبل قاسيونء نمتع أنظارنا بمناظر الغوطة الخلابة» فنرى تلك الخضرة 
الداكنة التي هي ذوائب لأشجارهاء ومنارات جوامع دمشق الشاهقة ومساكنها 
الهادئة» والآخذة في الصعود على سفح قاسيون واحتلال روابيه» ونقلتنا خطانا إلى 
ما حول دمشق من القرى ومواقع المتنزهات فوقفنا في الربوة» وعين الخضراء, 
وعين الفيجة» وبلودان» وفي متنزهات ذُمَّر والهامة» أشجار الحور والصفصاف 
المنتشرة في أرجائهاء في ذلك الوقت الجميل البديع» ووادي بردى ومنظر أشجاره 
الصغيرة الدائرة حولهاء إن منظرها يوحي إلى بأنها كعائلة مجتمعة تمثّل الأمهان 
والأحفاد والأولاد. إن أوراقها المختلفة الألوان هذا أخضر والآخر أبيض إنها 
تهتز طربًا عندما يداعبها النسيم فيمائل اهتزازها قلوب العاشقين» إن الأصوات التي 
يبعثها حفيف أوراقها لكثيرٌ الشَّبه بالأنين الذي يصدره من تخلى عنه حبيبه وهجره 
بلا ذنب اقترفه» إن الكثير من الأشجار والكثير من المخلوقات تحاكي في وجودها 
وطبيعتها وجود الإنسان» تحاكيه في نموهاء وزهوها وكبريائهاء حتى إذا جاء 
الخريف برياحه» وزوابعه» وأخذ يعبث في أغصان الأشجار ويهزها هرًا عنيماء 
فيجرّد غصونها من الأوراق» فتتساقط الواحدة تلو الأخرىء, عندها تنكمش على 
نفسها ويتبدل رونقها ونضارتهاء فيخال الناظر إليهاء أنها مشرفة على الفناء لا 
محالة» حتى تدبٌ فيها الحياة وتعود أدراجها فتلبس ثوب نضارتها وزينتها وبهجتها 
مرة أخرى» ثم تعطي ثمارها اليانعة لمن يريدهاء هذا إذا كانت من الأشجار ذات 
الأثمار. 

بَهَرَ قرينتي منظر ربوة الوادي وأنهارها الجارية» وجبالها الشامخات العاريات 
من النباتات والأشجارء التى انّخذْت من مجاري الأنهار مكانًا لهاء خوفًا من 
سموم الصيف وري الا واستفسرت عن أسماء هذه الأشجار؟ فقلت إنها 
أشجار الحورء وإن هذه المناظر الخلابة التي بهرك منظرها البديع قد هرَّت من قبل 
مشاعر أمير الشعراء أحمد شوقي عند زيارته لدمشق قادمًا من لبنان» وقد فُيِنَ وقتها 
بمنظر هذا الوادي الزاهر الجميل فنظم فيه قصيدة جميلة يقول فيها : 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 251 





والحور في دُمّر أو حول هامتها ‏ حور كواشف عن ساق وولدان 
وربوة الوادي في جلباب راقصة الساق كاسية والنحر عريان 

بعد أن أشبعنا رغبتنا من معالم دمشق وآثارها ومتنزهاتهاء توجّهنا إلى مدينة 
بيروت» تلك المدينة الفوضوية الصاخبة» تؤمّها الخلائق من كافة الجهات» 
يتمتعون بمناظر جبالها الخضراء الشاهقة» ويقضون ساعات نهارهم يتردّدون في 
متنزهاتها الطبيعية الممتعة» أو يصعدون إلى مرتفعات جبالهاء لينعموا باستنشاق 
النسيم العليل» والهواء المنعش اللطيف,ء والجو الصافي البديع أو يتجولون في 
أسواقها المكتظة بالمشاة» من كل الطبقات» من سادة وسيدات» وفتيان وفتيات 
ييبعون أو يشترون أو في أمرهم يسعون. 

ثم ركبنا في إحدى السيارات وحطّ بنا المزار في وادي زحلة عروس لبنان» 
زحلة المدينة التي ملأ ذكرها آفاق البلدان العربية حتى ملأ أسماعهم وأبصارهم 
وقلوبهم 4 ونقل ذكرها مهاجرو لبتان إلى الأقطار التي حِلُوا يها حتى أميركاء 
ذاكرين جوّها اللطيف وواديها البديع» ونهرها المنساب في هذا الوادي الجميل» 
ووادي زحلة القائم على ضفتيه كثيرٌ من المطاعم» التي أحاطت به كما أحاط 
بالعروس أهلها يوم زفافهاء تلك المطاعم الأنيقة التي تقدم لضيوفها وهم جالسون 
تحت أشجارها الوارفة ألذّ وأطيب الطعام وشهيّه ونفيس الشراب» وخاصة ذاك 
الطعام الشهي اللذيذ الذي يعرف ب «(الكبة) المصنوع من لحم مهروس» وقمح 
مسلوق مدقوق» وبصل مفرومء يقدّمونه مطبوحًا باللبن. وهكذا ودّعنا زحلة 
ومطاعمها ونهرها المنساب على مهل متوجٌّهين إلى القاهرة» ولم تكن أول زيارة لي 
للقاهرة فقد زرتها مرارّاء وأول زيارة لي كانت سنة 1919م أيام سعد زغلول» وقد 
لفت نظر قرينتي عند زيارتنا لدار الآثار في القاهرة» تماثيل المرأة» ووقوفها بجانب 
الرجل احترامًا لها وتقديرّاء فأدنّت قرينتي فمها نحو أذني» قائلة بصوت خافت: إن 
الفراعنة كانوا مخلصين لنسائهم» انظر إلى هذه التماثيل إنها تمثّل العظمة» حيث لا 
بقع نظرك إِلَّا على رجل بجانب سيدة» لقد كانوا شرفاء في معاملتهم لنسائهم» لقد 
كانوا يحترمونهن احترامًا زاتدًا يفوق الوصف. كما أظهرت تعججبها من الأجساد 


252 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





المحنّطة لملوكهم وأمرائهم وكهنتهم. فقد كان لا ينقص هذه الأجساد إِلَا الروم 
والحركة والنطق لتعود الحياة لها مرة نية . 

تعاقبت على هذه الأجساد المحنّطة حوادث وتقلبات مختلفة فبقيت كما هى 
محافظة على أشكالها وهيئتها منذ آلاف السنين» إن شعورها وأطرافها حتى أعينها. 
وكل جزء منها لم يحدث فيها تبديل» برغم مرور الأزمان وتداول السنين» لقد 
كانوا أهل خبرة ومعرفة يتقنون أعمالهم ويحافظون على تراثهم . 

عجز الطب حتى في زمننا هذا زمن النورء وحتى يومنا هذاء عن معرفة المادة 
التي توصّل إليها المصريون في تحنيط موتاهم . إنها معجزة العلم والمعرفة وحضارة 
ذاك الزمن الزاهرء إنه الفكر والوفاء والمجهود العظيم. الذي توصّل إليه أطباء 
الفراعنة» فخلدوا ذكراهم وذكرى ملوكهم وأمرائهم». وحاكمهم فشيّدوا صروح 
الأهرامات ووضعوا في جوفها نفائس التحف. وآثارهم الخالدة الدقيقة» الدالَة 

كانت إقامتنا في القاهرة في فندق مينا هاوس بجانب الهرم. تركت وقرينتي 
الفندق في الصباح الباكر وتوججهنا نحو الهرم الأكبرء وألفينا جماعة من المرشدين 
قال أحدهم: إني لقادر على أن أصعد هذا الهرم. في دقائق معدودة» وبسرعة 
الهرم» وقبل أن يقول شد حيلك واتّبع أثري» كنت أقفز فوق إحدى الحجارة 
الكبيرة» فبلغنا قمة الهرمء وكنت وإياه في هذا الصعود كفَّرّسي رهانء انتظرنا قليلًا 
على قمته ثم عدنا أدراجنا منحدرين» فوطئت قدماي الأرض قبل أن تمسّها قدماه. 

لكن هذا العمل ألزمني التردّد بكثرة إلى غرفة الحمام يومين كاملين؛ 

كم من مرّة كنا نتجوّل على سطح مياه النيل يغدو بنا ويجيء أحد المراكب 
الصغيرة فيخيل للناظر إلينا ونحن سائران على ماء هذا النهر الخالد أننا مكلفان 

أما ضفتاهء والأشجار الباسقةء والزهور والورود المنتشرة فى أرجائهما 


الهجر ة إلى الولايات المتحدة الأميركية 253 





ذفكانت موضع راحتنا وتسليتناء نرتع الطرف في خمائلهاء ونقضي بعض ساعات 
من ليالي القاهرة نتمتع بهدوء النيل» وانسياب مياهه الصامتة الساكنة؛ التي لا 
تسمع لها صوئاء بل ركونا وهمسًا واهيًا. 

قضينا وقنًا ممتعًا بنادي الفروسية؛ وسباق الخيل» كما شاهدنا عرض الفيلم 
الكبير (الأرض الطيبة) في سينما (مترو) ومرة واحدة فقط دخلنا أحد المسارح 
الكبيرة» وطربنا بالغناء العربي القديم. 

كم كان سرور قرينتي عظيمًا عند زيارتنا (للمطرية) فقد شاهدنا الخيول العربية 
الأصيلة وهي تتناول طعامها من الشعير والبرسيم. وخاصة الإسطبل الكبير لسعادة 
الشيخ فوزان السابق» ولبَّينا دعوته» وتناولنا الغداء في منزله. 

قضينا في ربوع القاهرة عشرين يوماء نتمتّع بجوها اللطيف. ومناخها 
المعتدل» ومناظر الطبيعة الخلابة» إن نبل أهلها وحفاوتهم بالضيف» وحسن 
استقبالهم للغريب وطيبة قلوبهم» ومرحهم الذي لا يفارقهم. كل هذا كان له الوقع 
الجميل في نفوسناء وبقي عالقا بذاكرتناء إن المرء ليشعر في أول يوم يحل فيه 
بأرض الكنانة المضيافة» أنه في بلده وبين أهلهء إن ماءها لذيذ» وكل من رشف 
منه لا بد أن يعود إلى هذا الوطن الكبيرء الذي غدا ملجأ وملادًا لكل مَن أصابه ما 
يكره في وطنه من رجال السياسة» ولكل من ينشد الحياة الأفضل» واستمع معي 
إلى أم كلثوم. وهي تنشد: 

لاتبخلوابمائهاعلى ظمي ‏ وأطعموامن خيرهاكل فم 

غادرنا القاهرة نحمل في نفوسنا الذكريات الطيبة» وفي قلوبنا المحبة الدائمة. 
وحملتنا طائرة إيطالية والتقينا في مدينة أثيناء ذات الآثار الإغريقية» البلدة 
الأوروبية التي تحمل بعض عادات أهل الشرق وطبائعهم, فيّخال المرء حينما 
يتجوّل في شوارعها ومتنزهاتها وعلى شواطئها أنه يسير في شوارع الإسكندرية» 
فالمقاهي قائمة في كثير من أركان شوارعهاء تقدّم فيها للزائرين أدوات اللهو التي 
تقدمها مقاهي الإسكندرية للزبائن» فالشيشة والطاولة والدومنة والقهوة التركية تقدم 
للزبائن. أما متنزهاتها وشواطتها فكثيرة الشبه بالمطاعم المُقامة على شاطىء 
الإسكندرية أو على ضفاف الترعة وفي مدنها كالسويس والإسماعيلية وبور سعيد» 


254 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





وجدوا في هذا القطر المصري» حياة حلوة سهلة ميسرة » وعوملوا من قبل هذا 
الشعب المضياف معاملة حسنة» فاستقروا بين أهله» فطابت لهم الحياة في ربوعه, 
فا نخدا هذه الثلاد مسر ا ؤمقا فا ش 


طاب لنا المقام في أثيناء ومكثنا فيها خمسة عشر يومّاء كان الجو يميل إلى 
الحرارة أثناء النهارء فلم نغادر الفندق إِلّا لمامّاء وقبل غياب الشمس كنا نذهمي 
كل يوم إلى أحد المطاعم اليونانية المقامة على شواطىء جزر هذه البلاد» وكان في 
أحدها كلبٌ أنيسٌ جميلٌ من الكلاب الألمانية المعروفة باسم (شبرد) كان يمر بين 
طاولات الضيوف فيلقون إليه بعض اللحمء أو بقطعة عظم يلهو بهاء وراقٌ له 
المكوث بجانب طاولتنا . 


زرنا هذا المطعم ثانية» وكنت أرتدي ملابسي العربية» وعند دخولنا هذا 
المطعم إذ بهذا الكلب يستنكر هذه الملابس» فما أن رآنا إِلَّا أن أسرع يجري 
نحوناء مكشّرًا عن أنيابه» وكان جريه سريعًا جدّاء فما كان من ضيوف هذا المطعم 
إلا أن اشرأبّوا واقفين» يتبعون الكلب بنظراتهم» أما أنا فقد تسمّرت في مكاني. 
صابرًا على مفاجأة الكلبء ولمّا دنا مني ما يقرب من مترين اثنين وقف وأرخى 
رأسه للأرض» وعاد ببطء من حيث أتى» فما كان من الضيوف والخدم وصاحب 
المطعم إِلَا أن قدَّموا لي التهنئة على السلامة, أما أنا فقد حمدت الله على أن 
حاسة الشم في الكلاب قوية. وزرنا هذا المطعم للمرة الثالثة وكنت مرتديا 
الملابس العربية» وما رآنا هذا الكلب حتى قَدِمَ نحوناء يهرٌ ذيله.ء ورافقنا إلى أن 
جلسنا إلى طاولة الطعام» فمكث بجانبنا إلى أن غادرنا هذا المطعم الجميل. 

غادرنا أثيناء ولم نُشبع نَهمنا من مناظر شواطىء جزرها الجميلة» وامتطينا متن 
الجوء حتى مدينة جنيف» ولم نُقِمْ في جنيف المدينة الهادئة لنتمبّع طويلًا في جوها 
اللطيف. ومناخها المعتدل» ورقة أهلها وأدبهم. ومناظر ورودها الزاهية. وعبق 
أزهارها المنتشرة فى شوارعها اللطيفة. النظيفة» غير ليلة واحدة قضينا بعض 
ساعاتها في أحد الفنادق المطلّة على بحيرتهاء على أن نعود إليها بعد أيام قلائل؛ 
إذ إن قرينتي كانت على موعد مع إحدى زميلاتها أثناء دراستها في ألمانياء وقد 
تواعدتا الاجتماع في مقاطعة مونتانا من أعمال سويسرا. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 255 





هكذا أقلّنا قطار من جنيف إلى مقاطعة مونتاناء وأقمنا في إحدى قراها وفي 
أحد فنادقها التقينا بزميلة زوجتي (جي ليه) وكانت سيدة ألمانيا في العقد الخامس 
لا تزال تتمتع بمسحة من الجمالء متأدّبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى» في 
أحاديثها وحركاتها في إصغائها لمن يحادثها وفي مرحها وأنسهاء لم تستعمل النطق 
بالألمانية التي هي لغتها الأصلية طيلة إقامتها بصحبتهاء برغم مكالمة زوجتي لها 
باللغة الألمانية» في بعض الأحيان» فقد كانت تجيبها باللغة الإنجليزية التي أخذتٌ 
أنهمها وذلك لئلا تجرح شعوريء وتدعني سادرًا في تخيّلاتي حول ما كانتا 
تتحدثان به» وكانت زوجتي تسألها عن زوجها ووالديها. 

كانت هذه السيدة تمشي بجانب زوجتيء وتقدّمها في دخولنا للفندق أو 
خروجنا منه» وأثناء زياراتنا المتكررة للمطاعم والمحلات التجارية» مع أنها تكبر 
زوجتي ببضع سنين» وتبدأ حديثها معها بكلمة أيتها الحبيبة» إن خفة روحهاء 
وابتسامتها الحلوة التي لم تفارق ثغرهاء وكذلك رشاقتها الزائدة حتى ليخيل 

تمع إليها وهي تتحدّث أنه يستمع لفتاة لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرهاء 
وفي الوقت نفسه كانت خجولة جذا. 

أَنِسُنا بصحبتها طيلة خمسة أيام» لم نفترق إلا في ساعات النوم» وفي صبيحة 
اليوم السادس تلقّت قرينتي برقية من محاميها في نيويورك؛ يطلب منها العودة إلى 
أميركا بأسرع وقت ممكن لأمر مهم له علاقة بمصالحها مع أحد البنوك» وفي اليوم 
نفسه استلمت برقية من شقيقي الشيخ ياسين يقول فيها إن الوالدة طريحة الفراش 
وترغب في أن تراك فعد إلينا بسرعة. 

توجّهنا جميعًا إلى نابولي من أعمال إيطالياء واستقلّت زوجتي إحدى البواخر 
الإيطالية متوججهة إلى نيويورك وعادت زميلتها إلى برلين» وتوجّهت أنا إلى روماء 
ونقلتني باخرة إيطالية أيضًا إلى القطر المصريء ومنه انّخذت القطار إلى دمشق 
فسارت زوجتي مغرّبة وسرت مشرّقًا. وكنت قد تواعدت وقرينتي على أن نجتمع في 
روما عند وحيدتها (كارولين فاصولو) التي كانت تسكن مع زوجها الإيطالي. 

أثناء تجوالنا في هذه الممالك» كانت فرانسيس تتعهّدني بكثير من العطف 
والمودة؛ وتحرص كل الحرص على راحتي وأنسي» وكانت تعاملني كطفل بين 


256 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





يدي والدته» ووضعت كل ما في إمكاناتها تحت تصرفي» كانت تستأذنني في كل 
عمل تريد القيام به» حتى الماء إذا رغبّت أن تأخذ كأسًا منه» أو تنتقل من غرفة إلى 
أخرى طلبت مني الإذن» وكان عملها هذا يضايقني بادىء الأمرء ولكن سرعان ما 
تعوّدت عليه وغدا أمرًا طبيعيًا عندي . 

كانت مغرمة بارتياد الآثار» والوقوف على الأطلالء فلم نترك مكانًا للآثار فى 
هذه البلدان التي زرناها إلا وولجناهء ولا متنزهًا فيها إلا وزرناه» ولم ُدْنِ كاسن 
الخمر من فمهاء ولم تعرف لها طعمّاء ولم تتعاظ اللعب بالميسر» وكانت تبتعد 
عن تناول اللحوم النيئة والمشوية وكان طعامها قوامه الخضرة الطازجة والجبن 
واللبن والفاكهة. 

كانت تقوم في كل صباح ومساءء بتمرينات بدنية» فتستلقي على ظهرهاء 
وتسبّل يديها بجانبهاء ثم تستنشق الهواء من أنفها وتُخرجه من فمها ببطء وتقول 
عنها إنها رياضة بدنية يابانية . 

كانت لا تمل إلى اللهو وتكره ارتياد الاجعماعات» ومن هواياتها القراة 
والكتابة» فهي سهلة التعبير» ودقيقة الوصف. تحب الوحدة» وتخلو بنفسها 
الساعات الطوال» وتميل إلى النظر إلى السماء» فتمكث تراقب النجوم حتى يخال 
للناظر إليها أنها أحصتها عددّاء وتراقب القمرء وهو في علوه وبهائه ينتقل بين 
كواكن الما وميا نت علق ولاطت الأخوى:: وكانت ل تيل الجلوين 
الطويل في المتنزهات العامة والحدائق» تعدّل أغصانها المائلة وتقطف أوراقها 
الصفراءء وتصلح أزهارها الملتوية فيخيل للناظر إليها أنها الموكّلة بهذه الزهور 
والأغصان. 

في أيام الآحاد كانت لا تغادر غرفتهاء وأحيانًا فراشهاء واعتادت أن تتعهّد 
بهذه الأيام ملابسها وحاجاتهاء فتثبت فيها أزرارها المتدلية أو تصلح خياطة ثيابها؛ 
أو تُرقع فتقًا فيهاء فإذا ما انتهت من ذلك كان الكتاب أنيسها تقلب صفحاته وبيدها 
القلم تدوّن فيه ملاحظاتها . 

كانت حياتها هادئة غير مضطربة إِلَا أثناء نوبات مَرَضية غريبة كانت تعتريها في 
أوقات متباعدة» وأثناء هذه النوبات المفاجئة تجد وجهها قد تبدّلت بشاشته)؛ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 257 





وتغيّرت فيه أمارات السرور التي نمت فيه وأخذت تغشاه صفرة لا تلبث أن تشتدٌ 
وتقوى» أمّا ناظراها فيبدوان في هدوء وذبول» ويخيّل إليك أنها فارقت الحياة 
فتمكث في غيبوبتها بضع دقائق» وأحيانًا أكثر ثم تنتفض كالعصفور بلّله القطرء 
ننصحو وكأن شيئًا لم يحدّث لها ثم تترك فراشهاء وعلى ثغرها ابتسامة وديعة لم ثَرَ 
عيناي شبيهًا لهاء ولا تلبث حتى يعود إلى وجهها رونقه ونضارته. ولقد حدث لها 
هذا الأمر ثماني مرات طيلة السنتين اللتين مكثتهما معها. 

أثناء زيارتي لإيطالياء كان الخلاف ناشبًا بين جلالة الملك عبد العزيز وبين 
صاحب اليمن الإمام يحيى حميد الدين» واشتدّ هذا الخلاف بينهماء ودارت رحى 
الحرب فيما بينهما واستولت الجيوش السعودية على قسم كبير من شمال اليمن» 
ولكن الملك عبد العزيز أعاد إلى اليمن ممتلكاتها وتم الصلح بينهما. 

علّقت بعض الصحف السورية المغرضة على وجودي في إيطاليا وقالت إن 
رسول ابن سعود خليل الرواف يتفاوض مع موسوليني لأخذ صفقة من الأسلحة» 
وقد قدّم موسوليني ما طلبه منه خليل من الأسلحة دون مقابل. فما كان من قنصل 
المملكة العربية السعودية في دمشق رشيد الناصر إِلّا أنْ كذب الخبر بشدّة وأصدر 
بيانًا جاء فيه: لا صحّة لما نشرته بعض الصحف من أنَّ الشيخ خليل الرواف قام 
بمهمة رسمية من قبل حكومة المملكة العربية السعودية في إيطالياء إذ إن الشيخ 
خليل الرواف يقضي بعض أوقات فراغه في أوروباء فلا هو موظف حكوميء ولا 
علاقة سياسية له بشؤون المملكة. 

غدت إلى دمشق وكانت والدتي ولله الحمد قد تمائلت للشفاء وفي إحدى 
زياراتي لشقيقي الشيخ محمد عيد الرواف في القنصلية العربية السعودية» وكان 
القائم بشؤونها يومئذٍ قبل أن يقل إلى بغداد» وقع نظري على كتاب مُلقى على 
طاولته فاستأذنته وتناولته فإذا هو مجلة الأهرام القاهرية» وسرعان ما طار بي 
الخيال إلى الربوع القاهرية الجميلة» والمتنرّهات البديعة الأحّاذة» وأمسيات نهر 
النيل الخالدء وفروعه المنسابة في ذاك الوادي الأخضر الفسيح.ء وليالي القاهرة 
على ضفاف نيلها الخالدء ومنفسحات أهراماتهاء وذاك الأثر البليغ أبو الهول» 
والأزهر الشريف وجماعته» وجهاد رجالها الأبرار» أمثال الشيخ محمد عبده. 


2238 





صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


والشيخ مصطفى المراغي» والشيخ رشيد رضا ومصطفى كامل ورفاقه الأبرار, 
وبطلها المجاهد أحمد عرابي» وسعد زغلول وغيرهمء. من أفذاذ الرجال ومن 
جاهدوا في الله حق جهاده. 
سرعان ما عادت بي الذكرى عند ذكر زعيمها الخالد سعد زغلولء إلى قول 
العناعر يليان الاعدد )"اليكل اسه بيتوي اليل إذاكفاء دي فرقيعة لجفد 
زغلول» وفضيلة الشيخ الراوي العالم العراقي الكبير» حيث قال: 


5 


في كل يومللجزيرة كوكب 
قبربعاصمةالرشيد وآخر 
بدران قد تكن الأفول عليهما 
ومشيعان إلى القبور بموكب 
في رعيل من ملائكةالعلى 
عيسى وأحمد والكليم وعصبة 
ماللجزيرةأين نور نبوغها 
بغداد شاكيئةومصرمرنة 
تلك الأقاليم الشلاثة واحد 


يهوي وسيفايعتريه فلول 
في مصر حق ستوره التقبيل 
ولكل بدر طلعةوأفول 
يرتدعنهالطرف وهو كليل 
ومن الجدود الأكرمين رعيل 
فيهاالأمين المنتقى جبريل 
الزيت جف وأحرقالقنديل 
والشام حاسرة القناع ثكول 
برو وناطوء دكن والشول 


نعم أيها الشاعر الراثي لقد كانت هذه الأقاليم الثلاثة واحدة كما سمّيتها أنت 
يوم أن كانت تظلّلها الراية العربية الأموية التي خفقت طويلًا على كثير من ممالك 
الشرق والغرب فرحم الله أمير الشعراء أحمد شوقى» لقد جاء فى مرثيته لدمشق 


قوله : 


بنوأميةللأنباء ما خلفوا 
كانوا ملوكًا سرير الشرق تحتهم 
عالين كالشمس في أطراف دولتها 
يا ويح قلبي مهما انتاب أرسمهم 
بالأمس قمتٌ على الزهراء أندبهم 
مررت بالمسحد المحزون أنشده 


وللأحاديث ما شادوا ومادانوا 
فهل سألت سرير الغرب ما كانوا 
في كل ناحية ملك وسلطان 
سرى به الهم أو عادته أشجانٌ 
واليوم دمعي على الفيحاء هتان 
هل في المصلى أو المحراب مروان 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 259 





تنفس المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان 
فلا الأذان أذاز في منارته إذاتعالى ولا الآذان آذان 

خلّفَ العباسيون الأسرة الأموية على حكم الأمة العربية والإسلامية» وبقيت 
هذه الأقاليم الثلاثة واحدة» مع غيرها من العواصم والبلدان موحّدة الكلمةء 
متراضّة الأطراف؛. منيعة الحمى» يُرجى خيرها ويُخشى بأسهاء ذات عقيدة دينية 
نكاد تكون واحدة» وعقيدة سياسية واحدة» ترفل بأثواب المجد والسؤدد لا فرق 
يبن دمشقهاء وبغدادهاء وقاهرتها. وقد تعرّضت هذه البلدان العربية والإسلامية إلى 
هرّات عنيفة مريعة» ومُنِيَت بحوادث مفجعة أقلقت مضاجعهاء فمن حروب صليبية 
شرسة أسعرت نيرانها الأمم الأوروبية» وانقضت عليها بجيوشها الجرارة تحمل 
النار والدمارء واستولت على بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى وثالث حرميهاء 
ومسرى نبيها الرسول محمد يك فقد بقيت هذه الجيوش مسيطرة على القدس قرابة 
القرن» ثم مُزِمت شرّ هزيمة وعادت أدراجها من حيث أتتء بعد أن لقَّنتها 
الجيوش الإسلامية بقيادة صلاح الدين الأيوبي درسًا بليعًا بالأخلاق لن تنساه أبدّاء 
وبقيت هذه الهزيمة المنكرة عالقة في نفوس الأمم الأوروبية سنين عديدة تناقلتها 
الأجيال جيلًا بعد جيل. ثم تبدلت أحوال الأمة العربية» وانفرط عقد وحدتهاء 
وتقلعت قيما بيتها الأسنات» :فالقسمت على نفسهاء وتسلط عليّها الأعداء» 
ومرّقتها كل ممرّق وفرّقتها إلى دويلات عديدة بلغت أكثر من عشرين دويلة» وبقيت 
هذه الدول سنين عديدة من دون سلاح لتُقاتل به أعداءها لتسترجع حريتهاء وغدا 
لكل دويلة زعماء متنافسون. وحكّام متخاذلون» مختلفو الأنظمة والعقائد وأخذ كل 
منهم يرشق الآخر بحجارة تكاد تكون أبلغ وقعّاء وأشدّ فتكا على أنفسهم من 
حجارة سجيل» وبدأ بعضهم يصف بعضهم الآخر بالجبن والخيانة» ويتقوّل رجال 
كلّ قطر على الآخرين بأكثر مما قاله مالك في الخمرء الأمر الذي جعلهم طعمة 
الألسنة» فتطاولت عليهم الأيادي» وأذلَّهم أعداؤهم وامتهنوهم» وغدوا بعد تفرّقهم 
في نظر أعدائهم أحقر من الكلاب على موائد اللئام» وأنا أعجب. فعجبي من 
هؤلاء الزعماء المتنافسين المتلاصقة أوطانهمء لا يفصل بينها حاجزء يتفاهمون 


بلغة واحدة» ويرتبطون بأواصر من القربى ويعتقدون معتقدًا دينيًا واحذاء ينزلون 


260 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





بكبريائهم العربي وشرفهم المصون إلى هذا المستوى الخلقي من الانحطاط 
والتقهقر والخذلان. 

فعلامَ هذا الانقسام أيّها العرب؟ وإلى متى هذا التراشق بالخبيث من الأقوال؟ 
وماذا تتوخون من وراء هذا العمل المشين؟ إني لا أرى فيه إلا الضياع والخذلان 
لكم جميعًا وضياع أوطانكم» أين وحدتكم القوية؟» أعيدوها فيما بينكم» ولتكن 
الوحيدة في تفاهمكم» أين حكمة مروان ولباقتها؟ أين الحلم العبّاسي ونبله؟ أين 
الشهامة وبطولة وإباء العرب الأقدمين؟ ألم تكونوا من ذريتهم؟ فلماذا هذا 
الصدود؟ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 261 





الفصل العاشر 





إلى نيويورك 


بعد الجولة الممتعة التي قمنا بها في جبال سويسرا لمدة سبعة عشر يومّاء ومن 
ثم عودتنا إلى نابولي في إيطاليا حيث توججهت زوجتي إلى الولايات المتحدة لشغلٍ 
طارىء وتوجّهتٌ أنا إلى دمشق» ولم يكد يمضي على وجودي في دمشق الأسبوع 
الثالث حتى غادرتها إلى روما حيث. التقيتٌ بزوجتي حسب موعدنا المسبق» ومن 
هناك عدنا إلى دمشق وفاتني أن أذكر أن عقد قراني على زوجتي كان قد كتبه الشيخ 
مصطفى الزبداني» وكان من أساتذتي» واذكر أيضًا حين علم أن زوجتي مسيحية 
قرب فمه من أذني وهمس قائلا : أَمّة مسلمة خير من مشركةء فأجبته سبق السيف 
العذل» لكن كلامه أنّر فيّ تأثيرًا عميقًا وظهر مفعوله فيما بعد. وقد حضر عقد 
القران أخواي الشيخ ياسين ومحمد عيد وعدد من أفراد الأسرة. 

مهما يكن من أمر فلقد أقمت مع زوجتي في دمشق لمدة ستة أشهر واستأجرت 
ينا خلف المستشفى الإيطالي» كنا خلال ذلك الوقت نتردد إلى متنزهات المدينة 
وإلى المناطق المحيطة بها وإلى مدن البقاع اللبناني» ثم عقدنا العزم على مغادرة 
المشرق نحو الولايات المتحدة الأميركية. 

لم نخبر أحدًا في بداية الأمر بما عزمنا عليه من التوجّه إلى الولايات المتحدة 
الأميركية ومغادرة هذه المدينة الخالدة عاصمة الأمويين الذين دام حكمهم فيها مائة 
عام حظموا خلالها الأغلال عن قسم كبير من بلدان العالم» التي ررّح أفرادها 
تحت عبء حكامها الثقيل الغاشم من الظلم والاستبداد» وأطلق الأمويون لسكانها 
الحرية الفردية التي لا تضرٌ بالصالح العام. وانصهرت هذه الشعوب في بوتقة الأمة 
العربية» واعتنقت الديانة الإسلامية» فملأت قلوبهم إيمانا وحبًّا لهاء لقد وجدوا 
في تعاليمها ومرونة أ<>. مها ضالتهم المنشودة. 





لقد خلّد الأمويون الاسم العربي على مر السنين» وكان لهم الفضل الأكبر في 
جمع الشمل وتوحيد الكلمة وخلف من بعدهم العباسيون» وجعلوا عاصمة مُلكهم 
مدينة بغداد فازدهرت بهمء وما كان لي أن أتطرّق إلى ذكر الأمويين والعباسيين في 
هذه الصفحات ولكن أتت عفوًا في سياق الحديث» فأحببت تدوينها . 

بعد أن ودّعنا الأهل والأحباء والأصدقاء بدأنا سفرنا إلى أميركا برحلة صغيرة 
إلى ربوع لبنان وأوروباء فلقد كنت شديد الولع بالأسفار وتزوجت من امرأة تفوقني 

غادرنا مدينة دمشق متوجهين نحو بيروت ثغر لبنان السياحي الجميل بشوارعه 
المنسقة النظيفة» وفنادقه الأنيقة وبجبله الأشمّ المطل عليها من علوٌ شاهق وتلال 
وهضابه الخضراء ومنعطفاته العديدة مبعثرة هنا وهناك على مرتفعاته ومنخفضاته 
ووديانه وسهولهء منها ما ينَّخذه قاطنو مدينة بيروت مصيقًا لهم يشاطرهم في هذه 
الأماكن الخلابة أبناء الأمة العربية لقضاء فصل الصيف يتمتعون بمناظرها الخلابة 
وسحرها الفتان مما تهواه القلوب. أقمنا في هذه المدينة الجميلة بضعة أيام نتمنع 
مع روادها من العرب ومن السياح الأجانب بجمالها الصارخ ونسيمها البديع 
الدائم . 

زرنا أثناء تجوالنا في ربوع لبنان مدينة زحلة عروس لبنان - كما يسمونها - 
التي زرناها معًا قبل ذلك وشدَّنا جمالها إلى العودة إليها وتناولنا غداءنا في أحد 
المطاعم المنتشرة على ضفتي نهر البردوني الخالد. 

في ذلك الوادي الأنيس أشجار مختلفة القياسات من حور وصفصاف. مما 
تعافّب عليه مرور السنين» إنه لم يتغير ولا يزال هو الوادي الذي يؤمه يوميًًا مئات 
البشر من السيّاح ومن سكان ربوع لبنان. وكم من حفل أقامه على ضفتيه الأدباء 
والشعراء . 

أخذنا بروعة وجمال هذا الوادي ومناظره الساحرة ونهره الخالد ومياهه 
المنسابة الجارية بين الصخورهء كما دبج الأدباء والكتاب المقالات الطوال في 
وصف هذا الوادي البديع» وأسمعنا الشعراء شعرًا نفيسًا رقيقَاء وكان لقصيدة أمير 
الشعراء أحمد شوقي صداها البعيدء ومفعولها القويّ في نفوس أبناء الأقطار 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 263 





العربية على اختلاف ميولهم وأهوائهم وقد خلّد هذا الشعر وقائله ومُنشده هذا 
الوادي وأبقى من الذكريات في نفوس المتردّدين إليه بصوته وبلحنه البديع الشجيّ 
المطرب الأستاذ محمد عبدالوهابء» فاستمع معي إلى أمير الشعراء وهو يخاطب 
جارة الوادي مدينة زحلة» قائلا : 
يا جارة الوادي طربت وعادني مايشبهالأحلام في ذكراك 
مثئلت بالذكرى هواك وفي الكرى والذكريات صدى السنين الحاكي 
وتعطّلت لغة الكلام وخاطبت 2 عيناي في لغةالهوى عيناك 
ولقد مررتٌ على الرياض بربوة ‏ غثّاءكنت حيالهاألقاك 
لم أدْرِ ما طيب العناق مع الهوى ‏ حتى ترفَّق ساعدي قطواك 
ودخلت في ليلين فرعك والدجى 2 ولثمتٌ كالصبح المنوّر فاك 
لا أنت من عمر الزمان ولااغعد ‏ جمعالزمان فكانيوملقاك 
منذ تاريخ هذه القصيدة وتلحينها والغناء بهاء وحتى يومنا الحاضر وإلى 
المستقبل القريب والبعيد تردّد أفواه الأمة العربية أبيات هذه القصيدة العصماءء وقد 
أكرم أبناء زحلة أمير الشعراء أحمد شوقيء فأقاموا له تمثالا نصفيًا في مكان بارز 
في مدينتهم عروس لبنان تخليدًا لذكراه» ويُحكى أنَّ حوارًا دارٌ في القاهرة بين 
الزعيم سعد زغلول والشاعر أحمد شوقيء وقال أمير الشعراء مخاطبًا سعد 
زغلول: إن التاريخ سيسجّل نضالكم وحياتكم بأحرف من نور. فردٌ الزعيم سعد 
زغلول على أحمد شوقي قائلًا: سوف يذكرني التاريخ في سجلاته ولكن سوف 
ينساني الجميع إِلَا القلة المهتمون بالسياسة المصرية» وأما أشعاركم الرائعة فسوف 
تخلّد ذكراكم في جميع الدول العربية التي سوف تحفظها في ملفات الأدب 
والسياسة والتاريخ والحرب والطبيعة وسوف يتناقلها الأدباء والأبناء من جيل إلى 
جيل ما دام الليل والنهار وتعاقُب مرور الأيام. وغادرنا مدينة زحلة ووجهتنا مدينة 
بعلبك. ذات التاريخ المجيد وآثارها الرومانية الخالدة متعجبين من هذه الأعمدة 
الفارعة الطول وألوانها الداكنة السمراء المنسّقة البناء الدقيقة الصنع . 
وأشبعنا نهمنا من مناظر مدينة بعلبك وآثارها ثم غادرناها صاعدين نحو الجبل 





الأشم وأشجاره القديمة العهد التي تعاقبت عليها السنون» وهي لا تزال أشجار 
شامخة الأنف بعنفوان وكبرياء بتنسيقها وامتداد أغصانها الوارفة الظلال»؛ ذات 
الطبقات المتباينة المتراصة طبقة فوق أخرىء والتي انّخذتها الجمهورية اللبنانية 
شعارًا لها فرسمتها على علمها الخفاق» إنها شجرة الأرز. ونظرًا إلى وعورة 
الطريق فقد نقلتنا الحمير مقدار ساعة على ظهورها حتى وصلنا هذا المكان الأثري 
التاريخي الذي يمكن الوصول إليه من بيروت بطريق السيارات ولكننا آثرنا الصعود 
إليه بالطريق الجبلي الجميل من بعلبك على ظهور الحمير وأقمنا بضعة أيام بفندق 
منزو تحت أغصان هذه الأخهانه وكا حدووه لطيعا قم علينا أخبار مونقيت 
فندقه من الأمراء والنبلاء وقادة الجيوش وعظماء الرجال من مختلف الطبقات» 
منهم من قضى نحبه ومنهم من كان لا يزال حيًا ينتظر يومه ليلحق بمَّن سبقه من 
الخلائق. وكان صاحب الفندق يوافينا بغدائنا ونحن جلوس نتمتع بمناظر شجرات 
الأرز التي كستها الثلوج حلة بيضاء ناصعة. ومن هذا الارتفاع الشاهق لجبل 
الأرزء وبعد قيامنا بهذه الرحلة الشيّقة بين مدنها وقراهاء عدنا إلى مدينة بيروت 
القائمة على شاطىء البحر الأبيض تحت أقدام الجبل الأشم الخالد» جبل لبنان. 

من بيروت أقلتنا طائرة إيطالية إلى ربوع مدينة أثينا العاصمة اليونانية التي 
تحمل بين ضلوعها وحناياها مسحة من الشرق» فالسمت الشرقي والكرم العربي 
والمرح المصري يظلّل سماءها ويتمشّى في ربوعهاء فالمقاهي منتشرة في بعض 
شوارعها تقدّم لزبائنها الزوار من شرقيين وغيرهم الشيشة المصرية (والكوتشينة 
والطاولة والدومنة) وتسمع الكلمات العربية تنطلق كالسهام من أفواه اليونانيين؛ 
ممّن أقام منهم بالقطر المصريء إذا فهي شبيهة من هذه الناحية» ببلدان الشرق 
العربي» ولا تزال تحتفظ بهذه المسحة الشرقية أمام منفسحها الواسع أمام فتادقها 
الفخمة الأنيقة» أما شواطتئها العديدة وجزرها الكثيرة ومتنزهاتها التي تتحلى بها 
هذه الشواطىء فحدّث عن جمالها وروعتها ما شاء لك أن تتحدثء» فلا حرج 
عليك» إنها لحقيقة فتنة للناظرين. 


ومن الطرائف التي حدثت أثناء وجودنا في أثينا أنَّ زوجتي طلبت مني أن 
أشتري لها صحيفة بالإنجليزية» وكانت صحف ذلك اليوم الأجنبية قد نفدت من 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 265 





مكان بيعها في بهو الفندق» ولهذا ذهبت أتجوّل في شوارع أثينا القريبة من الفندق 
أبحث عن محل يبيع الصحف الأجنبية» وبعد حوالي ساعة من السير والبحث 
المضني عثرت على ما أريد وتناولت إحدى الصحف من مكانها ودفعت ثمنها 
وعدت أدراجي إلى الفندق» ولقد ضحكنا كثيرًا أنا وزوجتي عندما أخبرتني أن 
الصحيفة التي جئت بها هي صحيفة فرنسية وليست إنجليزية. إن ثقافة زوجتي 
الواسعة وإلمامها الجيد بالفرنسية قد جنّبني في ذلك اليوم ولله الحمد العودة إلى 
مكان بائع الصحف. ولكن زوجتي قالت بلغة المداعبة: عليك أن تبذل جهدًا أكبر 
في تعلم الإنجليزية يا خليل فأنت الآن في طريقك إلى أميركا . 

من هذه المدينة التي يخيّل لبعض الزائرين أنها تحمل مسحة الحزن على من 
أسّس معالمها وترك وراءه آثارها القيمة. حملتنا طائرة إيطالية وطوّحت بنا في مدينة 
روما العاصمة المزدوجة الإيطالية والفاتيكانية» والمقر الرئيس للطائفة المسيحية من 
الكاثوليك . 


لم نَل إقامتنا في هذه المدينة الساحرة سوى عشرة أيام زرنا بعض متاحفها 
وآثارها والفاتيكان وكنيستها الكبرى واطّلعنا على ما نقِش على جدرانها وسقوفها 
من الرسوم القيمة ذات المغزى الدينى والتاريخى» وانطلقنا نتنقل فى شوارعهاء 
ونقف على ما فيها من متاع الحياة من أبنية جميلة وقصور فخمة» وكنا نستمع أثناء 
مسيرنا في هذه الشوارع إلى الراديوهات التي تعلو أصواتها على غوغاء المدينة 
وضجيجها يزمجر خلالها بصوته الجهوري الرئيس موسولينيء يصِمْ البريطانيين 
بالجبن والاستكانة ويحتثٌ الشبيبة الإيطالية على الانخراط فى الجندية للذود عن 
حياضهم وليحموا ديارهم قائلًا: إن الجندية من علامات التقدٌّم والازدهار 
للشعوبء وإنها لَمَفخرة تتباهى بها الأمم وترتفع عالية عن سواهاء ورياضة 
تمارسها الشعوبء. وتجوّلنا في المنشآت الرياضية العديدة التي أقام بناءها 
(موسولينى) وأوجد فيها المتنزهات الجميلة» والحدائق الغنّاء البديعة المنسّقة» 
ذات الزهور المختلفة الألوان والأشكال. 


كانت تقطن في هذه المدينة العالمية» كريمة زوجتي كارولين مع زوجها 
الإيطالي وكان من العائلات الكبرى في روما عائلة (فاصولو) المنتشرة في هذه 


266 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





المدينة» وكان محترفًا لتعليم الرياضة البدنية» وفي منزله صالة واسعة يدرب فيها 
الشبيبة الإيطالية» وتوجّهنا بالقطار إلى مدينة نابولي» ترافقنا السيدة (كارولين), 
وانّصلنا بالقنصل الأميركى واستحصلنا منه على بطاقة الهجرة إلى أميركاء بعد أن 
حتفنا ملاليف من إحضار ورقة بحسن السلوك» فقد كتبت إلى شقيقي محمد عيد 
الرواف المقيم بمدينة جدة وكان قائمقام جدة في ذلك الوقت وأرسل لي الشهادة 
المطلوبة. 

كما راجع القنصل دائرة الهجرة إلى أميركا للسماح لي بالهجرة» وبعد أيام 
جاء الإذن وسلّمني بطاقة تحمل رقم (1) للهجرة إلى أميركاء حسب المعاهدة 
المبرمة بين حكومة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية فى ذلك الوقت, 
والتي تنصٌ بعض بنودها على السماح في كل عام إلى مائة نفر من الراغبين بالهجرة 
إلى الولايات المتحدة الأميركية» فكنت ولا أزال حتى الآن أول مهاجر سعودى 
إلى مركا , 

خلال هذه المدّة التي انتظرنا فيها السماح لنا بالهجرة إلى أميركاء وقبل ركوبنا 
البحر إليهاء على الباخرة الإيطالية المسمّاة (كونت دي سافواي)» أحببنا أن نختبر 
البحر» لبِلّا نؤْحَذ على حين غرّة من أمرنا فلا لا بالراحة والهناء. فأخذنا 
باخرة ركاب صغيرة إلى جزيرة كابري التي تبعد بحرًا بضع ساعات عن مدينة 
نابولي. ومن منا لا يعلم شيئًا عن جزيرة كابري أو لم يقرأ عنها أو لم يسمع بهاء 
إنها الجزيرة الفتانة المشهورة يسكونهاء وهدوثها الطبيعى» ذات الشوارع الضيقة»؛ 
الصاعدة الهابطة» فتصعد معها حيئًا وتُجاريها في هبوطها حيئًا آخرء ثم يأخذك 
السير مارًّا فى فسحاتها ومنعطفاتهاء فتخال أنْ الطريق مسدود لا منفذ له فلا تلبث 
غير لحظة أو رمشة عين» فيتكشف لك الطريق» فتسيببة مثا متنا وفى كل من 
الهبوط والصعود. والمرور بالمنعطفات يجد المرء لذة ونشوة. 

كابري الجزيرة الرائعة الفاتنة» ذات المناظر الطبيعية الخلّابة والجبال الشامخة 
المتنوّعة أشكالها وألوانهاء ذات الصخور البيضاء المكسيّة بالأشجار الباسقة 
وولدانها المنتشرة القائمة على مرتفعاتهاء هي غاية في الروعة والجمال» وأمثالها 
من الجبال رمادية اللون عارية الصدر كاسية الساق هى فتنة للناظرين. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 2067 





يَِلُ إلى هذه الجزيرة الكثير من السيّاح القادمين من كافة أنحاء العالم يجذبهم 
ليها جمالها الصارخ» ويستقدمهم إليها هدوؤها الرائع؛ فهي محظ رحالهم. وآخر 
آمالهم في أسفارهم . 

وممًا يلفت النظر في هذه الجزيرة البناء القائم بأحد أركانهاء وعلى مرتفع 
إحدى هضابهاء مبنى على الطراز العربي» هو بناء لمسجد قديم» حول إلى كنيسة. 
وهذا كل ما أبقى الدهر لهذه الجزيرة من الآثار الإسلامية» لقد بقيت محتفظة بهذا 
الأثر الخالد ما يقرب من سبعة قرون. 

فتح العرب هذه الجزيرة في القرن الثالث من الهجرة» وكانت الجزر الإيطالية 
كجزيرة صقلية وجزيرة كابري وغيرهما قائم فيها الحكم الإسلامي. بذلك يحدثنا 
التاريخ عن جزيرة صقلية عندما حل بها المسلمون» وأقاموا فيها إلى أن فتحها 
النورمان سنة 1091» فيقول: كان ملكهم روجر الثاني وولده غليون» كانا كثيري 
الثقة بالمسلمين» فأفسحا للعرب في هذه الجزيرة» ثقة منهما بمقدرتهم على إدارة 
الأعمال الزراعية» كما استعملوا الملاحة» وتعاطوا التجارة» وكان هذان الملكان 
يحترمان العرب» ويعطفان عليهم ويُشركانهم بالحكم وبالوظائف العالية» والمهن 
المختلفة» تركا لهم حريتهم الدينية» وكان غليون يكتب العربية ويقرؤهاء وكانت 
عَلمته (التحمن له عق حمده) ومن قله كانت علافة والده:وؤجر :(الحمد لله:وشكرا 
لأنعمه) وكان إذا جلس تجد حوله رجاله من المسلمين» ويأتي وقت الصلاةء 
فيخرجون من مجلسه. ويقضون صلاتهمء» وهو لا ينكر علبهم عملهم وأداء 
فريضتهم الدينية . وكانت مدينة روما ومدينة الفاتيكان وأدباؤها تحث (روجر) حاكم 
الجزيرة على الامتناع عن احترامه للعرب. 

غادرنا جزيرة كابري وقاطنيها وجبالها البيضاء الناصعة وغيومها الرمادية. 
وشوارعها الهابطة الصاعدة» ومتنرّهاتها الرائعة وزوار ملاهيها وما يتّصفون به من 
رقة وأناقة وأدب» عائدين إلى مدينة نابولي. 

في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة لعام 1354ه الموافق السادس 
والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر 1935م امتطينا ظهر الباخرة كونت دي سافواي 
وألقينا آخر نظرة على مدينة نابولي وجبالها الدائرة حولهاء وآخر ما سمعناه في 


268 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحدين 





القارة الأوروبية» صوت هتلر الجهوريء يتفججرء ويزمجرء من خلال الراديو كهدير 
البحر أو كالرعد القاصف. كان آنذاك في إبان مجده وعزه» ومن ورائه الشبيئن 
الألمانية تشدّ أزره» وتقوّي عضده.ء وتأتمر بأمره. كان يصب جام غضبه على 
البريطانيين والفرنسيين» الأمر الذي أوجف القلوب خوقًا في القارة الأوروبين 
بأجمعهاء حيث كانت لا تعلم ما يُضمره من الشرّء من وراء استفزازاته» ومر 
تجمُع كافة الشعب الألماني حوله؛ كانت تنظر إلى استعداداته الحربية؛ وهي 
واجمة». ولا تبدي حراكًا . 

كان يجاريه في هذا صوت موسولينيء يزأر في خطابه زئير الأسود في 
أجماتهاء ولا يتحاشى أن يقذف البريطانيين بشررء وينعت رجالها بالجبن 
والاستكانة» وكانت بريطانيا تسمع كل هذا وهي صابرة مرغمة. 

كانت الباخرة كونت دي سافواي تمخر عباب البحر بين أميركا وأوروبا 
وكانت هذه آخر رحلة لها على هذا الخط بعد عمل دام أربعين عامًا وكانت أكبر 
باخرة عالمية تمخر عباب البحرء وحملت هذه الباخرة في درجاتها الأربع خلفًا 
كثيرًا من مختلف أقطار العالم؛ وكانت تتهادى في سيرها ومجراها كعروس في يرم 
زفافها . 

وفيها الكثير من أدوات الترفيه وملحقاته» فإذا ملَّ المسافر من طول السفر 
والمسافة التي سيقضيها على ظهرها التجأ إلى مكان الترفيه للعب الطاولة والسلَ 
وموضع الرماية» وإذا شعر بالحرارة فما عليه إِلّا أن يلقي بنفسه في بركتها المائية: 
فيشعر بعدها بالراحة الجسدية والنفسية. 

قضينا على ظهر الباخرة وقنًا ممتعًا وجميلاء وكنا نتمتع بمنظر السماء الصافية 
ومياه البحر الداكنة والطيور التي تتبعها وتواكبهاء لم تقع أنظارنا على غيرها من 
الشواهدء وكان الجو رائعًا ومريحًاء والأنواء البحرية ساكنة هادئة» والأمواج 
غارقة في اليم لا تكاد تبين» نروح ونغدو على سطح الباخرة آمنين مطمئئين طيلة 
ثلاثة أيام . 

وفي اليوم الرابع من سيرنا وكان الوقت صباحًا باكرّاء وقبل أن ترسل الشمس 
خيوطها الذهبية» وتنشر أشعتها العسجدية على هذا الكون المائي» لم نشعر إلا 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 269 





والأمواج تطل بذوائبهاء وتتصافق فيما بينهاء وإذا بالبحر في بادىء الأمر يزهو 
بهاء وتبتسم الأمواج فتلفظ بياضًا ناصعًا من أفواههاء كاللؤلؤ المكنون. ويميد 
البحر وتتمايل الباخرة وقنًا غير يسيرء ثم لا تلبث الأمواج أن تعود أدراجهاء 
ويرجع البحر إلى هدوئه وسكونه فلا تسمع بعدها إلا ما يُحلِئه جريان الباخرة في 
ليع هن الأصوات الرتيبة الخافتة. وكان من الملاهي العديدة التي حوَّنّها هذه 
الباخرة» موضع للرماية» وقد جرّبت حظي» فكنت موفقّاء فقد أصبت في القذيفة 
الأولى المرمى. وكنا نقضي أوقات النهارء ونبدّد ساعاته الطوال» بالتنقّل في أدوار 
السفينة فنصعد حتى نصل إلى قمّتها حيث غرفة الربان فنتحدث معه قليلاء ثم 
نستعمل سلالمها حتى نصل إلى أسفلهاء ونجلس أحيانًا على الكراسي المنتشرة في 
ممراتهاء وعلى سطحهاء وحول بركتها المائية» ولكننا لم نمارس السباحة» وكنا 
نراقب مَن اتخذوا مقاعدهم على موائد خضراء كانت ممتدة في إحدى صالاتهاء 
وكان اللعب بريئًا لم يكن للمقامرة فيه نصيب» حتى إذا أقبل الليل؛ وأضاءت 
نجومه» وزينت بها القبة الزرقاء» وأطلّ البدر وبدّد بنوره الساطع - الذي زوّدته به 
الشمس بنورها القوي. وضيائها اللامع - الظلمة» تسابّقنا ونزلاء السفينة إلى 
غرفناء لنأخذ حماماتناء وكان منّا من يغسل أطرافه. ويرتدي أفخر الثياب ويسير 
الهويناء نحو غرفة الطعام. فنجدها قد سبقنا إليها بعض الشيوخ والسيدات» 
والفتيان والفتيات» وبعد أن نتناول أفخر الطعام وشهيه ولذيذه» وبعد أن نرتشف 
بعضًا من القهوة أو الشاهي, نغادر غرفة الطعام. ونتمشى قليلًا على سطح 
الباخرة» ثم نعود إلى غرفتنا للنوم . 


فيما كنا جلوس في أحد ممرات الباخرة» مرّت بنا سيدتان» وفتاتان 
تتبعانهماء ولم أدْرٍ هل كُنَّ من أقارب قرينتي أو من معارفهاء واقتربت منّا إحداهن 
وردّدت وهي على بعد ياردتين» بصوت منخفض (هلو مس اليسون) ولم تسمعها 
فرينتي » أو هي تغافلت عنها فقد كانت تتجئّب الاختلاط بالناس» ما دُمت بجانبهاء 
إنها لم تعرّفني على أحد من النسوة قريباتها طيلة حياتي معهاء إِلّا على كريمتها 
كارولين وزوجها الإيطالي وعلى أخيها وعائلته القاطنين في ولاية نيوجرسي التي 
في بعض متنزهاتها - كما أسلفت القول - صورة منحوتة لوالدها على نصب 


230 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





تذكاري» إذ تبرّعَ بقطعة أرض كبيرة على شاطىء نهر هدسن أقامته بلدية نيوجرسى 
إكرامًا له وتخليدًا لذكراه. 


عند اقترابنا من مدينة نيويورك؛ كانت الباخرة تسير بنا الهويناء كأنها عروس 
زْفْت في ليلة زفافهاء وبعض مضي ستة أيام قضيناها على ظهرهاء وفي صباح اليوم 
السادس لشهر رجب 1354ه الموافق الثالث من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 5م 
تراءت لنا المرتفعات الشامخة لمدينة نيويورك» ومررنا بتمثال الحرية الضخم. 
الذي أهداه الفرنسيون للأميركان إثر انتصاراتهم العظيمة على البريطانيين» فى 
المعارك التي استعر لهيبها ودارت رحاها فيما بينهم» ودامت عدة سنوات» وقضى 
نحبه فيها نخبة من طيبة رجالها وأبلى الأميركان فيها بلاء مرًا وذاقوا أثناءها طعم 
الذلّ. وأصناف القهر والتشرّد. ويحمل هذا التمئال الضخم مشعلًا بيده الممدودة, 
ويمكن للمرء أن يرقى في داخله درجات إلى أن يصل إلى الأنامل التي تحمل 
المشعلء الذي أنار ظلمات هذه القارة فجعل منها نبراسًا منيرّاء ومصباحًا يستضاء 
بنوره في ظلمات الحياة» ولهذه الأنامل فجوات يطل منها الناس فيشاهدون شاطىء 
مدينة نيويورك وغيرها. 

وما أن تبيِّن لنا مرفأ نيويورك حتى ظهرت لنا هذه المدينة العظيمة» كالزهرة 
المتفتحة الأكمام» وكان نهر هدسن العظيم الهادىء في جريهء يتلاقى ومياه البحر 
فيقوم مع البحر بحراسة هذه المدينة الجبارة. 

لم نمكث في دائرة الجمرك الواسعة» سوى بضع دقائق وكانت أحرف الهجاء 
الكبيرة الحجمء تشير إلى أسماء الراكبين فيتوجّه المسافر إلى أول حرف من اسم 
عائلته» فيجد حقائبه بانتظاره» فتفئّش الحقائب تفتيشًا بسيطاء ثم يتناولها الشيّالون 
إلى السيارات المنتظرة خارج الجمرك. 

أربعة عشر يومًا قضيناها في هذه المدينة العامرة الخالدة» التي يحوطها الماء 
من جهاتها الأربع لذا عُرفت بجزيرة منهاتن» ومنهاتن اسم من الأسماء الهندية 
المستوطنة منذ القدم في الولايات المتحدة الأميركية» قبل اكتشافها من قبل 
الأوروبيين» ويُقال: إن الدخلاء المستكشفين أو الدخلاء المهاجرين إليها من 
الأوروبيين والآسيويين اشتروها من أصحابها الهنود» بثمن بخس دراهم معدودات؛ 
ومن قائل إن ثمنها دفع بكمية - من التبغ» أو بعض من الأدوات البسيطة. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 211 


نيويورك المدينة الحيّة الجبارة» التي كان يبلغ تعداد نفوسها في عام 1935م 
ثمانية ملايين من البشر أو يزيدون. إن مليونين من الملايين الثمانية هم من الصهاينة 
واليهودء أصحاب الملايين العديدة» والنفوذ القويّ الخفيَء المتسلطين بدعاياتهم 
| خبيئة عن العرب والتي تنشّر في الصحف والمجلات» وتعرّض في دور السينما 
والتلفزيون على الملايين من مختلف الأجناس والعقائد معتمدة مناهجها المتنوعة» 
زأنت لا تجد ثلاثة من النزلاء إلا ورابعهم صهيوني أو يهودي وهم يحتالون على 
ضعفاء النفوس من ذوي الضمائر الضعيفة من حملة الأقلام» فيقدّمون لهم شيئًا من 
حطام الدنيا - إلا من رحم ربك - ويهدّدون أرباب الصحف اليومية والمجلات 
الأسبوعية والشهرية بمنع المتاجر الصهيونية من وضع الإعلانات في صحفهم إذا 
تعرّضوا لذكر الصهاينة بسوءء فيمنعون عنهم مردودًا عظيمًا يستفيدون منه» فالأموال 
هي التي تجعل صٌحفهم تصدر يوميًا ومن دون تأخرء سواء كانت هذه الإعلانات 
من تجارتهم في مدينة نيويورك؛. أو من خارجها من تجار وأرباب المصانع من 
الصهاينة المنتشرين فى الولايات المتحدة الأميركية. 

إن المرء ليأخذه العجب عندما يرى 5 من تجار مدينة نيويورك» و 
أرباب مصانعها هم من الصهاينة» وأما مصانع النسيج التي تنتج القطن والحريرء 
فهي جميعها يمتلكها هؤلاء القوم من الصهاينة. 

منذ الأربعينيات من هذا القرن - القرن العشرين - بدأوا يتقرّبون من الشركات 
العالمية» والبنوك. ولم تمض غير سنين قليلة» حتى أخذوا يديرون بأيديهم 
ونفوذهم المادي هذه الشركات» والمصارف» والبنوك. 

ويستعملون الآن في مصانعهم آلاف العمال ويخصمون من راتب كل منهم 
قسمًا من راتبه الأسبوعي يُضاف إلى صندوق الإعانات لإسرائيل» وإِنْ لم يفعل 
العامل ذلك فما أمامه إِلّا الطرد والفصل من عمله ولا تُعطى له شهادة حسن 
السلوك التي يحتاجها للعمل في المحلات الأخرى. وهذا بخلاف الشركات 
الكبرى إذ يسمح لها بإرسال التبرّعات لليهود الذين هاجروا إلى فلسطين. وتخصم 
هذه التبرعات من الضرائب التى تتقاضاها الحكومة الأميركية من هؤلاء التجار. 

هذا النفوذ القوي المتحكّم في أوساط الشعب الأميركي» والمتسلّط تسلظًا 
ناما على مرافق الحياة في هذه البقعة من الأرضء» هو بثقله جاثم على الأمة 





212 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





الأميركية في جميع مرافقهاء ومتسلّط على الغالبية من زعمائهاء يصرفهم حسبها 
يراه وكيفما يشاءء حتى أعضاء الكونغرس «البرلمان» الأميركي» نفوذهم قوي بين 
أفراده» فتجدهم أَوَّل ما يُعرَض في البرلمان» أمر يعود نفعه على الصهاينة» فإنهم 
بلا تردّد يوافقون عليه» ومن دون دراسة» ولم يُستثْنَ منهم إلا بعض ممّن رحم 
ربك» من أصحاب الضمائر الحية؛ والمبادىء السامية» الذين ينظرون إلى مصالع 
الأمة الأميركية نظرة محكمة عادلة محافظة قبل كل شيء. 

أثناء تقليبي لبعض أوراقي» لفت انتباهي ورقة كنت دوّنت فيها بعض فقران 
من خطاب ألقاه رئيس الولايات المتحدة الأميركية بنيامين فرنكلين على أعضاء 
الكونجرس الأميركي» حذّرهم فيه من تكاثر اليهود في الولايات المتحلة 
الأميركية» وكان مما قاله: (إن أميركا لا تزال مهدّدة بخطر جسيم لا تقل خطورت 
عن الاستعمار الذي تخلصنا منه بعد تضحيات كبيرة» وهذا الخطر هو الذي ينجم 
عن تكائثر عدد اليهود في بلادناء إنهم يدخلون البلاد مساكين» ثم لا يلبثون حتى 
يقبضوا على زمام مقدّرات البلاد» ثم يتعالوا على أهلهاء ويحرموهم خيرات 
بلادهم» إنهم أبالسة الجحيم» وخفافيش الليل؛ ومصّاصون لدماء الشعوب». 

وبعد أن حرّض أعضاء الكونغرس على طرد هذه الطغمة الفاجرة من البلاد 
تابع حديثه قائلا : 

«والآن فإنكم سترون بعد قرن واحدء أنهم أخطر مما تفكرون فيه» وستجدون 
أنهم قد سيطروا على الدولة والأمة ودمّروا ما بنيناه بدمائنا . 

إنهم لن يرحموا أحفادناء بل سيجعلونهم عبيدًا في خدمتهم بينما هم يقبعون 
خلف مكاتبهم يتندّرونَ لغبائنا وجهلنا وغرورنا. وإياكم أن تظنوا أن اليهود سيقبلون 
الانصهار في بوتقتنا أو الاندماج في مجتمعنا . 

إنكم إن لم تتَّخذْوا هذا القرار فورًا فستلعنكم الأجيال الأميركية القادمة؛ كما 
أنها ستلعن هذه الأجيال المستسلمين لليهود والمتنافسين في خدمتهم». بهذا الإنذار 
حذّر بنيامين فرنكلين الرئيس الأميركي أعضاء الكونغرس. وقد حقّق الصهاينة 
الكثير مما حذَّرهم منه فرنكلين» ٠‏ بل وأخطر مما فكّر به أو تصرّره أعضاء 
الكونغرس . 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 213 





ها هو اللوبي الصهيوني وقد أحكمّ قبضته القوية على ضعفاء النفوس من 
الساسة الأميركيين» حتى بلغ فيه الأمر أن يتدخل في شؤون البلاد خارجيّاء ثقافيّاء 
اقتصاديّاء وداخليّاء الأمر الذي ورَّط الحكومة الأميركية بأكثر من فضيحة وأفقدها 
الكثير من هيبتها والكثير من نفوذها. 

وها هي الولايات المتحدة الأميركية تقدّم بلايين الدولارات إلى هؤلاء 
الصهاينة. أيظن هؤلاء القوم أن الصهاينة سيمتثلون لأوامرهم ويحقّقون رغباتهم؟ 
ولفتة غيرها إلى تدخل الصهاينة في الإعلام» فالإذاعة ودور السينما والصحف 
المحلية وامتلاك العمارات الضخمة:» والفنادق الفخمة» والبورصة ومشتقاتها كل 
هذاء بل وأكثر منه يديره الصهاينة كما يحقٌ لأي صهيوني يحمل الجنسية 
الأميركية» أن يحمل الجنسية الإسرائيلية. من هذا حذَّر الرئيس فرنكلين» صحيح 
أنني لمست أثناء تجوالي في ربوع أميركا بعض الاستنكار من أبنائها لهذا الوضع 
الشنيعء وغضب شديد على هؤلاء الذين فتحوا لهم أبواب بلادهم فعاثوا بها فسادًا 
وقاموا بأخسٌ الأعمال ضدَّ الشعب الأميركي» وأثناء عملي بالتجارة في نيويورك 
في أوائل الأربعينيات لم أستطع التعرّف على تاجر مسيحي واحدء بل وجدت 
الصهاينة يمتلكون كل شيء في مدينة نيويورك . 

بالإضافة إلى ما سبق وأوردته عن الرئيس فرنكلين عرفت أيضًا أنه أثناء 
اجتماع الرئيس روزفلت مع المغفور له الملك عبد العزيز في القاهرة وكانت الحرب 
العالمية:الثانية لا تزال مستغرة الآواز؛ تحدذت الرئيس روزفلت مع الملك 
عبد العزيز رحمة الله عليه» وقد عرض الملك على الرئيس تفاصيل القضية 
الفلسطينية» وأشفع ذلك بمذكرة واضحة تمام الوضوح يمكن الاطلاع على نضّها 
في ملاحق الكتاب . 

وكان لحديث الملك مع الرئيس ولهذه المذكّرة أوسع الآثارء وكان فيه برهان 
على أن ساسة الولايات المتحدة كانوا غير متفهّمين حق الفهم لأحوال الشعوب» 
وأن الإدارة الأميركية في الداخل والخارج كانت تحت سيطرة الصهيونية» فقد 
صرّح الرئيس روزفلت قائلًا: إن مكوثي مع الملك عبد العزيز وقنًا قليلًا فهمت منه 


214 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





في مدّة خمس دقائق عن القضية الفلسطينية أكثر مما فهمته من التقارير الواردة من 
سفرائنا الموجودين في الخارج. 

وعد الرئيس روزفلت الملك عبد العزيز رحمه الله أنه سيوقف الهجرة اليهودية 
إلى فلسطين» وسيّعلن ذلك في اجتماع مزمع عقده في سان فرانسيسكو في ولاية 
كاليفورنيا . 

حضر وفد من المملكة العربية السعودية يرأسه الأمير فيصل مصحويًا بإخوانه 
الأمراء: محمد وفهد ونواف أبناء عبد العزيز وعبدالله الفيصل» والشيخ حافظ 
وهبة» وسليمان بن عقيل رئيس مكتب الأمير فيصل بن عبد العزيز والشيخ على 
رضاء مفوّض المملكة العربية السعودية في واشنطن - الأمر الذي 5 
فيما بعل - . 

علم الصهاينة في نيويورك وفي واشنطن بما سيقوم به الرئيس روزفلت من 
توقكك لبيك المتميركة :إل فلمظين م قرز روا السنا سو نه والتقدرت بطر 
الأقاويل التي مّفادها أن الصهاينة قد أعطوا الرئيس روزفلت بطريقتهم الخاصة إبرة 
قضّت على حياته» واستلم الحكم بعده نائبه ترومن» فأصابه رذاذ من الفائدة التي 
قدّمها الصهاينة لضعاف النفوس من رجال السياسة. 

لقد كنت وقتها مرافقًا للوفد السعودي الذي حضر برئاسة الأمير فيصل لتوقيع 
ميئاق الأمم المنّحدة في سان فرانسيسكو ولقد أرسلت إلىّ برقية تحمل خبر وفاة 
روزفلت وذهبت وقتها إلى المرحوم الأمير (الملك) فيصل وأطلعته على البرقية 
وقلت له إِنَّ موت روزفلت هو خسارة كبيرة للشعب الأميركي. فقال وقد بدا عليه 
التأثر : هذا صحيح هذا صحيح. 

أعود الآن لمتابعة الحديث عن وصولنا إلى نيويورك. إن هذه المدينة الجبّارة 
التي يؤمها يوميّاء مليون من الزوار يفدون إليها على مراكب للبحر تمخر عبابه: 
وظاكرات تق آأصوات مكاكتها أجوك القضاء وسنازات قدينت الأرض نجريانهاً: 
وعلى قطارات حديدية تتلوى في منعطفات جبالها وتجري مسرعة في سهولها 
ووهادهاء حتى إذا ما اقتربت هذه القطارات من المدينة» وتراءت لها عظمتها 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 275 
مو ا ا ا 022 


وقوتها خمّفت من سيرهاء واختفى ظلَّها من على وجه الأرض وانسابت بباطنها 
وسارت على مهل وفي تواضع إلى أن تستقرٌ في محطة جراند سنترال» أو محطة 
نسلفانيا وهما محظّتا القطارات الحديدية لا ثالثة لهماء كما يُغادر هذه المديئة 


نيويورك» المدينة العظيمة في كل شيء من أمور حياتها وفي كل مرفق من 
مرافقهاء في ضخامة أبنيتهاء وتنسيق شوارعهاء وترتيبها وأناقة متنزهاتهاء 
وضواحيهاء وفي مكتباتهاء وما تضمّه من الكتب القيّمة وفي كلياتها وجامعاتهاء 
وفى مستشفياتهاء ودور صحفها ومجلاتهاء وفي تجارتها ومعاملاتهاء في بنوكها 
ونساردهاء :في فنادقها الجعيلة الأبقة اي مطاعنها المتتوعة )ررق حركتها 
الدائمة التي لا تهدأ لحظة واحدة» في ليلها ونهارهاء نهارها سعي دائم؛ وعمل 
متواصل». وجهد لا يعتريه ضعف ولا وهن ولا يجاريه تعب ولا نصبء ولياليها 
وما أدراك ما لياليهاء حركة منتظرة في جميع أطرافهاء خاصة في شارعها الكبير 
(برودويه) تجد الناس فيه ليلا كخليّة النحل» يصطدم فيه الغادي بالصادي. كتف 
بجانب كتف وردف يلتطم بردف» وأقدام تتزاحم على أرضية الشارع» وأنوار يسطع 
منها نورهاء هنا وهناك؛ تمثّل نور الشمس بضيائها. وإذا اظلعت على الوجوه 
وأمعنت فيها النظرء تراها مشرقة ضاحكة؛» ومستبشرة مرحة»ء متفائلة» لا يفكر 
المرء منهم إلا بحاضره الذي هو فيهء فهو يتمتّع بالحياة كما يشاءء وبقدر 
المستطاع. ولا يقع نظرك في هذا الشارع الطويل الفسيح على رجل يمشي بمفرده 
إلا نادرًا فكلهم زوجين اثنين يصحب الرجل قرينه» أو أحد أفراد أسرته؛ أو 
خطيبته» أو صديقته. يؤمون الملاهي المتواصل عملهاء خمس عشرة ساعة» من 
ساعات الليل والنهار» ومنها ما هو ذو طابع خاص يقوم أفراده بالتمثيل والغناء» 
ومنه ما ينّخذه أصحاب الشركات وأرباب المصانع كدعاية لمنتوجاتهم» وما 
يتعاطونه من أصناف التجارة المتنوعة» يستأجرون أحد الممثلين السينمائيين 
المرحين؛ فيضفي على الحضور أصناف الجرح بوتسهع بطرفةة: وتطرنهع ينكان 
بتخلّل ذلك» مشاهد يقوم بعرضها فتيات وفتيان يشدّون انتباه الناس بِخقّتهم وفيما 


2126 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





فتجد أمامك دار الأوبراء قائمة على إحدى زوايا الشارع الذي يليه» فإذا مُدّر لك 
أن تكون في نيويورك يوم افتتاحها فسيّذهلك ما تراه من الأبّهة والعظمة» وترى علية 
القوم من أرباب الملايين ومديري البنوك وأصحاب المصانع ورؤساء الشركات» 
ومععلقب قات القن نكر قل غوف كانه ومقا مف يأتون خصّيصًا لهذا الافتتام 
العظيم. من مدينة نيويورك ومن حولها من القرى تنقلهم سياراتهم الفخمة. 
لمشاهدة ما يُعرض فى هذه الدار من فنون التمثيل والغناء . 


أما نساء هذه الطبقات من الناس فحدّث عنهن ولا حرج» كل حسناء منهن, 
تبدي ما خفي من زينتهاء ولا يقع نظرك إلا على عقود من الألماس» تتلألاً على 
صدورهن وأقراط تتدلى من آذانهن» ولا يَجدن من حرج إذا لم يخفين معاصمهن, 
الموضة بالجواس الفمينة ,ون النعس لبزية .يون اتات" التزاء المعلفة بالقبانات 
والألوان» وبين تلك الجواهر المتلألئة على صدور الحسان كتلألاأ نجوم السماء. 


لم يكتّفٍ سكان هذه المدينة الجبّارة بتسخير سطح الأرض في غدرّهم 
ورواحهمء وفي أعمالهم وتجارتهم» فقد ضاقت بهم الأرض ذرعًا بما رحبت» 
فانّخَذوا لهم سلالم من الحديد قائمة في شوارعها يصعدون عليهاء فتُدنيهم خطاهم 
إلى قاطرات تسير على جسور ممتدّة في بعض شوارعهاء يزعج سيرها وصفيرها 
ساكنى الطبقات العليا من الأبنية الفخمة» لذا أزيلت هذه الجسور الحديدية الممتدة 
في أعالي الشوارعء وانّخذ القوم أنفاقًا في باطن الأرضء أقاموا فيها قاطرات تسير 
تحت الأرض ليلا ونهارٌاء دون انقطاعء تُعرف باسم (الصابوي) تنقلهم من 
مساكنهم إلى أية جهة يريدون الوصول إليها من مدينتهم العظيمة بأجر بخسء لا 
في درجاته. يركب البيض والزنوج معًا فلم تكن نيويورك في ذلك تفصل قطاراتها 
بين السود والبيض كما كانت تفعل غالبية الولايات الأخرى. وقد طوّروا استخدام 
هذه الأنفاق إلى حدّ أنهم سيّروا قاطرات الحديد تحت نهر مدينتهم الخالد هدسن 


حيث تسير القطارات إلى ولاية نيوجرسي . 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 277 





لا يمكن للإنسان إِلَا أن ينعتهم بالجبابرة لأنهم سخَّروا لراحتهم وأنسهمء 
ولهوهم» ومرحهم الهواء والماء والحديد والنار. وعلى الرغم من هذا التقدِّم 
والرقي في هذه المدينة العظيمة الجبارة مدينة نيويورك الزاهية الزاهرة إذا حملتك 
خطاك من شارعها الخامس الذي يفصل المدينة إلى قسمين شرقي وغربي» وقطعت 
عرضًا شارعين أو ثلاثة متوجهًا غرب المدينة» يذهلك أن ترى الأبنية الوضيعة» 
وحبال الغسيل المعلّقة في شرفاتها تحمل الغياب» من سراويل مقظعة وأثؤات 
متهلهلة من متاع الفقراء والعمال» ولا تلبث أن تقول أين هذه الأبنية الوضيعة» وما 
حولها من الأوساخ من جاراتها ناطحات السحاب التي لا تبعد عنهاء إِلّا العشرات 
من الأمتار؟ وإنه ليأخذك العجب كل مأخذ عندما يقع نظرك على أماكن منزوية بين 
هذه الأبنية الوضيعة» تقدم لزائريها من العاطلين رديء الطعام ورخيص الشراب. 

إذا قارنًا بين هذه الأماكن الوضيعة وبين تلك الصالونات الفخمة القائمة في 
منفسحات الفنادق الضخمة التي يؤمها علية القوم وتتزاحم فيها المناكب. يتبيّن لنا 
جليًا واضحًا مقدار الفارق العظيم في تفاوت الطبقات في تلك المدينة العظيمة 
الجبارة: 

إنك لتعجب إذا قُدّر لك أن تتجول في أنحاء بقية نيويورك» (بروكلن» 
وهارلم) موضع الملونين» أن تجد في بعض هذه الأماكن أبنية وضيعة» وأوساخها 
متراكمة» يشمئز منها الإنسان. 

لم يتح لنا الوقت القصير الذي قضيناه في مدينة نيويورك بزيارة معاهدها 
العلمية إلا مرتين» إحداهما كانت زيارة خاطفة لجامعة كولومبياء لم يواكبنا الحظ 
فيهاء وكان ذلك يوم الأحدء يوم العطلة الأسبوعية ظنًا منّا أننا سنجد بعض 
أقسامها مفتوحة أبوابها لاستقبال الزائرين» أو أننا سنعثر على بعض الأساتذة أو 
الطلاب. ليحققوا رغبتنا فيما قدِمْنا إليه من الاطلاع على مناهج التدريس في هذه 
الجامعة» ولنقف على عدد ما تستوعبه هذه الجامعة من الطلاب سواء منهم 
الأجانب أو الوطنيون» ولكن ظَئَّنا قد خاب» فلم نجد أحدًا يستقبلناء وعدنا 


أدراجنا محرومين من تحقيق ما تمنّيناه . 


2138 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





المرة الثانية التي زرنا فيها جامعة نيويورك» لم يكن حظنا أحسن من حظنا 
فيما سبق في زيارة شقيقتها جامعة كولومبياء فبينما كنّا نتجوّل بين أبنيتها الفخمة, 
مأخوذين بمناظرها الجميلة» وعندما همَّمْنا بالدخول إلى أقسامهاء إذا بقرينتي 
ينتابها مغصٌ شديدء فعدنا أدراجنا إلى الفندق. 

في اليوم الثاني» حظينا بمن وافانا بمعلومات عن المعاهد العلمية في هذه 
المدينة» فقال: يوجد في مدينة نيويورك عشر جامعات وكليات كبيرة» مع عدد آخر 
من الكليات الصغيرة» ذات الأقسام القليلة» تضم هذه المعاهد في أبنيتها 
0 طالب وطالبة» وفي مدارسها الابتدائية والثانوية ما يقرب من مليون 
طالب» ذكورًا وإنانّاء كما أخبرنا أن في هذه المدينة مدارس كاثوليكية خاصة, 
يقدّر عدد طلابها بتسعين ألف طالب وطالبة» والاختلاط ممنوع بينهم» الفتيات 
لهن غرف خاصة للتدريس وكذلك الطلاب ولهم في هذه المدينة كنيسة عظيمة؛ في 
الشارع الخامس» ويحتفلون في كل عام بيوم شمٌ النسيم في هذه الكنيسة. 

كان لدور صحفهاء ومجلاتهاء نصيب من زيارتناء فألفيناها قائمة على نظام 
محكم» وعمل متقن يسترعي الانتباه» ففي هذه المدينة خمس عشرة صحيفة تصدر 
يوميّاء أمّا مجلاتها الشهرية والأسبوعية فهي كثيرة العددء وإن الزائر ليقف مبهوثًا 
أمام كثرة عدد صحفها التي تصدر يوم الأحد. حيث تبلغ مائة صحيفة أو تزيد 
مقسّمة إلى عدة أقسامء منها السياسية» والاقتصادية» والرياضية وقسم الإعلانات 
ومجلة الأولاد.»... إلخ. 

مجموع ما تصدره هذه الصحف الخمس عشرة يوميًا يبلغ ثمانية ملايين نسخة» 
منها ما يورّع في نيويورك» ومنها ما يُرسَل إلى بقية الولايات. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 219 





وإليكم بيان بأسماء هذه الصحف وما تُصدره يوميًا : 


م 
8 مكدع الت 
8 ل د سه 
ترات 


مجموع الأعداد التي تصدرها هذه الصحف يوميًّا (8,291,097) نسخة حسب 
إحصاء عام 1935. وفي الشارع الخامس الذي يفصل مدينة نيويورك إلى قسمين 
شرقي وغربي» تقع المكتبة العامة في القسم الغربي منه تحتل بنايتها الضخمة 
شارعين من شوارع المدينة وتحتوي هذه المكتبة على عدد ضخم من الكتب القيمة 
من جميع اللغات يقدَّر عددها بخمسة ملايين كتاب». مختلفة المواضيع» ومنها 
الكتب النفيسة الفاخرة» وتُعَلٌ هذه المكتبة الثانية في الولايات المتحدة بعد مكتبة 


























الكونغرس التي تحتوي على اثني عشر مليونًا من الكتب في واشنطن العاصمة؛ من 
كل كتاب يُطبع في الولايات المتحدة الأميركية بصرف النظر عمًا تحتويه هذه 
الكتب من البحوث والمعلومات. 

بينما كنا نواصل تجوالنا في هذه المكتبة القيّمة» ونراقب حركة الكثير من 
الزوار ونقلّب الطرف فيما تحتويه من الكتب» توقّنا أمام يافطة كُتب عليهاء القسم 
العربي فنقلتنا خطانا نحو هذا القسم فألفيناه يحتوي على كتب عربية عديدة 
المخطوطات منها والمطبوعاتء. تحتل هذه الكتب رفوفًا عديدة في هذا القسم, 
مرتّبة ترتيبًا أنيقًا ومنسقة تنسيقًا بديعاء مبوبة تبويبًا متقنّاء فهذا القسم الأدبي على 
اختلاف أنواعه» ويليه القسم العسكري. ويليه القسم الديني وفي القسم الأخير 
منهء وفي موضع ظاهر على هذه الرفوف كتب التفاسير القرآنية» والأحاديث 
النبوية» البخاري وابن ماجهء الطبراني» الترمذي» مسند الإمام أحمدء وغيرها من 
الكتب الدينية» والعلمية والاجتماعية والأدبية يجد المرء ٠‏ فيها ما يسدّ نهمه العلمي؛ 
ويروي ظمأه الأدبي» في أيّ موضع طرقهء اجتماعيًا كان أم علميّاء مدنيًا كان أم 
دينيا . 

أنا ا متحشفاتها الغزيذة الميعحدة: مداه -وعبر الستكدة تحرف عمها ولا 
حَرَج»ء ويروق للمرء أن يتبسط بأحاديثه عنهاء عن أنظمتهاء نظافتهاء عدد أطبائها 
الاختصاصيين منهم» وغير الاختصاصيين» عن هدوئهاء أوقات دوامها الس 
غرف عملياتهاء موظفيها الذين لا تفارق الابتسامة شفاههم» حيث تجلا كلا متهم 
يعمل بسكوت ومن دون ضجة» حتى ليخيّل إليك أن المستشفى خالٍ من الناس» 
ومن السكانء. والمرضىء ومن المراجعين» تجد هذه المستشفيات منتشرة في هذه 
الج يا رجاه وفي كل ركن من أركانها وأكيرها ليشن بافكمياء' مسسني 
نيويورك فهو ضخم المبنى» متعدّد الأقسام كثير الاختصاصيين من الأطباءء يَفِد إليه 
الكثير من أصحاب العاهات والأمراض المزمنة المستعصية» وكثير منهم يغادرون 
المستشفىء, وهم أكثر ما يكونون صحة وعافية» إنه مستشفى عالمي له شهرته 
ومكانته في أوساط الدنيا. وممًا يلفت النظرء ويسترعي الانتباه» في هذه المدينة 
الصاخبة». حركتها الدائمة وخاصة في منتصف النهارء عندما يغادر العمال 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 31ظ2 





مصائعهم» وأرباب المصالح التجارية مكاتبهم» لتناول الغداء في المطاعم القريبة 
من المحلات التي يمارسون فيها أعمالهم . 
في اليوم الأول من قدومنا نيويورك» كتبتٌ كتبتٌ رسالة لشقيقي محمد عيدء أخبره 

وو إليهاء متمنيًا له طول العمر والصحة والسرورء وأحببتٌ أن أضعها 
بنفسي في صندوق البريد» ولأتمتع بمناظر المدينة» فاغتدمت فرصة استراحة قرينتي 
فتركت الغرفة إلى مكتب الاستعلامات في الفندق وأخذت منه طوابع بريد وتركت 
فندق بلازا الضخم الذي كنا نسكن فيه والواقع على ملتقى الشارع الخاص والشارع 
الخمسين والمطل على حديقة نيويورك الشهيرة المعروفة بسنترال بارك» وخرجت 
أبحث عن صندوق البريد. 

كنت أسير على أرصفة الشارع بخطى وئيدة مأخودًا بما أشاهده معروضًا في 
المحلات التجارية من أصناف المجوهرات الفاخرة والملابس الأنيقة الزاهية 
وغيرها من المعروضات النفيسة» ومن ازدحام السيارات في هذا الشارع الطويل 
العريض» فبرغم كثرة هذه السيارات وازدحام الشارع بهاء لم تسمع صونًا 
لمنبهاتهاء ازدحام بهدوء تسير فيه السيارات ببطء» فواصلت السير حتى بلغت 
الشارع الثاني والأربعين» وهو أكثر شوارع نيويورك ازدحامّاء وكانت الساعة الثانية 
عشرة من النهارء ففوجئت بجماعات من الكتل البشرية» تاركة محلاتها التجارية» 
تسير بسرعة فائقة» فهذا يصطدم بي وآخر يدفعني وثان بتعينييعن الطريق بلطف 
وآخر بشدّة وعنف» وثالث يلمسني بمنكبه» ورابع يتكلم بكلمات لا أفهمهاء ر 
يشتمني» فغدوت كالكرة بين اللاعبين» قلت في نفسي ما لهذه الجماعات الهائجة 
المائجة كأنها قسورة نافرة» إنهم بعيدون عن اللياقة والكياسة التي نراها في أوطاننا 
على شاشة السينما أو نسمع عنها من أفواه الناس» أو نقرأ عنها في الكتب 
والمجللات» ولكني عندما علمت أن هؤلاء القوم لديهم ساعة واحدة يتناولون 
خلالها غداءهم ويأخذون بها راحتهم من ميثاق أعمالهم ثم يعودون لأعمالهم» 
حينها عذرتهم ولُمت نفسي قائلًا: لقد أخطأت يا خليل في فهم هؤلاء القوم 
الساعين في طلب الرزق. 


كانت الرسالة لا تزال بيدي» فوجدت صندوقًا على حافة الرصيف متوسط 


262 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





الحجم مطليًا بطلاء أخضرء وكأن الدمّان قد تركه منذ ساعة» وظئئته صندوئً 
للبريد» وحاولت أن أضع رسالتي فيه فإذا برجل يمسك يدي» ويشير إلى صندوق 
البريد المعلّق على الجدار قائلًا: إن هذا الصندوق للقُمامة فانكسفت منه وشكرته, 
وأبقيت هذا الحادث سرًا مكتومًا بيني وبين نفسي إلى أن علمت بالقصة التي حدئت 
مع السيد فارس البحنسي» اللبناني المولد» والمقيم في لوس أنجلوس كاليفورنياء 
فبعد سنة من وصولي لأميركاء كنت مع بعض اللبنانيين أجلس في متجره الكبير 
الذي هو عبارة عن صالة عرض مفروشات فاخرة عندما دخل علينا السيد البحنسى 
وعلى ثغره ابتسامة عريضة وبادرنا قائلًا: لي الآن في الولايات المتحدة الأميركية 
ما يقرب من خمسين عامّاء وقد حدث لي حادثء منذ دقائق» لا أظتكم إلا 
قائلين» إذا قصَّضته عليكم إنني لا أزال مغمَّلًا فقد ذهبت لأضع رسائلي فى 
صندوق البريد» فألقيتها في صندوق المهملات» ظنا مني أنه صندوق للبريد؛ ولولا 
وجود ولد لم يجاوز الثانية عشرة من العمرء قال لي هذا الصندوق للمهملات فضع 
رسائلك في صندوق البريد» لولاه لكانت هذه الرسائل ذهبت لا لأربابهاء بل 
لتُرمى مع المهملات. 


كنت أكتم ما حدث في مدينة نيويورك» عندما هممت بوضع رسالتي في 
صندوق المهملات» وأبقيت ذلك سرًا بيني وبين نفسي ولكن عندما سمعت السيد 
البحنسي يقصٌّ ما حدث لرسائله. وهو الذي قضى في الولايات المتحدة خمسين 
عامّاء هنا تجاسرت وأخبرت الجماعة الجالسين في محل البحنسي بما حدث لي 
في مدينة نيويورك». بمحاولتي وضع رسائلي في مكدون المهملات. وأمرٌ آخر 
حدث لي في هذا اليوم وبهذه الجولة اليسيرة لا يقل غرابة عمّا سبقه من حادث 
صندوق البريد ومشاهدتي ترك الناس محلاتهم التجارية مسرعين لتناول غدائهم؛ 
وإليك هو: 

عدت أدراجي إلى الفندق لا مشيًا على الأقدام» كما سبق لي» بل ركبت 
(الباص) وكان ذا طابقين علوي وسفلي والعلوي منه مكشوف. فأخذت سلّمه إلى 


أن أوصلني للطابق الأعلى» ونظرًا إلى برودة الطقس لم يكن في الطابق العلوي 
أحد من الركاب» فأخذت موقعي فيه» أتمتع بما أشاهده من ازدحام كثرة الخلائق 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 2053 





والسيارات السائرة في هذا الشارع الخامسء وبينما كنت مأخودًا بهذه المناظرء 
الني لم أرَ مثلها في أي بلد زرته إذ بي أفاجَأ برجل يمد يده نحوي وبها شيء لم 
أنتبه له بادىء الأمرء وأول ما تبادر لذهني أنه من المغامرين الذين يسلبون الناس 
في قارعة الطريق كما كنا نشاهد على الشاشة البيضاءء في دور الصور المتحركة 
(السينما) فأمسكت يده وأنحيتها جانبّاء فارتبك الرجل» وهر رأسه وقال: الأجرة 
من فضلك» ثم وجَّه يده نحوي يحمل بها حاجة تشبه المسدس وبها ثقبء فناولته 
دولارًا وأعطاني الفكة قائلًا: ضع في هذا الثقب عشر سنتات ففعلت فأحدثت هذه 
السنتات حركة تشبه دقة الجرسء لقد كانت الآلة التي تسجل عدد الركاب 
ويستعملها «كمسارية» الباصات . 

دخلت الفندق فوجدت قرينتي تحتسي فنجانًا من القهوة» ولم أقصّص عليها ما 
شاهدته وما حدث لي في هذه المدينة العامرة الصاخبة» وطبعًا كتمثٌ عنها حادث 
الرسالة» وذهبّت من هذه الحياة ولم تعلم عنها شيئًا . 

من الصعوبة بمكان على الزائر أن يقف على ما تحتويه هذه المدينة من المعالم 
العديدة في بضعة أيام ليشبع نهمه الاستطلاعي من معالمها فإن ذلك يستوعب وتنا 
طويلًا ليتمكن من ارتيادهاء فإذا أراد الإنسان أن يقوم بجولة في شارع (وولستريت) 
المشهور بمصارفه العديدة وضخامة أعماله التجارية» فلا بد له أن يقف ولو ساعة 
من الزمن» في بورصة نيويورك العالمية» ليلع على ما فيها من مضاربات مالية» 
ويرى الكتل البشرية تتزاحم في مناكبهاء وأمام أبنيتهاء فتراهم وقد زاغت أبصارهم 
ذات اليمين وذات الشمال» ولا تلبث هذه النظرات الشاردة أن تستقرٌ على أحد 
جدران البورصة القائم عليها أسعار الأسهم المعروضة. ولا بد للزائر أن يشعر ولو 
بقليل من التعب. والمللء» وأن يفقد أحيانًا أعصابه» عندما يرى من لم يتمالك 
أعصاية.من المفتاريق بيةه الأشعان أو يحظر أسعار اسه كما يجة الزائر 
بعض الراحة في بعض الأحيان عندما يتابع سماسرة البورصة ويصغي لنداءاتهم عن 
الأسعار الهارطة الضاعلة: 

وقد أخبرت أن البورصة يؤمها طلاب الجامعات» والمعاهد العلمية من كافة 
أنحاء الولايات المتحدة الذين يقومون بدراسة الأعمال الإدارية في الجامعات 


204 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





والمعاهد العلمية ليقفوا على ما يحدث فيها من المضاربات المالية ويطّلعوا على 
كيفية التعامل مع الأسهم والسندات» وفي هذا الشارع وعلى مقربة من البورصة يقع 
البنك العالمي الشهير (تشير ناشيونال بنك)» ولا بد لهؤلاء الجامعيين من زيارة 
خاطفة أو غير خاطفة لهذا المصرف العالمي ليشاهدوا معروضاته من العملات التي 
هي عبارة عن جلود النمور والأصداف الهندية التي كان الهنود يستعملونها كعملة 
يتداولونها فيما بينهم منذ عهد بعيد» وفي غابر الأزمان والعصورء وقبل أن تعرف 
نيويورك (نيو أمستردام) وقبل أن يحتلها البريطانيون سنة 1664م. وإِنَ من يأخذ 
طريقه في هذه المنطقة القديمة المستحدثة يشعْر أنه ينتقل بين قرون ثلاثة من تاريخ 
هذه المدينة فيرى أشهر حاكم هولندي (بيتر استوفينت) وقد أقام جدارًا على 
الحدود الشمالية للمدينة لحماية جماعة المستعمرين من أهالي البلاد القدامى من 
الهنود. وقد تداعت أركان هذا الجدار وأزيل فيما بعدء لكن اسم هذا الشارع بقي 
كما هوء لم يتغير» (وول ستريت) أي شارع الحائط ويرى الزائر المكان الذي أدلى 
فيه جورج واشنطن بقّسّمه كرئيس للولايات المتحدة الأميركية سنة 1789م عندما 
كانت مدينة نيويورك» العاصمة الأولى للأمة الأميركية» وفي هذا القصر كان يعد 
مجلسها الوطني . 


كرود تداكو البيليفة دوو رك عق قيار البتاية الفضية المؤلفة بم 0102 انق 
وهي (امبايرستيت) القائمة على الشارع الخامس» بين شارعي 33 - 34 وكانت 
أعلى بناية في العالم في ذلك الزمن» فإذا أراد الزائر أن يصعد إلى قمتهاء ليشاهد 
مدينة نيويورك من هذا الارتفاع الشاهق» ليرى شوارعها المنسَّقة المستقيمة» ويطل 
على متنرّه المدينة الكبير (سنترال بارك) الممتد لمسافة ميلين في وسط نيويورك 
ويصل إليه ستون شارعًا من شوارعهاء ويرى الزائر البحيرة الواسعة فيه» تستعمل 
في فصل الشتاء للتزلج على جليدهاء الذي يحدثه شذة البرد القارس وحديقة 
الحيوانات» وملاعب الخيل» والمطعم الفاخرء من مطاعم نيويورك الأنيقة يفتح 
أبوابه صيقًا وشتاءء وبعض دور الآثار القائمة بأطراف هذا المتنزه البديع» ولا بد 
له من الوقوف في الصف الطويل ليأخذ مصعد هذه البناية بغية الوصول إلى قمتهاء 
ولهذه البناية ثلاثة وثلاثون مصعدًا للإنسان» وخمسة وعشرون مصعدًا للأثاث. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 265 





يشاهد الزائر هذا المرتفع الكبير وبقية الأبنية الشاهقة القائمة هنا وهناك» 
وبرى أبنية مدينة الراديوستي, التي هي عبارة عن أبنية عديدة بجانب بعضهاء 
ويطلق على هذه البناية مدينة داخل مدينة لما تحتويه من دائرة للبريد» ومحلاات 
نجارية ومطعم فخمء وملاءٍ والمئات من المكاتب التجارية ومحطّات الإذاعات 
الأميركية العديدة» ومن هذه الأبنية بناية (راديو ستي ميوزيك هول) ففي هذه البناية 
مسرح فسيح وسيع تُعرّض فيه أعظم الأفلام الشهيرة لأكبر الممثلين» ويمكث 
عرض الفيلم أشهرًا عديدة أو سنة كاملة في بعض الأحيان مع استعراض كبير تقوم 
به إحدى الفرق» المكوّنة من ثمانين لاعبًا أو أكثر من الذكور والإناث كان يسبق 
فى العادة بداية عرض (الفيلم). ومن هذه الأبنية العظيمة الشامخة بناية 
زوكقار بلازاء المكوّنة من ثمانين طابقًا وأمامها منفسح يحوّل في فصل الشتاء إلى 
ملعب للتزحلق. وفي فصل الصيف إلى مطعم أنيق تورّع بمنفسحه المظلات الصيفية 
الملونة وأعلام أمم كثيرة» ترفرف» وتخفق على جنبات هذا الملعب الجميل 
والمنفسح الأنيق» فإذا أراد الزائر أن يُشبع رغبته» بزيارة الأماكن التجارية الكبيرة» 
فلا بد له من زيارة محلاتء. (ميز) القائم (على الشارع 34. وشارع برودويه). 
الذي إذا ما دخله الزائرء ومشى في الدور الأول منه يرى مئات من الناس منهم 
المشتري» ومنهم الغريب المتفرّج» وإذا أخذ السلم الكهربائي الذي ينقله على 
طوابقه الثمانية» وشاهد ما تحتويه هذه الطوابق من البضائع المختلفة والأشكال 
والأجناس والألوان» فلا بد للزائر أن يندهش من محتويات هذا المخزن العظيم» 
إذ يجد كل شيء من الإبرة حتى السيارة. 


إذا أراد الزائر أن يزور تمثال الحرية القائم بمدخل نيويورك محاطا بالماء من 
جهاته الأربع» فلا بد له من ركوب البحر ليصل إلى هذا التمثال الضخم العظيم؛ 
فيجده قائمًا على قاعدة واسعة من البناء» فإذا صعد على درجاته العديدة» القائمة 
بداخل ساعد هذا التمثال» الذي يحمل الشّعلة لتُتير أرجاء هذه القارة الأميركية» 
عندها يخامره شعور غريب» يُنسيه أنه في مدينة نيويورك المأهولة بعشرة ملايين من 
البشر أو يزيدون وأنه يدخلها كل يوم مليون من البشرء كما يخرج منها مثل هذا 
العدد. 


266 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





يفصل مدينة نيويورك عن ولاية نيوجرسي» نهر هدسن الجميل» فبإمكان الزائر 
إذا أراد زيارة نيوجرسي أن يستعمل المعديات البحرية الكبيرة» التي تنقل الزوار 
وسياراتهم. أو يسلك طريق النفق الذي يش عباب هذا الطريق تحت النهر العظيم 
هدسن أو بواسطة السكة الحديدية التي تتسلّل من تحت ماء هذا النهرء أو يَعبْر على 
جسر جورج واشنطن المعلّق على الأسلاك الفولاذية القوية» والذي تمنعه من 
الاهتزاز» والسقوط. وطول هذا الجسر لا يقل عن كيلومتر واحد» وكان حتى عام 
5م أعظم جسور العالم» وأحسنها عمارة» تمر من تحته البواخرء مهما 
عظمت,ء وطالت مداخنهاء وإنك لترى هذه البواخر تجري من تحته» وكأنها سيارة 
تَمُْرٌّ بك وأنت في الطابق العلوي» لبناية مؤلّفة من اثني عشر طابقا . 


في أحد الأيام زرنا ولاية نيوجرسي», وأخذنا الطريق الأسهل» وركبنا سيارتنا 
وعبرنا جسر واشنطن» وعرّجنا بطريقنا على متنزه أليسون؛ القائم على مساحة 
واسعة على ضفة نهر هدسن, وقد أهداه والد زوجتي لولاية نيوجرسيء متنرًَّا 
لهاء وفيه كما ذكرت آنْقًا صورة والد قرينتي فرانسيس أليسون منحوتة على الصخر. 

كانت الحالة الاقتصادية وقتئذٍ في الولايات المتحدة آخذة بالنمو التدريجى 
لتحسين اقتصاديات البلاد» وبدأت الأيام تبتسم لساكنيها بعد أن قظبت عرسي نه 
سنوات» يمكنك أن تسميها بسنوات عجاف, بان لهم من خلالها البؤس بأبشع 
صورهء وحل بكثير منهم داء الفقرء الأمر الذي أوقف دولاب العمل في كثير من 
مصانعهاء وأوصدت بعض المصارف أبوابهاء وتضرّر خلقٌ كثير من جرّاء الحالة التي 
مرّت بهمء وكان من بعض أسبابهاء انزواء الولايات المتحدة الأميركية» على نفسها 
بعد الحرب العالمية الأولى» إذ لم يّرَ رئيسها ولسن بعد انتهاء الحربء التدخل في 
شؤون القارات الثلاث: أوروباء آسياء أفريقياء ولم يفتح لمنتوجات الولايات 
المتحدة أسواقًا خارجية» كما أوجَدَ لها الآن ساستها أسواقًا في هذه القارات؛ لقد 
ترك الرئيس ولسن أمور هذه القارات لحكوماتهاء القويّ يتغلب على الضعيف؛ 
فينجم عن هذه الحالة» زيادة الإنتاج الاستهلاكي» من دون أسواق لهء وأخذت 
الأسعار بالهبوط» وحلّ الكسادء وتلاشى ما كان يعتمد عليه المستثمرون من 
أصحاب المصانع من الادّخارء وانخفض محصول الضرائب التي تأخذها الحكومة 


ع : إلى الولايات المتحدة الأميركية 257 





من أرباب هذه المصانع» ومن غيرها من الأعمال فأوصدت في وجوه العمال» 
أيواب الرزق وبلغ مجموع العاطلين من مستوطني الولايات المتحدة الأميركية تسعة 
ملابين عاطل من مجموع سكّانها البالغ عددهم وقتئذٍ مائة وخمسة وثلاثين مليوئًا من 
البشر» وهذا العدد من العاطلين له تأثيره وفداحته» وخاصة في بلادٍ مثل بلاد العم 
سامء إذ تعوّد الإنسان فيها على المعيشة الحسنة. 


بلغ مجموع العاطلين تسعة ملايين عامل» وذلك أثناء حكم الحزب 
الجمهوري» وقد استغلٌ بعض القائمين على شؤون البلاد من هذا الحزب مراكزهم 
الخطيرة في الحكومة لصالح أنفسهم» ولم ينتبهوا لما كان يجري في البلاد من شحٌ 
مادي» وركود الحالة التجارية فيهاء فنشأ عن هذا أن أشرفت البلاد الأميركية على 
حافة الهاوية وكادت أن تَحدّث الكارثة لو لم يستلم الحكم رجال الحزب 
الديمقراطي . 

عند اننعلام الكزب'الديمقراطي ناضية الشكي ألهيت مقاليد الأمور للرئيس 
روزفلت» فأخذ يمارس صلاحيته» وأول عمل قامت به حكومته كان إيجاد عمل 
لهؤلاء العاطلين» فاستخدمهم في فتح شوارع جديدة خارج المدن» وأوجدت لهم 
أعمالّا عديدة مختلفة يقومون بممارستهاء وأخذت تدفع لهم الرواتب الشهرية» 
وكنت ترى أينما ذهبت خارج المدن وفي ضواحيهاء آلاف العمال يشقّون الأرض» 
ويمدّونهاء وكانوا يقومون بهذا العمل ببؤس وفتورهء فلا يقع نظرك إِلَّا على 
جماعات من العمال جالسين يحتسون القهوة. ويأخذون راحتهم» على حافة 
الطرقات؛ وعلى مرأى من رجال الحكومة» ولا يجد هؤلاء العمال من يحتّهم على 
العمل بل تركتهم الحكومة وشأنهم يعملون حينما يطيب لهم العمل وبقيت 
الحكومة» تستخدم العديد منهم» إلى أن استَعرت الحرب العالمية الثانية ودخلت 
الأمة الأميركية في أتون معمعتها. 

برغم النجاح الذي واكب الرئيس روزفلتء. في إدارة الحكمء وصعود أسهمه 
بين قومهء من اليوم الأول الذي اعتلى فيه منصّة الحكم. حتى إن خصومه 
السياسيين من الحزب الجمهوري في ابتداء حكمه» تركوا له المجال. وأخلوا له 
السبيل لينهض بالبلاد من كبوتهاء ويتصرّف في حُكوها كما يشاء»ء وبرغم مؤازرة 


2658 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 


عدد غير قليل من رجال الحزب الجمهوري المخلصين» ممن كانت لهم الكلم 
النافذة» في الأوساط السياسية والخبرة الواسعة في إدارة دقة الحكمء برغم كل 
هذاء لم ينجح الرئيس روزفلت النجاح اللازم في تخفيف عدد العمال العاطلين, 
فقد بلغ عددهم حتى ابتداء الحرب العالمية الثانية» أحد عشر مليونًا من العمال 
العاطلين» غير أنه قام بأعباء الحكم المتداعي خير قيام» إلى أن دبت الحياة نوما 
ما في أرجاء البللاد ونشطت التجارة في أمورهاء ا 
الشركات» بفتح أبواب متاجرهاء وسارت نحو النموء. وبخطى وئيدة ولكنها ثا 

لم يكن للولايات المتحدة الأميركية سياسة خارجية مرسومة الأهداف» ظاهرة 
الشكل بالمعنى الصحيحء كما نراها اليوم» اللهم إِلّا في أستراليا وجاراتها من 
الحكومات اللاتينية الأميركية» أمّا فى بقية القارات الثلاث». فكانت سطحية 
وبسيطة» وبرغم وجود سفراء لهم في عواصم حكوماتهاء لكنهم لم يتدخَلوا في 
أمور الحكم» كما يفعل سفراؤها في الوقت الحاضرء في القارات الست من هذا 
العالم الكبير» حتى خاضت معارك الحرب العالمية الثانية» وظهرت منتصرة ظافرة 
كما ظهرت في الحرب العالمية الأولى. 

مما يستر عي الانتياه» في هذا الشعب النشيط. المكوّن من كافة شعوب العالم 
هو سعي أفراده الحثيث» إلى تكوين شخصيتهم»؛ وسعيهم لإيجاد تاريخ لهم يلقنونه 
أبناءهم. والوقوف 17 واحدًا متراصضّاء مُحكم الحلقات» في وجه التيارات 
الخارجية» بغض النظر عن أيّ جهة تأتيه من الشرق أو من الغرب. أو من أي 
شعب من شعوب العالمء فكلهم يقفون متراصّين دفعة واحدة في وجه هذه التيارات 
أمام الجاليات الأوروبية» وغيرها من جاليات القارات الأربع» التي اتخذت 
الولايات المتحدة» مستقرًا لها ومقامّاء لا تنظر إلى وطنها الأولء إِلَّا أنه» وطن 
يستحق أن يذكرء وأن يعطفوا على ساكنيه. أما هم فأميركيون فقط. 

لقن تتحلوا عن كل أمرٍ يربطهم بأوطانهم الأولى» وقطعوا كل صلة بينهم 
وبينها» ولم يِبْقَ لديهم ء غير التغني بأمجادها ومفاخر أبطالها وزعمائهاء يتناقله الابن 
عن الأب» وبقيّة من الذكريات تداعب أفكارهم, لا تليث أن تضمحل مع مرور 
الأيامء وتعاقب السنين» فانصهرت هذه الجالية الآتية من مختلف أقطار العالم؛ 





الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 209 





المتباينة في العادات والأخلاق والطبائع» المختلفة في العقائد. في بوتقة واحدة» 
زكوّنت شعبًا واحدّاء يتكلم ويتفاهم بلغة واحدة» طبائعها واحدة؛ وهدفها واحدء 
هو تعزيز هذا الوطن» ورفع مستواه العلمي» والاقتصادي». والسياسي. ليكون في 
طليعة الشعوب. قوة ومهابة وعرًا. 

كان العا نانف العرتة م جك التجا عم نقد وناك عد لحرن إن الولاناك 
المتّحدة الأميركية منذ مائة عام أو يزيد» ولكنها ساهمت بحظء وإن لم يكن وافرّاء 
في إعلاء شأنه ورفع مستواه. 

إِنَّ الجاليات العربية في رأيي من خيرة الجاليات المهاجرة لهذا الوطن» فلم 
يُسمع عنها منذ مبدأ هجرتها إلى هذا التاريخ أنْ فردًا من أفرادها قام بعمل من شأنه 
أن يخل بشرفه ومروءته وسِمّته العربية كما تفعل بقية الجاليات من تكوين 
العصابات» والسطو على المصارف» وخطف البنين والبنات» واستعمالهم للقتل 
والسلب» ولم يحدث مثل هذا لدى مهاجري العرب فقد كانت الجاليات العربية» 
مهتمّة بتكوين نفسها ومشاطرة الشعب الأميركي للنهوض بالبلاد» ففي مدينة 
نيويورك نخبة طيبة من أبناء العروبة» منهم الأطباء والمحامون والسياسيون والأدباء 
والتجار والعمال» يقطن الكثير منهم في حي بروكلنء ولهم نواديهم الخاصة 
وجمعياتهم ومعابدهم. 

قمثٌ بزيارة مكتب القائم بشؤون الجامعة العربية في نيويورك وكان يدير أموره 
الدكتور فؤاد شطارة فلقيت فيه جماعة من مهاجري العرب» واستقبلني حبيب كاتبه 
بعد أن عرّفته بنفسيء, وقدَّمني إلى الشاعر إيليا أبو ماضي والشاعر ندرة حدادء 
وأخيه عبدالمسيح صاحب جريدة السائح والشاعر رشيد أيوب» والدكتور فيليب 
حته. والدكتور فؤاد شطارة والشاعر نسيب عريضة وفوزي البريدي صاحب جريدة 
الإصلاح . والأديب بطرس شحادة. 

بعد دقائق من جلوسي معهم دخل علينا السيد أبو علي خير الله الرجل اللبناني 
الذي سبق أن قابلته في بغداد قبل ثلاث سنوات. لقد كانت مفاجأة سارّة لكلينا 
ورخب بي السيد أبو علي ترحيبًا حارًا وسألني عمّا أتى بي إلى أميركا. فقصصتٌ 
عليه وعلى الحاضرين قصّة زواجي من الأميركية وقدومي معها. وانتقل بنا الحديث 





بعد ذلك إلى أخبار الوطن العربي وأمطرني الحضور بأسئلتهم عن الوضعية العربية 
الراهنة في البلاد وعن ملوكها وزعمائها وأفرادها. 

كانت سورية ولبنان وقتئذٍ تحت الانتداب الفرنسي والعراق وفلسطين تحت 
الانتداب البريطاني» وكانت الهجرة الصهيونية تزداد يومًا بعد يوم إلى فلسطين 
وبطرق شرعية وغير شرعية» وابتدأت المشاكل بين سكّانها العرب من جهة 
والصهاينة» والمحتل البريطاني من جهة ثانية. 

أمّا الإمام عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية فقد قضى على الإمارات 
المحلية ودويلات ومشايخ القبائل» ووحد الجزيرة العربية» بعدما كانت مسرحًا 
للغزوات والحروب» وهكذا أقام دولة وجمع شعبًا موحَدًا بدلا من الأمراء 
والمشايخ المتنافسين فيما بينهم. 

كان العراق يتخبّط زعماؤه فيما بينهم. لكل منهم خطة ومنهاج. والوصيّ على 
العرش عبدالإله نجل الملك علي بن الحسين» يوغر صدور هؤلاء الزعماء؛ يبت 
السموم ويحفر هوّة سحيقة فيما بينهم. يشاطره ويؤازره في عمله هذا نوري السعيد؛ 
وكل هؤلاء يرزحون تحت الحكم البريطاني بلا قوة لديهم لتقوم بطرد هؤلاء 
المستعمرين وكان الخليج وجنوب الجزيرة لا يزالان يرزحان تحت الحماية 
البريطانية التي تستعملهم لمآربها وغايتها بلا حول لهم ولا قوة. 

أمَا القطر العربي المصري فكان الحكم البريطاني يتدخل في جميع شؤونه 
وحياته الداخلية عسكريًا وسياسيًا واقتصاديّاء وزعماؤه وأحزابهم المنتمون إليهم؛ 
مرّة يتفقون على مقاومة الحكم البريطاني الرابض فوق هاماتهم ومرارًا يتنافسون 
على الحكم فيما بينهم. والامتيازات الأجنبية آخذة بخناق الشعب المصري الذي 
بات ليس له من الأمر شيء». والسودان العربي وما أدراك ما السودان؟ لقد فصلته 
الحكومة البريطانية عن الإدارة المصرية وأخذ بعض زعمائه بتشجيع من البريطانيين 
على تقوية الانفصال والركون لإدارة شؤون حياته من قبل البريطانيين. 

هكذا دار الحديث بيني وبين هؤلاء السادة العرب» وهذا ما أخبرتهم به 
وقبل أن أغادر جمعهم., قدَّم لي الشاعر ندرة حداد نسخة من ديوانه الشعري؛ 
وهكذا فعل كل من الشاعرين رشيد أيوب وإيليا أبو ماضي وقد زيّنوها بتوقيعاتهم. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 231 





الفصل الحادي عشر 





الرحلات الأولى بين الولايات 


نرى الولايات المتحدة الأميركية كما هي على حقيقتها وطبيعتها؟ وهل لك رغبة 
لتقف على معالمها وعادات أهلها عن كثب؟ وأن تلمّ بعض الإلمام بأخلاق أهلها 
ويسقي الزرع ويتعهد ماشيته» وإلى العامل داخل مصنعه وهو مشمُّر عن ساعده 
يصهر الحديد والعرق يتصبّب منه. والتاجر وهو يعرض بضاعته في متجره» فتعلّم 
منه مقدار ربحه وكسبهء وكيفية معاملته» وتعامله مع الناس؟ فأجبتها: ذلك ما كنت 
أبغي » قالت: ذلك شيء يتطلّب منا أن نمارس في تنقّلنا حياة أهل البادية عندكم 
في الصحراءء التي حدثتني عنها طويلا» وعن مشاق طرقهاء ووعورة مسالكهاء 
وشقاء مستوطنيها في بعض الأحيان. 

قلت: كيف يتسئّى لنا مجاراة حياة أهل البادية فى هذه البلاد الآهلة بالسكان 
وبين قراها العديدة ومدنها العظيمة؟ ومن أين لنا الخيل والأنعام» التي تنقلنا من 
مكان لآخر؟ إني أرى البون الشاسع بين صحرائنا العربية وبين هذه الأراضي 
المكسية باللون الأخضر الزاهى من نبات الأرض. قالت: سوف لا نواجه مشقّات 
ولا صعوبات» وستتبع الطريق الأسهل في تنقلنا فنستعيض عن الجمال بالسيارات» 
وجل ما في الأمر أن نشتري خيمة صغيرة تقينا الحرٌ والبرد وسريرين من الأسرة 
التي يسهل طيها ونشرهاء كل ذلك يسهل وضعه في صندوق السيارة الخلفي» أما 
طعامنا وما نحتاج إليه من الزاد فسهل تناوله؛ فإن محلات البقالة منتشرة على 
جانبّي الطريق. كذلك وقود سيارتنا فإن محطات الوقود قائمة في كل مكان. 
وسنسير مقدار مائة ميل يوميًّا ثم ننحرف قليلًا عن الطريق» فندخل في الأحراش 


252 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





ونقوم ببناء خيمتنا وطهي طعامناء وفي الصباح نترك هذا الحرش ثم نواصل السير. 
ولا بد لنا أن نعثّر على مزارع نتحدّث معه عن غيطه وأرضه وماشيته وثم مصاز 
عديدة نزور بعضهاء ونتحدّث إلى المهتم بشؤونها ونختلط بالعمال نسألهم عن 
أحوالهم وأجورهم وطرق معيشتهم وهكذا حتى إذا مللنا حياة البادية ووحدتها 
وشعرنا بحاجة إلى الراحة من عناء السفرء ندخل إحدى المدن ونقيم بأحد فنادتها 
ما طابت لنا الإقامة» وواصلت حديثها قائلة: أم أنّك تفضّل أن تأخذ القطان 
فينقلنا من مدينة إلى ثانية» فنتمتع بالراحة في فنادقهاء لك الخيارء لنتبع أحد هذين 
الأمرين» وهكذا وقع اختيارنا على التنقل في السيارات وبدأنا السير من مدينة 
نيويورك منّجهين جنويًا على الطريق الرئيس الذي يصل ولايات الساحل الشرقي 
ببعضهاء وكانت وجهتنا الأولى مدينة ميامي بيتش في ولاية فلوريدا . 

قضينا في تجوالنا تسعين يومّاء ومرّرنا خلالها على تسع ولايات من الولايات 
الأميركية الثماني والأربعين وعلى عاصمة الولايات المتحدة الأميركية واشنطن, 
وكان ذلك قبل أن تنضمٌ هاواي وألاسكا إلى الفدرالية الأميركية. وكانت رحلتنا 
جميلة ومفيدة» زادتني خبرة ومعرفة وأوقفتني على كثير من معالم هذه البلاد وطبائع 
أهلها وعاداتهم وأخلاقهم. 

في مستهل اليوم العاشر من شهر رجب 1354ه الموافق السابع عشر من شهر 
تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1935م» خلفنا نيويورك وراء ظهورنا وكان الطقس يميل 
إلى البرودة واخترقنا الولايات الشمالية الشرقية» ولاية نيوجرسيء بنسلفانياء 
ديلوير» وحطّ بنا المزار في عاصمة الولايات المتحدة الأميركية واشنطن. 

في مساء أحد الأيام وقبل أن تغيب شمسهء وفي ولاية بنسلفانياء كانت قرينتي 
تقوم بتهيئة الطعام وأنا أحاول بناء الخيمة» وبينما كان كل منّا مشغولَا بما تعهّد به 
إذا بعربة حنطور يجرها جوادان» يحتل مقاعدها الثلاثة آنسة في السادسة عشرة من 
عمرها وسيدة في السابعة والأربعين ورجل في العقد الخامس يقود هذه العربة 
فوقفوا بنا وبعد التحية وتناول القهوة وبعض الفاكهة دعَوْنا لزيارتهم في منزلهم الذي 
يبعد عنّا بضعة أميال» وأردف الرجل قائلًا: دعوا أمتعتكم في مكانها فإن البلاد 
أمان» ولا أحد يجرؤ على أن يمسّها إنها من أملاكي . 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 203 





بعد أن تناولنا عشاءنا وأخذنا راحتنا توجّهنا لتلبية دعوتهم وقضينا ساعتين من 
الزمن في منزلهم الذي يشبه القصرء لضخامة بنائه ولكثرة غرفه وعدد ممراته» 
ركنا عن الجو والرطوبة والأمطار ومشاقٌ السفر في هذه الأيام من فصل الشتاءء 
تطرّق بنا الحديث عن الأنعام والمزارع» وابتدأ حديثه» وأخذ يسرد علينا قصة 
حياته قاتلا : زوجتي إيطالية من مواليد هذه البلاد تعرّفت عليها أيام الدراسة» ومنذ 
خمسة وعشرين عامًا عقد قراننا فأنجبنا كريمتين وثلاثة فتية» أما إحدى كريماتنا فقد 
تزوجت ونزحت عنا إلى ولاية فلوريداء واثنان من فتياني تزوّجا أيضّاء ونزح كل 
منهما إلى إحدى الولايات» فالكبير منهما رحل إلى مدينة نيويورك وهو يتعاطى 
التجارة» والفتى الثاني لا يزال يتنقّل وقرينته في الولايات يقضون شهر العسل» 
الثالث يدرس في العاصمة واشنطن» وليس لدينا غير هذه الفتاة التي تشاهدونها 
وإنها مغرمة بتاريخ الأمم. 


أما أنا فإنجليزي الأصل»ء وأميركى المولد. وهكذا والدي وجذّي من قبلى» 
هما من مواليد هذه البلاد» وقد حل جدي في ولاية بنسلفانيا وتعاطى الزراعة 
وتعهّد هذه الأرض» وتوسّعت حتى غدت ثمانية أميال طولاء واثنين عرضًا وقد 
بنى والدي هذا المنزل» واعتنى بتربية الماشية» ولدينا الآن سبعون بقرة حلوبًاء 
نستعمل ألبانهاء وعدد كبير من مختلف الماشية» ومزرعة كبيرة من الدواجن» هذا 
خلاف محصولاتنا من المزروعاتء. وثمار الأشجار. إن الشعب الأميركى يعيش 
عيشة هناء ورخاءء وبالرغم من أن مسكننا هذا بعيد عن المدن والأمصار فإننا لا 
نشعر بهذا البُعد» ففي صباح كل يوم» تأتي سيارة كبيرة تنقل منتوجاتنا من الألبان» 
والبيض » والحمام. والدجاج» وغيرها من الدواجن» كالبطء والإوز» والأرانب» 
وبعضًا من منتوجاتنا الزراغية: تبعد المدينة عنا خمسة عشر ميلا .. إن العديد من 
المزارعين لهم وكلاء في المدنء يتعهّدون بيع محصولاتهم من الزرع ومن الضرع. 
فلا يتكلفون مشاقٌ في نقلها وفي بيعهاء إن أبناءنا يذهبون للمدرسة في كل يوم 
تنقلهم سيارات المدرسة في الصباح. وتعود بهم في المساء. يتناولون غداءهم في 
المدرسة. إن حياة المزارع في هذه البلاد حياة هنيئة محترمة» ويقابّل أينما حل 
بالتقدير والاحترام» وتقع على عاتقه أغلب المسؤوليات في هذا الوطن» وعليه 
المعرّل فى الانتخابات الحكومية الخاصة والعامة. 


2034 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





واستطرد قائلًا: إن ظروفي الحاضرة لا تسمح لي بمغادرة البلاد لزيارة أورو 
وغيرها من القارات» مع أنني كنت أعزم عامًا بعد عام» على القيام بزيارة طويلة 
خارج هذه الجمهورية» لذا لا أعلم عن العالم الخارجي شيئًا أقصّه عليكمء غير ما 
قرأته لاع ذوافكي وا تتقعة هن النامن الدين كاعدتهم رودي على الكل خارج 
البلاد» والذي بانَ لي من دراستي» واجتماعي بالناس» أنّ الحياة هنا في هلء 
القارة» وأعني الولايات المتحدة الأميركية» تختلف اختلاقا كبيرًا ظاهرًا في جميع 
مرافق الحياة. معظم أبناء الشعب الأميركي يشتركون في أربعة أشياء تجدها فى 
بيوتهم» الثلاجة والراديو» والمطبخ الكهربائي» والمطبخ البوتاغاز» أو مطبخ الوقود 
من الخشب. وحمّام يحتوي على الماء الساخن والماء البارد» وتتطلب الحياة هنا من 
الإنسان» أن يذهب في الأسبوع ولو مرّة واحدة ليشاهد أفلام السينماء وفي يوم 
العطلة الأسبوعية لا بد له أن يتناول وجبة من الطعام خارج بيته» سواء أكان بمفرده 
أو مع عائلته» وسواء أكانت هذه الوجبة الفطور أو الغداء» أو العشاء. 


توجد مساعدات للعلاج والتعليم الابتدائي مجان تاها لأي شخص أن 
يمارس معتقده» مهما كانت صفته» وأن يعيش في حرية تامة في أعماله» فلا تجد 
من يسلبه حرية العمل» أو يحرمه من حرية القول. ومباح لأي إنسانء أن ينشر 
معتقدهء ويبشّر به بالطرق التي يراهاء وأن يبدي ملاحظاته على حكامه أو ينتقد 
بعض أعمالهم» فثلاثة أشياء يتمتع بها المواطن في هذه البلاد هي : حرية القول» 
حرية العمل» حرية المعتقدء وهذا شيء لن تجده لدى كثير من الأمم والشعوب. 

إنني مزارع» لا أهتم إِلَّا بمزرعتي» ولكن لا يفوتني ما يجري في هذه البلاد 
من الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية» فلدي الراديو ينقل إليَ كل حركة 
تحدث في هذه البلاد أو في غيرها من الأماكن الأخرى وأستنير بما تكتبه صحفنا 
اليومية ومجلاتنا الأسبوعية والشهرية» فهي تزوّدنا دومًا بالأخبار الداخلية 
والخارجية؛ ومن عادات ساستنا وحكامنا إذا أرادوا أمرًا سياسيًا كان أم اقتصاديّاء 
أم اجتماعيّاء أن يوعزوا للصحف لتنشره» حتى إذا تشرّبت النفوس به؛ ظهر 
للوجودء وعمل بموجبهء أو إذا لم يَلْقَ لدى الناس فكرة طيبة يُستغنى عنه. 


إني أطالع كثيرًا من الصحف اليومية» وإن جريدة نيويورك تايمزء تُعَدَ الجريدة 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 255 





اليومية الرسمية» وإن لم تصدر كثيرًا من الأعداد كغيرها من الصحف كجريدة نيوزء 
التي تُصير يوميّا ما يقرب من خمسة ملايين نسخة» تورّع على كافة الولايات» إذ 
إن لهذه الجريدة اتجامًا خاصّاء فهي تتعرض للشؤون العامة» ومشاكل الناس 
>الاختلافات الزوجية» والانفصال» أو الطلاق. 

إن الشعب الأميركي شعب مرح.ء متفائل» مُكِدٌ في عمله» وإن مجتمعنا يسوده 
التكاتف والتعاضدء في كثير من مرافق الحياة» وإذا أراد المرء القيام بعمل ماء 
وليس باستطاعته المُضي به من الوجهة المادية» أو من الوجهة المعنوية» يسهل 
على المرء أن ينال ما يريد من الأموال ومن غيرها من الإسعافات كالقروض 
الطويلة الأجل القليلة الكلفة» هذا إذا كانت أخلاقه متينة. 

كان يُسترسل بحديثه. بحيث لم يَدّع لنا مجالاء لإبداء رأينا فيما يقول. أو 
نسأله عن بعض ما عرض علينا من أحاديثه» أو لنشاطره رأيه فيه» إن المرء عادة ما 
قعل العلل عكتها يضتى إلى مسري لا يترك لاعصالا المجاراتة ولكن هذا 
الرجل كان لبقا في حديثهء في طلاوتهء في تعبيراته البدوية» لا يمل المستمع إليه؛ 
والإيطاليين تحريكهم أيديهم ورؤوسهم عند قيامهم بالتحدث فلقد كان هذا 
البريطاني يختلف عن بقية أفراد شعبه لقيامه بحركات كثيرة أثناء حديثه» ولعله تأثَّر 
بزوجته الإيطالية . 

بعد الانتهاء من حديثهء أخذ يسألنا فى أدب. عن البلدان التى زرناها وخاصة 
عن البلاد العربية السعودية التى أتينا منهاء وكانت أسئلة ممتعة طريفة. 

مما قاله عن البلدان العربية الآتي: إن بلادكم العربية» حسبما ظهر لي من 
دراستي بلاد واسعة جرداء يابسة» ماؤها قليل» فلا أنهار تجري فيهاء وزراعتها 
متواضعة جدّاء لا تكفي ساكنيهاء القليل عددهم» وأن منتوجاتها قائمة على 
النخيل» الذي ثمره هو أحلى ثمر ذقته. وقال: لا أدري هل لا تزال لديكم الخيول 
العربية الأصيلة التي نسمع عنهاء وإذا وجدت هل تتعهدونها خوفا من اضمحلالها؟ 
فإن لدينا خيولا عربية أصيلة» والإحصاء الأخير للخيول العربية في هذه البلاد كان 
لاثة عشر ألف رأس عربي أصيل . 


6ظ2 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





إن الذي يعجبني في الشعب العربي هو: سماحته وكرمه وجهاده. وصبره 
وشجاعته ورجولته» فلا تهملوا هذه الخصال» بل حافظوا غائها مخافظة السويز 
على الدرهم. فإنها ثروة عظيمة لا يُستهان بهاء فإذا فقدتموها أصبحتم أفقر من فقير, 
وأردف قائلا : قرأثٌ منذ يومين مقالا نشرته صحيفة نيويورك تايمزء يقول: إن البلاد 
العربية السعودية قد عُثْرِ في جوفها على آثار للبترول في الجهة الشرقية منهاء وعلى 
الخليج العربي» ولكن الجيولوجيين لم يتبيّن لهم بعد» وجود كميات كبيرة تجارية, 
وتقول الجريدة: هناك أمل كبير في العثور على كميات ضخمة من هذا الذهب 
الأسودء إذا قُدّر لهذه البلاد ظهور البترول في جوفهاء بصورة تجارية» فستصبح في 
بضع سنوات أغنى البلدان العربية» وما يدريكم ربما ستكون أغنى بلدان العالم, 
وستوفر لساكنيها حياة هنيئة» خيرًا من حياتهم التي يتقلبون فيها على مضض وفي 
صراع شديد معهاء وعسى الله أن يحقق لبلادكم العربية هذا الأمل الكبير. 


كانت الولايات التي اجتزناها من ولاية نيويورك حتى ولاية فلوريدا عشر 
ولايات. وهي: نيويورك» ونيوجرسيء. وبنسلفانياء وديلاويره وميرلاند. 
وفيرجينياء وفرجينيا الغربية» وكارولينا الشمالية» وكارولينا الجنوبية» وجورجياء 
وفلوريداء إضافة إلى العاصمة الفدرالية واشنطن وكانت المدّة التي قضيناها في هذه 
الولايات إلى أن وصلنا فلوريدا شهرًا واحدّاء كان يبلغ تعداد نفوس هذه الولايات 
العشر وواشنطن 46 مليونًا من البشر حسب إحصاء عام 1354ه (1935م): 
بمساحة قدرها 4210727 ميلا مربعّاء فإذا وزّعت هذه المساحة على المواطنين 
في هذه الولايات يكون نصيب كل (111) شخصًا ميلا واحدًا تقريبًا بينما تقذر 
مساحة ال 38 ولاية الباقية من الاتّحاد 4,141,462 ميلًا مربعّاء مجموع سكانها 
4 مليونًا تقريبّاء فإذا وزعت هذه المساحة على المواطنين في هذه الولايات ال 38 
يكون نصيب كل شخص عشرين ميلا مربعًا . 

دوّنت هذا في سنة 1370ه (1951م).: أما في عام 1386ه (1967م)» فقد 
بلغ نفوس الولايات المتحدة الأميركية ما يقرب من المائتي مليون من البشرء بعد 
أن انضمّت ولايتا هاواي وآلاسكا إلى الثماني والأربعين ولاية» حيث أصبح 
مجموع الولايات خمسين. وتّعَدَ الولايات العشر السالف ذكرهاء من أكثر 


لك إلى الولايات المتحدة الأميركية 257 





الولايات عددًا في الأنفسء. ومن أكثرها إنتاجًا في المحصولات الزراعية وفي 
الصناعات» وأضخمها في الاقتصاد». ولقد فتحت أبوابها للمهاجرين الأوروبيين 
الأوائل وكان معظمهم من الهولنديين والبريطانيين والفرنسيين» الذين لم يجدوا 
متسعًا من الرزق في أوطانهم» لقد كانوا من عامة الناس إلا قليلّا منهم كان لهم 
مراكزهم السياسية في أوطانهم وشأنهم الكبير فيها. 

كانت هجرتهم إلى هذه البلاد سعيًا وراء الحياة الأفضلء» وكانت أحوالهم 
المادية ليست متيسّرة» فأقاموا في هذه الأرض ذات التربة الخصبة» الغنية في 
مواردها الطبيعية من غابات كثيفة» ومعادن عديدة واتّخذوها مستقرًا لهم ومقامًا 
وأخذوا يمارسون ما كانوا يعملون في وطنهم الأول في مختلف الصناعات 
والحرف مع ما تطلّبته منهم الحياة في دار هجرتهم . 

أكثر العائلات الغنية المترفة في الولايات المتحدة الأميركية تحمل الأسماء 
الآتية: النجارء الحدادء الخبازء لأنهم كانوا ينتسبون إلى أعمالهم التي يتعاطونها 
في دار هجرتهم» تاركين وراءهم أسماء عائلاتهم الأولى التي كانوا يُعرفون بها من 
قبل. 

أكثر العائلات شيوعًا في المحيط الأميركي» عائلة الحدادء (ايران سمث) 
وأصبحت تُعرف بسمث فقط وذلك نظرًا إلى حاجتهم الماسة إلى عدد كثير من 
الرجال يمارسون مهنة الحدادة» إذ كانت مواصلاتهم في ابتداء مجرتهم على 
عربات تجرّها الخيول والبغال» وتحتاج هذه العربات إلى خبرة في الحدادة 
والبيطرة والنجارة» وقد تخصّصت كل ولاية من هذه الولايات الثماني والأربعين 
بمواد طبيعية من عمل وإنتاج وصناعة تختلف قليلًا عن سواها في الولايات. 
وسأعرض نبذة مختصرة عن بعض الولايات التي مررنا بها في رحلتنا على الساحل 
الشرقنة 

لنبدأ بولاية نيويورك البالغ تعداد نفوسها 13 مليونًا حسب إحصاء عام 
5م . ومساحتها 47,939 ميلا مربعًا وعاصمتها أولباني وأكبر مدنها نيويورك. 
وقد عرفت مدينة نيويورك بإنشاء المصارف الكبيرة والمضاربات المالية الفاحشة 
والأبنية الضخمة الشامخة نظرًا إلى صغر مساحتهاء فجزيرة منهاتن حجم مساحتها 


258 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





قليل لذا نجد فيها الابنية الشامخة لتستوعب ساكنيها الذين يبلغ عددهم ملايين من 
البشرء ومن أكبر مصارفها العالمية تشيز ناشونال بنك وقد أنشىء فيها أكبر مصرف 
في العالم وهو تشيز منهاتن بنك. وأقيم في بناية ضخمة مكوّنة من ستين طابقًا ومن 
موجودات هذا المصرف في طابقه الأرضيء ما قيمته خمسة وعشرون مليارًا ذهب 
من الدولارات» وهو رقم يُعتبر أضخم من احتياطي الذهب لدى حكومة الولايات 
المتحدة الأميركية إذ كان الذهب الاحتياطي لدى الحكومة في الوقت نفسه يَقَرْبِ 
من اثني عشر مليارًا . 

كما تضم مكاتب نيويورك التجارية» وكلاء وممثلين لكافة المصانع والشركات 
في كافة أنحاء الولايات» ويُعتبر ميناؤها أكبر الموانئ» وأكثرها ازدحامًا وتصديرًا 
لكثرة ما يردها من البضائع وما يُصدَّر منهاء وبورصة نيويورك العالمية تحدث فيها 
المضاربات المالية ما لا تجد له مثيلًا في أي بورصة في العالم. 

ولاية نيويورك متقدمة على بعض الولايات بإنتاج المعادن» كالإسمنت 
والحديد الخام ولا يزال نصف مساحتها مكوّنًا من الغابات التي يتوفّر منها الخشب 
الذي يضع نيويورك في المرتبة الأولى بين الولايات بالنسبة إلى صناعة الأثاث؛ 
كما تعثبر: الولاية الثاني بالنسية إلى كمية اللين: الذي يقل بسيارات كبيرة إلى 
مصانع اللبن» ليُستخرج منه الزبدة والجبن والكريماء والحليب. وهذه الولاية 
كانت الولاية الحادية عشرة التي دخلت في الاتّحاد الفدرالي في تموز/ يولير 
8م وفيها 167 مدينة يزيد عدد سكانها عن الخمسة آلاف نسمة. 

كانت الولاية الثانية التي اجتزناها بعد ولاية نيويورك هي ولاية نيوجرسي؛ 
يفصلها عن ولاية نيويورك نهر هدسن العظيم القائم على ضفتيه جسر جورج 
واشنطن . وكان من أعظم الجسور في العالم حتى سنة 1356ه (1927م). 

اشتهرت نيوجرسي بجامعاتها الخمس. وبكلياتها الست والعشرين؛ 
وبمعاهدها السبعة التدريبية» وممًا يلفت النظر في نيوجرسي كثرة عمّالها البالغ 
عددهم مليونين ونصف المليون عامل» ويتجاوز هذا العدد من العمال ثلث سكان 
الولاية» إذ كان يبلغ عدد سكانها 666,782 نسمة كما اشتهرت معامل البحوث 
الطبيعية الكيميائية وكان أهم الصناعات فيها الأدوات الكهربائية. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 209 





كانت ذات حركة كبيرة ونشاط قوي ملموس أيام الثورة الأميركية التي تطاير 
شررهاء واستعر لهيبها على البريطانيين بقيادة جورج واشنطن. 

كانت مدينة (مورستون) المركز الرئيس لجورج واشنطن, في هذه الولاية كما 
فى غيرها من الولايات الأميركية المتحدة منتوجات صناعية وزراعية ومتندّهات 
حكومية عمومية تقدر ب 270 ألف فدانء أما مساحة غاباتها العشر فيبلغ 162 ألف 
فدانء من مساحة الولاية التي تبلغ 7836 ميلا مريعًا. 

أجمل مدنها أتلانتيك ستي القائمة على ساحل المحيط الأطلسي» وعاصمتها 
ترنتون لا تبعد كثيرًا عن جامعة بنرنستون. وكانت الولاية الثالثة التي دخلت في 
الاتحاد بتاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر 1787م. وعدد مدنها (167) مدينة 
يتراوح عدد سكانها من خمسة آلاف فما فوق. وأكبر هذه المدن: مدينة نيويورك 
ويبلغ عدد سكانها 40,220 نسمة. وعدد سكان أصغر مدنها 5006 وذلك حسب 
تعداد عام 1962م. 

بنسلفانيا هي من أكبر الولايات في الصناعة والتنقيب وفي طليعة الولايات في 
المنسوجات الصوفية» وصناعة الأقمشة. وهي الأولى من بين الولايات» وفي 
تاعاورق السجائر الخارعى »وار هذا الصست يعناية افائقة وز اع أثاءانهزة» 
كما يُراعى الوليد وهو في المهد لشدّة حساسيته. 

للولاية مدينتان عظيمتان هما: بتسبورج. وفلادلفياء وقد ازدهرت فلادلفيا 
برغم حداثتها وكان لإعادة الحي الأوسط في المدينة أثر كبير في ازدهارهاء فقامت 
فيه أبنية ضخمة واسعة منسقةء تحتوي على مكاتب تجارية عديدة» وأقيم فيها فندق 
يحتوي على ألفي غرفة بمنافعها . 

من معالمها مبنى ستي هول البالغ ارتفاعه 548 قدمًا ويمكن للمرء رؤية جميع 
معالم المدينة من شرفاته العالية. وتُّعَدَ مدينة بتسبورج مدينة صناعية لكثرة ما تحتويه 
من المصانع البالغ عددها 7252 مصنعًا يعمل فيها 700 ألف عامل وأهم إنتاجها 
الصلب والفحمء الأمر الذي يجعل أبنية المدينة كأنها في حدادٍ يُلبسها دخان 
المصانع رداء من أردية الحزن والكابة. 

إذا در لك أن تفتح نوافذ بعض الغرف فلا تلبث غير بضع دقائق حتى يتغيّر 
لون مفروشاتها من كثرة الدخان وغبار المصانع . 


300 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





وكانت الولاية تُعرف باسم سلفانياء وهي كلمة هندية وعندما وقّع (ويليام بن) 
معاهدة مع الهنود الحمر القاطنين بهذه الولاية» أضيف إليها اسم بن» فأضبحت 
تعرف باسم بنسلفانياء تخليدًا لاسم الأدمرال بن. 

عاصمتها مدينة هايسبورج» ومساحة الولاية 45333 ميلا مربعًا وكان عدر 
سكانها 11,219,366 نسمة» حسب تعداد سنة 1962م» وكانت الولاية الثانية الى 
دخلت في الاتّحاد الفدرالي بتاريخ 12 كانون الأول/ ديسمبر 1787م. وفيها 240 
مدينة أكبرها مديئة فلادلفيا كان عدد سكانها 2,050,0000 نسمة وأصغر مدنهاء 
سكانها 5,017 نسمة. 

أما ولاية ديلاوير فلقد كانت أصغر ولاية في الانّحاد بمساحتها بعد ولاية 
رودايلاندء وتبلغ مساحتها 2057 ميلا مربعٌاء وعدد سكانها ينخفض قليلًا عن 
نصف مليون. فهو لا يتجاوز 446,262 حسب إحصاء سنة 1935م وهي أول 
ولاية أسرعت في التوقيع على دستور البلاد» وقد وقّع هذا الدستور حينئلٍ ثلاث 
عشرة ولاية. وكانت الأولى بين مجموع الثلاث عشرة ولاية التي كوّنت الاتحاد. 

إن الأمور التي حملتها على أن تكون أول الموقعين هي: اضطراب الأمن 
الداخلي في ربوعهاء وما كانت تتعرض له في أوقات مختلفة من شن الغارات ممّن 
حولها من البلدان المجاورة؛ ومن تقلّب الحاكمين من الأمم الأخرى. 

كان أول من استوطنها المهاجرون الهولنديون ثم جاء السويديون تحت قيادة 
(مينسوي) وأقام حصنين عظيمين» هما نيوسويدان» وحصن كريستانياء ثم 
استرجعها الهولنديون ومن بعدهم حكمها البريطانيون» ثم استرجعها الهولنديون مرة 
ثانية . 

أكبر مدنها مدينة ويلمنتون» وعدد سكانها يفوق نصف سكان الولاية بأسرها. 
وتشتهر هذه المدينة بمراكزها العالمية للكيميائيات» ومعامل للتجارة تابعة لشركة 
(دويون) وتعتبر هذه الشركة إحدى الشركات التعاونية الأميركية الكبرى. ولهذه 
المؤسسة تاريخ مجيدء يرجع إلى سنة 1802م وكان رأس مالها ستة عشر ألف 
دولارء وأول عمل باشرته هو قيامها بصناعة البارود. 

ثم تطورت في مختلف الصناعات» وأصبحت 1200 نوع من السلع المختلفة 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 2301 





ونطوّرت تطورًا بالعًا في صناعتهاء ووصل استثمارها في شركات عديدة إلى مليار 
وتسعمائة مليون دولارء وكان الحدّ الأقصى لمبيعاتها مليار ومائة وثلاثة وأربعين 
مليونًا من الدولارات» في أواخر سنة 1380ه (1960م)» وبلغ مكسبها السنوي 
مائنين وخمسين مليون دولارء وعاصمة الولاية هي مدينة (دوفر)» وأكبر مدنها 
وليمتون» وعدد سكانها 95,827 نسمة. وَأصفوها ردي مليفورد وعدد سكانها 
5 نسمة . 

إذا انتقلنا إلى ولاية ميرلاند نجد أن عاصمتها (أنابوليس) تُعتبر من أقدم 
العواصم في الولايات المتحدة الأميركية» وقد أنشئت عام 1772م» وفي هذا العام 
انتهت الثورة الأهلية الأميركية» واستقال جورج واشنطن من منصبه كرئيس أعلى 
للقوات الأميركية. 

في غرب الولاية» وفي سهول (بيد موند) صخور يرجع تاريخها إلى زمن 
بعيد» حتى الآن لم يحدّد زمنهاء وهي من الصخور القليلة النادرة» التي رآها 
الإنسان» ومن آثارها التاريخية» حصن (ماك هنري) ومنزل (أوجار آلن يو) وهما 
في إحدى مدنها واسمها بلتمورء حيث رفع العلم الأميركي ذو الألوان الثلاثة» 
ونجومه الثلاث عشرة التي تشير إلى عدد ولاياتها التي كوّنت الاتّحادء فأوحى رفعه 
إلى الشاعر الفرنسي (فرانسيس كوت لي) كتابة مقطوعته الشهيرة ساري النجوم . 

اشتهرت هذه الولاية بإنتاجها العالمي من الصلبء والنحاسء والألمنيوم» 
والكيميائيات» والأدوات الإلكترونية» والسفن والأدوات الزجاجية» والصناعات 
المعدنية وإنتاجها الزراعي من الدخان» والبطاطاء والقمح» والذرة» والدواجن» 
والماشية» وصناعة الألبان» والطماطمء ويمثّل ما تعلّبه وتشحنه من الصنف الأخير 
ربع محصول الطماطم في الولايات جميعها. 

كانت ميرلاند هي الولاية السابعة التي دخلت الاتّحاد الفدرالي بتاريخ 28 
نيسان/ أبريل 1788م فيها 65 مدينة» أكبرها عدد سكانها 627,525 نسمة 
وأصغرها عدد سكانها 5088. 

كانت ولايتا فرجينياء وفرجينيا الغربية ولاية واحدة ثم انفصلتا عن بعضهما 
عند الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب عام 1861م» وكوّنت لكل منهما حكومة 


302 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





مركزية في 20 حزيران/ يونيو عام 1863م» وأصبحت عاصمة فرجينيا رتشمونر 
وعاصمة فرجينيا الغربية تشارلستون. 

كانت ولاية فرجينيا مركرًا للقتال» وقاسى أهلها كثيرًا من ويلات الحروب 
وفواجعها وبعد تسعة أعوام من انسحابها من الاتحاد عادت» والتحقت به مرة 
ثانية» أما ولاية فرجينيا الغربية فلم تلتحق بالاتّحاد إِلَّا بعد عشرة أعوام من انضمام 
شقيقتها فرجينياء وفرجينيا يطلّق عليها اسم منبع الرئاسة» فقد أنجبت ثمانية رجال 
كرا رئاسة الولايات المتحدة الأميركية وهم: ماديسونء تايلرء واشنطن, 
جفرسونء مونروء ويليام» تبيلورء ولوسونء. هايسون. وقد اننُخْب الثلاثة الأواخر 
عن ولاية أخرى» لاستيطانهم فيها قبل انتخابهم كرؤساء للولايات المتحلة 
الأميركية وقد كتب الدستور الأميركي في هذه الولاية (فرجينيا) . 

فرجينيا لها مجال واسع في الصناعة» والزراعة والمعادن ومنطقة (يبدفون) 
مشهورة بخيولها الأصيلة» كما أنها مشهورة بمعاهدها العلمية الواحد والخمسين؛ 
فيها تسع وعشرون كلية وجامعة» ولديها من المكانات ما يجعل قاطنيها الأربعة 
ملايين نسمة يعيشون في بحبوحة من العيش» ومساحتها 5 ميلا مربعًا. 

اشتهرت فرجينيا الغربية بمناجم الفحم التي في جبالها الشامخةء ويأتي ترتيبها 
الأول من بين الولايات من هذا الإنتاج. كما أنها اشتهرت بمراكز للصلب في 
مدينتيها (ويلبخ» ويرتون) وتقوم بتكرير البترول وصناعة الألمنيوم» والخشب» 
والأقمشةء والفخار. 

إنتاجها الزراعي كإنتاج كثير من الولايات» فيها القمح والشعير والذرة 
والبطاطس والعنب. والتين» والخوخ, والتفاح» التي تنتجها أرضها الخصبة؛ 
بكميات كبيرة» وكان للسدّ الجديد الذي تم بناؤه سنة 1960م»2 على نهر (إيلك) 
عند سد (سوتن) مفعوله الكبير في نمو الزراعة الأمر الذي جعلها تبتدىء بإنشاء سد 
آخر على نهر (جولي) عند (سمرسفل) سيكلفها 0 مليون دولارًا وقامت البحرية 
الأميركية يبناء أكبر تلكسون في العالم بقرب (شوكجر جروف). 

اشتهرت هاتان الولايتان بمناجمها العديدة وخاصة مناجم الفحمء إذ يُستخرج 
منهما كميات هائلة» فولاية فرجينيا يقدّر ما تنتجه كل عام من الفحم بمائة وعشرين 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 303 
ا م ل 2 
مليونًا من الأطنان» ويقوم باستخراج هذه الكمية الضخمة خلق كثير من العمال 
الملونين لحساب البيض.» في هذه الولاية» هؤلاء العمال الملونون» يعيشون عيشة 
ع ونكدء وشقاءء وذل» واستعباد» يقطئون بجر خشبية متواضعة» تعصف 
فى أرجائها الرياح» ويقيم كل أربعة أو خمسة أشخاص منهم في حجرة واحدة فيها 
بنامون» وفيها يطبخون» وفيها يجلسون. 

هذه الحجرة خالية من أدوات الراحة فأرضها مفروشة بالتراب» لا قطعة من 
حصير أو سمط بساط يكسو أرضهاء حتى الإسمنت الذي تنتجه هاتان الولايتان 
بكميات هائلة لم يكن له من أثر في هذه الحجرة التي تأنف أن تسكنها البهائم 
والحيوانات. بينما ينعم مواطنوها البيض بمرافق الحياة ومتعها وزينتها ويتنافسون 
فيما بينهم على جودة البناءء وضخامته وزخرفته وإتقانه» وأثاثه» ذلك أنهم يتمتّعون 
بثراء فاحش . 

إن المرء يستغرب هذ! التفاوت المشين بين الطبقات في هاتين الولايتين وفي 
غيرهما من الولايات المتحدة الأميركية» ويقف مستفسرًاء إذا علم أن إحدى هاتين 
الولايتين أنجبت ثمانية رجال تسلّموا منصّة رئاسة الأمة الأميركية» ألم يكن لهؤلاء 
الرؤساء ضمير حي يوْنْبهم على إهمال هؤلاء العمال فيرفعوا من مستواهم؟!. 

يتساءل المرء إذا عَلِم أن فيها واحدًّا وخمسين معهدًا علميًًا بجامعاته وكلياته» 
ألبس بين خرّيجيها من لديه الجرأة الكافية» والإنسانية والضمير الحي» ليقف 
بجانب هؤلاء البؤساء ويذود عن كيانهم المنهار؟ . 

جعلت المناجم والمعادن العديدة والمصانع العظيمة هاتين الولايتين في طليعة 
الولايات ثراء وغناء وهؤلاء العمال محرومون من هذه الخيرات» محرومون من كل 
شيء من متع الحياة» حتى إنْهم محرومون من احترام أنفسهم فمعنوياتهم منهارة» 
وإنسانيتهم ممتهنة وكرامتهم مهدورة. وقُدّر لي زيارة هؤلاء العمال في مساكنهم 
وكان الوقت شتاء ببرده القارس وثلوجه المتراكمة فألفيتهم والبؤس يخيّم عليهم. 
تكتنفهم الفاقة» أطفالًا ونساء وشيوحًا لا يسثّر أجسادهم غير أسمال بالية تكاد 
تمرّقها الرياح» فالذلٌ جاثم فوق رؤوسهم والبؤس رابض فيما بينهم؛ إن قلب 
الإنسان يتفطّر عليهم حسرة وأسى فالمرض قد أضناهم. والفقر المدقع أقعدهم 


204 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحدين 





وجالتهم الى هع ايها3 تنزنهم وول ترق ميتراهو» إذ خلا يعض الرجار 
البيض لا تمنعهم إذا رأوا فتاة سوداء معتدلة الجسم مستقيمة القوام أن يفترسوها, 
ويقضوا على أنوثتهاء ويتركوها تندب شقاءها وتعاستهاء وكم منهن قذَّر لهنّ أن 
يكنّ فريسة الرجل الأببض . 
وأجاد الشاعر العربي إيليا أبو ماضي في وصفهم إذ يقول على لسان أحدهم : 
فوقالجميزةسنجاب والأرنب تمرح في الحقل 
وأنا صطيا وثئاب لكنالصيد على مثلى 
مبحطظوررذإني عبد 1 
والديك الأبيض فيالقن يختال كيوسف في الحسن 
وان بويد انقو متي ١‏ ١٠وج‏ لساك رك سي 
لاإهقتردرإذإني عبد 
وفتاتي في تلك الدار ‏ سواءالطلعةكالقار 
سيجيء ويأخذها جاري ‏ ياويحي من هذذاالعار 
أفلايكفيأني عبد 
إني لست من المتحاملين على الرجل الأبيض الأميركي» ولا من المحبّين 
لمجادكه ومناقشته الحساب فيما فعل في الملونين من بني 558 وبني وطنه من 
البشر من قهر وتعذيب وتشريد» وقتل واستعباد. كما أني لم أتطرّق في بحث هذا 
الموضوع لأشوّه سمعة الرجل الأبيض الأميركي» ولم أحاول أن أمس شرفه. وإِنْما 
أدوّن ما سأقوله للتاريخ الذي لا يرحم». أدوّنه للأجيال القادمة وللحقيقة كما هي 
وكما عرفتها ولمستهاء وكما قال عنها الكتّاب الأميركيون أنفسهم» الذين ناقشوا 
هذا الموضوع على صفحات جرائدهم . 
لقد جاء في تقرير الأستاذ (براون) عند دراسته للأحوال المعيشية في الأحياء 
التي يقطنها الملونون» في كثير من أنحاء أميركاء والذي قدَّمه إلى مكتب التربية 
الأميركي» قوله: «إن تعبيد الطرق» وإنارة الشوارع» ومدٌ أنابيب الأقذارء وحماية 
البوليس كثيرًا ما تنتهي حيث يبدأ القسم الزنجي من المدينة» وليس يوجد في كثير 


الهجر : إلى الولايات المتحدة الأميركية 305 


من المناطق أي مستشفى يستطيع الزنجي أن يطرق بابه»ء أمّا الخدمات الطبية 
والتمريضية فهي في الأغلب غير وافية» أو مفقودة بالكلية». 

هذا ما جاء في تقرير هذا الأستاذ الكبيرء وفيه من اللمز والغمز والتأنيب ما 
ِمْسَ سمعة الرجل الأبيض الأميركي . 

وكذلك فلقد نشرت صحيفة (واشنطن بوست) وصف السيد (اجنس ماير) عن 
ع الملونين في عاصمة الولايات المتحدة الأميركية واشنطن» كما يسمّونها أم 
العواصمء قال المستر (اجنس ماير): 

«لقد ظفتٌ أثناء الحرب العالمية الثانية مناطق د تُعتبر مثلّا في سوء الأحوال 
المعيشية العامة. ولكني لم أشاهد لا في الحي الزنجي القذر في ديترويت ولا في 
الأحياء الزنجية النتنة في المدن الجنوبية مخلوقات بشرية تعيش في مثل البؤس 
الذي يتردّى في حمأته زنوج العاصمة واشنطن» لقد ججرّتت البيوت ليسكنها عدة 
أسرء بل لقد ججزئت الغرف الصغيرة وهي أقذر من أن توضع فيها الحيوانات لتكون 
في الوسع أن تضم أكبر عدد من البشر». 

في ساحة روك في واشنطن العاصمة غرفة تغصٌ بأربعة عشر زنجيًا وزنجية» 
وفي الشارع التاسع من شوارع العاصمة هذه منزل صيفي يضم تسعة عشر ساكثاء 
وليس من النادر» ا الحي ستة أشخاص يقطئون غرفة واحدةء 
وينامون في فراش واحد في بعض الأحيان. 





له أركنساس» وأوكلاهوماء وماريلاند» وميسوري» وتكساس قام 

بعض البيض بأعمال بحق الزنوج فيها من الإجرام» والسفالة» والفظاعةء 
العا ما لا يتصوّره عقل بشري. 

جاء في جريدة الأخبار القاهرية بتاريخ 2/1/ 1385ه (31/ 5/ 1965م)» 
تحت عنوان العالم الخارجيء وبتوقيع نبيل زكي قوله: أذاع مكتب السجون 
الفدرالي الأميركي خلال 35 سنة مضتء وهذا التقرير يكشف النقاب عن الحقيقة 
التالية: إن أكثر من نصف الأشخاص الذين تمَّ تنفيذ حكم الإعدام فيهم هم من 
الزنوج؛ هذا في الوقت الذي لا تتجاوز فيه نسبة الزنوج بالنسبة إلى مجموع سكان 
الولايات المتحدة 9612. 


306 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





إِذَا لماذا قفزت نسبة الزنوج لبك اعتيع به جك الصادر بالإعدام 
بحيث يتجاوز نسبة البيض على هذا الحد؟ . 

يقول التقرير: إن الغالبية الكبيرة من أحكام الإعدام التي صدرت ضدٌّ الزنوج 
كانت بتهمة الاغتصاب» ففي مقابل إعدام 48 شخصًا من البيض بتهمة الاغتصاب 
تم إعدام 407 من الزنوج. 

غننٌ عن البيان أن تهمة الاغتصاب في عرف بعض الأميركيين من المتعصّبين, 
تسري على كل زنجي نظر إلى امرأة على نحو (وقح) على حدّ تعبيرهم. وذلك وق 
للقاعدة التي يطبقها العنصريون في الولايات المتحدة» وممًا يفضح حقيقة هذه 
التهمة. مااجاء فى كقريل أن اشن تاق اكفرفق كل حمبة متاجين اعلمراان: 
الولايات الأميركية الجنوبية كانوا من الزنوج» والمعروف أن حمّى التعصّب 
العنصري تبلغ ذروتها في الولايات الجنوبية» إِنْ الزنوج الذين لقوا مصرعهم على 
الكرسي الكهربائي بسبب تهمة باطلة؛ يضافون إلى آخرين منهم سقطوا في الشوارع 
أو بهّراوات عصابة كولكس كلان المعروفة ب «ك.ك.ك) في مجتمع يخيّم عليه جر 
خانق للأذهان والضمائرء وينضمون إلى آخرين من الرجال والنساء البيض والسمر 
والصفرء قدَّموا أرواحهم في النضال ضدّ التفرقة العنصرية. ولعل هذا الاستطراد 
يكفي وأعود إلى صلب الموضوع . 

كانت كارولينا الشمالية وكارولينا الجنوبية ولاية واحدة ثم انفصلتا كما 
انفصلت ولاية فرجينيا عن شقيقتها فرجينيا الغربية» وكان موقفهما من الانّحاد 
كموقف شقيقتيهما فرجينيا الشرقية وفرجينيا الغربية وأصبح لكل ولاية حكومة 
منفصلة عن الأخرى. وقاستا من سيطرة الجنرال (شرمان) وكانت كارولينا الشمالية 
ساحة قتال للمعارك الأهلية التي دارت رحاها في (جولفورد كورت هاوس). 


اشتهرت ولاية كارولينا الشمالية بإنتاجها للتبغ وفيها أكبر مصنع للسجائر» وإن 
منتجها من هذا الصنف يعادل 052 من إنتاج الولايات جميعهاء كما اشتهرت 
بمعاهدها العلمية» وفي عاصمتها (رالي) أكبر جامعة تُسمّى جامعة كارولينا 
الشمالية. وفي مدينة درهم توجد جامعة ديوك وهي من أفضل الجامعات الخاصة 
بالولايات المتحدة الأميركية . 


لهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 307 





وهبت الطبيعة لهذه الولايات أرضًا خصبة غنية بالمعادن البالغة» كما اشتهرت 
بأنهارها العديدة» وبحيراتها الأربع على ساحل الأطلسيء. ومن آثارها المشهورة 
والقنص مساحة قدرها 600 ألف فدّان من مجموعة مساحة الولايات البالغة 
96 ميلا مربعًا. وكانت الولاية الثانية عشرة التي دخلت في الاتّحاد بتاريخ 
1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1789م وعدد مدنها 66 مدينة» أكبر مدنها مدينة 
(شارلوت) وكان عدد سكانها 201564 نسمة وأصغر مدنها (شانتون) وكان عدد 
سكانها 5064 نسمة حسب الإحصاء لسنة 1960م. 


ولاية كارولينا الجنوبية وعاصمتها كولومبيا هي كغيرها من الولايات تتخصّص 
في الإنتاج الزراعي والصناعي وفيها مصنع الهيدروجين» وللولاية غابتان عظيمتان 
الأولى ماريوت بمساحة قدرها 21903 فدان» والثانية سومتر ومساحتها 
4 فدانء ومساحة الولاية جميعها 31,055 ميلا مربعًا وفيها كنائس 
ناريخية» ومنازل زاهية بأعمدتها البيضاءء ولحدائق مدينتها شارلستون شهرة 
عالمية . 

إلى الجنوب من ولاية كارولينا الجنوبية تقع ولاية جورجيا التي اشتهرت 
بالمنتجات الخشبية» ويقدَّر إنتاجها من الخشب سنويًا ب (750) مليون دولار وتعتبر 
الولاية الأولى من بين الولايات الجنوبية في هذا المضمارء وتأتي الثانية في 
الاتحاد بعد كاليفورنيا في إنتاج الخشب. 

أكبر مدينة فيها هي عاصمتها أتلانتا وهي ذات حركة دائبة ونشاط ملموس 
وعدد سكانها نصف مليون نسمةء منهم 432 ألف نسمة يمارسون مهنة الصناعة» 
ومجموع سكان الولاية أربعة ملايين نسمة» ومساحتها 26 ميلا مريعاء حسب 
تقدير عام 1960م. وقد أنشىء مطار عالمي في هذه الولاية يستقبل 520 طائرة 
يوميّاء وقد كلّف بناؤه عشرين مليون دولارء وكانت الولاية الثامنة التى دخلت 
الانحاد في عام 1788م» وعدد مدنها 42 مدينة. 

في نهاية مطاف الساحل الشرقي تأتي ولاية فلوريدا التي تشتمل على ثلاثين 
ألف بحيرة صغيرة وكبيرة منتشرة في أرجائهاء وأكبرها بحيرة (أوكي شوبي) 


308 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحدين 





ومساحتها 730 ميلا مربعًاء وتعتبر البحيرة الرابعة من بحيرات الولايات المتحرن 
الأميركية . 


الصيف في هذه الولاية موسم المطر ويهطل المطر بغزارة» وتشتهر بشواطئها 
التي تعتبر أوسع شواطىء الولايات المتحدة الأميركية. العواصف فيها شديدة 
والزوابع مريعة» فتبلغ بعض الأحيان سرعة الرياح فيها مائة ميل في الساعة؛ لذلك 
تجد الأشجار القائمة على هذه الشواطئ» منحنية راكعة» تشبه المتعبّد فى صلاته, 
أما فصل شتائهاء فشمس مشرقة» وسماء صافية» ومياه دافئة» فلا يستغرب الزائر 
إذا وقع نظره على المستحمين ليلا في شواطئهاء لذلك يؤمها السياح من كافة 
الولايات المتحدة؛ وأكبر الفنادق وأضخمها في العالم بأبنيتها الجميلة في تنسيقها 
وترتيبها وخدمتهاء وتضم هذه الولاية أقدم مدينة في الولايات الأميركية المتحدة 
وأعني بها سانت أوكوستين التي أسّست عام 1565م» وللولاية 13 ميناء بحريًا فى 
مياهها العميقة» وستة موانىء في مياهها الضحلة ومن فلوريداء أطلق من كيب 
كانافرال أول قمر صناعي في 11/27/ 1380ه (1961م)» - وأنشىء في هذه 
الولاية مركز للبحوث الفضائية في (اكلن ففيل) ومراكز مراقبة على الخليج يقوم 


عند اجتيازنا ولاية جورجيا ودخولنا في ولاية فلوريدا شعرنا حالًا بدفء 
وحرارة» فخلعنا ثياب الشتاء واستبدلناها بثياب خفيفة تُناسب جو هذه الولاية, 
وأخذت أشعة الشمس العسجدية»ء ترسم على وجهينا لونًا أسمر برونزيّاء وأول 
مدينة حََّلّنا بها كانت مدينة جاكستفيل المشهورة بتماسيحهاء وبعدما أخذنا ننتقل 
من مكان لآخر ونتوغل في ربوع هذه الولاية الجميلة بشوارعها الواسعة» ونراقب 
الخلائق من السياح يمشون في هذه الشوارع لا يستر أجسامهم إلا (المايوهات) 
ونستمتع بدفء الشمس المشرقة» ونتردّد على متنرّهاتها وعلى شواطتها وغاباتها 
وأحراشهاء حطّ بنا المزار في مدينة ساراسوتا. وكانت فلوريدا هي الولاية الرابعة 
والعشرين التي دخلت في الاتحاد في 3 أيار/ مايو 1845م» وعدد مدنها 110 
مدنء أكبر مدنها ميامي وكان عدد سكانها 291,688 نسمة» وأصغر مدنها سانتون 
وعدد سكانها 5021 نسمة ومساحة الولاية 58,560 ميلا مربعًا. كان وصولنا 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 2309 





إولاية فلوريدا عام 1354ه (1935م): في الحادي والعشرين من آخر أشهره؛ ولم 
يكن قد بقي سوى يومين على عيد الميلاد المجيد لنبي الله عيسى عليه السلام» وكنا 
آنذاك في مدينة سراسوتا. 

قالت قرينتي: لقد مللت من ضوضاء المدينة» وغوغائها وصخب الناس 
رضجيجهم فيهاء وإني لمشتاقة لقضاء أيام عيد الميلاد المجيدء ورأس السنةء 
خارج المدينة» بعيدًا عن ازدحام الناس وغوغائهم» فهل لك أن تحمقّق رغبتي 
نقضى هذه الأيام السعيدة في الغابات والأحراش هنا وهناك فنبني خيمتنا على تلك 
الرمال البيضاءء وبين الأشجار الوارفة الظلال» نستظل بظلّهاء ونممّع أنفسنا 
بالهدوء الشامل» نصغي لتغريد الطيور وحفيف أوراق الشجرء ونستنشق في الصباح 
الباكر» النسيم العذب العليل. 

هكذا أخذنا مؤونتنا وما نحتاجه من زادء ومتاع» وهرعنا معتصمين بالأحراش 
والغابات المكتظة بالأشجار الباسقة» كاسية الصدر وعارية الساق» وقضينا بكنفها 
أيامًا مرحة حلوة» ووقتًا ممتعًا وجميلاء وكنّا قد توزعنا المهام والأعمال بيني وبين 
زوجتي» كانت هي تتولى رتي الجرابات وخياطة فتوق الثياب وأقوم أنا بمسح 
الأحذية وغسل السيارة وتتولى هي تنشيفها وتنظيفها من الداخل. 

فإذا أقبل الليل بسواده الحالك» كنت وقرينتي نجلس حول موقد النارء نتلهى 
بعمل القهوة حيئًا أو الشاي أحيانّاء نتجاذب أطراف الحديث» فأصغي لها وهي 
تحدّئني عن كل ولاية مرّرنا بها من الولايات العشر المتحدة الأميركية» عن ثرواتها 
الطبيعية» وما تحتويه في باطن الأرض من المعادن المتنوعة» وعن منتوجاتها 
المحاعق» والزواضة والسيراتة ماعن ماريكيا: ونوا قهها العرية هن انازها 
ومعالمهاء مساحة أرضها ومتنزهاتهاء معاهدها العلمية» اختصاصاتها بالمواد 
الأولية» مما أوجد لدي ثروة علمية كبيرة عن هذه البلاد الشاسعة الغنية بمواردها 
الطبيعية» المتمتع أهلها بالثراء الفاحش والنعيم الدائم. 

كانت خيمتنا قريبة جدًّا من شاطىء البحرء فتوقظنا من رقادنا وشوشة مياههء 
وهمسات موجاته المتتابعة فتوحي لنا بأنغام عذبة شجيّة نشعر معها بالغبطة 
والسرورء ونقضي وقنًا يسيرًا في شكر الله وعبادته. لم نغادر ولاية فلوريدا قبل أن 


310 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





نزور أغلب مدنها الرئيسة» زرنا مزارجع البقول في سانت بيتر سبورج» وجاكسن 
فيل» ومدينتّي ميامي وبالم بيتش» وكُلّا من مدينتّي تمباء وسان أوكستين وأقمن 
في عاصمة الولاية تلهاسي يومين. 

أثناء تجوالنا في ولاية فلوريدا مررنا بفريق من الهنود الحمرء يقطنون قريبًا من 
مدينة ميامي» ولنقف هنا برهة وجيزة» لنتحدث قليلا عن هؤلاء الهنود؛ سكان 
أميركا الحقيقيين» الذين غلبوا على أمرهم. واغتّصبت حقوقهم وامتّهنت كرامتهم, 


3 
- 


وتِك بهم جماعات وأفرادّاء وهام على وجوههم مَن تبقّى منهم. فرارًا بأرواحهم 
وأعراضهم من الوافدين الجدد القادمين من مختلف بلدان القارة الأوروبية» الذين 
أتوا لاهثين إلى أميركا الشمالية جريًا وراء الحياة الأفضل. هؤلاء القوم القادمون 
من مختلف البلدان الأوروبية لقد غادروا أوطانهم» وكلهم أمل في أن يجدوا في 
دار هجرتهم ما كانوا يمئون أنفسهم به من حياة أفضل» فوجدوا أرضًا خصبة غنية. 
وأنهارًا يتدفق ماؤها وأحراشًا مكتظة بالأشجارء ومعادن عديدة لا حصر لهاء 
وذهبًا أصفر ومٌّاجًا يكاد سّئا برقه يذهب بالأبصار. وهو الذي ذكره في إحدى 
قصائده الشاعر العراقي محمد حسن مظفر حيث قال: 

أيا أصفر الخدين تسود أوجهًا لديك وتبدي ما جنته النواظر 

أدائرة الدينار لولاك لمتقم ‏ حروب ولا دارت علينا الدوائر 

وذا فلك الدنيا بشمسك دائر 2 وما هو لولا نور جرمك زاهر 

لقد أغراهم وأغواهم وأنساهم جمع الذهبء. وكان بعضهم لا يُبالون في سبيل 
الحصول عليه بسفك الدماء» وتشريد الناس ولم يقيموا للقيم الإنسانية وزنا ولا 
احترامّاء فجُرّدوا من إنسانيتهم حتى أصبحوا كالحيوانات المفترسة فأقول: الهنود 
الحمر هم سكان أميركا الحقيقيون» قطنوا في هذه القارة منذ آلاف السنين» يكاد 
يكون مجهولًا عددهاء ويُقال إنهم من القارة الآسيوية» قبل أن تفصل القارتين عن 
بعضهما الزلازل القوية المتتالية والأنواء الجوية العاتية» والبعض يربطهم بالفراعنة 
وسواء أكانوا آسيويين أم فراعنة فالاسم الحقيقي الذي عُرفوا به هو: هنود أميركا 
الحسن. 
تاريخهم يكاد يكون غامضّاء أو بالأحرى مجهولاء وقد اّلعت على بعض 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 311 





لكتب التي أتت على ذكرهمء لعلّي أجد نورًا أستضيء به» أو على بارقة من أمل» 
إنمكن بواسطة ضيائها الخافت أن أقف على حقيقة تاريخهم ومنشئهم فلّم أفلح في 
مطالعاتي الفَلاح كله اللهم إِلّا يسيرًا من أخبارهم ولا يكاد الكاتب يركن إليه. 

لم يُعطنا الكتّاب الذين تطرّقوا بالحديث عنهم معلومات حقيقية وافية عن 
تاريخهم» وكانوا يمرّون على ذكرهم مر السحاب. وإنك لتّجد أنه إذا أراد الكاتب 
أو المؤرخ من هؤلاء التعمق في دراستهم». يراوغ مراوغة الثعلب فيما يكتبه عنهم. 
نيتخبّط في تاريخهم؛ كما يتخبّط المرء في مجاهل أفريقياء فجبل يعلو به 
ومنخفض من الأرض يهوي بهء فمرّة ينعتهم بأن لهم قسطّا وافرًا من الحضارة» 
وتارة يصفهم بالجهل والغباوة» والقتل والسلبء ولا أعلم هل حقًّا يجهل هؤلاء 
المؤرخون والكتّاب المتحدرون من أصل أوروبي تاريخهم جهالة تامّة» أم إنهم 
كانوا يتعمّدونَ تجاهلهم وإهمالهم إيثارًا لحُسن صلتهم بالشعب الأميركي. وأن 
لغتهم التي يتفاهمون بهاء تختلف اختلافًا ظاهرًا عن بقية لغات العالم» وهكذا 
بختلفون في طرق معيشتهم». وسلوكهم» وأسلوب حياتهم. 

إذا تحدَّئتَ إلى أحدهم. لا يفهمكء. وإِنْ حدَّئك أحدهم لا تفهم ما يقول» 
وإذا فهمت بعض ما يقوله بواسطة حركات إشارات يديه» لا تستطيع أن تعبّر عنه 
وتبيّنه للناس بصورة واضحة, ذلك أنهم لم يختلطوا اختلاطا كافيًا مع بقية 
الشعوبء وهكذا ظَلوا يتقلبون على ما كانت عليه حالتهم الأولى منذ آلاف 
الستيق.. 

أكسبهم سكن سهول أميركا الواسعة» وغاباتها وأحراشها المكتظة» ونقاوة 
هوائها وتنقلهم في وهادها وجبالها بسطة في أجسامهم. وضخامة في عضلاتهم» 
ومنحتهم طبيعة هذه السهول والصحراء القوة والنشاطء والصبر على تقلّب الأيام» 
وما يحيط بها من المكاره. 

ينظرون إلى الرجل الأبيض نظرة فيها كل معاني الحقد والضغينة والبغضاء 
ويعتبرونه عدوهم الأول» ويقولون: إنه أصل بلائهم وشقائهم إذ استباح جماهم 
وأهان كرامتهم؛ وشردهم من ديارهم» واستولى على ممتلكاتهم» وفتك بهم 
جماعات وأفرادًا وكاد أن يقضي عليهم ويجتنّهم من على وجه الأرض. 


312 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





وإن حياتهم التي يحيونهاء تُنبىء عن بؤس شديد وتنم عن حزن عميق» - و 
تقع عيني على واحد منهم تضيء على ثغره ابتسامة ماء لتبدّد الكآبة المنتشرة على 
وجههء فكأنه لم تمر به بارقة من بوارق الأمل والسعادة» حتى صغارهم ينظرون 
إليك بوجوم لا تعلم سببه ولا تفهم من أمره شيئّاء وإذا ابتسمت إلى أحد منهم, لا 
يُبادلك بابتسامة مثلهاء وحياتهم الخاصة والعامة غامضة غموض تاريخهم. 

عند مرورنا بهذا الفريق من الهنود الحمرء الذي كان يقطن في أعشاش 
متواضعة من صنع أيديهم» استوقفنا صبية كانوا جالسين أمام هذه الأعشاش 
صامتين بوجوم» ينظر بعضهم إلى بعض كأنهم دمى» فحييناهم فلم يردّوا التحية ولم 
يسمحوا لأعينهم بالنظر إلينا وكان لدينا بعض الحلوى فقدَّمناها لهم فأبوا أخذها. 

وخرج علينا من هذه الأعشاش المتواضعة شاب في الثالثة والعشرين من 
عمرهء معتدل القامة» عريض المنكبين» فرحب بنا بلغة إنجليزية ممتازة» وفي أدب 
وتواضعء سائلًا من أكون؟ فعرّفته بنفسي قائلا: إنني غريب عن هذه الديارء أتيت 
إليها زائرًا لاستطلاع معالمهاء ومحدثات مدنينهاء إنني من بلاد صحراوية يقطن 
الكثير من ساكنيها الخيام المنسوجة من أصواف الماعز ووبر الجمالء يتنقلون 
بواسطة إبلهم في سهول صحرائهم الواسعة. طلبًا للكلأ والمراعي لماشيتهم, لدينا 
الأغنام الوفيرة» والخيول العربية الأصيلة» وعرّفته بقرينتي فرمقها بنظرة خاطفة 
فيها كثير من معاني الاستفسار فحيّته فرد تحيّتها بفتور» طلبّت منه أذ صورة له 
فأعرض عنهاء وتأى بجانبه. 

ركن هذا الشاب لحديثي» وأطربته نغمة بيوت الشعرء والإبل» والخيل؛ 
والصحراءء وسهولها الواسعة والكلاً والمرعى» ودعانا لزيارته» فاستجبنا له قائلين 
سنزوركم في المساء إن شاء الله. ولم نغادر أعشاشهم في ذلك اليومء وابتعدنا 
عنهم مائة متر تقريباء حيث بنينا خيمتنا وفي المساء زُرنا مضاربهم . 

سألتُ الشاب الذي فهمت منه أنه تخرّج هذا العام في إحدى جامعات 
فلوريداء كم عدد الهنود في هذه البلاد؟ وانتفض كعصفور بلله المطرء واعتدل في 
جلسته قائلًا في صوت متهدّجء. يفصل بين كلماته تنهدات وزفرات لم يطرق آذاننا 
من قبل سماع مثلها: كانوا خلقًا كثيرٌاء منتشرين في طول البلاد وعرضهاء لا أقول 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 313 





إنهم كانوا يعدّون بمئات الملايين» ولكنهم كانوا لا يقلون عن خمسة عشر مليوناء 
بهذا أخبرنا آباؤنا وأجدادناء وذلك قبل أن يحل بنا الرجل الأبيضء أمّا الآن فلم 
بنقّ منا سوى خمسين ألما أو يزيدون قليلاء مشرّدين في أرجاء هذه القارة 
الفسيحة» أمّا البقية فقد انقرضواء وذهبوا مع الأمس الغابرء وناسا حديثه قاتلا : 
ىان ولا يزال حبّنا الشديد لهذا الوطن العزيز يملا أفتدتناء نحبّه حب الحياة 
للإنسان. الوطن الذي نشأ فيه أسلافنا وترعرعوا في ربوعه ووديانه وسهوله. . 
الوطن الذي أظلّتنا سماؤه»ء واروانا ماؤه» وَعَذكنا تربته» وجمعتنا أرضه. . الوطن 
الذي قضينا فيه عهد طفولتناء وزهرة شبابنا وذكريات شيخوختنا. . . نزرع ونرتع في 
غاباته وروابيه» نرعى ماشيتنا في أوديتهء وتلاله» ومرتفعات هضابه. كل هذا جعلنا 
نقدّر الخالق عز وجل حق قدرهء ونحمده على هذه المنحة التي وهبنا إياها فلبثنا 
نحافظ عليها محافظة الشحيح على الدرهم... إلى أن وطئته أقدام الوافدين 
الجددء القادمين من كل فح من فجاج الأرضء» وأخذوا يشاركوننا في هذا الملك 
الواسع. . وطننا. . . بلادنا. . أرضنا. . ممتلكاتنا. . إنهم أقوام نبِذَنْهُم أوطانهم 
أنوا من العالم الأوروبي» لا يقيمون للأخلاق والقيم الإنسانية قائمة ولا وزنًا 
وإنهم كالوحوش الكاسرة» لا يعرفون معنى من معاني الرحمة والإنسانية» وجل 
مبتغاهم وما يركضون بلهف وراءه هو: الدولارء وانتظرّ قليلًا ليرد أنفاسه ثم أردف 
قائلا : 

لم يكتفوا بمشاركتنا في هذه الربوع الجميلة والبلاد العظيمة» وأن ينعموا بهذه 
النعم» التي لم يحلموا بها من قبل» بل أخذوا يستفزونناء تارة بقتل ماشيتنا وتارة 
بإتلاف حاصلاتنا الزراعية» أو إهانة كبير منا وهدر كرامته» كنا مطمئنين في ربوع 
هذه البلاد فداهَمّنا الرجل الأبيض. فاستنكرناه بادىء الأمرء فما لبث أن تحبّب 
إليناء فركنًا إليه» ولكن أنّى للنفوس الشرهة الشريرة أن يهدأ روعهاء وتطمئن قلوبها 
ما لم تسىء إلى من أحسن إليها؟ 

لما كَثْرٌ عددهمء واشتدٌ ساعدهمء ولمسوا ذ في أنفسهم القوة الكافية بدأوا 
يستنكرون وجودناء فعملوا على إبادتنا بحروب شرسة لا أخلاق فيها وبأسلحة فتاكة 
لم نعهدها من قبل» فانهارت قوانا أمام جموعهم» وكان ممّا ساعدهم على التغلب 


314 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





عليناء بُعْذٌ المسافات بين قومناء فتمّ لهم ما أرادره من تفريق جمعناء وتشتيت 
صفوفناء وإجلائنا عن وطننا فغدونا من دون أرض نملكهاء أو ماشية نتغذّى من 
ألبانهاء وأخذّت الأمراض تنتاب مجتمعناء وتفترسنا الواحد تلو الآخر. 


كان الرجل الأبيض يصوّرنا للناس وللعالم أثنا قوم جاهلون لا نعرف معنى 
للحياة» نأخذ الأمور كما هي» من دون تخطيط أو تفكير» لا نهتم بزرع الأرضء. 
ولا بتربية المواشي» وكل اهتمامنا موجه لوجبة طعام تملأ بطوننا وقطعة من جلود 
الأنعام تستر أجسامناء هذا بعض مما كانوا يتقوّلونه علينا ليسوغوا أعمالهم 
الوحشية وفظاعتهم اللاأخلاقية» إنهم رجال أنانيون فيهم الشح والجشع كله. 

كان أسلافنا ينعمون بِيّسر كبير» وكانوا أصلب عودًا وأقوى شكيمة وأعرٌ نفرّاء 
وكانت لهم مدنية زاهرة» ونُّظُمٌ اجتماعية راقية وحكومة قوية منظّمة يفصل بين 
مدنها وقراها أرض عسجدية خضراءء وتلول وجبال مكسوة بالأشجار والأحراش 
ومن هذه المدن ما هو قائم حتى الآن. من ذلك متنزه (ميسافرو) في ولاية أريزوناء 
وفيه قائم مدينة هندية متداعية الأركان» تُركت خاوية على عروشهاء تنبىء عن ظلم 
الإنسان لأخيه الإنسانء. يؤمها الآلاف من الزوار ليشاهدوا هذا المتنزه البديع 
الصامتء, والمدينة الهندية القائمة على مرتفع من الأرض: تحت أقدام الجبل» ولو 
عَلِم هؤلاء الزوار المتردّدون إلى آثار هذه المدينة أن أهلها عُذْبوا وُتلواء وشُرّدواء 
وفرٌ مّن تبقَى منهم هاربًا بنفسه وما علق بذاكرتهم من أكاذيب وافتراءات» وأضاليل 
مفتعلة يُبديها لهم المرشدونء لو علموا هذه لاشمأرّت نفوسهم من الأعمال البربرية 
التي استعملها المهاجمون الأوائل من أسلافناء ومن سوء الحظ لم يجرؤ بعد كاتب 
أو مؤرّخ لديه الجرأة الأدبية» والشجاعة الكافية» أن يذكر ولو شيئًا قليلًا عن 
حضارتنا السالفة» ومدنيّتنا الغابرة» وإذا تجرأ وذكر شيئًا تجدّه يراوغ بأقواله وما 
لبت أن يصِمنا بما ليس فينا. والله وحده يعلمء ثم هذا المتنرّه الجميل الصامت؛ 
الذي لا فمَ له ليخبر من يؤمه من الزوار المتنزهين في أرجائه» ما لقيه سكان هذه 
المدينة من الذل. والقهرء والإبادة على يد الرجل الأبيض. 


أقامت حكومة الولايات المتحدة المرشدينء ليلمُقوا لزائري هذا المتنرّه ما 


البجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 315 





كان يقوم به الهنود الحمرء من أعمال الشقاوة» من سرقة المواشي والوقوف 
بالطرقات العامة يسلبون الناس أموالهم وأمتعتهم. وحتى أرواحهم ؛ يزاملهم في 
هذا المخرجون للأفلام في مدينة هوليود وما ينتجونه من الأفلام السينمائية» التي 
يُعَرَض على العالم في أمهات المدن» على مرأى ومسمع من الحكومة؛ وتعمل 
هوليود أحيانًا هذا العمل بمساعدة حكام هذه البلاد. 

بهذا يتحدّث المرشد مع الزوارء يقصّون عليهم أمثال هذه القصص المثيرة 
وحظموا كرامتناء والله وحده يعلم مقدار تأثيره في نفوسنا. 

كان هذا الشاب الهندي يكلّمنا ورأسه منخفض في الأرض» ثم سكت برهة 
وجيزة» ورفع رأسه بعدها فإذا بدمعة حائرة في مقلتيه» يدفعها الذل» وتمنعها الأنفة 
والإباء وسألته: وماذا سيكون عملك بعد أن أتمّمتَ تحصيلك الجامعي؟ 

أجاب: إن والدي رحمه الله؛ قد قصّ علىّ من أخبار المتقدّمين من جماعتنا 
الهنود الشىء الكثير» ولدي معلومات وافية عنهم. وإنى عازم على أن أجوب البيلاد 
وأجتمع بالمعمّرين من قومناء لاستكمال معلوماتي ليتسنى لي تأليف كتابٍ وافٍ 
عن هنود أميركاء عن مدنيتهم وحضارتهم» وما قاموا به على هذه الأرض الطيبة 
من جليل الأعمال. لأدحض به أقوال المرجفين وأبيّن للناس شراسة الناس. 
وقضينا بضع ساعات من الليل» نصغي إلى أقوال هذا الهندي متألمين ومستغربين» 
متألمين بما لحق الهندي الأميركي من الشقاء والتعاسة وهضم الحقوق» ومستغربين 
أن يظهر بين الهنود الحمر أصحاب أميركا الحقيقيين بعد ما أصابهم من البؤس 
واليأس» مثل هذا الشاب الذي يسعى بكل حيوية لرفع الضَّيم عن قومه الغابرين» 
فودّعناه وعٌدنا أدراجنا لخيمتناء ولم تنقطع المراسلات بيننا طيلة سنة كاملة ويد 
ما كانت دهشتي» يوم أن تلقّيت رسالة من شقيقته (موتي) تنعي فيها أخاها (جو) 
فجزعت وحزنت على هذا الفتى الذي مات وفي قلبه حسرة الألم على ضياع هويته 
وإنسانيته . 

لا أذهب بعيدًا عن هذا الموضوع.ء فلا أرى مانعًا من التعليق» وشرح بعض 
الفقرات التى أتت فى كتاب (الولايات المتحدة جغرافتيها ونموها) الذي أصدرته 





الدوائر الحكومية الرسمية في الولايات المتحدة الأميركية» ليزداد القارىء معرفة 
بهذه الملايين البشرية من الهنود الحمر سكان أميركا الأصليين» وليتبيّن له مقدار م 
أصابهم من الأذى والإجحاف وما حل بهم من التعاسة والشقاء على يد الرجل 
الأبيض. لقد جاء في هذا الكتاب: «إنهم قدموا - ويعني الهنود الحمر - من 
السهول الوسطى على ظهور جيادهم, التي فر إليها أجدادهم من وجه المكتشفين 
منذ ثلاثة قرون» أي إنهم غادروا ديارهم» وقراهم التي نشأوا فيها وترعرعوا في 
ربوعهاء غادروها وهاموا على وجوههم هم وأولادهم وشيوخهم ونساؤهم 
وذراريهم فرارًا من المكتشفين الأوروبيين المستعمرين أو سمّهم ما شئت أن 
تسميهم» تاركين وراءهم ذكريات حياتهم الغالية وأمانيهم الحلوة العطرة» وكبار 
آمالهم الحميدة. لقد فرّوا من وطنهم الذي آواهم. والوطن مهما كانت صفته 
ووضعيته على رؤوس الجبال أو في المدن أو الوديان هو غالٍ عزيزء لقد حاولوا 
محاولة يائسة المحافظة عليه» ولكنهم لم يتمكنوا. 
تأمّل معي الجملة الآتية التي أنقلها من المصدر نفسه: 


«ولمًا امتلاً هذا المكان بجموع المهاجرين طرّدوا الهنود الحمر نحو الداخل 
عبر جبال أبلاشى ليفسحوا المجال للمهاجرين الجددا. 

ومن الأمور التي يصعب على الإنسان هضمها وأخذها مأخذ القبول» قول 
المعيشية القاسية فيهاء وحلّ محلهم رعاة البقر البيض». 

فهل يُعقل أن رعاة البقر البيض أقوى على احتمال الحياة القاسية في هذه 
السهول والصحاري من الهنود الذين ركنوا إلى الإقامة في ربوعها منذ نشأتهم 
ومارسوا شقاءها ومضض العيش فيهاء إِنَّ هذا الأمر لا يستوعبه العقل ويشمئرٌ من 
سماعه الإنسان. 

وأردف قاتلا : 


«ويحتقرها رعاة البقر باعتبارها قفارًا صعبة موحشة وخطيرة» ولم يكن سوى 
الهنود الحمر الذين عرفوا كيف يعيشون فيهاء بغير شجر أو أرض مزروعة». 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 317 





الكاتب يراوغ هنا في أقواله مراوغة الثعلب الشرود ويكشف نفسه عاريًا أمام 
زدائه. ثم يزيد الطين بلة حينما يقول في صفحة 186 من الكتاب المذكور: 

«وقد كانت هذه السهول والصحاري خالية من السكان إِلَا النفر القليل من 
الهنود الحمر الذين كانوا منتشرين في ربوعها الفسيحة». 

وجاء في الصفحة «2» قول الكاتب: 

«ولمًا كانت الغابات تغطي السفوحء. وكان يعيش في هذه الغابات الهنود 
المتخلّفون» والكاتب الذي يصف الهنود الحمر بعالت هو الكاتب نفسه الذي 
يقول عنهم «لهم قسط من الحضارة». 

كما جاء في وصفه الولايات المتحدة الأميركية: 

«إنما هي قارة جديدة كان يسكنها قوم من الهنود قليلو العدد يعيشون على 
الفطرة غير أنَّ لهم قسطًا من الحضارة» إذ حاولوا شيئًا من الزراعة وكان من أهم 
مزروعاتهم الذرة البيضاء التي انتشرت زراعتها في أنحاء العالم» حتى أصبحت في 
كثير من البلاد تمثّل الغذاء الأساسي». 

جاء في الكتاب المذكور أيضًا ما يلي: 

«وكان لدى القبائل الأيروكي». أفضل حكومة منظمة تنظيمًا دقيقًا في شمال 
المكسيك» وقبل خمسمائة عام نطّمت خمس قبائل حلقًا فيما بينها دعته حلف 
الشعوب الخمسة؛ وكان يتألف من قبائل جابوكاء وموهوكء وأوينداء وأونويفا 
وسينيكاء وكانت قبائل الأيروكي» التي كانت تسيطر على المنطقة التي هي اليوم 
بنسلفانيا وأوهايو الشمالية» وولاية نيويورك؛. كانت تحرث وتزرع على نطاق واسع 
وكانت الحبوب التي يزرعونها تشكل ستين نوعًا من اللوبيا وخمسة عشر نوعًا من 
الذرة والقرع . 

أقول ثانية إنّ عدد الهنود الحمر لم يكن ضثئيلاء بل كانوا يُعدَُون بالملايين» 
إن أصناف اللوبياء التي يزرعونها تقارب الستين نوعًا وإنّ الذرة خمسة عشر نوعًا. 
ألم تكن هي زراعة الملايبن من البشر المنتشرة بين الأميركيتين الشمالية والجنوبية؟ 


318 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





مع العلم أنه لم يكن للمواصلات الخارجية أثر بعد» حتى يصدَّروا هذه الحاصلان 
العظيمة إلى الخارج. وإذا كانت خمس قبائل تقظن في ثلاث ولايات من الولايان 
الأميركية المتحدة فكم هو عدد القبائل التي كانت منتشرة في السهول والصحارى 
وكم كان عدد السكان من كل قبيلة؟ أولم تكن كل قبيلة تُمَذُ بالآلاف» فما أنظع 
قول الإنسان الذي لا أخلاق له ولا ضمير يؤنبه. 

جاء في الصفحة «84) الآتي : 


«في سنة 1820م أي قبل ما يقرب من المائة وستين عامًا عندما لم تكن 
شيكاغو مدينة بعد. ويوم أن كانت السهول الكبرى من ممتلكات الهنود الحمر 
استقرٌ الهنود الحمر على مياه خليج المكسيك باعتباره موردًا للحياة وانتفعوا بها في 
ري حقولهم. ولا تزال قنواتهم ممتدة أميالا في الصحراء حتى الآن» وعندما 
لاحظ المستوطنون الأوائل تلك القنوات فطنوا إلى أن ريّ هذه الأرض ليس 


ل 
متعذرًا»). 


إن هذه الأقوال تغاير وتنقض ما كتبه الأميركان وما افتراه المؤرخون عن 
الهنود الحمر من أنهم قتلة سماكو دماء» وإن الرجل الهندي في يده الفأس الهندي 
المشهورء كان يطارد الثيران وينقّضٌ على الشاحنات الجديدة ويقف في الطرقات 
لسلب المارة أموالهم وأرواحهم. 

جاء فى الصفحة «65) ما نصه: 


«فهناك في برانزفيل من ولاية المكسيكء, مزارعٌ يدعى جون تاري» رأى الهنود 
يحفرون الأخاديد لري مزارعهم» وفي السنوات العشرينية وما بعدها صمّم هذا 
المزارع على أن يروي أرضه بطريقة علمية وقد أحرز نمو أشجار الحمضيات في 
فدادينه الثلاثمائة نجاحًا كان بداية ازدهارها. وأصبحت المنطقة التي هي حوض 
برانزفيل من أغنى الأقاليم الزراعية في البلاد علاوة على كونها منطقة صناعية غنية 
بالنفط» والغاز الطبيعي» ومتنزهًا يؤمه جميع السكان». وإِنّ ما قام به المزارع جون 
تاري وعادً عليه بالفوائد الجمّة قد تعلمه من الهنود الحمرء ومع ذلك قيل عن 
الهنود الحمر إنهم كانوا بلا معرفة أو حضارة. 


البتغزة إل الولايات المتحدة الأميركية 319 


من سوء حظ الهنود الحمر وسوء طالعهم لم يذكُر مؤلّف هذا الكتاب الذي 
زكر فيه هذه القصة أن نجاح المزارع جون تاري يعود بفضله إلى الهنود الحمر 
الذين رآهم يحفرون الأخاديد لريّ مزارعهم» فقد كانت الأرض في برانزفيل من 
بمتلكات الهنود. والشيء بالشيء يُذكر وهل هم الآن يزاولون زرعهم وري 
مزارعهم؟ وهل لهم آبار نفط أو غاز طبيعي كما للسكان البيض في هذه المنطقة؟ 
ىلا لا وجود للهنود الحمر في هذه المنطقة التي كانوا يملكونهاء ويزرعون أرضها 
ريحفرون الأخاديد فيها. إن الرجل الأبيض المتأمركء أو النزلاء الجدد قد 
استباحوا لأنفسهم أن يستأصلوا شأفة الهنود من على وجه الأرضء وبغواء وعتواء 
واستباحوا حُرمة سكان أميركا الأصليين» وشرَّهوا سمعتهم., لذا لا غرابة إذا اعتبر 
الهنود الحمر الرجل الأبيض عدوّهم رقم واحدء وأي عدو هو؟ إنه عدو لدود ذو 
بأس شديد. 

إن الولايات المتحدة الأميركية التي أصبحت أعظم دولة في العالم كلّه والتي 
أحرزت انتصارات عظيمة في زمن الحروبء. وفي زمن السلم وأبدعت في 
الاختراعات والاكتشافات العلمية الجبارة التي جعلتها في طليعة شعوب العالمء 
ومكنتها من اختراق الفضاءء وصعودها القمر. 

إن أميركا هذه تحتاج إلى مزيد من الاهتمام بسمعتها الإنسانية التي يشوبها 
ضمن ما يشوبها بؤس الهنود الحمر الذي ما زال قائمًا حتى يومنا هذا ورجم الله 
شوقي إذ قال: 





وإنماالأممالأخلاق مابقيت فإنهمُذهبت أخلاقهم ذهبوا 

هناك ثلاثة أمور في التاريخ الأميركي سوف تعمل دائمًا على إثارة التساؤل عن 
أخلاقية السياسة الأميركية وهي : 

أولة: القفتاء غلى الينود اللحمن شكات أميركا اللقيفية »'أصعاب البلا 
تلا وتشريدّاء وتجريد من تبقّى منهم من ممتلكاتهم . 

ثانيًا : التفرقة العنصرية. واضطهاد الرجل الأسود. الذي عانى من جرّاء هذا 


320 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





الاضطهاد معاناة جمّة. وألحقّت التفرقة العنصرية بأميركا سمعة سيئة في الأوساط 
العالمية . 

ثالمًا : إلقاء القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما الآهلة بالسكان أثناء الحري 
العالمية الثانية» التي قضت على مئات الآلاف من البشر في ثوانٍ معدودات وكانت 
إبادتهم جماعية . 

أتيح لي الاطلاع على ما كتبه (ألبرت رولند) في مجلة «الحياة في أميركا» التى 
كانت تُصديرها وزارة الخارجية الأميركية باللغة العربية وتوزعها على سفاراتها فى 
الدول العربية» وذلك في عددها الصادر في الأشهر الاولئ من عام 02م 
(1381ه). بعنوان: «الهنود الحمر بين الأمس واليوم» 

برغم ما في هذا المقال من تقصير في بعض فقراته وعدم الوفاء من الوجهة 
العامة بتوضيح نار الظلم التي كان الهنود يتقلبون على سعيرهاء تحت سيطرة 
المستعمرين الأوائل» وبرغم ما فيه من تقارب في الأقوال» وتباين النزعات. 
وبرغم تشبّعه بالعنصرية» وعدم الاكتراث بما أصاب الهنود الحمر من سلب 
أموالهم. وإتلاف مزارعهمء والاستيلاء على ممتلكاتهم وإبادتهم أفرادًا 
وجماعات» برغم هذا كله فإن المقال يُعتبر مقبولًا في بعض نواحيهء إذ تطرّق إلى 
كر القليل من حضارتهم فقال: «إنهم شيّدوا أركانها بقوة وثبات» وبأس وشجاعة. 
وإن القبائل التي وجدها الروّاد الأوروبيون الأوائل على خليج المكسيك كانت تنعم 
بنظام اجتماعي راق» وأوجد هؤلاء القرويون حكومات قوية منظمة كانت تجمع بين 
السلطتين الروحية والمدنية» وتربطها برباط قوي» وإن القوة الرئيسة كانت تكمن في 
الرأي العام». 

إن الحكومات التي ذكرّها الكاتب» والتي كانت تجمع بين السلطتين الروحية 
والمدنية برباط قوي. لم يكن قوامها قرويين» فلو بَدَّل قرويين بكلمة مدنيين لكاذ 
مقاله أحكم وأقوى. ولكن الكتَّاب جميعهم ومنهم المؤرّخون عندما يأتون على ذكر 
الهنود الحمر وما قاموا به من أعمال مجيدة. ونّظم قوية مرنة» لا بد أن يذكروهم 
نما يتحت من تانيع فكانهم احذوا عن انتمهم أن 'يكرنوا كدلك: 


الهحرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 321 





إني لأتساءل مستفسرًاء أين هي هذه الحكومات القوية المنظمة» التي كانت 
تتعم بنظام اجتماعي راق؟ وكم كان عدد أفرادها المنتسبين إليها؟ وأين هم الآن؟ 
هل أبادتهم إعصارات جوية قوية؟ أم جرفتهم مياه الطوفان فلم يَبْقّ منهم أحد؟ إن 
الجواب صعب ولكن لا بد من قول الحقيقة إنهم كانوا ملايين من البشر لم تُبِدُهم 
الأعاصير الجوية ولم يجرفهم الطوفان ولم يداهمهم وباء أهلكهم. ولكن لقوا 
مصرعهم على يد الوافدين والمستعمرين الأوائل؛ وتحدّث الكاتب عن أحلافهم 
وقراراتهم فقال: «إنهم كانوا يتّخذونها بانّفاق تام لتصبح نافذة المفعول وكان قد 
بدأ مقاله مراوعًا في إقدام وإحجامء تارة أخرى يتأرجح يميئًا وشمالا يقدّم رجلا 
إلى الأمام ويؤخر أخرى إلى الخلف فيصعد ثم يهبط». 


عند انتهائي من قراءة مقاله وجدثٌ نفسي مضطرًا لأن أفنْد أقواله وافتراءاته 
إنصافًا للهندي الأحمر الأميركي المهدور الكرامة المغلوب على أمره. كما أني لا 
أحاول بعملي هذا أن أتلقى من الهندي الصاحب الحقيقي للبلاد الأميركية حتى 
الثناء ولكنني أقُدِم على هذا العمل حبًّا للحقيقة المُرَّة التي لا يعترف بها 
المستعمرون الأوروبيون الذين هاجروا من أوطانهمء أو هي لمَظتهم كالنواة» 
وانّخْذُوا أميركا مسكنًا لهم فأقول: ترَّج كاتب مقالة مجلة الحياة في أميركا مقاله 
بجملة جذابة نقلها من كتاب «الأميركي المتلاشي» للكاتب «زين غرين» وحاول بما 
أوتيه من لباقة كتابية أن يقول: «عن القصة التي كتبها مستر (غرين) هي عن قبيلة 
(نافاهو) التي واجهت قبل أربعين أو خمسين سنة محنة مريرة قاصمة» وقاسَّت 
العذاب الأليم» وقد صوّر كتاب غرين للأميركيين عامة نكبة هنود كثيرين» كلّها 
مستوحاة من الحقائق المفجعة. واستطرد رولند في حديثه» ردًا على ما جاء في 
كتاب غرين فقال: «لم يكن لهؤلاء الهنودء أمل بالحياة» وهذا ما ظنّه زين غرين 
وإنه كُتب لهم أن يتواروا عن مسرح الحياة» ولكن الهنود الأميركيين لم يتوارواء 
وها هي قبيلة نافاهو وهي أكبر القبائل الهندية في الوقت الحاضرء التي ألهبت 
حالتها غضب زين غرين وأثارت شفقته. لقد خطت منذ ذلك الوقت أشواطًا جبّارة 
نحو التطوّر الاقتصادي والحياة الأفضلء مع العلم أن هذه القبيلة ليست وحدها في 
هذا المضمار» . 


32 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





واستطرد قائلا : «لقد ازداد عدد الهنود الأميركيين في الولايات المتحدة فى 
الثلاثين سنة الأخيرة ستين 9 بحيث يتجاوز اليوم عددهم نصف مليون نسمة, 
ومنهم الكثيرون قد انتخبهم الشعب ليَشْغَلوا مناصب الولاية» والاتحادية الكبيرة. 
من هؤلاء نائبان لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية هما : «شارلس لوك» من أحفاد 
شيوخ قبائل «اوساج كر» و«جون تانس جارفر» الذي يَمْتث بصلة القربى إلى قبيلة 
الشيروكي. وقد اختير مرتين لخوض الانتخابات مع الرئيس روزفلت. ومن بين 
الخمسة والعشرين ألف هندي الذين خدموا باختيارهم في القوات المسلحة أثناء 
الحرب العالمية الثانية كان اللواء كارتس تينكر من قبيلة أوساج الذي أعاد تنظيم 
القوات الجوية بعد الهجوم على بيرل هارير؟». 

إن لجس روليد مالع في بقتيره عن زرادة الوثره التي كان بَلّغت 060 في 
السنوات الثلاثين الأخيرة» إِنَّ هذا لا يءَ يتمق والمنطق السليم» ولا يستوعبه العقل 
البشري» فهل من المعقول أن يزداد هذا العدد الضخم في هذه المدّة من الزمن الذي 
أشار إليه؟ وإذا فرضنا جدلاء وجاريناه فيما كتبه عن الهنود الحمرء وما يقوله عنهم. 
ووافقناه على أن الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية (230) ألف هندي. 
يخصم من هذا العده الشيو والأزلادوالياءء والباقي منهم المشوّه والمعتوه 
وصاحب العائلة وأصحاب العاهة. .. إلخ» » فهل يُعقل أن يكون خمسة وعشرون 
ألف جندي يخدمون باختيارهم وطوع إراداتهم في الجيش الأميركي» من باقي العدد 
الذي ضحّمه المستر (رولند)؛ مع أن نظام الجيوش المتّبع في بلدان العالم أجمع؛ لا 
يسمح أن ينتسب إلى الجيش إِلَّا بعد فحص طبِّي دقيق. 

خدمت بالجيش الأميركي خمسة أشهر أثناء الحرب العالمية الثانية» لم نر 
عيني في غضونها جنديًا هنديًا واحدًا. 

أعود فأقول عمّن يُدافع هؤلاء الهنود المتطرّعون باختيارهم في الجيش 
الأميركي؟ عن وطنهم المسلوب؟ عن الرجل الأبيض عدوهم رقم واحد؟ وهر 
أصل بلواهم ونكبتهم» فقد امتهّن كرامتهم» واستولى على ممتلكاتهم وشرّدهم؛ 
فهاموا على وجوههم وهم يعانون من سوء العذاب. 

ويستطرد المستر (رولند) في حديثه المُبالغ فيه والذي يحتاج إلى إثبات فيما 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 303 





يتقوّله فيقول: «وهناك حوالي (300) مدرسة يديرها المكتب الأميركي للشؤون 
الهندية» تضمٌ 72 ألف طالب. وهناك أيضًا 85 ألف هندي آخر في المدارس 
الحكومية» وبالإضافة إلى هذاء فإن لدى جماعات كثيرة نامية» برامج خاصة لتعليم 
البالغين» والعناية بشؤون الصحة العامة». 

إن قول هذا الكاتب مردود عليه جملة وتفصيلًا للأسباب الكثيرة الآتية : 

أولا: إنه لم يَِقْ فيما يقوله» فكلمة حوالي التي أتى على ذكرها مرّتين» 
وحشرها بين خمس كلمات لدليل ظاهر على عدم ثقته فيما يقول» إنه يتكلم رسميًا 
فى مجلة رسمية صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية فلو كان واثمًا ولديه اظلاع 
على هذه المدارس وعدد طلابها لما أتى على ذكر كلمة (حوالي) عدّة مرات. 

فكلمة حوالي تُكتب إذا لم يَثِقْ صاحبها فيما يقول: فيضع الكلمة كعذر له. 

ثانيًا: ومع هذا نمشي مع المستر (رولند) حتى النهاية ونوافق معه أن نصف 
مليون هندي موجودون في كندا والولايات المتحدة الأميركية» وأن نصفهم حسب 
الإحصاء الرسمي الموجود في الولايات المتحدة. فهل يُعقل أن يكون من مجموع 
مائتين وخمسين ألف هندي (122) ألف طالب يدرسون في المعاهد العلمية؟ هذا 
غير الذين لهم برامج خاصة لتعليم البالغين» فكّم يا تُرى يُبلغ عدد هذه الجماعات 
التي لديها برامج خاصة لتعليم البالغين؟ وكم هو عدد البالغين من الهنود المنتسبين 
إليها؟ إن نسبة الطلاب الذين يدرسون في المعاهد العلمية بمدينة نيويورك وفي 
مدارسها الخاصة ثمانية مإ من مجموع سكانها البالغ 8 ملايين نسمة بما فيهم 
الطلاب الغرباءء إذَا فالمستر (رولند) مبالغ جدًّا فيما يقوله عن عدد الطلاب 
الهنود. 

هذا وإن اللواء (كلارنس تنكر) الذي قيل إنه كان من الخمسة والعشرين ألف 
هندي الذين خدموا باختيارهم في القوات المسلحة الأميركية أثناء الحرب العالمية 
الثانية والذي أعاد تنظيم القوات الجوية» بعد الهجوم على (بيرل هاربر) وكذلك 
(جون تانس جارفر) الذي جعله يَمْتّ بصلة إلى قبيلة (الشيروكي) وشارلي لوك من 
قبائل (أوساج كر) هؤلاء الثلاثة الذين مارسوا أعمالًا إدارية وعسكرية ليسوا هنودًا 
بالمعنى الحقيقي الكامل» فهم منحدرون من دماء مختلطة يغلب عليها العنصر 


304 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





الأبيض بشكل كبير. وتجد أحد أجدادهم البعيدين فقط ينتمي إلى الهنود الحمر 
وفيما عدا ذلك من دماء وثقافة وحياة فكلها تابعة للإنسان الأبيض. 

فلا نستطيع أن نصدّق بسهولة أنه كان بمقدور الإنسان الهندي الذي كان يواجه 
في ذلك الوقت مشكلة التمييز العنصري الرسمي في بعض الولايات أن يتقلّد 
مناصب حكومية كبيرة. 

إن الحقيقة المُرَّة التي وقفتٌ عليها أثناء زيارتي الثانية للولايات المتحدة 
الأميركية عام ل أي بعد تسعة أعوام من مغادرتي لها أنني لم 
اميا يك طرأ على تقدم الهنود الحمر وإصلاح أحوالهم الاجتماعية في 
تلك الأصقاع. 

وقفت على مكان للهنود الحمر كانوا يقطنون فيه سنة 1355ه (1936م), 
قريبًا من ناطحات السحاب التي قامت على أنقاض أعشاشهم» وصدفة قابلت أحد 
الهنود في مدينة (تامبا) من ولاية فلوريدا فتحدّثت معه ففهمت أن أحوال الهنود 
تتأخر يومًا بعد يوم. ولن يمضي إلا سنوات حتى تزول كافة آثارهم ومما قاله: (لا 
يزال نساؤنا وأولادنا يتأخرون إلى الوراء. واستعاد معي تاريخ معاناة الهنود الحمر 
ومأساتهم. وكان مثله في ذلك مثل أي هندي آخر تحدّثت معهء ولما شعر الهندي 
الأميركي في تامبا باهتمامي حدَّئني عن امتداد رقعة الولايات المتحدة في القرن 
الماضي والذي أرغم قبائل كثيرة على النزوح إلى جزء آخر من البلاد وذلك تحت 
ضغط المستوطنين في اندفاعهم الزاحف نحو الغرب» وبحثهم الجاد عن أرض 
جديدة» الذي انتهى بالاستيلاء عليها . واختفت معالم بعض هذه القبائتل التي كانت 
تستوطن الولايات الشرقية. وبدأت بعض القبائل تتحرك من نفسها غربي نهر 
المسيسبي وكأنها عالمة بما سيأتي. وحتى عام 1830م صدر قانون يخوّل شراء 
أرض الهنود وترحيل أصحابها على نفقة الحكومة وقد تمّ فعلّا خلال العقد الثاني 
ترحيل بعض القبائل إِلَا ولاية (أوكلاهوما) حيث بدأوا ثانية في بناء مجتمع جديد. 
وإني إذ أرحم هؤلاء الهنود الحمرء لِما لحقهم من الضرر في هذا التحويل المضني 
الفييث: 


كم من السنين قضوا في بناء مجتمعهم مرة ثانية الذي أفسده عليهم النزلاء 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 325 





الجدد وكم استمروا في تطويرهم البطيء المتقطّع؟ وكم قاسوا من الضغوط 
المتواصلة» عند اندفاع النزلاء الجدد وبحثهم عن أرض جديدة والذي انتهى 
باستيلائهم على أراضي الهنود؟ وكم هو مقدار الفظاعة في نفوسهم, التي أوجدها 
ززوحهم من مكان لآخر؟ وكم هو عدد القبائل التي زالت معالمها واضمحلت» ولم 
َْنَ لها أثر؟ وكم كان استياؤهم شديدًا عندما أصدر هؤلاء النزلاء قانونًا يخوّل 
شراء الأراضي من الهنود وترحيل أصحابها عنها؟ وكم منهم من ألحق اللعنة بهؤلاء 
النزلاء الجدد؟ وكم وكم وكم؟ إن سن الغالب أن ينقص من شأن المغلوب. وأنقل 
كلمة جاءت في جريدة (الكوتيدين) الباريزية بعنوان «تاريخ الأمم المغلوبة على 
أمرها لم يكتب» وذلك على أثر إرسال المجلس الأعلى لبقايا هنود أميركاء في 
الولايات المتحدة الأميركية - إلى مدينة شيكاغو في الكنغرس الأميركي - 
احتجاجًا صارخًاء جاء فيه: 


الإن الكتب المدرسية المستعملة الآن في الولايات المتحدة الأميركية؛. صوّرت 
تاريخ الهنود فى صورة مخالفة للحقيقة التاريخية». 


لقد جاء في هذه الكلمة: «ليتنا نفكّر قليلًا فيما كانت عليه أميركا قبل أن 
يكتشفها (كولمبس) ونقرأ قصة الفاتحين الأولين وأرباب الرحلات الأقدمين» من 
الأقاصيص الغريبة ونلقي رائد الطرف على المدن القديمة في العالم الجديد» وما 
بلغته من الازدهار والتقدِّم» وما غصّت به المعابد العظيمة التي تضاهي بعظمتها 
معابد مصرء وتماثيلها العظيمة موشّحة بالذهب وما كان هناك من متاحف وخزائن» 
وكتب» ومراصد فلكية» وإذا كُتِب لك أن تتوغْل في مدينة المكسيك ومدينة 
(الماباس) في برتيكاء والانكاس» لاستنتجت والدهشة آخذة منك مأخذها أنَّ 
اكتشاف أميركا كان من أعظم جنايات أوروبا. ولا أعتقد أن نعيم الحياة 
ومسرّاتهاء لو قدّمت جميعها إلى البقية الباقية من هنود أميركا سكان البلاد 
الأصليين ستخمّف عنهم شيئًا من وقع نكبتهم. لقد قيل الكثير عن الهنود الحمر في 
أميركا وتناولتهم العديد من القصص والروايات وأفلام السينماء وسوف يقال الكثير 
عنهم في المستقبل» ولكنهم بالرغم من ذلك سوف يبقون تلك الفئة من الناس التي 
فقدت هويتها والتي سوف يُساء فهمها كثيرًا ولن تُعرف حقيقتها . 





326 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 


ا ناتك و ا اص ل البترة لجراي ل اي 
فكُل من الفلسطينيين والهنود شُرّدوا عن أوطانهم واستُبيح حماهم. وتجاه هزا| 
العمل المشين يحتّم الواجب ويفرض إرادته على الأمة ال ييا سو 
كل ما تقدر عليه من قوة للتأثير في السياسة الأميركية التي ناصرت أعداء الأمة. 





وإني على يقين أنه سيتبدّل موقف الساسة الأميركيين والأوروبيين الذين يمدّون 
إسرائيل بالتبرعات النقدية» وبتقديم المعدات الحربية الفتاكة المهلكة بكافة 
أصنافهاء تحت تأثير أفرادها الذين سيلاحظون ارتباط مصالحهم بالدول العربية 
والإتلانة: 


لقد اجتاح الصهاينة حمى الغرب» وبدأوا يسومون أهل فلسطين سوء العذاب, 
فشرّدوهم عن أوطانهم» واستولوا على ممتلكاتهم» واستعملوا معهم أصناف الإبادة 
من تعذيب وقتل وتشرد» وبعد أن تمَّ استيلاء الصهاينة على فلسطين كلها وعلى قسم 
من أراضي جيرانها من مصريين وسوريين وأردنيين لم يكتفوا بهذا المقدار من الإهانة 
للعرب» بل تعدّوه حتى شملت الإهانة» وعدم الاكتراث بالأمم الإسلامية قاطبة: 
أعجميّها وعربيّهاء فمدّوا أيديهم الأثيمة إلى بيت المقدس ثالث حرميهاء ومسرى 
نبيها محمد كَكِِ فأتوا عليه وأحرقوه وها هم اليوم يقومون بحفريّات قريبة جدًّا من 
أساسات هذا الأثر الإسلامي الخالد» ليجتئوه من فوق الأرض. 


بعد هذا الاستطراد عن الهنود الحمر الذي أنهيته بتشبيه مأساة أبناء فلسطين 
بما حل بهم. وأرجو الله ألا ينتهي الفلسطينيون إلى المصير نفسه الذي انتهى إليه 
هنود أميركاء بعد هذا الاستطراد أعود لمتابعة وصف الولايات التي سافرنا أنا 
وزوجتي في ربوعهاء فبعد أن أمضينا في فلوريدا مدّة شهرين كاملين متنقلين في 
أرجائها المختلفة اتّجهنا غربًا مبتعدين عن ولاية الساحل الشرقي نحو ولاية 
ألاباما. إِنْ أول مَن اكتشف ولاية ألاباما هو الإسباني دي نار فابر سنة 1528م 
وتعاقب على مُلكها الإسبان والفرنسيون والإنكليز. ثم تكوّنت كمقاطعة في 13 
آذار/ مارس سنة 1817م» وأصبحت ولاية سنة 1819م» وتغلب القائد أندرو 
جاكسون على الهنود الكريك المقيمين في هذه الولاية في ملحمة هورس شوييند. 
وتكرّنت في عاصمتها مونتجمريء أول حكومة كونفدرالية أثناء الحرب الأهلية؛ 


الهحرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 327 





نى 14 شباط/ فبراير سنة 1816م» وفيها أقسم جيفرسون دافيدز قَسَمْ الرئاسة» 
وأقام أول بيت للرئاسة وسمّاه البيت الأبيض» وهو من المباني التذكارية للولاية» 
ومن معالمها متحف كارفرء وبها كارينفال تاريخي يعود إلى سنة 1704م. وآثار 
تذكارية» وهي مشهورة بمعادن الفولاذ» والحديدء والفحم» وموبيل يُعتبر أكبر 
موانئها. وللولاية 17 متنزهًا حكوميًا و8 غابات حكومية. ويقطن في مساحتها 
البالغة (51,609) ميلا مربعًا (3,266,740) نسمة. 


لم تَظل إقامتنا في ألاباما ومنها توججهنا إلى ولاية مسيسبي» كانت تجارة 
الخمور في الستينيات لم تزل محرّمة في هذه الولايات وقد ألغت ولاية أوكلاهوما 
هذا التحريم في 10/ 11/ 1378ه الموافق 17 نيسان/ أبريل 1959م. ولقد اشتهرت 
ولاية المسيسبي بالاحتفالات السنوية بسباق اليخوت. ويوجد فيها آثار تجذب 
السياح» كمساكن الزراع القديمة. وتعاقب على حكمها الفرنسيون ثم البريطانيون» 
ثم الإسبان» واستولت عليها الولايات المتحدة سنة 1798م» وبدأت تدريجيًا في نقل 
مستوطنيها من الهنود الحمر عبر نهر المسيسبي» وكانت الولاية العشرين التي دخلت 
الاتحاد في 10 كانون الثاني/ يناير 1817م» وانفصلت عن الاتحاد سنة 1861م2 في 
أعقاب بَدْء الحرب الأهلية ثم التحقت به في سنة 1870م. 


بعد ذلك قَدِمنا إلى ولاية لويزيانا التي تأتي في المرتبة الثانية من بين الولايات 
في إنتاج الزيت والغاز الطبيعي الاحتياطي بعد ولاية تكساسء ويُستخرج من 
(2150) بئرّاء والغاز الطبيعي فيها يُستخرج من (710) أبار» وللولاية صناعات 
واسعة في تكرير البترول ومشتقاته» واستثمرت من البترول منذ سنة 1946 حتى 
الآن بليون دولار. 

الولاية غنية بالثروة الطبيعية من الطيور» والحيوانات والأسماك, ولقاطنيها 
البالغ عددهم (3,325,125) نسمة طبائع وعوائد تاريخية متميزة» فهم خليط من 
الإسبان والفرنسيين» وطبائع الذوق السليم الفرنسي كان غلب على سكانها في القرن 
الثامن عشرء كما يقولون. وأكبر مدنها الساحلية مدينة نيو أورليونز وتُعتبر ميناءها 
الأساسي والميناء الثاني هو في مدينة باتون روج التي هي عاصمتهاء والثالث ليك 


تشارلز. أسّست مدينة نيو أورليونز سنة 1718 وأصبحت لويزيانا مستعمرة تخضع 





للتاج الفرنسي» ثم تنازلت فرنسا عنها لإسبانياء ثم أعديت لفرنساء ثم باعها نابليون 
إلى الولايات المتحدة في 20 كانون أول/ ديسمبر سنة 1803م. 

في هذه الولاية ثالث بحيرة في أميركا بالنسبة إلى مساحتها البالغة (635) ميلا 
مربعًا من مساحة الولاية البالغة (7482533) ميلا مربعًا. وهذه الولاية هي من 
ضمن الولايات الخمس: فلوريداء ألاباماء مسيسبي» لويزياناء تكساس» التي تقع 
على خليج المكسيك؛ ونظرًا إلى تقلْب الحكام عليها من الإسبان والفرنسيين في 
أوقات مختلفة. فإن ساكني هذه الولايات ما عدا ولاية تكساس يغلب عليهم حتى 
الآن الطابع الإسباني والفرنسي» وفيها من الآثار الإسبانية والفرنسية الشيء الكثير 
كالإرساليات الإسبانية والمستعمرات الفرنسية. 

بعد لويزيانا قَدِمنا لولاية تكساس وهي أكبر الولايات مساحة إذ تبلغ مساحتها 
9 ميلا مربعًاء بما في ذلك 4,499 ميلا مربعًا من المياهء كان يقطن في 
هذه المساحة 9,600,200 نسمة» بَنِيت عاصمتها أوستن من حجر الجرانيت 
الأحمر سنة 1685م. 

اشتهرت هذه الولاية بالسدود على أنهارها الستة: (بيكوت - وبرزوس - 
وترينيتي - وكنديون - وكولورادو - وسان جاكينتو)؛ كما اشتهرت بمنتجاتها 
البترولية» ويقدّر ما تنتجه ب 025؟ من الإنتاج الإجمالي للولايات جميعهاء ويبلغ 
دخلها السنوي من هذه المادة أربعة بلايين ونصف بليون دولار. 

تعتبر ولاية تكساس الأولى من بين الولايات في عدد المواشي. وهي الأولى 
في تربية الأغنام وإنتاج الصوف. وهي الولاية الوحيدة التي تم عتق جميع عبيدهاء 
عندما أعلن العتق في الولايات في 19 تموز/ يوليو سنة 1856م. 

كانت ولاية تكساس. الولاية الوحيدة المستقلة» وقد اعترفت الولايات 
المتحدة الأميركية باستقلالهاء قبل انضمامها للاتحاد» ورفرفت على سواريها أعلام 
حكومات ثلاث: الإسبان» الفرنسيين» المكسيك. ومن موانئها الرئيسة مدينة 
هيوستن» وهو الميناء الرئيس لشحن القطن والبترول. ويُّقام في مديئة دالاس أكبر 
مدينة مؤقتة للملاهي كل عام في شهر تشرين الأول/ أكتوبر. 

قد التتهزت :هذه المدينة في الددة الأعيرة» بحادت عظي» يُسبزمن أسوأ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 309 





المصاتب بالنسبة إلى رؤساء الولايات المتحدة» فقد انتهت حياة الرئيس جون 
كنيدي بعيار ناريّ أطلق عليه أثناء مروره في أحد شوارعهاء وكان في طريقه لإلقاء 
خطاب تاريخيّ وذلك على يد رجل يُدعى (أوزولد) وكان بصحبة كندي» زوجته 
جاكلين» وحاكم ولاية تكساس . وكان لهذا الحادث الجسيمء أسوأ الأثر في 
العالم أجمع» لِما اتَصف به الرئيس الراحل من حنكة سياسية» ومقدرة فائقة في 
نيادة دفّة السياسة الأميركية الداخلية والخارجية» وقد شيّع جثمانه إلى مقرّه الأخير» 
الملوك ورؤساء الحكومات. والوزراء من ست وستين حكومة في العالم» كما أقيم 
الجداد السياسي في كثير من دول العالم. 

أثناء نقل القاتل إلى السجن تصدى له رجل يهودي يُدعى (جاك روبتشتاين) 
وأطلق عليه رصاصة واحدة؛ اخترقت أمعاءه فخَرَّ صريعًا. وبما أن (أوزولد) قد 
فارق الحياة دون أن يعترف بأنه القاتل لم يستطع المحمّق أن ينال هذا الاعتراف. 
وأما روبتشتاين فقد أقدم على قتل (أوزولد) انتقامًا لجاكلين زوجة كنيدي كما قال 
للمحقّق وبقي ثابنًا على قوله هذا . 

لا تزال التكهنات عن هذا الحادث تُثار حتى الوقت الحاضرء وهناك من يقول 
إن جناحًا يمينيًا في الولايات المتحدة» يضم جماعة من الصهاينة» له يد في مصرع 
الرئيس الراحل» ولم ينجل الموقف حتى كتابة هذه السطور. 

وكانت تكساس الولاية الثامنة والعشرين التي دخلت في الاتحاد بتاريخ 29 
كانون الثاني/ يناير عام 1845م» وعدد مدنها 91 مدينة أكبرها هيوستن ودالاس 


. 


آنا 


وأصغرها أدنو. 

بعد أن أمضينا حوالي أسبوع في تكساس قدمنا إلى ولاية نيومكسيكوء ولقد 
اشتهرت بآثارها العجيبة» منها الكهوف الطبيعية (كارلابأ) التى اكتّشفت سنة 
1 وهذه الكهوف تُعتبر الآن متنرّهًا عامًا. ويرجع تاريخ آثارها في شاكو 
كانيون إلى 1000 سنة قبل الميلاد. 

يقطن فى مساحتها البالغة 121,666 ميلا مربعًا» مستوطنون من عدّة أجناس 
من المكسيك والإسبان» والهنود الآباش» والتافجو. وأوتاء وهنود اليوبيلو الذين 
يفطنون فى 18 قرية يوبيلوية أصلية» ويبلغ عدد سكانها 72 أما عاصمتها 


3320 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





فهي: مدينة سانتاء ويوجد في لوس ألامونسء وايت ساندزء هولومان. مراكز 
للبحوث الكونية» والولاية مزدهرة بالبحوث الإلكترونية» ومن المدن التي تجذن 
السياح مدينة سانتافي» والباكويرك» التي أقيمت فيها مبانٍ عديدة على الطريقة 
الهندية لقبائل اليوبيلو. 

كانت الولاية السابعة والأربعين التي دخلت في الاتّحاد بتاريخ 6 يونيو/ 
حزيران سنة 1912م وعدد مدنها 23 مدينة وأكبرها مدينة آلن غوغو. 

محطتنا الأخيرة في هذه الرحلة؛ بل المحطة الأخيرة في رحلة زواجنا كلها 
هي ولاية أريزونا التي قَدِمنا إليها بعد مغادرتنا لنيومكسيكو. والولاية غنية جدًا 
فقد كانتا ولاية واحدة فانفصلتا عن بعضهما سنة 1863م» وكرّن كل منهما ولايته. 

هذه الولاية هي الولاية الثامنة والأربعين التي دخلت في الاتّحاد بتاريخ 12 
شباط/ فبراير سنة 1912م» وتستقبل هذه الولاية كل عام آلاف الزوار لمشاهدة 
آثارها الطبيعية ولزيارة عاصمتها فينكس ومدينتا توكى» وبوما. 

في ليلة مقمرة أثناء وجودنا في فينكس كنت أتجاذب أطراف الحديث مع 
قرينتي فتطرّق بنا الحديث إلى اليوم الأول الذي تمّ فيه تعارفناء فذكرنا العراق 
وفندق تايكرس في بغداد والرسائل التي كنا نتبادلها فيما بينناء وذكرنا دمشق 
ومتنرّهاتها وعقد قراننا بهاء وذكرنا وادي بردى وتردّدنا إليه كل يوم طيلة إقامتنا في 
دمشق» ومنظر غوطتها البديع الذي يأخذ بمجامع القلوب إذا نظرتَ إليها من أعالي 
ذاك الجبل الأشمّ. وتذكرنا أيضًا جبال سويما حيث أقمنا ثلاثة أيام نراقب الفتيات 
والسيدات وهنّ يقمن بألعاب التزلج بكلّ خفة ورشاقة. 

بينما نحن في غمرة هذه الذكريات إذا بقرينتي تغيّر فجأة مجرى الحديث؛ء ولا 
أدري الدافع الذي دفعها إلى ذلك حتى نقّصت علينا ذكرياتنا الجميلة وأحلامنا 
اللذيذة؟ لا أدري هل كان ذلك دلالا وغنججا منهاءأم كانت هنالك أسباب أخرى 
خفيّت على ولم أعرفها؟ وإِلّا ما هي الصلة بين استعراض أوقاتنا الجميلة التي 
قضيناها معًا وقولها: هل أنت تاركي بعد هذه العِشرة الطويلة؟ هل في نيتك 
الفراق؟ فدهشت للسوال وأجبتها على الفور: إنني أحبك حبًا مَلَكَ عليّ السمع 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 331 





التفيل والفؤاد» فكيف أفكّر بذلك!؟. فقالت: إياك أن تفعل ذلك أو تفكّر فيه 
إنك في بلاد تختلف اختلافًا كبيرًا عن البلاد العربية» ومع الأسف الشديد إِنّ سكان 
ونه البلاد لا يُقدّرون إِلّا الدولارء فقدر ما يكون منه في يدك تُجلّ وتُحترمء وهناك 
بهيدًا الشرق وروحانيته الليّنة وهنا الغرب وماديته القاسية التي أوشكت أن تفصله 
عن إنسانيته» إنك في بلادي والواجب يدعوني أن أنفق عليك بعد أن أنفقتَ ما 
تملكه من الأموال» إنك إن تركتني فستتركني وليس معك دولار واحد. 

لم أستسغ الجملة الأخيرة من حديثهاء فقد وفعت على نفسي وقعًا سيئًا كان 
أشد من وقوع الصاعقة» فضاقت بي الدنيا على وسعهاء وبقيتٌ لا أرى إلا نفسي 
ولا أفكّر إِلّا بهاء نفسي التي ضحََيتٌ بها في سبيل هناء قرينتي وسعادتهاء ولقد 
نفرث من عشرتها نفور الغنيٌ من المعسرء فقلت لها: هل نسيت رفضي للعشرة 
آلاف دولار التي قدّمتها إلى عند موافقتي على الاقتران بك في مدينة بغداد؟ عودي 
إلى الأيام الأولى وتذكّري قولك لي: إِنْني على استعداد لأقاسمكَ ثروتي, أَلَمْ يكن 
جوابي لكِ ولا زلتٌ أذكره: إنها قلوب تعارفت» وأفكار اتّتحدت» فلا تدعي المال 
سد هذه الصلة الروحية. ثم تركتها جالسة أمام موقد النارء وذهبتٌ إلى سريري 


إنه الحب» الحقيقة التي أجد من الصعوبة إخفائهاء أو التغافل عنهاء أو كبتها 
في قرارة نفسي. ولا مندوحة أمامي من تبيانهاء إذ سبق مني الوعد أن لا أكتب إِلَا 
الحقيقة مهما أنكره الإنسان أو تباعد عنه لا مناص له من الوقوع في حبائله» سواء 
أكانت هذه الحبائل شيطانية أو رحمانية» فقد نصبت له الفخ ووقع في شراكه. 
ومهما كان من أمر هذه الحبائل» أو من أي صنف صُيعَت لم ينج إنسان من التعثر 
فيها . ألم يمّرَ بك أو عليكم هذا الشعاع القويّ الأحّاذء فأزاغ سنا نوره بصرك»ء أو 
استحوذ على لبِّك فغدوت طؤع إرادته تأتمر بأمرهء وتنزل عند رغبته؟ ألم تناجيه 
يا حتى تولّى سرقة النوم من عينيك؛» ووّتر أعصابك وشوّش أفكارك؟ ألم تشعر 
تسرتة وفدرجة) حتى تخال نفسك كأنك طفل صغير بين يدي قوة لا حدود 


لنفوذها؟ . 
ارتبطتٌ بها بعدما دفعني قلبي إليهاء قلبي الذي تعلّق بها كأول امرأة في 


332 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 
لل سس سس سس ري 


حياتي» تعلّق بلطفها ودمائتها وليس بمالهاء حيث إن المال لم يكن له نفوذه قي 
عليّء لقد أحببتها هي ولم أحب مالهاء إن شفافية الحب ونقاءه عُرضة للدمار 
والدنس إذا زالت من بين الحبيبين الثقة القائمة على ارتباط الأرواح» فالماد: 
الخسيسة تُزيل نقاء الروحانيات وتدمّرهاء وإنني كنت أسير حبّها ولكن لن أكون تي 
عبدًا لأموالهاء لذلك شعرتٌ وكأن غشاوة زالت عن عيني» لقد شعرتٌ وكاأئنى 
جُدعتء وكان الحب الحقيقي قائمًا من جانب واحدء لذلك قرَّرت الانفصال إلى 
غير عودة» وكان قراري حاسمًا ونهائيًا. لقد كانت ليلة قاسية نكدة تلك التى بدأن 
رائعة كما وصفتء أويت إلى فراشي وبدأتٌ أفكر كيف يمكن أن تركو قل 
سأتركها في فينكسء لا بد من تركهاء ولن تعود المياه إلى مجاريهاء ولن أُمَْ 
السبيل أمامها للعودة» لكن كيف يمكنني أن أتركها وحدهاء أوليست قرينتي, 
أوليس الواجب يدعوني أن أكون بجانبها؟ أوليس هناك أمل بعودتناء له لسن 
هناك أمل أبدّاء لن أعير أفكار المصالحة والعودة أي إصغاءء لقد اتَخذتٌ قرار 
الفراق ولا بد من تنفيذه ولا بدّ من أن يذهب كل منا في طريقه, والله هو المُغني 
والمعين. 

وأخذثٌ أجمع أمتعتي 2 وكانت حتى تلك الساعة تظنٌ أنني سوف لن أغادرها 
0 أن الأمز كان حادثا عرضنا ودرسًا لا بد مره أن أتلت 
منها لتُحكم سيطرتها عليّ» فقد كنت أصارحها دومًا بحي وأبيّن لها تعلّقي بهاء 
وكانت متحقّقة من ذلك» فأرادت أن تستعبدني بأموالهاء » لقد يل إليها أنني من 
أبناء جنسهاء ولم تعرف أنني عربي مسلمء كلّي ألفة وصدق وعزة» أتوكل على الله 
الررّاق ولا أعتمد على غيره جَلَّ وعَلا . 

ولقصور فهمها وإدراكها لهذا كله؛ قالت عندما تحقّقت من عزيمتي على 
مغادرتها: لا بأس إنني أعطيك فرصة تقضيها وحدك لتعلّم أنَّ ما قُلتّه هو الحق؛ 
اذهب إلى لوس أنجلوس وحدك وسألحق بك بعد حين. 

قلت: لاء إنك لم تفهميني ولن تفهميني أبدّاء وصَدّق من قال: الشرق شرق 
والغرب غرب ولن يلتقياء لعلّك ستُدركين معنى ما أقوله وكلّي أمل أن لا يأتي ذلك 
باخ مدا 


ار إلى الولايات المتحدة الأميركية 3033 


كان المتبقي معي من المصروف اليومي مقدار مائتي دولارء أخذت منها مبلغ 
يق دولارّاء وردّدتٌ إليها الباقي؛ ودفعتٌ من الأربعين مبلغ ثلاثين دولارًا ثمن 
زذكرة القطار إلى لوس أنجلوس» وفي الصباح حملني القطار إلى لوس أنجلوس 
باليفورنيا مدينة الزهور والفاكهة والشمس الدافئة» وذلك بعد أن خلّفت ورائي أوّْل 
من أحبّبتٌ صادق الحب ونقيّه وضحَيتُ في سبيل راحته وهنائه بكل غالٍ وعزيزء 
ند غادرت أيضًا القفص الذهبي بعدما بقيت حبيسه ما يزيد قليلًا على ثلاث 
منوات» كنت خلالها أتنقّل بين قضبانه الذهبية من دون وعي ومن دون تفكيرء 
انطلقتُ منه لأسرع في روابي لوس أنجلوس وبين مروجها الخضراءء وأغرّد على 
أغصان أشجارها الوارفة الظلال. 





الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 335 





الفصل الثاني عشر 
ب د 


لوس أنجلوس ولقاء مع هوليود 


كنت متفائلا جدًّا لدى قدومي إلى لوس أنجلوس. البلدة الجميلة» الهادئة» 
ات الشمس الدافئة» والمناخ المعتدل» ولا أعلم حتى الآن سببًا لهذا التفاؤل» 
ولم أذْرٍ بعد كُنّْه هذا السرور الذي خامرنيء. وملا نفسي غبطة وحبوراء منذ أن 
وطئت قدماي أرض هذه المدينة الكبيرة. 

أسائل نفسي: هل كان سيبه هو انطلاقي من القفص الذهبي الذي حجزت 
وراء قضبانه أكثر من ثلاثة أعوام». أم إنها نزوات شاب مغامر يريد اقتحام هذا 
المجتمع الهائج المائج» وأيديهم مقفرة من المادة وأسبابهاء والتي من دونها لا 
بتسنّى للمرء أن يأتي بحركة» أو أن يعمل عملا إيجابيًا يسمح بالمُضي في هذا 
المعترك من الحياة؟ وهل للجندي أن يخوض المعركة وهو أعزل من السلاح؟ 

بهذا كنت أسائل نفسي» فلم أجد جوابًاء ولكن شيئًا واحدًا كان يخامر قلبي 
ويغمره همّة ونشاطاء هو إيماني القوي بأني سأوافق في هذه المدينة المكتظة 
بالغرباء الوافدين إليها من كافة الأقطار والممالك وراء اكتساب الرزق. 

كنت أعلم حقّ العلم أنني سأقتحم أمرًا صعبّاء وأسلك طريقًا وعرّاء فلا 
يمكنني اجتيازه إلا بعزيمة صادقة قوية ثابتة» كما كنت متحقَّقًا من أن هذا المجتمع 
الذي سأرتمي في أحضانه تسود فيه المادة» وتعلو على كافة القيم الروحية 
والأخلاقية وهما اللتان تسودان شرقنا العربي واللتان نشأثُ في ظلّهما وترعرعت 
في أكنافهما يوم أن كانت المادة في نظري لا تساوي شيئًا يُذكر تجاههما. 


لقد اختبرت الحياة واجتزت مراحلها وعرفتها كما هى» بخيرها وشرهاء. 
بنعيمها وشقائها. بأفراحها وأحزانهاء فكنت واثقًا من النجاح في هذا المعترك. 


336 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





نهضت مسرعًا بخمّة الطير ونشاط الظبي وبهمَّةٍ لا يخامرها ملل ولا فتورء وغادرن 
غرفتي إلى الاستعلامات في الفندق سائلًا : هل هناك محل عربي قريب؟ فأجان: 
إن مطعمًا سوريًا يبعد ثلاثة شوارع من شرقي هذا الفندق» فتوججهت إليه فألفي 
مطعمًا متواضعًا في الطابق الثاني من بناية قديمة» وكنت لا أزال في مقتبل العمر, 
صحيح البنية» حسن المنظرء فدخلت المطعم وسلَّمت على من فيه» وبعد التعارن 
دعاني أحد زوّاره لتناول الطعام» فلبّيت الدعوة بكل احترام» وأخذ يمطرني بأسئلة 
عن الوطن وأهلهء ويُّدعى هذا الرجل الخواجه نيقولا الحاج» من مدينة زحلة من 
لبنان وكان يتعاطى تجارة السججاد العجمي والإفرنجي» وله متجر كبير في المدينة, 
وفهمت منه أنه هاجر إلى هذه البلاد مع شقيقته وقرينها منذ ثلاثين عامّاء وتونى 
زوج شقيقته بعد أن أنجب غلامًا يدرس في إحدى جامعات كاليفورنياء قال إن 
شقيقته بعد وفاة زوجها اقترنت ثانية برجل أميركي» وأنهما يعيشان عيشة نكدة. 
فقا فوا ف نزام معبتي فلقل طحم في غيطها الى تطلاكه: ومن المحتمل أن 
نتنازل له عن نصف هذا الغيطء هبة منها إليه. أمّا هو - أي الخواجه نيقولا - فقد 
تجاوز العقد الرابع ولا يزال أعزب يقطن بغرفة في أحد الفنادق المجاورة لمتجره 
منذ عشرين عامًا لم يستبدلها بغرفة غيرها طيلة هذه المدّة الطويلة» وأخبرني أنه عزم 
على الزواج منذ عشرة أعوام» ولكنه فوجىء بمصرع والدته في مدينة زحلة» فلفد 
اغتيلت ليلا طمعًا في حليها التي تملكهاء فكان لهذا الحادث أثره البالغ في نفس 
فعَدّل عن الزواج. 


سألني عن سبب قدومي إلى لوس أنجلوس» فأفهمته أن سببه الدراسة وخاصة 
هندسة الطيران» وأنْ بلادي بحاجة قصوى إلى رجال لديهم خبرة في هذه الصناعة؛ 
وواصلت حديثي قائلا: إني منتظر ورود بعض المال من عائلتي» وتبادلنا الأحاديث 
في شتّى المواضيع فقال: لدي اقتراح» لا أدري هل توافق عليه أم لا؟ فأجبته: 
تفضل» عسى أن يكون فيه خيرء قال: هل لك أن تشتغل في محلي التجاري ثلاث 
ساعات بعد ظهر كل يوم» براتب قدره عشرة دولارات في الأسبوع ريثما يأتيك 
التحويل من عائلتك؟ فوافقت على اقتراحه فورّاء ولا أدري هل تبيّن له أثناء حديثنا 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 337 





نى لا أملك من الأموال شيئّاء أم إنه أراد مساعدتي في تحصيل العلم؟ وكان 
ل »؛ يمكن للإنسان تأمين حياته ومسكنه. 

كان صاحب المطعم» سليم كرم» يصغي إلى حديثئنا. فقال أين تسكن الآن؟ 
تأجبته : في الفندق» قال: أتيت لهذه البلاد لطلب العلم». لا لتأخذ راحتك ومتعتك 
فى فنادقهاء تعال واسكن معي في المنزل الذي أسكنه. غرفة واسعة نظيفة خاصة 
لك بحمام واسع نظيف. لا تكلفك أكثر من خمسة دولارات في الأسبوع. وهكذا 
ذهبنا جميعًا في سيّارته للفندق» وأخذت أمتعتي» بعد أن قضينا في المطعم حتى 
الساعة الحادية عشرة مساء. 

في اليوم التالي استيقظت على طرق باب غرفتي» فوجدت بالباب سليم كرم» 
فقال: صحّتي لا تخولني العمل في هذا اليوم» فهل لك أن تساعدني؟ وواصل 
حديثه قائلًا: أرجوك أن تأخذ الخبز من الفرن الذي بجانب منزلنا إلى المطعم. 
وتعود إليه في المساءء وتأخذ من القائم على الصندوق ما لديه من الدراهم» بعد 
أن تستبقي لديه ما يحتاج إليه لليوم الثاني» وأدعوكَ أن تكون ضيف المطعم هذا 
اليوم: وأكرّر رجائي على أن تتناول وجبئّي الغداء والعشاء وسأنّصل بالمطعم هاتفيًا 
وأخبرهم عنك. وطالَ مرض سليم كرم ومكث عشرة أيام طريح الفراش» وكنت 
أقوم كل يوم بما كلفني بهء إلى أن شفاه الله وعافاه. 

منذ أو وطئت قدماي أرض لوس أنجلوسء وبانت لي المدينة ومعالمهاء 
وجبالها الشامخة وتلولها المنتشرة في سهولهاء ومروجها الخضراء وأشجارها 
الباسقة» شعرت بشعور غريب لم يعترني من قبل» شعرت أنني حر طليق» وقد 
طرحت جانبًا كل ما كنت أتمتّع به من طيّبات في هذه الحياة» 0 إن 
هذه الطيبات تخلّت عني» وفقدتهاء فقرّرت منذ اللحظة الأولى أن أكق حاتي من 
جديد حسب طاقتي» متغافلًا عن كماليات الحياة التي كنت أتفيأ ظلالهاء وأرتع في 
بحبوحتهاء كان لدي بقية من السيكار الذي كنت أدخنهء فوزرّعته على من أعرفه» 
وتجئّبت التدخين» لقد بدأت تدخين السجائر منذ الخامسة عشرة من عمري وكان 
تدخيني في بداية حياتي متقطعًا بسبب صعوبة التدخين أمام الناس خاصة من أفراد 
عائلتي2 وأثناء رحلاتي مع العقيلات كنت أمتنع عن التدخين. كما توقفت عنه طيلة 


338 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحدين 





إقامتي في حائل بجانب الوالد عندما كنا ضيوفًا على السبهان. لقد أصبحت مدي 
على التدخين أثناء إقامتي في العراق عندما كنت ألاحق مسألة وقف الرواف. 
واليوم أقلع عن التدخين في لوس أنجلوس وأتخلى عنه بسبب ضيق العيش ونقص 
المال. 

ودخلت بادىء الأمر مدرسة ليلية» ثم التحقت بقسمها النهاري من الصباح 
حتى الظهيرة» وأثناء طوافي في المدينة نقلتني خطاي إلى مبنى جريدة اللوس 
أنجلوس تايمز فدخلت هذا المبنى الضخمء وكانت هناك كرة أرضية كبيرة قائمة 
على قاعدة من البناء يرتفع مترًا عن أرض المبنى وتحتل جزءًا من بهو المبنى 
فوقفت أمامهاء أتطلّع نحو موضع بلادي السعودية. 

إن المرء يشعر وهو بدار غريبة» بعيدًا عن وطنه وأهله» بشعور غريب مصدره 
الحنان» فمهما كانت صفة الإنسان أو وضعيته» سواء أكان أميرًا أو صعلوكاء 
وسواء أكان في بحبوحة من العيش» يتقلب في أحضان النعيم» أو في فقر مدقع 
يتضوّر جوعًاء يظلَّ يذوب لوعة وأسى للوطن. 

الوطن كلمة قريبة من النفوس» وسماعها محبّب للقلوب. إذا ذُكرت هرت 
أنغامها أوتار القلوب. فالآباء دبجوا المقالات الطوال عن الوطن» وأسمعنا 
الشعراء شعرًا رقيقًا عذبّاء حفظته الذاكرة» قبل أن تحفظه الكتب» وغنّته النفوس 
قبل أن يلحّنه الملحنون» وكان لصدى نغماته طلاوة وحلاوة» تفوق ما تعبّر عنه 
الأنغام الموسيقية جميعهاء ويوضح لنا الشاعر العريق ابن الرومي أسباب الحنين 
إلى الوطن والشوق لرؤياه إذ يقول: 

وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا 
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوالذلكا 

فالشاعر ابن الرومي له أفضلية على غيره من الشعراءء يوم أن أرجّع سبب 
الحنين للوطن» إلى عهود الصبا في ربوعه. 

فالوطن مهما كانت صفته ووضعيته» هو غالٍ وعزيزء وفراقه صعبء والبُعد 
عنه لا يُحتمل ولا يُطاق» وبهذا الخصوص أذكر أنه بعد عودتي من الولايات 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 339 





المتحدة الأميركية وتوظد صداقتي بسمو الأمير طلال بن عبد العزيز كنت أتردّد 
يبصحبة سموه على زيارة عواصم العالم. 

فزرنا البلدان الأوروبية مرارّاء وأميركا شمالها وجنوبهاء ولكن هذا الأمير 
الموسرء لم يكن يمضي عليه ثلاثة أسابيع أو أربعة بعيدًا عن وطنه؛ إِلّا ويبدي 
شوقه وحنينه والرغبة في العودة إليه» الوطن الذي نشأ فيه؛ ونما في صحرائه 
ووديانه ومدنه وقصورهء وكان ذكر مدينة الرياض لا يفارق ثغره. 

كان هذا حالي وما جالَ في خاطري وأنا أقف أمام خارطة العالم للكرة 
الأرضية القائمة في مبنى جريدة لوس أنجلوس تستقبل الزائرين والمغتربين فتؤججج 
نار شوقهم ولواعج حنينهم إلى أوطانهم الغائبة. وهنا وجدت أنامل يدي تمسح 
قطرات تساقطت على وجنتي ثم انهمرت» وفيما أنا كذلك شعرتٌ بيد تلمس كتفي» 
ومن يُخاطبني بقوله: هل رأيت موقع بلادك في هذه الكرة؟ فأجَبته من دون وعي: 
ها هي وأشرتٌ إلى الوطن العربي وعملت دائرة حول الديار العربية من الأندلس 
ومن جنوب فرنسا وحتى الحدود التركية» ومن البحر الأبيض المتوسط حتى ما 
وراء العراق» فرمقني بطرف عينه مستغربًا هذا التحديد ولم أبالٍ لاستنكاره. وهو 
بدوره لم يفاتحني بهء ثم عرّفني بنفسه قائلا: المحرّر المحلي لجريدة اللوس 
أنجلوس تايمز: هل تسمح لي أن أتحدّث معك عن بلادك؟ وبدأ يُمطرني بأسئلة 
عديدة عن بلادي ومليكي وعن البترول وعن سبب قدومي إلى الولايات المتحدة» 
وكيف رأيت الشعب الأميركي وهل كان قدومي للزيارة أم لأسباب أخرى؟ ثم 
طلب مني بطاقة الهجرة وقد كنت أخذتها من القنصل الأميركي في مدينة نابولي 
الإيطالية» وكانت تحمل هذه البطاقة رقم (واحد). للكوتا الخاصة بالهجرة من 
السعودية إلى الولايات المتحدة. وصدر بعد هذه المقابلة مقال جيّد كان له أثر 
طيب عن مليكي وبلادي. ولقد كان المقال موضع اهتمام صحف أميركا. 

الصحف الأميركية اعتادت أن تكتب ما تريد» وتنشر ما تشاء»ء بلا محاسب أو 
رقيب على أقوالهاء فهي مطلّقَّة الحرية بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى. وقد 
بالغت إحدى الصحف في حديثها عنّي فبدأت الدعوات تنهمر علىّ كالمطر» فلم 





ألبّ أي واحدة منهاء ولكنني حضرت الحفل الذي أقامه السيد عبد الحي باشا 
تكريمًا لقنصل الحكومة المصرية في سان فرانسيسكوء. لله وكا حعيل الرفيع 
أحمد عرابي» وإن اعتذاري عن بقية الدعوات» كان سببه اهتمامي بدراستي؛ حيث 
إننئي كنت قد التحقت بإحدى المدارس الثانوية وتُدعى (متروبولتن هاي سكول). 

كانت قرينتي عند وعدهاء فلقد قِدِمّت إلى لوس أنجلوس وتوقّعت أن تجد 
خبرًا عني عند بعض سكان المدينة من العرب» وبعد أن وجدت عنواني كتبت لى 
وأبدت رغبتها بمقابلتي ولكنني أهملت رسالتها. ثم كتبت ثانية وأبدت استعدادها 
لدفع نفقات سفري للمملكة العربية السعودية» ولم أوافِق على رغبتها. فنشرت 
حديئًا لها في الصحف قالت فيه: إنني أحضرت خليل الرواف من البلاد العربية 
السعودية وإنني أشعر بمسؤولية إعادته إلى بلاده. 

انّصلت عدّة مرات بمكان عملي ولكنني لم أهتم بلقائها. ولقد نُصحتٌ من 
قبل أحد اللبنانيين بإقامة دعوى قضائية ضدّهاء فلربما تتنازل لي عن جزءٍ من 
أملاكها فرفضت الفكرة. وأقامت زوجتي في هوليود عشرين يومّا وفي إحدى 
محاولات اتّصالها بالهاتف تكلّمت معها وسألتها ماذا تريدين؟ فقالت لي: إذا لم 
اعبوترغب في الإواج مي عبان تطرصي تقلت لها :لد زو جات في دشن 
وسوف أطلقك في دمشق بعد أن أعود إليها. فاقترحت عليّ أن نسافر معًا إلى 
سوريا على نفقتها الخاصة وقد تتيح لنا الرحلة فرصة إعادة المودة بيننا من جديد. 
وإذا لم يتم ذلك فيُمكن عندها إتمام الطلاق في دمشق. ولكنني رفضتٌ مصاحبتها 
بالعودة وقلت لها إنني سوف أعود إلى دمشق عندما أتمكن من تأمين تكاليف العودة 
بنفسي. وبعد أن يئِست زوجتي من إقناعي بمقابلتها سافرت بنفسها إلى دمشق 
ووكّلت السيد فارس بك الخوري الذي كان في ذلك الوقت محاميًا مشهورّاء برفع 
قضية تطلب فيها الطلاق. 

في هذه الفترة وصلتني رسالة من شركة داكلاس لبناء الطائرات» تقول فيها: 
إن الشركة ترغب مخلصة أن تضمَّني إلى مهندسيهاء وأن تعلمني ما أريد أن 


أتعلمى ويراتب أسبوعى » فأجبتها شاكرًا دون إبداء رغبتى فى العمل» وبعد أيام 
حضر سكرتير هذه الشركة المدعو: ت. س . مكماهان من مركز الشركة من مدينة 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 3041 





سانتا مونيكا خصيصًا لمقابلتي. وعرض عليّ العمل في شركة داكلاس» فوعدة 
أكتب له في المستقبل» وتلقّيت كتبًا من الشركات المهتمة بالشؤون الكهربائية 
وكان ما قالته شبيهًا بما جاء في كتاب شركة (داكلاس اير كرافت). 

كانت فرصة طيّبة لو اغتنمتهاء ولكن في ذلك الوقت لم يخطر ببالي أن أدرس 
فى الولايات المتحدة» ولم أكن صادقًا حينما قلت لمحرري الصحف إن السبب في 
000 لولاية كاليفورنيا هو طلب العلم» وكان جل مرادي هو العودة إلى الوطن 
العزيزء ف في أقرب وقت ممكن» » مع أن هذه الفرصة سيِحت لي ولكتّي رفضتهاء إذ 
أنت من قريتتي التي كنت أتوهّم في ذلك الوقت بأنها تريد إخضاعي لها بأموالها . 

لم أمكث طويلًا في محل الخواجه نقولاء وكان سبب مغادرتي لمحلهء 
في تسخيري خارج المحلء وكان انّفاقنا أن أشتغل داخل المحل لا في خارجهء 
وقد قال لي مرة: حَُذْ هذه السجاجيد وأوصلها إلى أحد المحلات التجارية» وذلك 
بواسطة دراجة أدفعها أماميء. ولم تطاوعني نفسي على تلبية طلبه» فشكرته 
واعتذرتٌ له عن خدمتي فى محلّه التجاري» فعرف ما كنت أضمرهء فأذن لى» 
وبقي صديقًا طيلة إقامتي في مدينة لوس أنجلوس . 1 

ِنَّ من يواكبهم النجاح ذ فى الولايات المتحدة ة هم الذين يهاجرون إليهاء 
وأعمارهم لا تتجاوز عدد أضابه اليدين فهؤلاء نجاحهم محمّق وثابت» إذ إنهم 
يندمجون مع الشعب الأميركي» فيأخذون عنه طرق معيشته» ويشاطرونه سعادته 
وأتراحه» ويكتسبون من خبراته وتجاربه» وإن لم يتثقفوا ثقافة عالية. 

هناك جماعة من الشباب المثقفين جاءوا من البلدان العربية وغيرها واجهوا 
متاعب جمّة في سنوات هجرتهم الأولى» وأخذوا وقنًا طويلًا ليحقّقوا نجاحهم. إذ 
لم يكن لديهم مرونة للعمل المتواصل كمرونة الرجل الأميركي. كما أن ثقافتهم 
وقفت حاجرًا أمام نجاحهم. وأخذهم الغرورء فاعتبروا أنفسهم أصحاب ثقافة 
أعلى وأعظم من ثقافة الرجل الأميركي» فكانت هذه هي الصدمة الأولى التي 
اعترضت طريق نجاحهم. حتى إذا اختلطوا مع الشعب وعاشروه طويلاء بان لهم 
وهمهم فاندمجوا به وبدأوا يتسلّقون سُلَّم النجاح رويدًا رويداء مع أن بعضهم بقي 
عن تقباه وغرو روه ففاته الرّكب فالتزم مكانه. 





لو علم هذا الشاب العربي المهاجر المثقّف أن الشعب الأميركي محبٌّ للمرح 
وشغوف به» ووقف على عاداته التي ججبل علبهاوكارسها بن عمل متراضل وطهريم 
لا حدَّ له» ومن حرية يتمتّع بهاء لكان اندمج معه وهضم حركاته التي تصدر عن 
بعض أفراده؛ ولم يستنكرها ولَّهانَ عليه الأمر وجاراه في مرحه وشغفهء وشاطره 
المُضي في طريقه حتى يظفر بالنجاح فالرجل الأميركي ينظر إلى من لم يُجارِه في 
حياته نظره للغبيَ الجاهل . 

مَن يهاجر إلى الولايات المتحدة وقد تجاوز العقد الثالث يجد صعوبة تامّة فى 
التفرّق والنجاح. فأنا مثلا: هاجرت إلى الولايات المتحدة وقد جاوزت السابعة 
والثلاثين من عمري وكانت طبيعتي» وعادتي» وأخلاقي» وتفكيري قد نضجت 
واكتملت وكان من الصعوبة بمكان تبديل هذه الصفات التي مارستها ونشأت 
عليهاء لذلك اعتبرت كلمات الخواجه نيقولا قاسية فلم أستسِعْهاء وإلاء فما كان 
يُضيرني لو امتثلت لأوامرهء وأوصلت السجاد إلى المحل الذي أراده؟ سيّما أنه لم 
يكن هناك من يعرفني . 

مدينة لوس أنجلوس» مدينة جميلة ساحرة» ذات حركة دائمة ونشاط تجاري 
كبير»ء يعود سببه إلى المهاجرين إليها من مختلف جنسيات العالم» ولقربها من مدينة 
السينما هوليود» ولإنشاء عدّة مصانع فيهاء ولخصوبة أرضها وطيب ترتبها وقد أتبح 
لسكانها جلب المياه الغزيرة إليها من مسافات بعيدة تبلغ مئات الأميال» فَنَّمَتَ 
زراعتها وتوسّعت. 

كان عدد سكانها سنة 1936م» ثمانمائة ألف نسمة» وفي ضواحي هذه المديئة 
أبدع ما خلق الله على الأرض من تلال وهضاب وجبال وسهول فسيحة» ومتنزهات 
عديدة تجدها أينما ذهبت وكيفما توجّهت» وهي تحتل بقعة واسعة من الأرض؛ 
وهي ذات جوٌ معتدل. وتحتفظ مروجها ومتنزّهاتها بنضارتها واخضرارها طيلة 
فصول السنة. ويُلعب في مروجها اللعبة المفضلة والمحبوبة لدى الكثير من 
المواطنين الأميركيين (الغولف) وكثير من عشاق هذه الرياضة يأتون في فصل الشتاء 
من مختلف الولايات ليمارسوا في مروجها ومتنزهاتها لعبتهم المفضّلة يوم تكون 
مروج ولايتهم مكسوّة بالثلوج» ويكون أكثر هؤلاء غالبا قد تجاوز العقد الخامس 
من عمره. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 303 





برزت ضواحي مدينة لوس أنجلوس عن ضواحي الولايات المتحدة جميعهاء 
يتلولها الملونة» ومنعطفاتها الجميلة؛ ومساحتها الواسعة. وحدائقها الغنّاءء 
انها الحديدة الراشفة» قنيها عذة ترق عدوي تومي العاف بسار ات 
أربع منها تسير بانّجاه واحدء فتتلوى في منعطفاتها بسهولة تامة» ودقّة ونظام 
حك . 

أثناء مكوثي في هذه المدينة» أتيحت لي الفرصة للتعرّف إلى كثير من قاطنيهاء 
فالشعب الأميركي شعب مضياف يحب الغريب ويقدّره» خاصة ل مه الولاية» 
الني يتزايد عدد ساكنيها بسرعة فائقة» وقد لا يخلو شعب من شعوب العالم إِلَّا وله 
جماعة تقطن في هذه الولاية» أقول هذا لِما لمسته في مجتمعهم من ألفة شديدة 
وتعارف قويّ فيما بينهم» وكانت لي صلة قوية مع شاب من مدينة كليفلاند أوهايوء 
ركان محبًا للرياضة وشغوفًا بركوب الخيل» ولا يمل من التحدّث عنهاء وكنًا 
نذهب في أواخر كل أسبوع إلى إصطبل (بل يو - كانج) ملك الخبز الرقيق (كورن 
فليكس) لنمتطي ظهور الجيادء وكان لديه أربعون رأسًا كلها خيول عربية أصيلة. 


غادر هذا الشاب مدينة لوس أنجلوس لزيارة أهله في مدينة كليفلاند» وأرسل 
لي رسالة طويلة مؤلفة من ثماني صفحات يقول: إن عائلته قد زاد عدد أفرادها 
ثلاثة وإن العائلة جميعها فرحة مستبشرة بهذا الحدث العظيم وأخذ يصِفٌ لي مدى 
سعادته والساعات الطوال التي يقضيها معهم. فاعتقدتٌ وأنا أتلو هذه الرسالة 
المطوّلة أن إخوانه الثلاثة قد تزوّجواء ولكني فهمت أثناء قراءتي للأسطر الأخيرة 
من الرسالة أن كلبتهم قد أنجبت ثلاثة جراءء وهو يدعوني لزيارة كليفلاند للتعرّف 
عليهم؛ وقال: ستّسرٌ كثيرًا وسيخامرك فرح شديد لا يقل فرحًا عن بقية أفراد 
العائلة» إنهم مِن أبدع ما خلق الله من هذا الصنفء ولم أحرّم من التعرِّف إلى 
هؤلاء الجراء الثلاثة» فقد قدّر لي بعد ثلاث سنوات من هذا الحادث زيارة 
كليفلاند» وكان الحظ بجانبي. إذ تعرّفت على الجراء أثناء مكوثي في زيارة هذه 
العائلة لمدة خمسة أيام. ونلاحظ مما تقدَّمِ حُبَ الأميركيين للمرح وللحيوانات» 
وكان هذا قبل إعلان الحرب العالمية الثانية بسنة واحدة. وقبل أن تخوض 
الولايات المتحدة معمعتها بثلاث سنوات» يوم كانت الكثرة الغالبة في الولايات 


3044 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





تحترم الغرباء القادمين إليها من كافة أقطار العالم» ويقدّمون إليهم كل ما يستطيعون 
من المساعدات المادية والمعنوية» يوم كان الغريب يجدٌ نفسه بين أهله وقومه فلا 
يشعر بغربته في دار هجرتهء يُقَاسِم أهل البلاد خيراتهاء فلا يضنون عليه بأيّ 
نصيحة إذا ما أظهر اللباقة والقدرة على العمل» ويشْجّعونه على تحقيق رغباته. فإذا 
أظهر ميلا للتجارة أشاروا عليه بالتنقّل في ضواحي المدن والقرى» يحمل يحمل إلى 
قاطنيها الملبوسات والأقمشة» حتى إذا صار لديه بعض المال فتح محلا و ايا 
فلا يلبث حتى يجد عمله قد توسّع وازدهر خلال سنوات قلائل. 


كان هذا شأن الكثير ممَّن هاجر من البلاد العربية كسورية ولبنان وفلسطين. 
وقد وفّقت الجالية اللبنانية توفيقًا ملحوطّاء فسبقت بلباقتها وحسن سيرتها ومثابرتها 
على العمل كافة الجاليات العربية؛ فانصهرت في بوئقة الشعب الأميركي » وشاطرته 
حياته في جميع مرافقها العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. 


لا أنكر أن المهاجرين الأوائل من اللبنانيين وجدوا صدرًا رحبا من نزلاء 
الولايات المتحدة» فقد هاجروا هم وعائلاتهم يحملون في قلوبهم الحقد والضغينة 
على العثمانيين حكام البلاد العربية في ذلك الوقت» فكانوا يقولون للأميركيين» 
فَرّرنا بحريتناء وفي معتقداتناء وديانتنا من العثمانيين الذين سامونا الخسفء 
وعملوا فينا القتل والكبت». أخذوا يحولون بيئنا وبين إقامة شعائر ديننا. ولمّا كان 
الشعب الأميركي محبًا للحرية» محافظًا على المعتقدات» ناصرًا للمضطهدين؛ نقد 
أفسح لهؤلاء المهاجرين اللبنانيين مكانًا منّسعًا في معترك حياته» فاستقامت أمورهم 
وتحسّنت أحوالهم. كان هذا قبل الحرب العالمية الثانية» أما بعد هذه الحرب 
الضروس. وخروج الأمة الأميركية منها منتصرة» فقد تبدّلت منها الطبائع» وتغيّرت 
فيها الأحوال» وأخذت تنظر إلى غيرها من شعوب العالم نظرة دونية. 

أضِف إلى هذا ما قام به الصهاينة من دعايات بطّالة ضدّ البلدان العربية 
وشعوبهاء مسخُرين لهذا الغرض الصحف السيارة» ومحطات الأثير» والأفلام 
السينمائية» وكان الشعب الأميركي لا يعلم عن العرب وأوطانهم شيئًاء سوى أنهم 
قَتَلهَ وبلادهم صحراء قاحلة تسير الجمال في واحاتهاء واستغل الصهاينة هذا 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 345 





الجهل للعرب عند الشعب الأميركي: ونجحوا في بت سمومهم بين الأميركيين 
ستخدمين كل ما لديهم من نفوذ مادّي ومعنوي في الوسط الأميركي . 

أمضيتُ في مدينة لوس أنجلوس سنتين من عمريء ورغم ما صادفني أثناء 
إقامتي في ربوعها من النجاح في بعض نواحي الحياة» وما مُنِيت به من البؤس في 
كثير من الأوقات». فقد أحببتها حبًا جمّاء لصفاء أديمهاء وجودة هوائهاء وطيب 
ثرتبهاء وبل أهلهاء وحُسن معاملتهم للغريب طبعًا قبل الحرب العالمية الثانية. 
وخلال هاتين السنتين ذهبتٌ في رحلات عديدة لزيارة معالم ولاية كاليفورنيا 
المختلفة . ولقد كنت أشعر بالشوق إلى لوس أنجلوس أثناء غيابي عنها . 

تعرّفت إلى شابّين تونسيين كانا يتعاطيان تجارة الروائح العطرية» فيتنقلان بين 
بعارض الؤلآياتك المتحدة» ويستطعيان معهنما فريتيهها الأمبركيعيية توليك 
الصداقة بينناء وقد فاتحاني بذهابهما إلى معرض سان فرانسيسكوء وطلبا مني أن 
أهتم بزوجتيهما أثناء غيابهماء فلقد كانت إحداهما تشكو من مرض أقعدها عن 
مرافقة زوجها فاضطرت الثانية أن تمكث معهاء وكانا يظنان أنني في بحبوحة من 
العيش - ولم أخيّب ظنْهما - كان لدي بعض الملابس العربية عرضتها للبيع» 
فبيعت بمائة وخمسين دولارًاء واضطررت أن أعمل في أحد المطاعم في ضواحي 
لوس أنجلوس براتب قدره ثمانية عشر دولارًا في الأسبوع» وبقيت أمارس عملي 
في المطعم طوال شهر كاملء دون أن أخبر أحدًا بذلك» وبقي سرًا مكتومًا بيني 
وبين نفسي إلى هذا التاريخ» حتى الزوجتان لم أدعمهما تشعران بعملي كخادم في 
أحد المطاعم للإنفاق عليهماء ولأول مرّة في حياتي أجريتٌ الموسى على وجهي 
نأزلتُ منه اللحية والشارب معّاء ثم عُدْت وأطلقتهما ثانية بعد أن استغنيت عن 
الخدمة في المطعم وذلك بعد عودة الصديقين التونسيين من سان فرانسيسكو التي 
مكثا بها قرابة الشهر ونصف الشهر . 

شعرت بسعادة تامّة يوم قابلتٌ أحد الشبان المصريين ويُدعى السيد عبد الحي 
عامر» نجل المرحوم إبراهيم عامر باشاء ودعاني لتناول العشاء معه في فيلته في 
هوليودء وأظهر رغبته في أن أشاطره السكن» وهكذا قضيت في صحبته اثني عشر 
هرا إلى أن :غادرنا شوثة :لوي اسلو إلى 'فدينة تبووورك مدي خسن اشهير 


346 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 
ا م ا ا 2 


قضاها بمفرده في سان فرانسيسكوء والأشهر السبعة الباقية بذّدنا أيامها ولياليها نى 
هوليود» كنا نقضي أوقات فراغنا في متنزهات المدينة وعلى قمم جبالها وتلالها. 
ونشاهد بعض الأحيان فيلمًا سينمائيّاء ونتناول وجبات الطعام في أحد المطاعم 
القريبة من منزلنا . 

في أحد الأيام وفي صباحه الباكر. عندما كنت مهتمًا بتهيئة الإفطار, إز 
بالباب يُقرع قرعًا خفيفّاء ولمّا فتحته. وجدت أمامي رجلا من الملونين في ملابسه 
البيضاء الناصعة» فاعتقدت بادىء الأمر أنه طبيب فدعوته للدخول» فشكرنى, 
وأردقة#قائكة غل ليك أعنية ترقيوة كن تعنايحها ار مشحها؟ ومن دون عور 
مني إذ كنت مأخودًا بأناقته وحسن منظره» قلت له: أين هي عدة التصليح؟ فأجاب 
والابتسامة تملأ فاه» هي في السيارة التي تراها أمام منزلك وأشار إليها بيده؛ وكان 
لبقا فواصل حديثه قائلًا: إني أمارس هذا العمل كمسّاح للأحذية» وتصليح ما فسد 
منهاء منذ سبعة أعوام» ولديّ عائلة مؤلفة من أربعة أشخاصء كريمتي وولدي 
وزوجتي وأناء ففي كل يوم أتنقّل من بيت لآخر أسأل ساكنيه كما سألتك. وكثير 
منهم يدفعون لي الأجر مضاعمًاء لا أدري هل هو لإتقان عملي» أم كان ذلك شفقة 
وإحساناء ولديّ الآن مجموعة من أرباب البيوت هم زبائني وأتيت إليكم 

فقلت: انتظر قليلًاء وهرعت إلى غرفة صديقي عبد الحي وكان مضطجدًا في 
فراشه فأخبرته بما رأيت وبما سمعتء. هب مُسرعًا ليتحمّق من الخبرء وجمع 
أحذيته وأخذها بيده.» وأحضرتٌ ما عندي ولحقتٌ به» فلمًّا تبيّنه رأى شابًا في 
مقتبل العمرء وسيمّاء فارع الطول. بملابسه البيضاء ولونه الأسود الداكن» فناوك 
الأحذية» وجاريته فيما فعل» ثم التفتٌ عبد الحي نحوي متعجبًا مستغربّاء وقال: 
إن هذا لشيء عجابء ما رأيت مثل هذا في البلدان التي زرتها من قبل» مساح 
للأحذية يطرق بابك بكل جرأة» ويمسح أحذيتك في سيارته التي يملكهاء صَدَدَ 
مَن قال أميركا أم العجائب. 

وحلّ رمضان شهر الصومء فواطّبنا على صيامهء وقرّرنا أن يكون إفطارنا في 
اليوم الأول منه الفول المدمّس والكشك المطبوخ؛ حسب العوائد المصرية؛ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 317 





رممحونا من النوم باكرًا وذهبنا لتسوّق حاجات الطعام» وبعد تفتيش دقيق في 
بحلات البقالة دام عدة ساعات» عثرنا على الفول اليابس والكشكء, والغريب في 
الأمر لم نكن نعلم اسم الفول باللغة الإنجليزية غير كلمة 2682 وهي تعني اللوبيا أو 
الفاصولياء إلى أن وفقنا إلى محل للسمانة يشغله رومي كان يقطن القطر المصري. 
ويتكلم العربية بطلاقة» فأخبرنا أن الفول يعرف باسم (هورس بين) أي لوبية 
الخيل» قلنا ما لنا والأسماءء الفول وقد حصلنا عليه» ولكن كيف يكون الطبخ؟ 

صديقي وأنا لا نجيد طبخ الفول» ففتقت لنا الحيلة أن نضع الفول في علبة 
تك من علب بودرة الحليب» ثم نضعها بالفرن» وهكذا كان بعد أن أحكمنا الغطاء 
عليهاء وبعد برهة وجيزة لم ندم أكثر من عشر دقائق إذا بالفرن يصدر دويًا كبيرًا لا 
يفل عن صوت القنبلة» ولمًا فتحنا باب الفرن» وجدناه منتشرًا في جنباته» فقلنا 
حصل خيرًاء نستغني عن أكل الفول هذا اليوم» وموعدنا معه غدًا إن شاء الله 
ورفعنا حلّة شوربة العدس على النارء وكان للملح نصيب محترم فيهاء ورغم ذلك 
نقد نجحنا في طبخ الشوربة» وأمّا الكشك وما أدراك ما الكشك؟ وكيف طبخناه؟ 
وضعنا كمية كبيرة منه فى إحدى الحلل بعد أن قلينا اللحمة وقليلا من البصل 
المفروم » وذ اتنس اونا من الزمن» وإذا بحلّة الكشك قد امتلأت» فأخذنا قسمًا 
منه ووضعناه في ماعون آخرء وأضفنا إليه شيئًا من الماء» ثم رفعناه على النارء 
وبعد انتهائنا من صلاة العصرء توجّهنا إلى المطبخ للاطمئنان على الكشك وإذ 
بالحلة قد امتلأت مرة ثانية» وهكذا كان شأننا مع هذه الطبخة» فكلما امتللأت 
الحلة وفاضّ ما بها من كشك كنا نفرّغ منها في ماعون آخرء فمارسنا هذا العمل 
ثلاث أو أربع مرات بلا مبالغة. 

حان موعد الإفطار والكشك لم ينضج بعدء فاحتسينا شوربة العدس وأكلنا 
بعدها من الكشك ما فيه الكفاية» وبعد مرور ساعة على الإفطار الضخم شعرنا 
بالعطش., فلا أدري كم كأسًا من الماء البارد شرينا واستلقينا على مقاعدنا 
المريحة» وإذا بالكشك يُطبخ ثانية في جوفناء وكدنا ننفجر تخمة فكانت ليلة ليلاء» 
دلم نشعر بالراحة فيها حتى مطلع الفجرء ولكننا أتممنا صيام شهر رمضان براحة 
رهناء. وذلك بعد أن استأجرنا من يهتمٌ بالمطبخ والطبيخ» وحقيقة كانت أيام شهر 
رمضان التي مرّت بنا من خيرة الأشهر وأمتعها. 


308 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 
تح و رج يي ا 00 


حادث آخر حصل لي وأنا برفقة عبد الحي عامرء كان يكلّفني أحيانًا بقيا” 
سيارته أثناء نزهاتناء ولم يكن لدي رخصة للسياقة؛ ذهبت إلى قسم الشرطة أسألهم 
شهادة قيادة السيارات» وكنت قد استخلصت شهادة من قبل في مدينة نيويوركه 
ولكنّي فقدتهاء وقد امتّجنت في نيويورك بسيارة تابعة للشرطة؛ أما في لوس 
أنجلوسء» فإليك ما حدث: هممت بالخروج مع الشرطي لأداء الامتحان, بعد أن 
أجبتٌ عن عدّة أسئلة» وكان بجانب الرصيف سيارة فورد واقفة» ظنَّ الشرطي أنها 
سيارتي» وظننت أنا أنها سيارة تابعة للشرطة» ومن غريب الصدف كان مفتاحها في 
موضعه. فركبنا بهاء وبينما كنا متوجهين إلى مكان الاختبار الذي يعد عن المدينة 
مقدار عشرة أميال» قال الشرطي : إن سيارتك تسير سيرًا حسنّاء فأجبته إنها ليست 
سيارتي» فصاع الشرطي مستغربًا أليست سيارتكء» إن القسم ليس لديه سيارة 
للاختبار» وأردّف قاتلا بعصبية زائدة: أسرع وعد إلى القسمء وهنا أصابني ارتبالا 
شديد ووجل» وأخذتٌ أسير على غير هدى دون أن أنتبه إلى الأنوار الحمراء لأقف 
عندهاء بل كنت أواصل السير. 

أما صاحب السيارة عندما عادً ولم يحجِدْ سيارته» أخذ - كما أخبرت فيما 
بعد - يصرخ سيارتي سُرقت من أمام القسم وعلى مرأى من الشرطة:؛ فامئّظت 
الشرطة دراجاتها النارية» كما انّصلت بالأقسام الأخرى المنتشرة في أرجاء 
المدينة» وطفقت تجوب الشوارع» وتطلق صافراتهاء وبعد عشر دقائق وصلنا 
القسم» فألفينا الشرطة فيه مرتبكة» وتليفوناتها تَدقّ أجراسهاء والقائمون عليها 
ترتعد فرائصهم» وقال صاحب السيارة: كيف أن السارق لم يحترم القسم؟ وكيف 
تجرأ وسرق السيارة من أمام أعين الشرطة؟ إنها لجُرأة كبيرة جزاء فاعلها الحبس؛ 
فقال الشرطي الذي كان برفقتي: إن السيارة استّعولت بالغلط» فلقد ظنَّ هذا السيد 
أنها سيارة تابعة للقسم. وظننتٌ أنا أنها سيارته» وأمرته أن يقودهاء وأخذ مدير 
القسم يمطرني بأسئلة عديدة دامت مدّة عشر دقائق» بعدها أطلق سراحي» وغادرتٌ 
القسم صفر اليدين فلم يسمح لي القائمون عليه برخصة تخوّلني قيادة السيارات 
بسبب ارتباكي في القيادة أثناء العودة للقسم. 


اليجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 3049 
ور 201111 كار كي 


المفروشات الفاخرة» والسيد البحنسي لبناني من مواليد مدينة زحلة هاجر إلى 
لولايات المتحدة وهو لم يتجاوز الثانية عشرة» وتزوّج من قريبة له وأنجبا ابنتين» 
وكلتاهما تزوجتا من أقربائهماء وكان السيد البحنسي يتمتع بمكانة رفيعة بين 
بعارفه»ء وعلى صلة قوية مع أصحاب الاستديوهات» وإذا برجل يدخل علينا 
وبحيينا بتحية طيبة» وعلى ثغره ابتسامة حلوة محبّبة» فاستقبله السيد البحنسي 
استقبالا حارّاء وأجلسه في مكانه الذي يجلس فيه» ولم يكد يستقر في مجلسه حتى 
خاطب السيد البحنسي قائلا : هل تعرف أحدًا لديه خبرة أو إلمام بالملابس العربية 
وكيفية لبسها لنستعين بخبرته في فيلمنا الجديد؟ 

فأجابه: أعرف رجلاء وأيّ رجلء أتى من وقت قريب» وقريب جدًا من 
الصحراء العربية وستجد منه كل مساعدة تريدها لفيلمك عن العرب وعن عاداتهم 
وأخلاقهم وما يلبسون. وهذا الرجل يحمل لقب شيخ. ولقب شيخ يطلق في 
البلدان العربية على أربعة أصناف من الناس» يحمله شيخ القبيلة» ورجل الدين» 
وشيخ البلدء ويُطلّق على الرجل المسنء ويُستعمل هذا اللقب أيضًا للاحترام» 
وهذا شيخ قبيلة من صميم الصحراءء تلك الصحراء التي أسْدَّت إلى الإنسانية الخير 
الكثير» فأنجبّت الرّسل منذ زمن بعيد. قبل أن تكتشف أميركاء وقبل أن تعرف 
أوروبا الحياة الديمقراطية الحقيقية» فاستوقفه هذا الزائر قائلا بالابتسامة تعلو ثغرم 
ستفسرًا فيما إذا كنت تعرف أحدًا لديه خبرة فى الملابس العربية» فأجابه السيد 
البحنسي إذا كان هذا قصدكء فإني أقدّم لك الشيخ خليل الرواف شيخ من قبيلة 
لميم ) وأشار بيده نحوي . 

واتفقنا مع هذا المخرج السينمائي ونحن في مجلسناء على أن يكون عملي في 
الفيلم خبيرًا فيا للملابس العربية براتب قدره خمسمائة دولار في الأسبوع. إنها 
لصدفة غريبة سنحت لم تخطر ببالي» ولكن الإنسان لا يدري ماذا يواجه في هذه 
الحياة المثيرة . 


كان الفيلم يسمى (آي كفر ذا وور) - أنا أغطي الحرب - وبطله (جون وين)ء 
الممثل المشهورء وكان الموضوع يدور حول قبائل عراقية عربية ثائرة على الحاكم 


3050 صفحات مطوية من تاريخنا العربى ي الحديئ 
كك 2 5 ا ا 1 اوري 
البويظابي يعد لخر العالسية ,الاولىن.: قضينا في صحراء ولاية نيفادا ثلاثة أسابيع, 
ثم عدنا إلى استديو ينيفرسال في هوليود لإتمام ما تبقَى من مناظر الفيلم» استغرق 
عملنا في الاستديو ثلاثة أسابيع أخرى وقد.غهد إليّ بتمثيل دور أحد مشايخ القبائل 
الثائرة على البريطانيين» وقد تمّ للبريطاتين: الظفر بها والتغلب غليها حبنب الهاوان 
التي يستعملها أرباب السينما. 


انتهى الفيلم» وعرض أولَا على الممثلين القائمين بشؤونه حسب الأصول, 
وظهر اسمي في مؤخرة قائمة الممثلين» فأبيتٌ ذلك. وبعد أخذٍ ورَّدّء تمّ الاتفاق 
على أن يظهر اسمي وحده؛ وعملي في الفيلم كخبير فني للملابس» فظهر اسمي 
بمفرده كالآتي: الشيخ خليل الرواف من المملكة العربية السعودية» خبير فنى 
للعاكس العرية: 

استلمت من ينيفرسال استديو ألما وستّمائة دولار مقابل تمثيلي في الفيلم 
كشيخ قبيلة عراقية مع رسالة شكر من الاستديو تقديرًا لما قمثُ به من الأعمال في 
هذا الفيلم. ولقد كان هذا المبلغ ينقص كثيرًا عن مبلغ 500 دولار الأسبوعي الذي 
اتَفقنا عليه في البداية. ولقد قال لي مخرج الفيلم يوم أعطاني شيكا إن هذا المبلغ 
هو مقابل عملي في التمثيل في الفيلم. وإن أجرة التمثيل تغظي عادة أجرة أيّ 
إشراف فني خاص لمظاهر الفيلم. ولهذا فلم يكن بإمكانه أن يدفع لي أي أجرة 
إضافية مقابل إشرافي الفني على الملابس العربية. ولكن بالرغم من نقص المبلغ 
عن المقدار المتّفق عليه فلقد فرحت به فرحًا شديدًا. بسبب حاجتي الماسة للتقود 
في ذلك الوقت» فلو أنهم دفعوا لي مائة دولار فقط لكنت قد قبلت بها . 


الأسابيع الستة التي قضيتها في صحراء نيفاداء وفي نيوفرسال استديوء كانت 
ومع ايا را و ااي على إجا يوجر العو وز ابتار 
فن السينماء» وعايشت يشتُ عن كثب هؤلاء الممثلين الذين نراهم على الشاشة شة البيضاء؛ 
ونتخيّلهم سعداء في حياتهم الخاصة والعامة؛ وكم مثا يود لو تسمح له الظروف 
ليكون واحدًا من هؤلاء ولكني - والحق يقال - وجدتهم أتعس مخلوقات هذه 
الأرض في كل من حياتهم الخاصة والعامة» اللهم إِلَّا نفر قليل» وقليل جذا لا 
يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. ودرستٌ أحوالهم عن كثب» وطرق معيشتهم الني 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 351 
يرح يي ا يي يت 


يحيونهاء فلمست البؤس الكامن في نفوسهمء وبانَ لي الشقاء الذي يتقلّبون في 
حختيةة وما كنتٌ أعتقد أن حياتهم التي يمارسونها محاطة بهذه الشوائب الجمّة» 
بن عدم استقرارء وفقدان للشخصية» وضياع للأمل الذي كان يملأ قلوبهم بهجة 
عندما دخلوا هذا المعترك من الحياة. 

ِنَّ لكل ممثّل من الممثلين المشهورين وكيل ينوب عنه فيما يتعلق بأمور 
السينماء من مقابلة المخرجين. والاثفاق معهم على العمل وعلى أجر الممثل 
وعلى الدعاية التي ستظهر له في الصحف والمجلات وعلى ثمن الملابس التي 
سيكتريها وعلى الدولارات التي سينفقها على ضيوف فن أمثاله. 

يمكتٌ التمثيل في بعض الأفلام من ثلاثة إلى ستة أشهرء ويشترط مخرج 
الفيلم على الممثّل أن يُصاحب إحدى الممثلات التي يختارها له ليذهب معها 
للنزهات ولحضور الاحتفالات» وأن يُقيم عدّة حفلات أثناء التمثيل في منزله إذا 
كان منزله محترمًا ولائقّاء أو يُقيم هذه الحفلات في أحد الفنادق المشهورة ويشترط 
على الممثّل أن يلبس ما يراه المخرج مناسبّاء وأن يظهر بالزيّ الذي يختاره لهء 
وأن يكون تحت إمرته وتصرّفه طيلة عمله في الفيلم: وأن يصحو من النوم باكرّاء 
وأن يبقى في العمل حتى ساعة متأخرة من الليل إذا احتاج الأمر لذلك. وكثير من 
المخرجين يكونون عصببي المزاج أثناء العمل» فيقذفون الممثل بكلمات لا يمكن 
لأي إنسان أن يستسيغهاء إِلَا هؤلاء الممثلون التعساء. 

هذه هي بعض الشروط التي يجب على الممثل أن يتقيّد بهاء وتجاه هذه 
الشروط يتقاضى الممثل مبلعًا محترمًا من الدولارات ولكن الكثير من الممثلين لا 
بتمكنون من الادّخار وينفقون جزءًا كبيرًا من دخلهم على الملابس والحفلات ودفع 
نفقات الوكيل والدعاية. 

بالنسبة إلى الممثلين غير المشهورين فإنهم يدفعون الباقي للدائنين» إذ من 
المستحيل أن يكون أحدهم خاليًا من الديون. هذا بخلاف الأمور الثانوية التي 
ينطلبها الممثل» وما أكثرهاء ولربما يقضي الممثل بضعة أشهر أو سنة حتى يستطيع 
الحصول على عمل آخر. 





المخرج وسبّهء والأنوار الساطعة المسلّطة عليه طيلة ساعات عديدة» والتي تذكر 
حرارتها بحرارة نهار قائظ في صحرائنا العربية» هذا خلاف انتظاره الطويل بينم 
يتغير المنظر أو إعادته مرة ثانية» فينشأ عنده من هذا العمل عدم الاستقرار والملل 
والنفور الملازم له. 

إن الممثل يرهق نفسه من الأعمال التي يرى أنه مجبر أن ينهيها كما يريد 
المخرج. وكمّ من الممثلين وَدّ لو يحصل على عمل بسيط» يكفل له عيشة متواضعة 
ليحيا حياة سعيدة آمنة مطمئنة» ليبتعد عن هذا الفراغ السينمائي العظيم» وقد فاتحنى 
كثير منهم وبيّنوا سخطهم على وضعيتهم الراهنة التي يخوضون في أوحالها. 0 

أما الممثلات فحياتهن ووضعيتهن فلا تختلف في شيء عن حياة ووضعية 
الممثلين» فتجبر الممثلة في بعض الأفلام على إجراء عملية جراحية في وجههاء أو 
ني غيديها: [إذا كان الفيلم بياباكًا أ :صينياء والشروط" الي تملى! على زملاتهن 
الممثلين» تُملى عليهنء وقد يكون إنفاقهن على ملابسهن وزينتهن يفوق كثيرًا ما 
ينفقه أمثالهن من الممثلين الرجال. 

مارلين مونروء أعظم ممثلات هوليودء وجدوا لديها لدى موتها بعضًا من 
الحلي البسيطة ورصيدًا في البنك لا يتجاوز المائة ألف دولار فقطء هذه أعظم 
ممثلات هوليود التي كانت تعمل في بعض الأحيان في فيلمين أو ثلاثة في وقت 
واحدء فما بالك ببقية الممثلين؟ لقد ملّت مارلين مونرو هذه الحياة التعسة التي 
كانت تحياهاء والشقاء والعذاب الذي كانت تتعرّض لهء فانهارت أعصابها لما 
أصابها من فتور وملل» فأنهت حياتها بالصورة البشعة الجنونية التي رَوّتها لنا 
صحف العالم . 

هذا شأن الممثلين والممثلات الناجحين الذين نسميهم نجومًا ونحسبهم سعداء 
في حياتهم» كما هم في أعمالهمء والحقيقة أنه بينهم وبين السعادة مثل ما بين 
السماء والأرضء أما الممثلون الصغار والمبتدئون» فإن حياتهم يشوبها أيضًا 
البؤوس ويتنازعها الشقاءء ويواكبها الذل وعدم الاستقرارء لا يفارقون منزلهم طيلة 
الأربع والعشرين ساعة. يجلسون بجانب الهاتف لا يفارقونه» ينقلونه معهم داخل 
غرفهمء أو إلى أيّ مكان في بيوتهم؛ كل ذلك خوقًا من أن يطلبهم أحد المخرجين 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 353 





زلا يجدهم» فيطلب غيرهم؛ في هذا الجو الغامض المزعج المظلم يعيش هؤلاء 
الممثلون. أقول هذا عن خبرة ومعرفة وتجربة مرَّرْت بها أثناء عملي في هذا الفيلم 
أثناء تردّدي على استديو (آر - ك - أو). 

دعاني أحد الأصدقاء السيد عبدالله عباس الذي كان يقوم بمساعدة الممثلين 
في هذا الاستديو ليريني بعض ما يدوم يه اللجظلين وكانتعيدة أحد الممثلين 
ويدف إخوارة فض يشكو من حكة في الراسن كنك قد أصتيبها فاسسحتدة لها 
انون مخلوطا بقليل من القطران فقلت له: عندي دواء لهذا الداءء فرجاني أن 
أصفه له ليستعمله» وفي اليوم الثاني أحضرت قارورة شامبوء ووضعت فيها قليلًا 
من القطران» قَراقَ له هذا الدواء وشفاهء وهكذا وجدت فرصة للتعرّف إلى 
الممثلين» وقد أعطاني منهم شهادات بجودة علاجي وشفائهم من القشرة التي 
أصابت شعورهم. 

حتى إن مدير أحد المحلات الكبيرة التي تعتني بجمال شعر السيدات (كوافير) 
وك فل شطط فا قر :ققد إتدسيرطين الى ف هاون مني القوم رب العام فى كاقة 
الولايات المتحدة. الأمر الذي أودع في نفسي الثقة بنجاح هذا العلاج: وحسن 
مفعوله » وعزمت على وضعه في قواريرء لأوزّعه في كافة أنحاء الولايات المتحدة» 
فانصلت بمعمل لصنع الشامبو واتّفقت ت معه على القيام بهذا العمل» ولكنني عدلت 
عن ذلك إذ يحتاج الأمر إلى شهادات طبية من الصعب الحصول عليها . 


لا يفوتني أن أذكر حادئًا حصل لي أثناء ترددي على استديو (آر - ك - أو)» 
ففي أحد الأيام لم أكد أخرج من بابه وأمشي بضع خطوات حتى وقع نظري على 
كيس أسود صغير من الجلد» يشبه كيس دخان الغليون» فدفعته بقدمي» وتناولته 
بيدي؛ وعند فتحي له وجدت بداخله خواتم ألماس» وكمية من الدولارات لا أعلم 
حتى الآن مقدارهاء فذهبت مباشرة لإحدى الجرائد المحلية» ووضعت مع رقم 
هاتفي إعلانًا عن لقطتي» وفي اليوم الثاني رنَّ جرس الهاتف» وإذ بصوت سيدة 
تقول: إنها صاحبة الخواتم الثلاثة التي وجدتهاء ووصفتهما لي وصمًا دقيقًا قيقًا 
ورجتني أن أعطيها عنواني لتأتي وتستلمها فأجبتها بقولي: مه 
الشرطة بعد عصر هذا اليوم» وهكذا تسلمت السيدة (ميتي بانوف) بإشراف دائرة 





الشرطة الخواتم الثلاثة مع الدولارات والدموع تنهمر من مآقيهاء وقدّمت إِليّ 
الدولارات قائلة: أرجوك أن تقبلهاء ممّن لن ينسى معروفك» وأمانتك ما حييت, 
فشكرتها وأبيتٌ أن أستلم الدولارات» ولكنني استلمت من دائرة الشرطة ورقة 
رسمية تثبت تسليمي لهذه الخواتم الثلاثة للسيدة (ميتي بانوف. 770 جنوب شارع 
أرلوء لوس أنجلوس - كاليفورنيا). 

كانت دائرة الشرطة تعجّ بكثير من الناس» وبمحرّري صحف المدينة» فكتبت 
صحيفة الشعب اللوس أنجلوسية» تقول: ما دامت هذه هي أمانة وعرّة نفس أبناء 
البلاد العربية السعودية كما رأينا من خليل الرواف» فإنه أحرى بالحكومة الأميركية 
أن ترفع الحواجز في إدارة المهاجرين عن سائر الراغبين في القدوم إلى هذه البلاد 
من تلك المملكة. ولقد قامت صحافتنا العربية في نيويورك كجريدتي البيان والسائح 
بنقل هذا الخبر عن صحيفة الشعب الأميركية» فاكتفيت بهذه الدعاية الطيبة لى 
ولشعبي ولبلادي. 

مررتٌُ في هذه المدينة الجميلة لوس أنجلوس وجارتها الساحرة هوليود. 
بتجارب عديدة» واجتزت اختبارات شتى» منها ما هو طريف مستحسن.ء ومنها ما 
هو فظيع مستهجنء فكنت أتأرجح بين هذين الأمرين» طريف وفظيع» وحسن 
ومستهجن» يُسرٌ مقنع؛ وعُسر مدقع» سرور مطلق» بؤس لا حدَّ له وقد عصرتني 
الأيام» وحوادثها المفجعة مرّة باليّسرء ومرّة بالعسرء فقبلت منها ذلك بغير ما ترذد 
أو تبرّم. 

حاول القائمون على شؤون ينيفرسال استديو إغرائي بالمال لأعمل معهم. 
وأمارس هذه الصنعة» ولكني لم أجد في نفسي ميلا ولا رغبة لمواصلة العمل في 
أي استديوء كنت أعتقد بأنني لم أخلّق لمثل هذا العمل» بل هناك وطن ينتظرني 
لأواصل فيه عملي من تعزيز كلمته» ورفع شأنه وبناء مجده. 

تلقيت عدّة دعوات من أصدقائي ومعارفي لأشاطرهم الاحتفال بعيد الميلاد 
لسنة 1936م» فاعتذرت إليهم جميعًاء إلا صديقًا واحدًا كان يسكن في إحدى. 
الضواحي التي تبعدٌ حوالي أربعين ميلا عن مدينة هوليود» إذ أتتني دعوة متأخرة 
قبل عيد الميلاد بيوم واحدء وكان سبب اعتذاري عن تلبية هذه الدعوات الفافة 


لهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 355 





لنى كنت فيهاء فحسب العادة المتّبعة لدى الشعب الأميركي في مثل هذه 
الحاساكة أن المدعوين يقدّمون بعض الهدايا للداعين» فقد كنت خالي الوفاض 
لا أمتلك من المال شيئّاء حتى أنني لم أتناول طعامًا طيلة اليوم والليلة الماضيين. 

غادرتٌ المنزل في الساعة العاشرة من مساء ليلة عيد الميلادء تلك الليلة 
الباردة» فأخذت أجوب الشوارع. وأتنقل من محل لآخر» فقادتني خطاي إلى 
خارج المدينة» فوقفت بمكانٍ لبيع أشجار عيد الميلاد» في ذاك الحرش الواسع 
على الطريق العام. فسلّمت على أهله. وتدفأت بالنار التي كانوا يوقدونهاء 
فاستغربوا وجودي في مثل هذه الساعة من الليل وكانت ملابسي حسنة حسب 
العادة» ومنظري لا بأس به»ء وإن كان وقوفي وهيئتي يلفتان النظرء ولمًا بان لي 
استغرابهم» أخبرتهم أنني على موعد مع أحد الأصدقاء وسيأتي بعد قليل. 

حانَ منتصف الليل» فجمعوا أمتعتهم تاركين أشجارهم القليلة الباقية التي لا 
قيمة لها بعد عيد الميلاد» وغادروا إلى منازلهم بعد أن حيّوني تحية عيد الميلاد 
(مري كريسمس) وبقيت وحدي منكبًا على النار المتأججة» محاطًا بلهيبها 
المستعرء منقبض النفس شارد اللبّء تنتابني الأفكارء فلا أدري ما أفعل. هل 
أعود إلى البيت». وأركن في سريريء, أم أبقى متدفنًا بالنار حتى مطلع الفجر؟ 

لا أعلم كم لبثت وأنا في هذه الحالة البائسة المحزنة» وإذا برجل وقرينته 
بحيياني فأجبت تحيتهماء واختارا شجرة من الأشجار الباقية» فسألني الرجل» كم 
ثمن هذه الشجرة:» فأجبته ادفع ما تشاءء وكان شهمًا كريمّاء فنقدني خمسة 
وعشرين دولارّاء وبعد دقائق قليلة حضر رجل آخرء واختار شجرة ودفع ثمنها 
عشرة دولارات» وهكذا لم يبزغ الفجر إِلَا ومعي مائة وثلاثة وعشرون دولارًا. 

عدتٌ إلى منزلي عند طلوع الفجرء وأول ما تبادر لذهني» تلبية دعوة صديقي 
ولكن من أين لي الهدايا في مثل هذا اليوم؟ فالمحلات التجارية مغلقة» كان لدي 
قميص جديد وربطة عنق جديدة» هما هدية لرجلناء أما زوجته وولدهاء فمن أين 
أجد لهما هديتهما؟ 

انتنظرت حتى استيقظت صاحبة الدار التي أسكنها فلقد كنت في ذلك الوقت 
لم أزل أسكن في منزلي الأول قبل انتقالي للسكن مع عبد الحي عامرء ففاتحتها 


356 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





بالأمرء قالت: إن الأمر سهل» لدي لحشة كتف من الصوف الجيّد وقارورة عطر 
فاخر يمكنك شراؤهما وتقديمهما إلى صديقتك. أمّا الولد. فجارتنا من الأثرياءى 
ولديها عدّة بنين» سأذهب إليها بعد قليل» وأقصٌ عليها قصّتك عسى أن يعطف 
حا ا ار سي ا ره 
غرفتي وبيدها لعبة جميلة» وعلى ثغرها ابتسامة حلوة لطيفة» وقالت: لقد نجحن 
محاولتي. 

بقيت ملازمًا غرفتي حتى قبل حلول وقت الظهيرة بساعة من الزمن» فغادرت 
المنزل إلى بيت صديقي السيد كلارك» وقضيت معه وأفراد عائلته وقنًا جميلا. 
وعيدًا سعيدًا . ْ 

كانت صاحبة المنزل الذي أسكنه في العقد الخامس أو في أوائل العقد 
السادس من العمرء لم أستفسر منها عن سنّهاء فهي دومًا مرحة متفائلة» الابتسامة 
لا تفارق ثغرهاء وهي نشيطة جدّاء نشاط الظبي في الليلة المقمرة» لديها خمسة 
نزلاء» أنا واحد منهم وكذلك سليم كرم صاحب المطعم الذي قابلته فور وصولي 
إلى لوس أنجلوس» وهي وحدها تهتم بتنظيف غرفناء وتهيئة إفطارنا كل صباح, لا 
خادمة لديها تعينها على أمور منزلهاء حدّثتني مرة» فقصّت على حكايتها كالآتي : 

هاجرت مع والدّيّ من سويشراء وأنا لم أتجاوز الثالثة من حياتي» توفيت 
والدتي وأنا في السادسة عشرة من عمريء وبعد سنة لحق بها والدي» وخلفا لي 
هذا البيت الذي أسكنه» وألف دولار في أحد البنوك» ولي خالة تصغرني سنا 
موجودة في سويسرا أنفق عليهاء وقالت إنها سعيدة في حياتها لم تفكر بالرجال 
أبدّاء ثم ابتسمت وتابّعت حديثها قائلة: ربما كان هذا من أسباب سعادتي إذ إنني 
لم أفكر بهمء فلا أهتم الآن إلا بتُزلائي» وأهيّىء لهم أسباب الراحة في منزلي؛ 
إنني امرأة أخاف الله وأرتجيه» وإني أَهِبٌ ما يتبقّى معي من الدراهم إلى الكنيسة 
كل شهرء بعد أن أرسل إلى خالتي ما تحتاج إليه من مسكن ومطعم وملبس. 

واصلت حديثها قائلة: أجد في بعض الأحيان في نفسي ميلا ظاهرّاء ورغبة 
أكيدة صادقة للاقتران بالرجل» ومسايرته فيما يريدء ولكن سرعان ما أغيّر رأبي؛ 
واسمّح لي أن أقول: إني أنظر إلى الرجل كأنه لا يستحق منّا نحن النساء أي عطف 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 357 





ومودة» أو أن نبادله حبًا بحبء فهذا هو رأبي الذي أختلف به مع بقية أبناء جنسي 
من النساءء أتدري لماذا؟ لأنني شاهدت ابنة جيراننا الصغيرة تموت بعد أن 
اغتُصِبت وظعنت بالسكين من قبل أحد المجرمين. 

قَدِمَ من فرنسا إلى الولايات المتحدة عمدة باريس المستر (روماند لورينت) 
لدعوة رؤساء بلدياتها لزيارة معرض باريس الدوليء الذي سيقام سنة 1356ه 
(1937م)» وقد زار هذا العمدة مدينة لوس أنجلوس» وأقام له أحد نوادي المدينة 
حفل غداء في فندق أمبسادور. 

كان المدعوون يمثّلون أرباب المصانع والشركات الكبيرة؛ وأصحاب 
المصارف ورؤساء الجمعياتء. وكبار رجال الحكومة» وفيهم بعض الممثلين» 
وكنت واقمًا أنتظر الأتوبيس لينقلني إلى مكان الحفل» إذ لم يكن لدي سوى عشر 
سنتات كانت كافية لأجرة الحافلة ذهابّاء أما العودة فكنت مقدَرًا توفّر من يُعيدني 
إلى المنزل» وفيما أنا كذلكء» إذا بسيارة تتوقف ويدعوني سائقها للركوب معه. 
نسألني: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت: إنني مدعو في فندق أمبسادور. فقال: وأنا 
أيضًا مدعو هناك. وعند بلوغنا الفندق كان شخصان من أعضاء النادي ينتظرانني» 
فمشيت معهما إلى أن وضعاني على الطاولة الأولى بجانب قنصلَي بريطانيا وفرنسا 
ولم يكن بيني وبين عمدة باريس سوى السفير المصري أمين يوسف. وأمًا السيد 
البحنسي أحد أعضاء النادي الذي بواسطته تلقيت الدعوة لحضور هذا الحفل» فقد 
كان ترتيبه الخامس من بعديء وكان من بين حضور هذا الحفل السيد عبد الحي 
عامر الذي سكنت معه سنة في هوليود وكان ترتيبه العاشر من بعدي. 

وبعد تناولنا الغداء» وسماعنا لخطب الخطباءء التي كان جلَّها ترحيبًا بعمدة 
باريس» تطرّق أحد الخطباء إلى مساعدة فرنسا للحكومة الأميركية في حرويها مع 
البريطانيين» وإهداء فرنسا لأميركا تمثال الحرية المقام حاليًًا على قاعدة تُطِلّ على 
نهر هدسن في نيويورك . 

وكان الرجل الذي أقلّني معه في سيارته يهوديًا أميركيّاء ودار الحديث بيننا 
أثثاء مسيرنا عن فلسطين والمشكلات العربية اليهودية التي كانت تتمخّض فيها. ولم 
نكن مسألة فلسطين في ذاك الوقت قد دخلت طورها العملي الجدّي؛ وكانت 


3568 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 


الحكومة البريطانية منتدبة على فلسطين» وكانت هناك مناوشات بين العرن 


والانتداب البريطاني من جهة وبين الصهاينة والبريطانيين من جهة ثانية. 


فقال اليهودي: إن العرب واليهود ينتميان إلى الشعب الساميء وإني أكثر ما 
أخاف على فلسطين من جماعة الصهاينة» النازحين من أوروباء فإِنَ لهم مآرب سياسية 
إذا تحققت سوف تقضي على عرب ويهود المنطقة وسوف يقيم هؤلاء الصهيونيون 
وطنًا خاضًا بهم في فلسطين . وأصارحك القول بأنّي أكره ما أكرهه في هذه الحياة 
الجماعات الصهيونية» الذين استنزفوا منّا الأموال لغاياتهم ومآربهم السياسية. 

ما يلفت النظر في لوس أنجلوس البيوت الخشبية المكوّنة من طابق واحد, 
والتي هي عبارة عن عدّة غرف بمنافعهاء وتنقل هذه البيوت من مكان إلى آخرء 
كما هي من دون فصلها عن بعضهاء ودون أن يمسّوا شيئًا منهاء وتُبنى هذه البيوت 
من الخشبء وترتفع عن الأرض ما يقرب من نصف مترء وهي تقوم على أعمدة 
خشبية غليظة» فإذا احتاج أهلها لنقلها من مكان إلى آخرء وضعوا تحتها أعمدة 
طويلة من الخشب الصلب القوي ويصلون هذه الأعمدة بعجلات من الكاوتشوك؛ 
ويستعملون الجياد في نقلهاء ولا يجدون صعوبة في عملهم. بل تُنقل بسهولة تامة: 
ويساعد على نقلها شوارع المدينة الواسعة» فتمُرٌ هذه البيوت في وسط الشارع دون 
كلفة أو إزعاج للمارة. والذي لفت نظري واسترعى انتباهي أكثر مما تقدم إحدى 
البنايات المكوّنة من خمسة طوابق» مبنيّة من الحجر والإسمنت» وكانت هذه البناية 
متقدّمة على مثيلاتها مقدار ثلاثة أرباع المترء مما يشوّه الشارع» فأصدرت البلدية 
أمرًا بتعديل البناية» وهدم واجهتها لتتساوى مع بقية البنايات» وكانت واجهة البناية 
جميلة جدًا استُعمل في بنائها حجر المرمرء فكان منظر البناية رائعاء فاستُشير 
المهندس الذي بناهاء فأجاب: من الممكن إرجاع الواجهة دون إتلافها . 

لقد هدم المهندس اللبق من البناية مقدار متر تقريبّاء وذلك من البناء الذي يلي 
الواجهة ففصل الواجهة عن بقية البناء» ثم حفر أساسًا جديدًا مكان ما أزاله من 
البناءء وأحكم شِدَّ الواجهة من أركانها شدًّا محكمّاء واستغل أسلاك الفولاذ في 
شدّها خوفًا من التصدّع ثم فصل الواجهة من أسفلها عن الأرض» وجعل لها ثلاث 
ركائز كقوائم لهاء من الوسط ركيزة واحدة» ومن كلا الطرفين ركيزة» ثم قام 





الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 359 





يتأخير الواجهة إلى الوراء بواسطة الآلات الميكانيكية الضخمة؛» حتى ثبّتها على 
الأسس التي أقامها خلف الواجهة. 

بهذا أخبرت عندما استفسرت عن كيفية إرجاعها وتثبيتهاء وإلصاقها ببعضهاء 
نإذا مررتٌ بهذه البناية» ونظرت إلى جانبها تجد آثارًا لهذه الهندسة المعمارية 
الفذّة وتجد النوافذ الجانبية الواقعة في المكان الذي اضطر المهندس إلى هدمه 
لإرجاع الواجهة. تجذها أضيق من بقية نوافذ البناية. 

أثناء إقامتي في لوس أنجلوس أتيحت لي فرص كثيرة - دون أن أجري وراءها 
أو ألاحقها - لو استغللت واحدة منها لأغنتني عمّا وجدته من متاعب في هذه 
الحياة» فالشركات التي اتَصلت بي لأكون من موظفيها مع تعليمي هندسة الطائرات 
كثيرة كشركة (داكلاس أير كرافت) وكذلك شركة بورش الهندسية للسيارات 
والكهرباء التي عرّضت عليّ التعليم مع راتب أسبوعي. وبعض الشركات السينمائية 
التي أخذت تُغريني بما تعرضه عليّ من الأموال» والتي أخذ وكلاؤها في ملاحقتي 
لأنضمّ إلى جمهرة الممثلين» والسيد نيقولا التاجر الذي عرض على دون أن أطلبه 
ولكني أعرضت عنه وتقاعست عن اغتنام هذه الفرص» ولم أكن أعلم الدافع الذي 
منعني من استغلال أي من هذه الفرصء ربما كان السبب تفكيري بالعودة إلى 
الوطن وربما كان أسبابًا أخرى. 

لمّا أسقط في يديء وأيقنت بأنني لن أتمكن من العودة للوطن في الوقت 
الحاضر هنا بدأت أسأل نفسي عمًا أستطيع أن أفعل بعد أن ضيّعت هذه الفرص 
التي سحت لي . 

في ذلك الوقت كان صديقي عبد الحي عامر الذي انتقلت للعيش في مسكنه 
في هوليود قد سافر إلى سان فرانسيسكو وبقي فيها خمسة شهور وبقيت أنا وحيدًا 
في منزله طيلة هذه المدّة التي لم تَحْلُ من لقاءات ونقاظات تخاريه وغيز تار 

تلقّيت دعوة من السيد سليمان كرم نزيل هوليود وشقيقه سليم كرم صاحب 
المطعم السوري في لوس أنجلوسء. وسليمان كرم أديب بليغ من الرعيل الأول 
الذين تركوا أوطانهم وهاجروا من لبنان إلى أميركاء وكان ذا شخصية قوية 
ومحترمة» ووجدته منكبًا على بعض الجرائد السورية يطالع فيهاء ولقد أخبرني أن 


360 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





أمطارًا غزيرة هطلت في بادية دمشق الأمر الذي أنبت الككمأ في صحرائهاء وأن 
شركة الكونسروة السورية التي يرأسها السيد شكري القوتلي ابتاعت كمية وافرة منها 
وهيّأتها للتصدير. وأردف قائلًا: هل تعرف أحدًا في دمشق ليُرسل لنا كمية تجارية 
منها. إن ثمنها مرتفع جدًّا في هذه البلاد. 

أرسلت تلك الليلة برقية إلى شقيقي ياسين في دمشق بهذا الخصوص طلبت 
فيها كمية من الكمأ (الفقع) بمبلغ ألف دولار»ء وبعد شهر ونصف وصلتنا الكمية, 
فبلغ ما جمعناه من ثمنها خمسة آلاف دولارء فأبرقنا ثانية نطلب المزيد من الكمأء 
فجاء الردّ أن الكمأ قد نفد ولم يَبْقَ شيء منه في الشركة. 

في أيّ بلدة أقمت» أو في أي مدينة مكثت من مدن الولايات المتحدة» كان 
لا بد أن تجد بين ساكنيها عرييًا تهمه شؤون قومه وتعزيز مكانتهم» فتلك غريزة في 
الغرباء النازحين عن أوطانهم العربية» ممّن أجبرتهم ظروفهم الغامضة» أو أحوالهم 
الشخصية على النزوح عن الوطن» كنت تراهم لا يزالون يذكرون ديارهم في 
غدرّهم ورواحهم» وفي عملهم ووقت فراغهم» فمهما طوّحت بهم الأقدار أو 
شط بهم المزار» وتأثْ عنهم الدارء لا يزالون يحئون إلى ربوع الوطن» وترجع بهم 
الذكرى إلى عهود الصّبا ومراتع الشباب» ولم يكن هذا متوقَّمًا على المهاجرين 
فقطء بل تعدّاه إلى أجيالهم الذين ولدوا في ديار الغربة. 

تعرّفت في إحدى الحفلات العربية المقامة بهذه المدينة على شاب عربي من 
أصل لبناني» من مواليد لوس أنجلوس وقد طوى الثامنة عشرة من عمره مسيحي 
العقيدة» عربي النزعة» دعاني إلى منزله وعرّفني بوالده حا الديس وبوالدته مريم 
الحكيم. وبشقيقته وأخيه. وأبدى استعداده للقيام بأيّ عمل يعود نفعه لأمته 
العربية» فأكبرت له غيرته» ووطنيته وحميته العربية» ووعدته بأن نقوم بعمل في 
المستقبل القريب يحقق فيه ما تصبو إليه نفسهء ويرتاح له ضميره. 

كنت عند وعدي لهء فلم تَمْض إِلَّا أيام قلائل حتى استأجرت محلًا مكونًا من 
غرفتين في بناية جديدة في الطابق الثالث من طوابقها الثمانية» كتبت على أحد 
أبوابه الكبيرة (مكتب الاستعلامات العربية) وأصدرنا أول منشور جغرافي عن 
البلدان العربية» وعن جاراتها من الحكومات, ووَزّْع هذا المنشور بواسطة الشاب 


البجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 361 





جورج الدبس على بعض المدارس الثانوية» وجامعة كاليفورنتياء فتقبلوه قبولا 
حئاء«وتوعناة بالعيازة العالية #"المتشور الأول من النتشوزات المتبلسلة عن 
البلدان العربية . 


أرسلت رسائل إلى كل من جلالة الملك عبد العزيز آل سعودء وفخامة ياسين 
باشا الهاشمي في بغداد. وفخامة شكري بك القوتلي في دمشقء وبيّنت لهم الغاية 
من فتح هذا المكتب وهو بت الدعاية للبلدان العربية في الولايات المتحدة 
الأميركية» ورجوتهم أن يوافوني بمعلومات لتكون لي عونًا فيما أنا قائم بهء كما 
أخبرتهم أنني لست بحاجة إلى مساعدتهم المالية» ولكني بحاجة قصوى إلى 
توجيهاتهم ومساعدتهم الجعدرية :وا ويللت لكل منهم بعض قصاصات من الجرائد 
التي تحدّثت مع محرريها عن البلدان العربية» وخاصة عن المملكة العربية 
السعودية» فأجابني ياسين الهاشمي» شاكرًا جهوديء كما أرسل الملك عبد العزيز 
كناب شكرء أما شكري القوتلي فلم يُحِبْ على رسالتي. 


إن الذي حدا بي لأقوم بمثل هذا العمل هو ما وجدته ولمسته من التقدير 
والاحترام من قبل من اجتمعت معهم من رجال الأعمال» وعلية القوم ومحرّري 
الصمحف. وحيث إننى أول مهاجر إلى الولايات المتحدة من المملكة العربية 
السعودية» فلقد شعرت بأن فتح مكتب للمعلومات عن السعودية وبقية الدول العربية 
سيعود بالفائدة عليّ وعلى جميع المهتمين بالدول العربية وسيعود بالنفع على 
الوطن» ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. فلقد حضر لمقابلتي ذات يوم 
اثنان من رجال بوليس المدينة وسألاني عن طريقة العمل في المكتب وأخبراني 
بأنني لا أستطيع الاستمرار في نشاطاتي الإعلامية إِلّا بعد الحصول على تصريح 
خاص للقيام بذلك. ونظرًا إلى أنني لم أستلم أي معلومات من الدول العربية حتى 
وطويلة؛ فلقد قرّرت إقفاله بعد أن مَنّيت نفسي بالعودة لفتحه في المستقبل بعد 
حصولي على المعلومات التي كنت أنتظر وصولها من الدول العربية. وَقَدِمَ إلى 
لوس أنجلوس الشيخ حافظ وهبة سفير مملكتنا في لندن» في طريقه إلى طوكيو 
عاصمة اليابان لحضور الحفل الذي أقيم بمناسبة بناء أول مسجد فيهاء فمثّل في 


362 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئث 





هذا الحفل حكومة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز. وسعدت برؤية الشيخ حافظ 
وأمضينا معًا عدة ساعات نتحدث عن أخبار الوطن ونتذكر الأوقات التي أمضيناها 
معًا في مكة عام 1344ه (1926م). 

تعرفت على رئيس بلدية لوس أنجلوس في إحدى الحفلات» وكنت أرتدي 
ملابسي العربية فراقت له عباءتي. وطلب مني واحدة مثلهاء وكان سمو ولي الور 
الأمير سعود قد أرسل لي عباءتين بناء على طلبي من سموهء فقدّمت إحداهن إلى 
رئيس البلدية» والثانية أهديتها إلى إحدى دور الآثار» تحقيقًا لاقتراح رئيسها الذي 
فاتحني بذلك عند اجتماعي معه في هذا الحفل . 

في هذه الفترة كان صديقي عبد الحي قد حضر من مدينة سان فرانسيسكو, 
وفاتحني برغبته بمغادرة لوس أنجلوس إلى مدينة نيويورك ثم إلى وطنه مصر 
واستطرد قائلًا : هل لك أن ترافقني في هذه الرحلة إلى نيويورك» وركبنا سيارته بعد 
أن ودّعت أصدقائي في لوس أنجلوسء وبعد ثمانية وأربعين يومًا من مغادرتنا لوس 
أنجلوس وصلنا مدينة نيويورك, مارين بإحدى عشرة ولاية من الولايات المتحدة؛ 
لقد كانت رحلة جميلة طيبة» اجتزنا خلالها آلاف الأميال» ومئات المدنء ووقفنا 
على معالم الولايات المتحدة التي مررنا بهاء وأضفنا إلى معلوماتنا معلومات 
جديدة عن هذه البلاد العظيمة . 

إنه لمن الصعوبة بمكان أن يغادر المرء مكانًا ماء أو جماعة مكتّ فيما بينهم 
سنة أو سنتين» أو أكثر من هذا أو أقل» فَآلِمَهم وركنَ إلى عشرتهم 0 دون 
أن يمازج شعوره شيئًا ولو قليلًا من الحزن عندما يفارقهم. أو أن ن تكثل وجهه 
سحابة من سحب الكآبة» خاصة إذا قوبل بالبشاشة والترحيبء» وعاملوه معاملة 
الأخ لأخيهء وفتحوا له قلوبهم فولج إليهاء وبانَ له ما تكنّه من الخير والمحبة. 

تركت هذه الولاية التي أحببتهاء وركنت لصحبة أهلها ومعاشرتهم» ونفسي 
مملوءة حزنًا على مغادرتهاء إنها الولاية المحبّبة لدي على سائر الولايات المتحدة 
التي سبق أن زرتهاء والتي أوحت إلى جبالها الشاهقة وأشجارها الباسقة وسهولها 
الواسعة ومروجها الخضراء النضرةء بالعرّة والكرامة اللتين كنت على قاب قوسين 
أو أدنى من فقدانهماء وأقمتٌ في هذه الولاية سنتين كاملتين» فوجدثُ من ثبل 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 363 





وأحمل لهم في قلبي جميل الذكرى. وعظيم الاحترام» فقد أَلِفتهم ورككنت إلى 
عشرتهم » ولقد كانت طبيعتي متوالفة مع ما قال الشاعر: 
خلقت ألونًا لو رجعت إلى الصبا لفارقتٌ شيبي موجع القلب باكيا 


ترجع أسباب حسن معاملتهم للغرباء القادمين إليهم. والنازلين بساحتهمء 
لكونهم هم أنفسهم كانوا غرباء مثلهم» قدموا إلى هذه الولاية من كل فج من بقاع 
الأرض» واستوطنوا في ربوعهاء فإذا ما تقصّى المرء أمر هذه المجموعة القاطنة 
في هذه الولاية» وسبّر غورهم. ووقف على أحوالهم والمكان الذي قدموا منه 
لبان أن هذه المجموعة تمثل كافة شعوب الأرضء فما من شعب من القارات 
الأربع إلا وله أفراد فيها. والإنسان ميّال بطبيعته لمن يجد لديه صدرًا رحبا يستقبله 
به. كما أنه ميّال لسكنى الأرض الخصبة, ليبني مستقبله ومستقبل أفراد عائلته» فلا 
غرابة إذا رأينا المهاجرين القادمين إلى هذه الأرض يزداد عددهم يومًا بعد يوم. 

كان عدد سكان ولاية كاليفورنيا في ذلك الوقت» ستة ملايين نفس فقطء ولقد 
ازداد عددهم بعد ذلك بشكل كبير»ء وأسباب هذا التزايد في عدد سكانهاء هو ما 
جادّت به الطبيعة عليها من خيراتهاء معادن عديدة» وأرض بكر جيدة» وتربة خصبة 
صالحة وطقس معتدل في فصوله الأربعة» فازدهر اقتصادهاء ونَّمّت مزروعاتهاء 
يُضاف إلى هذا وجود مدينة السينما هوليود في ضواحيهاء لذا قَدِمَت إليها الخلائق 
البشرية من كافة الولايات» ومن أطراف الأرض. وأذكر أنني قرأت في إحدى 
الصحف العربية في السبعينيات بأنَّ قوة اقتصاد ولاية كاليفورنيا وحدها تأتي في 
الترتيب السادس في اقتصاديات دول العالم. 

هذه الولاية من أكثر الولايات إنتاجًا لأصناف الخضر والفواكه» وتنتج من 
النبيذ الخالص خمسة وثمانين في المائة من مجموع النبيذ الذي تُنتجه الولايات 
المتحدة» والنبيذ كما هو معلوم يستخرج من عصير العنب» وتحتل كروم العنب 
المختلفة الأشكال والألوان» قسمًا منَّسعًا من السهول الفسيحة في هذه الولاية» 
بسقي هذه الأرض الواسعة نهر 00 وغيره من الأنهار والقنوات» وعلى 
هذا النهر سدّ (أورفيل) الذي يعتبر أعلى سد في العالم حتى الآن وسدّ (فريانت). 


364 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





يعتني سكان هذه الولاية بتربية المواشي» فقد بلغ تعداد البقر الذي يملكه قاطنر 
هذه الولاية أكثر من خمسة ملايين بقرة» منها مليونان ونصف المليون من البقر 
الحلوب. وثلاثة ملايين رأسًا من الغنمء كان هذا في سنة 1382ه (1962م). 

لقد وهيها الله من المعادن» البترول» الذهب». النحاس». الفولاذ. الرئبق, 
المغناطيس وغيرها من المعادن الثمينة. كما حَوّت مناطقها ثمانية عشر حرشّاء 
مكتظة بالأشجارء طويلة الساق» منها الحرش العظيم القائم في وادي (يوسيمث) 
بين مدينتي سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس وفيه الشجرة التاريخية الشاهقة بجانب 
الطريق العام والتي تمر السيارات في وسطهاء ولا زالت تحتفظ بعلوها ونموها. 

في السنوات الأخيرة اعتنى المزارعون في ضواحي لوس أنجلوسء عناية تامّة 
بزرع النخيل» كما اعتنوا بتعبئة التمور» ووضعها في كرتونات تسع عشر حبات من 
التمرء وتُباع بدولار واحدء والتمور في أميركا من الثمار الطيبة المستحسنة؛ وفى 
وادي أمبريال مقاطعة واسعة غرست في أرضها أشجار النخيل؛ وتُسمّى هذه 
المقاطعة (مكة)؛ ويتراوح مدار حجم النخلة فيها من ثلاثة أمتار إلى أربعة أمتار. 
الأميال عن المدينة» وقد كلف جلب هذه المياه» عشرات الملايين من 
الدولارات. 

من المدن الكبيرة في هذه الولاية بعد لوس أنجلوس» مديئة سان فرانسيسكوه 
وسيندياغوء ومدينة لونج بيتش. ويقدَّر سكان سان فرانسيسكو بسبعمائة وخمسين 
ألف. وقد اشتهرت هذه المدينة بأكبر وأطول الجسور في الولايات المتحدة» وهو 
الجسر الذهبي» إذ يُعتبر من أروع الأعمال الهندسية وهو من أجمل المنشآت من 
نوعه في العالم» وجسر (خليج أوكلاند) وجسر (ريتشماند). 

لقد أقيمت معظم أبنية هذه المدينة على مرتفعات من التلال يرفعك أحدها 
سبعين مترًاء وآخر يهبط بك مثلهاء والترامواي يستعمل بعض هذه الشوارع 
الصاعدة الهابطة» وميناء سان فرانسيسكو من أوسع الموانىء في الولايات المتحدة 
الأميركية . 


للمدينة مطاران من أكبر المطارات في العالم» وأكثرها حركة. وقد بلغ عدد 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 365 





المسافرين الذين حلّوا بهذين المطارين خمسة ملايين نسمة من البشر خلال سنة 
واحدة وهبط بها مائة وستة وأربعون ألف طائرة» حملت من البضائع ما وزنه 
بالأرطال مائة وخمسة ملايين» ونقلت من الرسائل ما وزنه بالأرطال ثلاثة 
وخمسون مليونًاء وذلك حسبما ذكرته إحدى النشرات التي تُصديرها مدينة سان 
فرانسيسكو. 


مدينة (سيندياغو)؛ تحتوي على أكبر قاعدة بحرية حربية على شاطىء المحيط 
الهادئ» أما مدينة (لونج بيتش) فيها مصنع كبير للطائرات» وهي مدينة هادئة. 
ولاية كاليفورنيا هي الولاية الحادية والثلاثون التي دخلت في الاتحاد بتاريخ 9 
أيلول/ سبتمبر 1836م» وفيها 369 مديئنة أكبرها لوس أنجلوس ويبلغ عدد سكانها 
09 نسمة وأصغرها مدينة جنكنتاون وسكانها 5,017 نسمة. 


تبلغ المسافة بين ولايتي كاليفورنيا ونيويورك, ثلاثة آلاف وخمسمائة ميل» 
هذا إذا انّبع المسافر الطريق الأقوم. ولم يراوغ عنه شمالا أو يميئّاء ولكني 
وصديقي عبد الحي عامرء عرّجنا في طريقنا على بعض الأماكن الأثرية الشهيرة 
فبلغ مقدار ما قطعناه حتى وصلنا مدينة نيويورك خمسة آلاف وتسعمائة ميل. ومررنا 
بطريقنا على اثنتي عشرة ولاية: ولاية نيفاداء أريزوناء يوتاء كولورادوء نبراسكاء 
أيواء إلينوي» أندياناء أوهايوء بنسلفانياء نيوجرسيء ثم ولاية نيويورك واستغرق 
سفرنا من شاطىء المحيط الهادئ» حتى الشاطىء الأطلنطي حوالي الثمانية 
والأربعين يومّاء عاديا على أرض جرداء إِلَّا في ولايتّي أريزوناء ونيفادا 
وفليل جدًا في بعض الولايات الأخرىء فالأراضي التي لم تُزرع» وهي غابات 
وأحراش» وواحات خصّصت لرعاية المواشيء أو جبال مكسوة بالأعشاب 
والأشجارء فلم يقع نظرنا إلا على أرض خضراء منتشرة في جميع أنحاء هذه 
الولايات» فالطبيعة أضفت عليها ثوبًا سندسيًا زاهيّاء ووهَبّتها من جلالها وبهائها ما 
لم تَهبّهِ لغيرها من بقاع الأرضء» وكستها رداء أنيقًا لم تَكْسِهٍ لغيرهاء ولم يخامرنا 
شيء من الاستغراب» بعد أن رأينا كثرة هذه الأحراش الواسعة.» إذا علم أن ثلث 
مساحة الولايات المتحدة الأميركية هي من الغابات والأحراش» وهي من أملاك 
الشعب؛ ليس للحكومة فيها نصيب» فالشعب يستغل خيراتها لصالحه. ومع هذا 


366 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





تجد سلطات الولايات مع أصحاب الأراضي يبذلون مجهودًا جبارًا لحفظ هز, 
الأحراش وصيانتها من الآفات» ويعوّلون عليها كثيرًا في صناعة الورق» وصناءعة 
الأثاث وغيرها من الصناعات والحاجات الخشبية» وقد تعاونت وزارتا الزرائن 
والداخلية مع الشعب لحفظها من الحرائق التي تسبّبها الصواعق الكونية» أو إهمال 
الزائرين لهاء وإذا احتاج صاحب الأرض لقطع عدد من الأشجارء توجّب علب 
زرع عدد مثله أو أكثر من الأشجار الصغيرة بدلًا من الكبيرة التي سيتم قطعهاء وفي 
إحصاء سنة 1380 - 1960 تم زرع ألفي مليون شجرة أي بمعدّل إحدى عشرة 
شجرة لكل رجل وامرأة وطفل في البلاد جميعها . 

تمَّ سنة 1941م» تأسيس جمعية سميت [رابطة زراعة الأشجار الأميركية] وبلغ 
عدد أعضائها تسعين ألفًا جميعهم من أصحاب الأراضي» يقومون بواجب الحفاظ 
على الثروة الخشبية» إذ تشكّل ثروة ضخمة من منتوجات البلاد» ويضمئون 
لأنفسهم أرباحًا طائلة من ورائها ومن الأماكن المشهورة التي أتيح لنا فرصة 
زيارتها: جراند كينين ومساكن هنود نافامو في ولاية أريزونا والجسر الصخري 
الطبيعي. وحديقة برنس كانيون» وروكي موفي بولاية يوتاء وسدود الكهرباء 
العظيمة في كل من ولايّتّي نبراسكاء وأيواء وترسانة مولين» وضريح لنكولن في 
ولاية إلينوي» ومعامل الفولاذ في ولاية أوهايوء ومنزل بنيامين فرانكلين في ولابة 
بنسلفانياء وجامعة برنستون في ولاية نيوجرسي. وغيرها من الأماكن المشهورة. 

توججهنا من لوس أنجلوس. وصعلدنا جبال سيرانيفاداء ثم هبطنا هضبة 
كولورادو إلى أن وصلنا جبال روكي الشاهقة التي تشبه جبال الألب في سويسراء 
والمناخ بين هذين الجبلين حار وجافء» وتقدّر المسافة بينهما بألف وسبعمائة ميل 
تقريبّاء وتمتد جبال روكي من شمال الولايات إلى جنوبهاء أي من حدود كندا حتى 
حدود المكسيكء. وتُعتبر العمود الفقري للولايات المتحدة الأميركية. ثم انحدرنا 
إلى السهول الكبرى؛ متوججهين إلى الأراضي الوسطى المنخفضة. ثم قطعنا جبال 
أبلاشي الزاخرة بمعادن الفحمء إلى أن هبطنا مدينة نيويورك. 

لقد قسَّم الجغرافيون الولايات المتحدة الأميركية إلى خمس جهات: 

1 - الجهة الشمالية» وتضم ست عشر ولاية: 


لهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 367 





ولاية مين» نيوهمشرء فرمونت» ماساشوست,. رود أيلند» كونتيكت» 
زيويورك» بنسلفانياء نيوجرسيء ديلويرء ماريلاند» أوهايوء مشيغن. إندياناء 
وسكنسن» إلينوي. ومساحتها: 421270 ميلا مربعًا. 

2 - الجهة الجنوبية الشرقية» تحتوي على عشر ولايات: 

ولاية فرجينياء وست فرجينياء نورث كاروليناء ساوثت كاروليناء كنتاكي 
فس خررجاء الناماه مستي ؛ كلورونا :برك سباع هذ الزلايات 
3 ميلا مريعًا . 

3 - الجهة الشمالية المتوسطة» تضم سبع ولايات هي التالية: 

ولاية مينسوتاء نورث داكوتاء ساوث داكوتاء مونتاناء أيواء نبراسكاء ولاية 
وايومنع . وتبلغ مساحتها: 640349 ميلا مربعًا. 

4 - الجهة الجنوبية الوسطى» تضم الولايات الآتية: 

ميزوري» كانسانس» كولورادوء اركنسانسء» لويزيانا» تكساس» نيومكسيكو. 
وتبلغ مساحتها: 862808 ميل مربع . 

5 - الجهة الغربية» وتتكون من سبع ولايات هي الآتية: 

ولاية أيداهوء واشنطنء أوريجونء يوتاء نيفاداء كاليفورنياء أريزوناء 
رمساحتها: 716788 ميلا مربعًاء ويضاف لهذه الولايات ولايتا ألاسكا وهاواي. 
وهما آخر ولايتين انضمتا للولايات المتحدة الأميركية. 

كما قسّمت الولايات المتحدة الأميركية إلى ستة أقاليم هي : إقليم الشمال 
الشرفي» إقليم الحوض المتوسطهء إقليم الجنوب الشرقي, إقليم السهول الكبرى» 
إقليم الجبال والصحاريء» إقليم الأودية الساحلية» ولا تفصل هذه الأقاليم عن 
بعضها أي حدود من صنع الإنسان ولكن يميّزها عن بعضها طبيعة المناخ والتربة 
طرق النقل الطبيعية وغيرها. كما عُرِف كل إقليم منها بما فيه من المعادن 
المختلفة» وما ينتجه من الصناعات الخفيفة والثقيلة» وما تدرّه الأرض من 
الحاصلات؛ وأراضي الكل والمرعى» ومن الغابات والأحراش» وبما به من 


أرض محراوية ومواشي؛ 


368 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





1 - يتكون الإقليم الشمالي الشرقي من إحدى عشرة ولاية وقد عَرّف مم 
الإقليم الصناعات العديدة: كمصاهر الصلبء والصناعات الثقيلة» كالزجاج, 
والألمنيوم» والكيميائيات» وصناعة السيارات» وصناعة الآلات على 0 
كما عرف أيضًا معادن فحم الكوك ومعادن الحديد الخام. ويوجد في هذا الإقليم 
أكبر عدد من المدن الصناعية التجارية كمدينة نيويورك وأبنيتها الضخمة» وشيكاغر 
ومسلخها العظيم» وبطرسبورج ومصانعها الحديدية» وقد لا يصدّق المرء. أنَّ هز 
الإقليم» بإنتاجاته الكبرى المزدهرة» كان قبل خمسمائة عام مجرد مكان مقفر 
موحش » لا من سكانه الهنود الحمر»ء وما ينتجونه من المزروعات» ويعتبر هذا 
الإقليم من أكثر الأقاليم الآن ازدحامًا ومن أشدّها حركة ونشاطًا. 

2 - إقليم الحوض المتوسط الذي عرف بمروجه الشاسعة. وبتفؤّق خصوبة 
أراضيه كما عرف بحزام الحنطة لكثرة ما يُزْرع في ربوعه من الحنطة والذرة التي 
تُعدَ من أهم الموارد الزراعية في الولايات المتحدة الأميركية» ويُباع ثلاثة أرباع 
محصول الذرة لأصحاب المواشي والدواجن كعلف لهاء ويُستخرج من عيدانهاء 
وقوالحهاء وأوراقها: الزيت» الشرابء النشاء. 

وتقدّر مساحة الأرض التي تُزرع فيها الذرة بربع مساحة الولايات المتحلة 
الصالحة للزراعة» وكان أول من زرع الذرة الهنود الحمر وعنهم أخذ الأميركيون 
المهاجرون زراعتها. 

3 - الإقليم الجنوبي الشرقي الذي عُرف بإنتاجه للقطن» وصناعة التبغ» - 
والبترول والحمضيات. 

ويقع نهر تنسي وروافده من الأنهار الخمسة في هذا الإقليم؛ وقد روّض هذا 
النهر بإقامة 33 سدًا عليه. وهناك مشاريع أخرى لإقامة عدد آخر من السدود. 

4 - إقليم السهول الكبرى» الذي يُعرّف» بحياته القاسية» وبسهوله الواسعة 
الشاسعة» ويصفه سكانه بأنه مكان ترى القادم إليه عند شروق الشمس وتظل ترافبه 
طوال النهارء فلا يصل إليك. إلا بعد العشاء بنصف ساعة. وهذا الإقليم شديد 
الحرارة في فصل الصيفء. وكثير البرودة في الشتاء. (إذ تكثر فيه العراصف 
الثلجية» فتكسو الثلوج البيوت» ومخازن الغلال» وغالبًا ما يتبدد مجهود سنة 
بأكملها في يوم واحد بفعل المناخ). 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 369 





قسم كبير من أرض هذا الإقليم خالٍ من الشجر ومن الأراضي الزراعية» 
والهنود وحدهم هم الذين عرفوا كيف يعيشون في هذا الإقليم» إذ إنهم قَدِموا إلى 
هذه السهول على ظهور الخيل فرارًا من وجه المستكشف الأول منذ ثلاثة قرون» 
ثم زاحم رعاة البقر من المهاجرين بماشيتهم» وبعد قتال عنيف دار بينهما اضطرٌ إثر 
ذلك ما تبقى من الجماعات الهندية إلى الرحيل عن هذه المروج التي استوطنوهاء 
وأقاموا سبل معيشتهم في ربوعهاء وفقد الهنود مئات الآلاف من رجالهم في هذ 
الحرب الضروس. وعُرف هذا الإقليم بتربية البقر والغنم. 

يحتوي هذا الإقليم على موارد غنية من الأرض تملا النفوس بالأمل في 
المستقبل» ولم تُستعَلَ بعد. مثل الفحم والفوسفور والفوسفات» كما يوجد النفط 
في بعض أرجاء هذه السهولء وبداً العام يفهمون كُنْه السهول الكبرى. وأخذت 
الأرض تحمّق أمانيهم» فلا غرابة إذا أطلق على هذا الإقليم وأخذ يعرف باسم 
إقليم المآسي والأماني. وفي هذا الإقليم 149 غابة مساحتها 128,000 فدان. 

5 - إقليم الجبال والصحاري الذي يقع بين جبال روكي من الجهة الشرقية 
وجبال صحراء نيفاداء وجبال الأكسيكد غريّاء وكان هذا الإقليم من مساكن الهنود 
احفر الذين كانوا قبل قدوم المهاجرين الأَوّل منتشرين في ربوعه. 

عرف هذا الإقليم بإقليم الذهت: فقد اكتشف في ربوعه مناجم عديدة 
للذهب» مما دفع المتكفق الأول م اسان أن تخامرا بأنفسهم ويقتحموا 
الطريق ويقاتلوا قاطني هذا الإقليم من الهنود الحمرء ويشرّدوهم عن أوطانهم كي 
يصلوا إلى هذا الكنز الثمين. 

من القصص التي رجع بها المستكشفون الأول إلى ديارهم؛ ويلخوفا 
لمواطنيهم حكايات ممتعة للغاية عن الطبيعة» 0 في أقوالهم» 
الأمر الذي اضطرهم إلى إرسال بعثة علمية في عام 0 للتأكّد من حقيقة تلك 
الحكايات» فوجد هؤلاء العلماء المتشككون أثناء زياراتهم 0 رف (أن 
نفريرهم الدقيق يبدو في عين القارىء أكثر شبهًا بالقصص والخيال منه بالعلم 
الواقع» إذ شا دوا جبلا كله من البلور الأسودء هضاب بركانية ذات ينابيع فوارة 
ساخنة؛ وأنهار جليدية بيضاء مفعمة بالزرقة» وبحيرات جبلية بلورية» وأودية عميقة 
خلابة» وشلالات دافقة بمياه بيضاء) . 


30 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





أمّا الأرض الصحراوية في هذا الإقليم فقد اللعتونف و لصي ولم يَبْقّ منها 
سوى 70 ألف ميل مربع» وستمائة ميل في ولاية نيفاداء بين مدينتي صولت ليك 
ورينو فلا يوجد فيها سوى سباخ ملحية» وحفر قلوية» وجبال صخرية عارية, 
وأطلال بلدان هندية بائدة» وثروات معدنية هائلة. 

كان لسد هوفر الذي تم بناؤه سنة 1936م اليد البيضاء على هذه السهول 
الواسعة الجرداء (فأحيا تلك الصحاري المقفرة» وأصبحت الصحاري الحارة فى 
وادي أمبريال تنبت أنواعًا شتّى من فاكهة المناطق الاستوائية» مثل التين» لكين 
الكريفون» البرتقال» والليمونء التي تُشْحَن إلى جميع أنحاء العالم). 

اشتهرت بعض المتنزهات في هذا الإقليم بمناظر خلابة فاتنة (فمتنزه ميسافرو 
- تبدو أرضه للناظر إليه كمائدة خضراء طولها 15 ميلًا بعرض 8 أميال وترتفع عن 
الوادي من تحتها ارتفاعًا حادًا يبلغ حوالي ألمي قدم: ويحتوي هذا المتنزه على 
أطلال المساكن والقرى الهندية الجبلية) ويشتهر متنرّه (يوزمايت) بمساقط مياهه من 
علو 2400 قدمء وأوديته الجليدية ذات الجدران الغرانيتية» تعلو إلى ارتفاع ثلاثة 
آلاف قدم» ويعتبرها الكثير من أجمل وأروع المناظر الطبيعية في العالم قاطبة). 

ولا يزال حتى الآن (بلوستون) أحبٌُ متنرّه للسياح» وقد شُقَّت الطرق الكبرى 
المؤدّية إليه ممّا جعل الوصول إليه أيسر من ذي قبل» وفيه مرشدون من ذوي الخبرة 
يتولّون إرشاد الزوارء إلى الينابيع الفوارة ذات المياه الساخنة» وإلى براكين الطين 
الجامدة» وضواحي الواديء والغابات والأحراشء وإلى المراعي التي نَهِيمْ فيها 
حيوانات أليفة آمنة لا يصطادها أحد. ولا هي تخاف من أحد. 

6 - إقليم الأودية الساحلية الذي يُعرف بكثرة غاباته» وأحراشه التي تمتد على 
المنحدرات الغربية لجبال كسكيدء وأما أشجار البلوط الضخمة في جنوب 
كاليفورنيا فتَعَدَ من أكبر وأقدم الكائنات الحية وقد مضى على نموها ما يقرب من 
ثلاثة آلاف سنة. فقد جادت الطبيعة على هذا الإقليم بتربة خصبة ومناخ معتدل؛ 
فجعلت واديه العظيم من أخصب المناطق الزراعية» فيزرع فيه أصناف الفاكهة 
العديدة» والخضروات المختلفة» وفي وادي الذهب الأخضر يزرع القمح والقطن 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 31#1 





طوال السنة في مزارعه البالغة ثمانية وخمسين ألف مزرعة» وفي مراعيه الخصبة 
الطيبة ترعى الماشية الكثيرة العدد. 

اجتزنا في طريقنا من لوس أنجلوس حتى نيويورك» نهر كولورادو الذي يصب 
في المحيط الهادئ, النهر الذي رَوّض بإقامة عدد من السدود عليه» في مواضِع 
مختلفة منه» ورغم هذا فهو لا 5 يُبدي عجرفته» ويُظهر تمرّده وغضبهء شأنه في 
ذلك شأن : نهر المسيسبي» الذي ب يعتبر أول نهر في العالم» » تجري مياهه إلى مسافة 
أربعة آلاف من الأميال» من منابعه الشمالية في سلسلة جبال روكي حتى مصبه في 
خليج المكسيك. والذي تتجمّع مياهه في ثلثي أراضي الولايات المتحدة 
الأميركية» ويعتبر نهر ميزوري وأوهايو من أهم روافده» وقد روّضت هذه الأنهر 
الثلاثة: مسيسبي». أوهايوء ميزوري بإقامة عدد من السدود عليها وبالرغم من ذلك 
لا يزال الغضب يعاودها من حين إلى آخر فيغمر فيضانها السهول الواسعة التي تمرٌ 
بهاء ويتسبّب جرّاءها في خسائر مادية فادحة للمزارعين من مستوطني تلك الديارء 
فتذهب بماشيتهم وتقسو على مزارعهم» وقد تقضي على بعض منهم . 

يبلغ عدد الأنهر في الولايات المتحدة مائة وخمسة وثلاثين نهرًا منها اثنا عشر 
نهرًا يمتدٌ كل منهما أكثر من ألف ميل ويتراوح امتداد باقي الأنهر من 101 إلى 
1 ميلا . 

أقيم على هذه الأنهر أكثر من مائة سد لترويضهاء وفي سنة 1963م ظهر 
مشروع لإقامة عشرة سدود أخرى. وأول سد بُنِي في الولايات المتحدة هو سدّ 
بونثوك الذي تم بناؤه سنة 1887م2 في ولاية نيوهمشرهء وأمًا أضخم السدود 
الأميركية وأكبرها فهو سدّ غران كولي المُقام على نهر كولومبيا. 

بجانب هذه الأنهار العظيمة» ومياهها العذبة التي ترتوي منها مزارع الولايات 
المتحدة توجد البحيرات الخمس الكبرى» أو البحار الداخلية كما يسمونهاء وهي 
موجودة فى شمال الولايات المتحدة» ويُقدَّر ما تحتويه من المياه العذية» بنصف 
كمية الغياء العذبة في العالم» وتتجمّد مياهها طوال أربعة أشهر. 

كانت رحلتنا من لوس أنجلوس إلى نيويورك هي رحلة المغادرة بالنسبة إلى 
صديقي عبد الحي عامر الذي كنتٌ أشعر أنني سوف أفتقده كثيرًا. فمن نيويورك 


372 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





كان مقرّرًا ركوبه الباخرة إلى مصرء ولم يَخْلُ مسيرنا من مدينة لوس أنجلوس حتى 
مدينة نيويورك من حوادث ومفاجآت حدثت لنا واعترضت سبيلنا أثناء متابعة 
سفرناء وكانت مفاجآت الثمانية والأربعين يومًا التي أمضيناها خلال سفرنا هذا 
مفيدة ومثيرة . 

كان من فوائدها أننا قطعنا المسافة التي تزيد على ثلاثة آلاف ميل دون أن 
يعترينا ملل أو يصيبنا تعب» وشاهدنا معالم البلاد وآثارها التي مررنا بهاء وهذه فى 
حد ذاتها كانت فرصة طيبة بالنسبة إليناء فلقد زادت معلوماتنا عن البلاد ووقفنا 
على ما حََفِيَ من عظمتها وتقدّمهاء وازدهارهاء ولمسنا ما هو أعظم من كل هذا 
ألا وهو انّحاد قاطنيها ووحدة كلمتهم. وهكذا تراءت لنا الولايات المتحدة 
كالمارد الجبّار يدير بيديه القويتين دقّة الكون» أو كالنسر المحلّق في أجواء الفضاء 
باسطا جناحيه على القارات الخمسء» ورأينا بأم أعيننا سهولها الواسعة الخضراءء 
وجبالها الشامخة الكاسية العارية وأنهارها وجّريها المضطّرد وانسيابها بين الحقول 
والمّزارع تسقي أرضها الطيبة وتربتها الغنية» فتزيدها رونقًا وبهجة فتُّنبت الزرع من 
مختلف الأنواع من بقول وثمارء وتُطعم من الضرع ما لا يحصى عددًا. 

استوقفنا صاحب سيارة ضخمة كانت تجرٌ وراءها عربة كبيرة كالتي تنقل 
البترول إلى محطات الوقود. كان طولها أكثر من ستة أمتارء وسألنا سائقها إن كان 
لدينا مفكا يستعيره لدقيقة واحدة ثم يعيده» فلبّينا طلبه» وأجابنا في تلك الأثناء عن 
عدّة أسئلة ألقيناها عليه. من ذلك قوله: 

أنقل كل يوم صباح ومساء على متن هذه السيارة الحليب من المزرعة إلى 
المصنع»؛ وتضمٌ المزرعة بين جدران أبنيتها ثلاثمائة بقرة حلوب وبضع مئات من 
الغنم والماعزء وهناك عدة مزارع يتراوح عدد أبقارها ما بين خمسين إلى مائة 
حلوب. ويصنع من هذا الحليب أصناف عديدة من مواعين كبيرة من الجبن 
ويُستخرج منه الزبد ويوزَّع على المستهلكين بعد وضعه في قوارير وإرساله إلى 
محلات البقالة» ثم ناولنا المفك وانصرف شاكرًا . 

أما المعامل التي وقفنا عليها في سفرنا هذا فكانت لا تُحصى عددّاء ولا تقف 
عجلات بعضها ليلا ونهارّا» والدخان المتصاعد من مداخنها لا يتوقف ومسلخ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 313 





شيكاغو في ولاية ألينوي يعجز القلم عن وصفه. يُذبح فيه يوميّا ما يقرب من عشرة 
آلاف رأس من البقرء وعشرات الآلاف من بقية أنواع الأغنام» وتستوعب 
الثلاجات العملاقة الواسعة الموجودة فيه لحوم هذه الحيوانات وقد تبقى فيها ما 
بين ثلاثة أشهر إلى سنة» ويوْحَذْ كل يوم منها كميات هائلة من اللحوم لتورّعَ في 
طول البلاد وعرضها . 

في كل ولاية جمعيات تعاونية» وإِنَّ المرء لتعتريه الدهشة» إذا علم أنَّ كثيرًا 
من هذه الجمعيات أسّس برأسمال زهيدء عشرين ألف دولار أو أقل» ثم تضاعف 
رأس المال هذا حتى تجاوز البليون دولار»ء وإن بعضه يدرٌ من الأرباح على 
المساهمين مبالغ طائلة» خمسة ملايين دولار وأكثرء وهؤلاء المساهمون يبلغون 
عشرات الآلاف من البشر. 

تتوقف عظمة هذه البلاد - وفي الحقيقة جميع بلدان العالم - على العمل 
والإنتاج» وبقدر ما يضخم الإنتاج ويكثر العمل تتقدّم البلاد» إن معظم أبناء هذه 
البلاد من الذكور والإناث منكبّون على العمل» وإنْ ساعات العمل محتّرّمة لدى 
الجميع» فالتاجر والصانع والمزارع والموظف وأصحاب المهن الأخرى كل واحد 
بعمل ثماني ساعات من ساعات الليل والنهارء حتى إذا انتهى من عمله أخذ نصيبه 
من الراحة والمرح والتسلية. 

لا يَسَع الغريب المتجوّل في البلدان الأميركية» الواقف على بعض أحوالهاء 
والمتتبّع لأخبارها والمندمج مع شعبهاء لا يسعه إِلَا أن يعطيها حقّها من العظمة 
ويقذرها حقٌّ قدرها. 

عندما كنت برفقة عبد الحي عامر كنا معًا في مقتبل الشباب» والشباب يميل 
عادة إلى اللهو والمرح ويتحيّن الفرص ليجد له لذة يلهو بها ويتمتّع» مع أننا كنا من 
المحافظين وشديدي التمسّك بالفضائل الخلقية الحسنة» إنما من العبث كبتٌ 
الشباب والحيلولة دون نزوات هذه السن وميوله أو صدّه عن طريق أنسه ومرحه»ء 
خاصة في بلاد كالولايات المتحدة الأميركية» فيها من الحرية ما يحمل المرء على 
اشن أو يساس عي ولو كا :سيك مكبر كه الحتدن اماه 

لم نكن وصديقي في سفرنا مثل اللذين كانا يسيران في الصحراء على 


314 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





مطاياهما فقعدا يومين دون كلام وحتى إذا مرا بوادٍ قال أحدهما للآخر: هل هذا 
هو الوادي الفلاني؟ فأجابه صاحبه: اسكت لقد صدّعتنا بكثرة كلامك. بل كنا 
كعجائزء لم نُعْطٍ ألسنتنا الراحة. كنا نخوض في شتى المواضيع منها ما كان طريئً 
مستحدنّاء ومنه ما كان دون ذلكء ومرارًا قاطع أحدنا الآخر وغيّر مجرى كلامه, 
ولو كان لدينا مسجل نقل حديثنا ثم أصغينا إليه بعد ذلك لضحكنا كثيرًا . 

كان أغلب حديثنا يتناول الوقت الذي أتيح لنا قضاؤه في ربوع كاليفورنياء 
نستعرض ما لقيناه في ربوعها من أوقات جميلة» وذكريات طيبة حافلة بالمسرّات, 
تذكّرنا أنديتها ومجتمعاتها وما واكبنا من أنس ومسرّة» مع تردّدنا على متنزهاتها 
الفسيحة العطرة ومروجها الخضراء النضرة»؛ وأشجارها الباسقة الوارفة» وتلولها 
المنتشرة هنا وهناك. 

لم نَدَعْ حادثًا من الحوادث إِلَّا وأتينا على ذكراه حتى ماسح الأحذية ذاك 
الشاب المؤدّب الممشوق القامة صاحب السحنة الداكنة» المرتدي للثياب البيضاء 
الناصعة» وسيارته التي كان يستخدم داخلها لمسح الأحذية» كما كان يستعملها 
للتنرُه هو وأسرته في أيام العطل الأسبوعية. 

وذاك الفتى اليافع بائع الجرائدء الذي كان واقفًا على مفترق الطرق محملا 
بالجرائد اليومية» وذلك عندما أوقفنا سيارتنا عند إشارة الضوء وأخذنا نردّد أغنية 
جديدة لأم كلثوم فلم يعجبه نغمها أو لنقل لم يفهمه» فالتفت إلينا مازحًا والابتسامة 
مشرق بها وجهه وقال ما معناه: أرجوكما تغيير الراديو. 

لم نَبثْ طيلة سفرنا في أيّ مدينة أو قرية» فقد كنا نأخذ راحتنا ليلّا في فنادق 
صغيرة قائمة خارج المدن على الطريق العام» معدَّة للسكن فيهاء وتحتوي على 
أسباب الراحة ما يحمل المرء على تفضيلها على فنادق المدينة» فالماء الحار 
والراحة التامة والهدوء والخدمة الممتازة» كل ذلك كان متوفْرًا في تلك الأماكن 
وكان أكثرها محطات بحداتق ذات بهجة فيها لذّة للناظرين» وأزهارها الملوّنة 
منتشرة في كل ركن من أركانهاء كما أن قسمًا من هذه المساكن أقيم في وسط 
الغابات حيث ظللته أغصان الأشجارء مما جعل جوّها منعشًا فيه من المتعة نصيب 
كبير . 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 375 





ألقينا ورفيقي عبد الحي عصا الترحال في مدينة نيويورك» وكانت زيارة كل منا 
الثانية لهاء وحللنا في أحد فنادقها المتواضعة» ولم نغادره في اليوم الأول لوصولنا 
حيث ذهبنا في الصباح التالي لزيارة القنصلية المصرية بغية السلام على سعادة 
القنصل شوقي بك. فرحب بنا وأكرم مثواناء ولم يَبْقَ لصديقي عبد الحي عامر غير 
ثلائة أيام يقضيها في نيويورك ومن ثم يغادر الولايات المتحدة الأميركية» توجهًا 
إلى الوطن العزيزء بعد أن مكث في ربوعها سنتين كاملتين» كان خلالهما يغرف 
من مناهل العلم حتى نال مبتغاه من العلوم» واستغللنا فرصة الأيام المتبقية لتمنّع 
النفس ونُشبع الرف بمشاهدة معالم نيويورك. ذهبنا في اليوم الأول لمشاهدة بناء 
أمباير ستيت الشاهق» ووقفنا على سطح الطابق الثمانين من طوابقها الاثنين 
والمائة» فبانّت لنا معالم المدينة من أبنية شاهقة وشوارع عديدة واسعة مع متنزهها 
.البديع - سنترال بارك - القائم في وسط المدينة في أحسن بقعة منهاء. وعندما 
أطللنا على شوارعها من هذا الارتفاع الشاهق بان لنا المارة وكأنهم أقزام يُحبون 
على الأرض» نظرنا من خلال المنظار المكبر الموضوع على سطح البناء فرأينا 
ميناء المدينة الكبير والبواخر العديدة القادمة إليه والمغادرة له وغيرها من السفن 
الراسية فيه» لقد كانت مناظر يصعب أن تمحوها من المخيلة الأيام» فقد تمنّع 
البصر فيها كثيرًا . 

بعدها دخلنا إحدى الصيدليات التي تبيع الطعام لنستريح قليلاء وطلب كل منًا 
فنجانًا من القهوةء وشرعنا نروّح عن أنفسنا بارتشاف القهوة» ولا يُستغرب المرء 
إذا ترف أنْ في أغلب الصيدليات الموجودة في الولايات المتحدة مكانًا مخصّصًا 
في أحد أركانها يقدّم فيه للزائرين السندويش من بيض وجبن ولحم والمشروبات 
الخفيفة من مرطبات وقهوة. وقد يتساءل الإنسان عن صلة بيع الأدوية ببيع الطعام 
في مكان واحدء ولعلّ مردّ ذلك الصلة بين الطعام والدواء» فالطعام هو الأساس 
في معالجة كل داءء وعلق صديقي عبد الحي على ذلك مازحًا بقوله: ربما سبب 
هذا الإجراء أنه إذا اشتكى إنسان من ألم ناجم عن كثرة تناول الأطعمة» لا يحتاج 
للذهماب بعيدًا لإحضار العلاج» بل سيجده في متناول يديه» وبصرف النظر عن هذا 
المزاح هناك أمر اقتصادي حَبّب إلى أصحاب الصيدليات ممارسة هذا العمل هو أنّ 


376 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





جميع الأدوية نُصنع في المعامل ولا يحتاج الصيدلي أن يقوم بتركيب أي دواء فى 
صيدليته لذا يجد الصيدلي منّسعًا من الوقت يخصّصه للاستفادة منه ماديا والحصول 
على مزيد من الأرباح» والشعب الأميركي يسعى دومًا لإيجاد السّبل التي تدر علي 
الأرباح» وغادرنا الصيدلية وأخذنا طريقنا في الأفينيو الخامس مارّين بالمحلات 
التجارية» نتلهّى بالنظر إلى المعروضات التجارية في واجهاتها ومداخلها ونى 
جنباتها حتى وصلنا المبنى الفخم الذي تشغله المكتبة العامة وهي مُقَامّة على 
شارعين في الجانب الشرقي من نيويورك ومررنا بشوارعها الجميلة المنسّقة الواسعة 
حتى وصلنا إلى جسر جورج واشنطن» وهو جسر فريد من نوغه كبير يختلف في 
تركيبه وهندسته عن غيره من جسور العالم» وهو قائم على ركنين متينين ويصل 
نيويورك بولاية نيوجرسيء. ووسط هذا الجسر مشدود بأسلاك فولاذية متينة تمنعه 
من السقوط. إنها والحق يُقال قوة هندسية جبارة. وشاهدنا في المساء فيلمًا 
سينمائيًا في راديو ستي وشاهدنا فرقة العرض المقامة في مسرحه الواسع» وكان في 
العادة يعرض في راديو ستي الأفلام المتميزة بجودة الإخراج وكبار الممثلين وجودة 
الأداء وأفضل المناظر وأروعها مع نفاسة الموضوع وقوة التعبير ويستمر عرض 
بعض الأفلام في هذه الدار سنة أو دون ذلك بقليل ولشدَّة الزحام يجد المرء أنَّ 
عليه الحجز قبل يومين أو ثلاثة» وكان العرض يستغرق أربع ساعات يليه عرض 
آخر قوامه خمسون فتاة كنَّ يقمن بألعاب جميلة وبرقصات شيّقة تأخذ بالألباب. 
استيقظنا في اليوم التالي باكرّاء أثناء تناولنا لطعام الإفطار قال رفيقي عبد الحي 
بصوت خافت والعَبّرة تترقرق في محاجره: تعلم أيها الصديق» لقد مضى على 
مكوثي في ربوع هذه البلاد عامان فقط. اكتسبت خلالهما علمًا وفيرَاء وازددت 
خبرة ومعرفة عن هذه البلاد وعن شعبهاء وإنني سأغادرها وقلبي مفعم بالحزن على 
فراقهاء إنها بلاد عظيمة في جميع مرافق الحياة الاقتصادية والعلمية والاجتماعية 
والثقافية مما لا تجده في غيرها من بلدان العالم» إن الغريب إذا طالّت مذّة إقامته 
في بلد من البلدان يشعر بملل وفتور ويتركّب بفارغ الصبر اليوم الذي يتسنّى له فبه 
مغادرتهاء ولكن هذه البلاد تختلف عن غيرها في نظر الغريب اختلاقًا كبيرًاء فكلّما 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 377 





أطال إقامته في ربوعها ووقف على ما بها من مُتَع الحياة ومن أمن ورخاء وحرية 
نى المعتقد والقول والعمل ازداد حبّا لها وشغمًا بهاء وقدّرها حق قدرها أليسن 
جززلقبيا ليل 19 إن هنا هو موري تتدوعها وتعو رلا رمتي ماحم اماق أردف 
تائلا : هل سنرى أوطاننا وهي سائرة رافعة الرأس نحو هذا المستوى الذي تسير 
عليه هذه البلاد»ء هل سنراها صاعدة إلى أعلى بخطوات ثابتة قوية» هل سيتستّى لها 
يومًا أن تساير ركب الحضارة» وتسير فيه بخطوات ثابتة وقوية» وتقطع الطريق 
المرسوم وتبلغ منتهاه. هل سيتسامح زعماء بلادنا ويطرحون عنها جانبًا حب 
الظهور والسيطرة على الحكمء الأمر الذي يؤدي إلى خراب البلاد ويوقِفٌ عجلة 
العمل اقتصاديًا وعلميًًا وخلقيًاء هل ستستعيد بلادنا ما أهملته من العلوم والفنون» 
وتستردٌ حريتها المغتصبة وتستثمر خيراتها؟؛ ثم رفع رأسه نحو السماء يستمد منها 
القوة وقال: اللهم حقّق لأوطاننا ما تصبو إليه من العرّة والرّفعة والمجدء وهيّىء 
لقاطنيها أسباب القوة والسعادة وألّف بين قلوبهم واجِعَلّهم يعرفونك حقٌّ معرفتك» 
ويقدّسونك أكثر مما يفعلون إنك سميع مجيب الدعوات. 

هنا ترقرقت من عينيه دمعة غمرت مقلتيه بعض الوقت. لم أعلم سببها هل كان 
حزنه على مغادرة هذه البلاد أم حزنًا على وطننا العربي وما حل به من بؤس 
وتعاسة وشقاءء وما مُنِيَ به من تفرقة وخذلان. 

كان هذا اليوم موعدنا لزيارة البلدة الصينية المُقامة في داخل مدينة نيويورك» 
فكل ما فيها صيني» هندسة بنائهاء بضائعها ذات الألوان الزاهية» حتى سكانها 
نختلف ملامحهم ووجوههم وعيونهم» وهذه البلدة أصغر حجمًا من البلدة الصينية 
في سان فرانسيسكوء ولكنها لا تقل شأنًا عنهاء وكان يقطنها خمسمائة نسمة كلهم 
صينيون» ولهذه البلدة طابعها الخاصء والهدوء الشرقي يتجلّى في كل مظهر من 
مظاهرها في البيع والشراء» والمشي والكلام؛ ولم تقع عيني على أحد يسير 
مسرِعًاء فلا ضجيج ولا غوغاء» بل سمت شرقي ورزانة وهدوء» ويفضل العديد 
من زوار هذه البلاد تناول وجبة من وجبات الطعام في أحد مطاعمهاء وأقدمت 
على ذلك وكانت المرة الأولى التي تذوّقت فيها الطعام الصيني» وكان طعامًا خفيقًا 


318 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





وقال صديقي عبد الحي: : هل سبَّقَ لك زيارة كوني أيلاند؟ فأجبته بالنفي, 
فقال: إنها تبعد أربعين ميلا عن نيويورك فهيًّا بنا إليها . 

كان الطقس يميل إلى البرودة» فشعرنا عند وصولنا إليها برطوبة الجو. ولم 
نجد كثيرًا من الناس هنالك» فعْدنا أدراجنا إلى الفندق» ولم نغادره في تلك الليلة, 
حيث أخذ صديقي يهتم بجمع أوراقه وملابسه. ووضعها في حقائبه» والاستعداد 
لمغادرة الولايات المتحدة عصر اليوم التالي: 

كان هنالك مطعم قريب من الفندق الذي حللنا به في الأفينيو الثالث والشارع 
الأربعين» تختلف معاملته لزبائنه عن بقية المطاعم الموجودة في العالم» يدخل 
الزبون إلى المطعم» ويتناول صينية مع أدوات الطعام كالملعقة والشوكة والسكين 
وكأسًا من القاي ثم يتوجّه نحو قدور الطعام المُقامة قرب المدخل» فيجد وراء كل 
حلّة من حِلَلِه الكبيرة رجلا يقوم بغرف الطعام؛ وبجانب قدور الطعام طاولة كبيرة 
تحتوي أنواعًا مختلفة من التوابل والفاكهة» فيختار ما يعجبه ثم يجلس ويتناول 
طعامه ولا يجد من يخدمهء بل يقوم هو بخدمة نفسه. وإذا كان لا يزال لديه شهية 
يذهب ويُحضر ما يشتهيه من الطعام» ويجد الزائر أسعار كل صنف من الأطعمة 
مدوّنًا إلى جانبه» إلى هذا الحدّ لا شيء مستغرب» ذلك أن مطاعم الخدمة الذاتية 
منتشرة في نيويورك ولا تختلف عمًّا أوضحناه إِلّا بدفع الثمن مقدَّماء أما في 
المطعم فوجه الغرابة فيه أنَّ صاحبه يثق بعملائه» فالزائر يعلم مقدار ما أكله وثمنه» 
بعد انتهائه من الطعام يتوجّه إلى الصندوق فيدفع ثمن ما أكله من دون أن يسأل عن 
مقداره» ويترك له صاحب المحل الحرية التامة ليدفع ما يريد دون تدقيق. 

ولمّا كان من سنَّة الغريب ومن عاداته شغفه بحب الاستطلاع والوقوف على 
كُنْه ما يراه غريبًا في بعض الأحيانء ألقينا على القائم بشؤون ذلك المطعم عدَة 
أسئلة استفسرنا بها عمًّا شاهدناهء فأجابنا بقوله: 

إنَّ من عادة المطعم التي سنّها مؤسسه الثقة بالروادء ولذلك ترك لهم الحرية 
التامة بدفع ثمن ما يتناولونه من الأطعمة. هو حدّد سعر كل صنف ومنّحٌّ الزائر 
الثقة» ويستغرب الزوار الأجانب أمر هذا المطعم ومعاملته لروّاده» ولهم الحق 
بالتعجب». ثم أردف قائلًا : 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 319 





إن السارق إذا عهد إليه بالمحافظة على أموال غيره أو أي حاجة تُرِكَت في 
ييه اتجدم خريضًا عليه محافظا على ما اتثين علية.وذلك على الرغم من أنه 
رارق» وذلك باستثناء نفر قليل ممّن مجيلوا على الشرّ في التصرّف» وتشرّبت 
زنوسهم بحب السرقات» وهذا أمر نادرء والنادر لا حُكم لهء وإذا ترامى إلينا أنَّ 
أحد الرواد لم يصدق القول تركناه يقوم بعمله عدة مرات» وأخضعناه للمراقبة» فإذا 
تحقّق لدينا أنه مُصِرٌ على سلوكهء نعلمه عندئذٍ بصورة مهذبة إنما حازمة حاسمة» 
وآنذاك يخجل ولا يعود إلى المطعم ثانية» ونحن نمارس هذا العمل منذ سنين» 
وقد نجحنا بعملنا هذاء ولذلك فتحنا مطعمًا آخر في إحدى جهات نيويورك. 

جمع صديقي عبد الحي عامر أمتعته» وغادرنا الفندق معًا إلى ميناء نيويورك؛ 
وودّعته وداعًا حارّاء وامتطى ظهر الباخرة» ووقفتٌ على رصيف الميناء أرقب 
الباخرة حتى غابت عن الأنظار. 

وبقيت وحدي في هذه المدينة العظيمة الصاخبة ذات الحركة الدائبة الدائمة» 
حيث لا يتسنّى للمرء الراحة فيها لا سيما وهو يرى سكانها يغدون ويروحون كخليّة 
من النحل كل واحد منهم يسعى في سبيل رزقهء فلا مجال للهدوء في هذا المعترك 
والخضم العظيم من الحياة» ولا بد من إيجاد عمل حتى يمكن للمرء المضي في 
معترك الحياة في هذه المدينة العملاقة. 





الوفد السعودي لذن وصوله القن سان فرالسيسكو عام 5 م. ٠‏ ويضم الوفد 
الأمراء فيصل ومحمد وفهد وعبد الله الفيصل ونواف بن عبد العزيز وكان عمره 3 عاماً 
وحافظ وهبة. وفي فى الصورة المؤلف بين الأمير محمد وحافظ وهبه. 


52 79 5 1 


.- 3 3 . ات .5 2( | ٠‏ < فهد بن عبد لعزيز 
على و 


بن عبد العزيز وعلي زينل . 
نواف بن عد 
وعبد الله الفيصل ونو 





/ 


- 0 0 . 5 2 
ل . 1 0 
برشن - . 
ا در 


صفحات مطوية من تاريخنا العربي اا 











١ 5 5‏ : معي بن 
ا ' 1 1 يذ" " 


: ع شركة أزا في سان فرانسيسكو عام 01945 / 
الأمراء فيصل ومحمد وفهد مع بعض مدرا شركة أرامكو في 


ا 





1ل إلى الولايات المتحدة الأميركية 363 








كر 1 


الأمير فيصل بن عبد العزيز بالزيّ العسكري - 1945م 





قاقد قرقة النيابات الأبيركية يرشب بالآمير فيضل ين عبد العريز --:48هاام 





الأمراء فيصل ومحمد وفهد ونواف أبناء الملك عبد العزيز والشيخ علي رضاء 
سفير السعودية فى واشنطن» وحافظ وهبة وعبد الله السليمان ورشاد فرعون 
وخليل الروال - ساق غرالسسر - فار 





الأميران فيصل بن عبد العزيز وفهد بن عبد العزيز وعلي رضا مع بعض الأميركيين. 
سان فرانسيسكو - 1945م 


جرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 385 


الأمير فهد بن عبد العزيز وعن يمينه الأمير نواف بن عبد العزيز» وعن يساره خليل الرواف. 
ويظهر بعض مرافقي الأمير فهد - سان فرانسيسكو - 1945م 


5 
١ 


'ش 


/ 





الأمير نواف بن عبد العزيز والأمير عبد الله الفيصل والأمير فهد بن عبد العزيز ورشاد فرعون» 
ومرزوق الريحان واقفا. سان فرانسيسكو - 1945م. 


3566 صفحات مطوية من تاريخنا العربى | 





بهل 





الأمير فهد بن عبد العزيز ومعه فواز الشعلان وفاعور الفاعور وحسن الأطرش» 
وهم أعضاء في البرلمان السوري - سان فرانسيسكو 1945م 





الأميران فهد بن عبد العزيز وعبد الله الفيصل وفواز الشعلان» 
ويقف خلفهما المؤلف - سان فرانسيسكو 1945م 





جرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 367 


الأمير فهد بن عبد العزيز وعن يساره الأمير عبد الله الفيصل وخليل الرواف 


وعن يمينه رشاد فرعون. فندق كليبر - سان فرانسيسكو 1945م 





الأمير فهد بن عبد العزيز وخليل الرواف مع أحد الأميركيين عام 1945م 





الأمير فهد والأمير عبد الله الفيصل والأمير نواف بن عبد العزيز 
وخليل الرواف ورشاد فرعون كليفورنيا 1945م 








الأمير فهد على ظهر إحدى الدبابات في سان فرانسيسكو 1945م 


[يجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 





الأمير محمد بن عبد العزيز والأمير فهد بن عبد العزيز 
وحافظ وهبة وخليل الرواف (سباق الصورة) 





الأمير نواف بن عبد العزيز والشيخ ابن شعلان والمؤلف 
وعلي حسن الأطرش - سان فرانسيسكو 1945م 


23320 صفحات مطوية من تاريخنا العربى | 





الأمير نواف في زيارة لمدرسة أطفال أميركية - 1945م 


هجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 311 





الآمير نواف بن عبد العزيز مع ذياب الجوهر ومرزوق الريحان - 1945م 














ال 7 
مير فهد بز 
بن عبد العزيز والأمير نواة 
ير نواف بن عبد العزيز 
وصالح العباد 





الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 2303 





المؤلف مع الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز في نيويورك 
وفي الصورة مرزوق الريحان واثنان من مرافقي الأمير 





الأمير عبد الله الفيصل وبجانبه ذياب الجوهر ويقف المؤلف خلفهما 
سان فرانسيسكو 1945م 




















الأمير نواف بن عبد العزيز في منزل المؤلف في ثيويورك عام 1945م 
وبيده مجلة لايف التي ظهر على غلافها الملك عبد العزيز 





الأمير عبد الله الفيصل ونواف بن عبد العزيز 
وسليمان عقيل » ويبدو المؤلف واقفا م 5م 


: ة إلى الولايات المتحدة الأميركية 





الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز 
في منزل المؤلف في نيويورك 1946م 





المؤلف يقف بين الأميرين فيصل بن عبد العزيز 
وخالد بن عبد العزيز - نيويورك 1945م 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 3567 





الفصل الثالث عشر 





مشروع بناء مدينة للمسلمين في فلوريدا 


مضت ثلاثة أيام على مغادرة صديقي عبد الحي عامر للولايات المتحدة» كنتٌ 
خلالها أشعر بالراحة» وماذا عساي أن أعمل في هذه المدينة التي لا مجال لغير 
المُجِدّ الكادح للإقامة بها؟ وكانت نفقات الفندق باهظة» ولم يكن لدي من المال 
سوى النزر القليل» ولم يكن بإمكاني حتى فتح محل صغير يعود علي بفائدة قليلة 
تحول بيني وبين سؤال الناس العون وهدر ماء الوجهء ولقد كنت آنذاك في مقتبل 
الأرفيات من العدن تحتفظا بحيويتي ونشاطي» ورأنت أنه ليس أمامي إِلّا أن 
أعمل مستخدمًا لدى واحد من التجار العرب» حتى يهيّىء الله من أمري مخرجًا . 

غادرت الفندق متوجها إلى إحدى ضواحي نيويورك؛ وقصدت حي بروكلن 
أفتش عن غرفة أسكنها بدلًا من الفندق الذي تطلَّب السكن فيه كمية من المال لم 
بكن بمقدوري تحملهاء وكان كل ما تبقّى معي بضعة دولارات فقط» وكانت 
المعيشة في هذا الحي لا تتطلب نفقات كثيرة» ووجدت السكن وعدت إلى الفندق 
وأخذت أجمع أمتعتي وفي تلك الأثناء رن جرس الهاتف. وكان المتحدّث شوقي 
بك؛ قنصل مصرء حيث خاطبني قائلًا: إذا لم تكن مشغولًا أرغب في حضورك 
إلى القنصلية» وتوجّهت إلى هناك فوجدت لدى القنصل أحد الأميركيين الذي قدّم 
نفسه بالسيد أفنس» وأخبرني القنصل أن المستر أفنس لديه خيول عربية سيعرضها 
في مدسن سكوير غاردن» حيث إن المعرض العالمي للخيول سيفتح أبوابه بعد أيام 
فليلة» فهل لك أن تمتطي أحد الخيول في هذا المعرض؟ وهناك جائزة مالية 
ستُعطى للمتفوقين» فإذا كنت أحدهم فإن المستر أفنس سيتنازل لك عنها . 

لم أقبل العرض لعدم معرفتي بهذا المعرض» وظنًا مني أنه مثل بقية معارض 
البلاد» وهنا غادّرّنا السيد أفنس قائلا: هاك العنوان إذا غيّرت رأيك بإمكانك 


5308 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





الاتصال بي. وبعد مغادرته شرع القنصل يحدّئني عن المعرض ويبيّن لي أهمينه 
وقال: إننى لا أرى مانعًا يحول دون إجابتك لهذا المطلب» إن أصحاب الخيول 
بأنفسهم». إنهم سيجلبون خيولهم من جميع الولايات المتحدة الأميركية, ومن 
المكسيك» وكنداء وحتى من لندن للمشاركة خصيصًا في هذا العرض الدولى, 
وسيقام احتفال فخم في اليوم الأول من افتتاحهء وسيحضره خلق كثير من مختلف 
الطبقات والجنسيات» وهذه فرصة أمامك لا تَدَعها تفلت من يديكء لو لم يكن 
لك فيها فائدة إِلَّا التعرّف على بعض الرجالات كنت من الرابحين» هذا عدا 
نفقاتك اليومية وما تتطلّبه من مسكن ومطعم الذي سيتكمّل به السيد أفنس» ولول 
تكن عزيرًا على الصديق عبد الحي عامرء الذي أوصاني بكء لما وقع اختياري 
عليك دون سواككء فوافقتٌ على الفكرة وانّصلت بالسيد أفنس وأخذني في صبيحة 
والعشرين بين الأفنيو الخامس ومدسن أفنيوان» مدسن سكوير غاردن من الملاعب 
الوانيعة قن مدينة نونو ل تمازي"فنه الألعات الريافية انه دكساريات النضن 
والملاكمة والمصارعة والقفز والتزلّج على الجليد» وتُعرّض فيه الألعاب البهلوانية 
والحركات الرياضية» كما إبنتا عجن كمعرض للسيارات والآللات الزراعية القليلة 
وغير ذلك من أنواع المعارض التجارية والاقتصادية» وكان لدى السيد أفنس 
حصان عربي أصيل وفَرّسان عربيتان» فروّضت إحداهما حتى لان قيادهاء وظهرت 
من أرباب الخيول في المعرض مرتديًا ملابسي العربية» لكنني لم أوقق بنيل الجائزة 
المالية. فقد كانت من نصيب السيدة وليم بين ماكول». فقد فازت على عشرين 
فارسًا كنت من جملتهم ولكنني كما يُقال: «لم أخرج من المولد بلا حمص»» فقد 
نُشِرت صورتي في اليوم الثاني في أول صفحات ثماني صحف تصدر في نيويورك؛ 
وجاء في جريدة ورلد تلغراف بقلم المحررة بتريكا كوفن وصفٌ لي بشكل دقيق؛ 
وكان ممّا قالته: «إنه لجذاب يلفت الانتباه إليه» كما تلفت السيدات المتحليات 
بالجوافز والفزاء الاقناة» لقذ اسهولئ على لبهن وعنٌ يشناهدن العرض ليلا». 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 2309 





3 
- 


بعد عشرين يومًا انقضت على هذا العرض تلقَّيت رسالة من صديقي عبد الحي 
عامر يقول فيها: كنت لا أصدّق عيني ولا أذني عندما بانت صورتك وظهر اسمك 
الكامل في جريدة الأخبار السينمائية لدى دخولكم معرض نيويورك العالمي في 
مدسن سكوير غاردن» عساك قضيت وقنًا جميلًا في أروقته وتحت سقفه الشامخ؟ 

دام عرض الخيول المختلفة في مدسن سكوير غاردن مدَّة أسبوعين. وقد 
أحرزت خيول المكسيك قصب السبق في قفز الحواجز. وجاءت خيولها في 
الترتيب الأول في هذا السباق» وكانت الخيول الكندية هي الأولى بين خيول الجر 
الفردية للعربات» وكان منظرها جميلًا رائعّاء وكانت لبقة في جريانها وحركات 
أيديها واستقامة رؤوسها. 

نالت الجياد الإنجليزية والأميركية جوائز عديدة في الفروسية وكانت الشرائط 
الزرقاء التي أشارت إلى أوائل الجياد الفائزة ترفرف بزهو على نواصيها. 

خامرني بعض السرور عندما علمت أن جورج واشنطن الرئيس الأميركي 
الأول وأبا الشعب الأميركي كان يفضّل امتطاء صهوة حصانه الأبيض العربي 
الأصيل ولا سيما في الاحتفالات الرسمية» وقد تملّكتني الدهشة عندما عرفت أن 
ثلائة عشر ألف رأس من الخيول العربية الأصيلة منتشرة في أنحاء الولايات 
المتحدة الأميركية؛ وذلك حسب إحصاء عام 1357ه (1938م). 

اجتمعت في بعض الأحيان مع أرباب الخيول وكان يذهب بنا الحديث نحو 
البلاد العربية» وكنت اتَّحْذها فرصة لأتحدّث عن العادات والأخلاق العربية وإلى 
بيان ما وصلت إليه بلادنا من تقدّم اجتماعي وأدبي ووعي سياسي. ولم يَخْلُ الأمر 
من ذكر للتاريخ العربي وماضي مجد الأبطال وسؤددهم يوم دان للعرب نصف 
الكرة الأرضية؛ وذلك خلال أقل من مائة سنة» ففي تلك الأثناء تشرّبت نفوس 
الملايين من البشر مبادىء الإسلام؛ واعتنقت شعوب كثيرة ما جاء به الإسلام من 
عقيدة للتوحيد خالصة رغبة منها لا قهرًا ولا إجبارّاء فقد آمن العرب بمبدأ «لا 
إكراه في الدين» وطبّقوا مبادىء الشورى والديمقراطية مما كان له أبعد الآثار. 

كنت خلال ذلك كله أستشهد بأقوال بعض كنَّابٍ الغرب من أمثال هنري دي 
كستراء وغوستاف لوبون وودسنء وقال آخرون: إن فتوحات العرب في دولة 


400 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 
ا تت 251 ا 5 1015 ارك رد وو العا اك ادي ارين 


الإسلام من القرن السابع حتى القرن الخامس عشر تُعَدُ إحدى عجائب التاريخ, 
ومن المدهش أن يصبح العرب عنصرًا فاتحًا وأن يصيروا سادة نصف العالم في 
مائة سنة» بينما قضى الجرمانيون ألف سنة لما فتحوا الإمبراطورية الرومانية حتى 
قضوا على التوحُش ونهضوا لإحياء العلوم. 

كان من بين هؤلاء القوم الذين تبادلتُ الأحاديث معهم رجل في الأربعين من 
عمره» فنهض قائمّاء وقاطعني بقوله وهو رافع صوته: إن المسلمين استعملوا 
العنف والقوة وسلطوا سيوفهم على رقاب الشعوب أثناء حروبهم. وأجبروا 
| لشعوب على اعتناق الإسلام. 

فقلت له: هوّن عليك أيها الرجل إن مجلسنا هذا ليس بمجلس مناظرة 
وجدال» وعلى كل حال أترّك الكاتب الفرنسي هنري دي كسترا يرد عليك إذ يقول: 
إن أتباع محمد هم وحدهم الذين استطاعوا الجمع بين الرفق في معاملة مغلوبيهم 
والرغبة في انتشار دينهم . وجاراه بذلك الكاتب الفرنسى الشهير غوستاف لوبون إذ 
يقول: ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب. 

إنهم هم الذين أتوا أوروبا بما أتوها به من مدنيّة أنعشتها الماديات والعقليات 
والأخلاق.. وهم وحدهم الذين فازوا بنشر المواد الجوهرية عن المدنية» وأعني 
بها الدين والأوضاع والصنائع بين عناصر جديدة من غير عناصرهم» وإذا نظر المرء 
في صنائعهم وفنونهم لا يسعه إِلَّا الاعتراف بأنه كانت لهم ميزة خاصة لم تبلغها 
أمة. . وقد اضمحلت دول العربء ولكن أعظم عناصر مدنيتهم وهي: الدين 
واللسان والصنائع لا يزال حيًّا قائمًا.. وإذا قِسْتَ العرب بالشعوب الأوروبية 
الحديثة أمكنك أن تقول: إنهم من حيث العقل والأخلاق أسمى مكانة من كل 
الأمم التي عاشت قبل النهضة»ء وقد فاقوا بأخلاقهم أجدادنا بكثير. تلك شهادة 
لوبون الفرنسي غير المسلم . 

كان الرجل الذي يناقشني مغاليًا في أقواله غلرًا كبيرّاء فحاولت أن أسئَّلَ منه 
هذه الضغينة» أو أخفف عد غضبه» فلم أوفق» وأصرّ على ما كان يعتقده عن 
العرب والإسلام إذ تلقّى معلوماته من أحد أساتذته عندما كان تلميذًا في جامعة 
كاليفورنياء فبهذا أجابني» وأردف قائلاء كل له رأيه ومعتقده. فأجبته إن كنت 


الهجر ة إلى الولايات المتحدة الأميركية 1401 





ا ولك ما كرضنه ومفاجه وله أن يفتعه ها يريك فقن 
في القرآن الكريم قوله تعالى مخاطبًا نبيه يكله: «لكّْ وبتك وى دبن274. 


السيد أفنس». صاحب الخيول العربية» إنجليزيّ في الأصل جاء من البلاد 
الكندية» وكان يّمْتّ بصلة من القربى بعيدة للأسرة المالكة في بريطانيا وكان لديه 
نطعة أرض فسيحة في ولاية فلوريدا تبعد ميلين عن بلده دونيدن» وقد فاتحني بعزمه 
على إقامة مدينة على أرضه تأخذ الطابع العربي وأنه سيقوم ببناء مصانع خفيفة 
فيهاء ويرغب في أن يسكنها من أراد من أبناء العروبة المقيمين في الولايات 
المتحدة» وستكون هندسة بناء هذه المدينة حسب الطراز الشرقي ل وقد 
دعاني لقضاء فصل الشتاء في فلوريدا ضيفًا عليه وأردف قائلًا: إن فصل الشتاء من 
أجود فصول السنة في فلوريداء فهل لك أن تقضيه في ربوعها الجميلة؟. وكنت ما 
أزال مغرمًا بحب الأسفار فقبلت دعوته» وقبل أن نغادر نيويورك إلى فلوريدا تلقّيت 
دعوة من مذيع الراديو المشهور لولا تامسء لتناول الغداء في نادي الأخبار 
الإعلانية الذي كان يرأسه. وكانت مهمّة هذا النادي القيام بالإعلانات والدعايات 
لكثير من أصحاب المصانع والشركات التجارية. وكان من عادات هذا النادي قيامه 
في مطلع كل أسبوع بتوجيه الدعوة إلى رؤساء الجامعات والكليات والأطباء» 
وبعض محرري الصحف والأدباء والفنانين مع بعض رؤساء البنوك» ولقد كانت 
هذه الدعوة خليطا جمع مختلف الطبقات. وكان لولا تامس من مواليد مدينة 
بيروت عاصمة لبنان» ولد هناك يوم كان والده موظّمًا في السفارة الأميركية في 
لبنان»ء وكان من سنن هذا النادي أن يختار رئيسه واحدًا أو اثنين من ضيوفه يُلقي 
عليهم بعض الأسئلة المتعلّقة فيما يمارسونه من أعمال» وذلك بعد تقديم إعلان ما 
عن أحد المصانع أو الشركات التجارية» وكان ذلك كله يحدّث على موجات الأثير 
وقد دُعيتٌ إلى منصة الإذاعة ووجّه إلي أسئلة كثيرة لفك اوداك السويية 


السعودية ومليكها المغفور له عبد العزيزء فأجبت قائلًا : 


كانت بلادي التي تُعرف اليوم بالمملكة العربية السعودية تّدين بالحُكم لعددٍ 





(1) سورة الكافرون» الآية: 6. 


402 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





كبير من الأمراء ومشايخ القبائل» وكان أهلها متفرّقي الكلمة مختلفي الآراء, لكر 
مقاطعة فيها أمير يحكم بأمره لا مُنازع له في سلطته» وكان الخصام بين أمرائها لا 
يوقفه إِلّا امتشاق الحسام فدومًا تنشب بينهم حروب لا يفثّر أوارهاء لاع 
سعيرهاء لقد كان الدم يُسفك يوميًا في جزيرة العرب بسبب الاشتباكات بين سكانها 
فيما بينهم في حروبهم الأهلية وغزواتهم وغاراتهم على مواشيهم وأمتعتهم. 

بقيت هذه الأحوال سائدة في بلادي إلى أن قيّض الله لها رجلا منها عُرف 
بصلابة العقيدة وقوة الإيمان. أخذ يستخدم ما أوتيه من حنكة سياسية ودراية 
إدارية» فَلَّمّ شملها المبعثر وجمع كلمتها المتفرقة» وما لبث أن دانت له بالطاعة, 
فأحلّ الإخاء محل الحروب والوحدة محل التمرّق» وباتت وحدتها متينة محكمة, 
واستتبّ له الأمر في ربوع جزيرة العرب» فعرّز دور العلم» وأرسل البعثات العلمية 
إلى الأقطار العربية والبلدان الغربية» وأحكم ربط أطرافها بشبكة من المحطات 
اللاسلكية جميع العاملين فيها عربًا وسعوديين» كما عبّد الظرق وسهّل شؤون 
المواصلات واعتنى عناية خاصة بالصحة العامة. 

تُشرف حكومته على أعمال البعثات الفنية لاستخراج كنوز البلاد. وأمًا ما 
حقّقه من العدل والأمن في ربوع المملكة فقد صار مضرب الأمثال؛ وبات معلومًا 
لدى الخاص والعام والقاصي والداني. 

صلاته مع الممالكث ومع دول العالم أجمع . فهي كما هو معروف ومتداول بين 
الجميع صلات صداقة متينة قائمة على الاحترام المتبادل وحفظ الحقوق. 

عَرَف القرن العشرون زعماء كثيرين قاموا في مختلف بلدان القارات الخمس 
وإذا قارنًا بين أعمالهم وبين ما قام به هذا الملك العظيم نجده رجل القرن بلا 
منازع» أوجد دولة فتيّة جديدة» أوجدها من العدم» فالزعماء الآخرون ملكوا عند 
نهوضهم ببلادهم حكومات وإدارات وحبوشًا مدوّية وابتلحة وأفوالا وموظفين 
وإداريين وشعوبًا مستقرة وضرائب تجبىء أما عبد العزيز فقد قام بمفرده. جاء من 
امف ولنيك: جه شنان :وله لديم تجكوية ‏ واللؤا نا لول مانتو فاستى وله تعترابيه 
الأطراف. ووطّن شعبًا موحدّاء وأقام حكومة» وبنى حتى باتت تحتل المقام 
الأعلى بين الدول» هذه هي الزعامة الحقيقية» وعبد العزيز يستحق أن يُقال عنه 
رجل دولة بكلّ ما تعنيه هذه العبارة. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 003 





صفق المستمعون بعد انتهائي من كلمتي ولم يكن تصفيقهم مجاملة لي ولكنه 
كان استحسانا لما سمعوه عن الملك عبد العزيزء وكان الشيخ سليمان بدور. 
ماحب جريدة البيان النيويوركية» يستمع على الراديو لكلمتي وقد سجلها وتولى 
فى اليوم التالي نشرها في جريدته العربية. 

غادرنا بعد أيام قلائل مدينة نيويورك إلى فلوريدا - بلاد التماسيح والمياه 
الدافئة - وذلك بصحبة السيد أفنس وخيوله الثلاثة» وقد نقلتنا السيارات إليهاء 
وكانت الرحلة قصيرة الوقت وممتعة معّاء وتوقّفنا في طريقنا بولاية جورجيا عند 
منزل السيد كراين» للقيام بزيارته فلم نجده. فواصلنا سيرناء والسيد كراين» هو 
الذي أرسل على نفقته الخاصة المنقّبين عن البترول في المملكة العربية السعودية» 
وبعد سفر استمر عشرة أيام وصلنا بلدة دونيدن من ولاية فلوريداء وحَلَّلت في نزل 
(ياط كلب أن)ء وكانت تديره سيدة طوت العقد الخامس من عمرها وكان مملوءًا 
بالتّزلاء الذين قَدِموا مع أسرهم من مختلف الولايات الأميركية لقضاء فصل الشتاء. 


لم تكن هذه زيارتي الأولى لولاية فلوريداء فقد سبق أن زرتها منذ ثلاثة أعوام 
بصحبة قرينتي» وأقّمنا في ربوعها مقدار شهر واحد ننتقل بين بلدانها وقراهاء 
ونتردّد إلى معاملها وآثارها ونقف على شواطتئها الواسعة ومتنزهاتها المنتشرة هنا 
وهناك وإلى حدائقها الوارفة الظلال» ولكني وقتها لم أندمج ولم أتحدَّث معهم 
طويلًا كما فعلت في زيارتي الأخيرة هذهء فآنذاك كنا نتحاشى التقرّب من الناس 
والسكان ونلجأ إلى الغابات والأحراش والشواطىء نقضي فيها الأيام والليالي 
أمنين» أمّا في هذه الزيارة فقد اندمجتٌ مع المواطنين وأتيح لي التعرّف على العديد 
من سكان الولاية ومن زوّارها من الولايات الأخرى. وهكذا أضفتٌ إلى معلوماتي 
السابقة الشيء الكثير عنهاء وعرفت الآن السبب الذي يجعل الناس يتوافدون إلى 
ربوعهاء فقد تحدّئت مع بعض الزوار مطوَّلًا وكان لدي متّسع من الوقت للاختلاط 
بالناس وزيارة المعاهد والنوادي ودور الصحافة والملاهي وبيوت السمر والمرح. 

نزلت في صبيحة أحد الأيام إلى حديقة الفندق» أتمشى في دروبها الضيقة 
المزدانة بالزهور الجميلة وأستنشق نسيم الصباح وأمبّع الطرف بالأزهار والورود 


404 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





القائمة في كل ركن من أركان الحديقة الواسعة» ولقّتَ انتباهي شجرة توت مثمرة من 
النوع الملوّن» فتوججهت نحوها وأخذت أقطف ثمارها إلى أن أشبعت رغبتي منهاء 
وحُدتُ أدراجي نحو الفندق وكانت أرضه وسلَّمه مكسوة ة بالسججاد الأوروبي, 
وصعدت درجات السلَّم حتى وصلت غرفتي في الطابق الثاني» وحانت مني التفاتة 
إلى الوراء» فكدت أَصعَقٌ لما رأيته من آثار تركها حذائي على السجاد ممّا علق بنعلى 
من التوت الذي كان متساقطا على الأرض» فخلعت حذائي وحملته بيدي» ودخلت 
غرفتي واستبدلته بحذاء آخرء وعدت تراج لاح بوص اندائي وما وباي 
على السلم وفي بهو الفندق» وقد خ مف ارتباكي رؤيتي خادمتين تحمل كل منهما 
بيدها قارورة بنزين وقطعة قماش وقد شَُرَّعتا بتنظيف الآثار» وعندما اقتربت منهما 
ابتسمتا وقالت إحداهن : لا بأس عليكء وقالت الثانية لا تهتم سنتولى التنظيف 
حالاء فنقدتهما ما كان في جيب سترتي من دولارات فشكرتاني. 


بعد هذا الحادث كان يقدَّم لي مع الفطور كل يوم صحن من ثمار التوت وذلك 
لمدة عشرة أيام لكي لا أذهب للحديقة مرة ثانية حتى لم يَبْقَ على الشجرة من ثمرء 
وكنت أتناول بعض ذلك ولا أكثر منه شعورًا مني بالارتباك والحياء»ء ولقد بقيت 
مدة طويلة بعد ذلك أشعر بالخجل كلّما تذكرت ذلك الحادث. 


كانت الأرض المقرّر بناء المدينة العربية عليها تَبعْد مقدار كيلومترات عن 
الفندق وفي الأربعة أشهر التي أمضيتها في الفندق كنت أمتطي صهوة الفرس راش 
أمام جماهير من المتفرجين» ذلك أن الناس قرأوا في صحف الولاية عن مشروع 
إقامة مدينة عربية» وتخلّل العرض خمس دقائق تُدار أثناءها القهوة العربية مع التمر 
والحليب على المتفرجين» وهم يصغون إلى شروحي حول المشروع المزمع إقامته 
وأحاديثي عن الخيول العربية وأصولها وطباعها وعن عادات العرب وحضارتهم 
وتقديرهم للحرية وعن تاريخهم وفتوحاتهم وما أشادوه في الأندلس وغيرهاء وكان 
بعض الجمهور يصغي بكلّ انتباه لما أقوله وبعضهم الآخر يكتفي بتناول القهرة 
والحليب والتمر. وكنت أتولى هذا العمل أربعة أيام من كل أسبوع قرب زوال 
الشمس وحَصّصت الأيام المتبقية وهي الخميس والجمعة والسبت لزيارة المدن 
والقرى المجاورة وتلبية دعوات النوادي والجمعيات. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 0405 





كان من بين الدعوات التي تلقّيتها دعوة من المدرسة الثانوية في سان 
بترسبورغ» فقد أقامت هذه المدرسة حفلًا ليليًا في ملعبها الرياضي الواسع وقد 
طلب مني التحدّث عن البلدان العربية وأن أمتطي أحد الجياد في ملعبها المذكورء 
فلت الدعوة والطلب أيضًا. ١‏ 

بعد أن قام التلاميذ بتمريناتهم وألعابهم الرياضية وما تخلّلها من قفزٍ وجري 
امتطيت أحد الجياد»ء وبينما كنت أقوم ببعض الألعاب والتدريبات الفروسية 
والفرس تعدو بي عدوًا سريعًا. وجدت نفسي مطروحًا على الأرض والفرس إلى 
جانبي دون حراك» فضجٌّ المشاهدون ولم يُصِبْني أدنى أذى» ونهضت مسرعًا 
واعتليت ظهرها ثانية» وقلتٌ للمشاهدين إن الجياد الأصيلة إذا وقع فارسها أرضًاء 
لا تتركه» بل تقف إلى جانبه» فظن الجمهور أنني وقعت عمدًا وبسابق إصرارء 
وفي اليوم التالي ذكرّت صحف المدينة ما حدث في أول صفحاتها ووصفت 
الحادث وقالت إنني وقعت عمدًا لكي أُدَعَ المشاهدين يرون أصالة الخيول العربية. 
ولكن الله وحده يعلم أنني لم أُلْق بنفسي عمدًا عن ظهرهاء بل الفرس طرحتني دون 
أن أدري كيف كان ذلك. ودخلنا صالة السينما وعُرِض فيها فيلم عربي اسمه وداد 
وقبل العرض تولّيت إلقاء كلمة عن البلدان العربية فعرّفت بجغرافيتها وبعادات 
أهلهاء وكان للمملكة العربية السعودية القسط الأوفر من هذه الكلمة. 

في الختام طلبتٌ من التلاميذ الحاضرين وكان عددهم لا يقل عن أربعمائة 
طالب وطالبة أن يكتب كل منهم خلاصة لا تتجاوز عشرة أسطر لِما سمعوه مني 
ووعدتٌ أن أقدّم جائزة مقدارها عشرة دولارات للفائز الأول. أي لأحسن كاتب»ء 
وفهّمنُهم أن القصد من ذلك هو اختبار مقدرتهم على الاستيعاب» وكانت أحسن 
رسالة تلقّيتها من الآنسة بيجي لميورث وقد تسلّمت جائزتها في الشهر التالي» إذ 
اعتادت المدرسة على إقامة حفل كل شهر. 

يقطن فلوريدا أوقراها جماعة من عرب لبنان وسورية وفلسطين» وهم منتشرون 
في كلّ من المدن التالية: كليرووترء سانبترء سبورغ» ميامي بيتش» تامباء سراسوتا 
وجاكسن فيل. وكنت أحظى برؤية بعضهم بين الحين والآخرء وركنتٌ لصحبة 
واحد منهم» كان عربيًا صرفًا شهمًا كريم الخلق. سخي الكفء معتذا بنفسه من 


406 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 
ا ااا ‏ رر ا 1ط 


الطراز الأول» لبناني المولد» متزوجًا وله ولدان وكريمة كانت في الرابعة من 
فمرهات وكان من العرلين يناري العرف يلظ كدرا نيزن تمصع واختارهم رن 
ل رد لان قات ابد 0000 
37 هذاء ٠‏ وقدزار لبنان وذهي إلى مي اه ولم 
أكن يومئذٍ فى دمشق». بل كنت فى المملكة العربية السعودية. 

أعدّ السيد أفنس خارطة للمدينة العربية» وحدّد لها أحد عشر شارعًا وهى 
شوارع: مصرء لبنان» سورية» فلسطين.ء العراق. اليمن» الأردن» ليبيا» تونس» 
الجزائرء المغربء. وقسّمها إلى أربعة أحياء رئيسة وهى أحياء: مصرء ولبنان, 
وسورية» والسعودية. وبعد أن عقد عذّة اجتماعات مع أبناء العروبة فى فلوريداء 
وانضمٌ إلى هذه الاجتماعات نفرٌ من الأميركيين وذلك للبحث في شؤون المدينة 
المزمع إقامتهاء وأرسل السيد أفنس الخارطة إلى المشروع وأعطي الترخيص. 

كان في مدينة بامبيتش نادٍ للقمار اجتمعتٌ برئيسه في حفل أقيم في تلك 
المدينة» فوجّه الدعوة لى وللسيد أفنس لزيارة النادي» فلبّينا دعوته وتوجّهنا فى 
أحد أيام الأحد لزيارة النادي وبعد دقائق قليلة من وصولنا حضر رئيس النادي وأمر 
لنا ببطاقة تخولنا الدخول إليه وطاف بنا في أرجاء النادي وضيّفنا عصير الليمون. 
كانت هذه أول زيارة لي لمثل هذا النوع من النوادي فقد كان مكتظًا بالزوار من 
المقامرين» كلهم التفّ حول الموائد الخضراءء وخيّم عليهم سكون رهيب» فكنت 
لا تسمع لهم حسًا ولا همسا إِلّا كلمة (بانكو) التي كانوا يطلقونها بين حين وآخر. 
العادة الخبيثة» يل الداء الدفين؛ يتلف لمات ويبذد قوى النفسء ويزري 

أينما ذهبت فى الولايات المتحدة» وفى أي مدينة أقمت أو بلدة تجولت فيها 
تجد أمامك جماعات من اليهود منهم التاجرء ومنهم الطبيب» ومنهم الصحفي» 
ومنهم المحامي» وقليل منهم العمال» وقد أحدث ما كتبَّنه الصحف عن المدينة 
العربية وما كنت ألقيه من الكلمات فى الأندية والمجتمعات عن البلدان العربية؛ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 407 





وعن تقدّمها الاقتصادي والسياسي والأدبي ضبَة في الأوساط اليهودية خاصة في 
ولاية فلوريدا. وبينما كنت جالسًا في بهو الفندق في أحد الأيام» إذ برجلين 
بملابس مدنية يدخلان الفندق ويتوجّهان إلى مكتب الاستعلامات» ثم تقدّما مني 
نسلّما علي وجلسا إلى جانبي وأظهرا هويتهما فإذا بهما من رجال شرطة التحرّي» 
وأخذا يستفسران عن سبب قدومي إلى الولايات المتحدة» ومن أي البلاد من 
الوطن العربي أتيت». وطلبا مني إبراز الأوراق التي خؤّلتني دخول الولايات 
المتحدة فأحضرت أوراقي من الغرفة وعرضتها عليهماء فتفحًصاها ثم ناولاني إياها 
وقدّما اعتذارهما قائلين: إن الأخبار التي قُدّمت إلينا غير صحيحة؛ وشكراني 
وغادرا الفندق. 

لم أعلم وقتها كُنْهَ الأخبار التي تلقّياها عنيء المهم أنهما وجدا أوراق 
هجرتي صحيحة وشرعية وأنني أول رجل من المملكة العربية السعودية دخل إلى 
الولايات المتحدة وفق نظام الهجرة الأميركي الرسمي وقام السيد أفنس ببعض 
التحريات فتبيّن له أن جماعة من اليهود الصهاينة أوعزت إلى حكومة فلوريدا أنني 
جاسوس » وأنني دخلت البلاد دون إذن شرعي» وقد قام الصهاينة بهذا العمل بغية 
إيقاف نشاطي العربي وليّحولوا دون إقامة المدينة العربية في فلوريداء وإثر هذا 
الحادث قامت معارك صحفية بيني وبين الصهاينة واستخدّم اليهود كل وسيلة ممكنة 
لتعطيل مشاريعي وقد مَلَكوا الإرادة والقدرة الأمر الذي افتقده العرب. 

أضرب هنا مثلّا عن نشاطات اليهود في فلوريدا بالقصة التالية: كان في ميامي 
بينش في فلوريدا فندق عُلّقَ على بابه يافطة كُتبت عليها الجملة الآتية: ممنوع دخول 
الكلاب واليهود. ولقد رأيت هذه اليافطة بعيني أثناء وجودي في فلوريدا في تلك 
السنة. وحاول اليهود إزالة هذه اليافطة» وعرضوا على صاحب الفندق مبلفًا 
محترمًا من المال» غير أنَّه رفض عرضهمء وبقيت اليافطة كما هي تحمل العبارة 
نفسهاء وبعد ثلاثة أشهر أوعز أحد الأثرياء الصهاينة إلى أحد رجال بيع العقارات 
القيام بشراء الفندق من صاحبه مهما بلغ الثمن» وسلّمه اعتمادًا خظّيًا بذلك» فوافق 
هذا الرجل» واشترى الفندق ودفع مبلعًا كبيرًا من المال وبعد شهر هَدَّم الفندق 
وبنى مكانه فندقًا آخر أضخم منه ولم تُعلّق عليه طبعًا اليافطة القديمة. 


408 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 
ا لي 


ليت العرب تعلَّموا الدرس من ممارسات اليهود. . ولم نَل إقامتي بعد هذا في 
فلوريدا وانَّخَذت قرارًا بالذهاب إلى نيويورك» وقبل أن أفعل ذلك أرسلتٌ إلى 
الصحف العربية نداء ضمّنته فكرة مشروع المدينة العربية» وأوضحت فيه ما هو 
معتزم القيام به من مشاريع داخل المدينة المزمع إقامتها . 

عندما أستعيد صور ذكريات الماضي بِغْنَّه وسمينه» وعندما تداعب أفكارى 
ذكرى الأيام الخوالي» بخيرها وشرهاء لا أذكر أني أسِفتُ على عمل كنت قد 
قمت به ولم يواكبني التوفيق في تنفيذه» كما أنني لا أذكر أن راودني الحزن منز 
مستهل شبابي إلى عهد شيخوختي على ما فاتني من طيّبات هذه الحياة الدنيا 
وزينتهاء ولم أتأسّف قط على فرصة مرّت بي وكانت ثمارها دانية دون أن أغتنم 
قطفهاء ولهذا لم أُقُلْ ليتني عملت هذا أو فعلت ذاك. نعم لم يراود مخيلتي شيء 
من هذا القبيل. 1 

من حسن الحظ أو لسوثه أنني سريع النسيان لكل إساءة صدرت بحقّي من قبل 
أي إنسانء كبيرًا أم وضيعًاء ومهما بلغت هذه الإساءة وعظم وقوعها في نفسي 
حينها لا ألبث أن أنساهاء وتتلاشى جسامتها من ذاكرتي» وكثيرًا ما وقع أناس 
ممّن أساءوا لي تحت تصرفيء غير أن هناك شيئًا قويّا في نفسي يحملني على 
الابتعاد عن الانتقام أو القصاصء. وأكثر من هذا فربما تجدّني أقف إلى جانب من 
أساء إليَ إذا وقع في مشكلة ماء فأدافع عنه بكل ما أوتيت من قوة» لا أدري ما 
يمكن أن أصف به هذا وبعضهم قد يراه مجرّد غباء صدر عني» أو أنه نتيجة ضعف 
وجبن في طبعي» والناس أحرار فيما يذهبون إليه من تحليلات» لكن جمهورهم 
يحبّ مكارم الأخلاق ويقدّر العفو عند المقدرة وكثيرًا ما كنت أتألم إذا ألم بمَن 
أساء إلىَّ حادث مزعج.ء أثرَ في صحته أو أفقده بعض ماله أو ولده. ولذلك 
يخامرني فرح عميق» وسرور عظيم» يوم أعود إلى أحداث الماضي» فأجد نفسي 
بمعزل عن اعتراض سبيل أي إنسانء أو الوقوف في وجهه. موحي لط الى 
لا أذكر قظ خلال حياتي الطويلة أني دنس شرف أحدء ولم يبدر منى أي اعتداء 
على أحد سواء في ماله أو شرفه أو عرضه أو كرامته. ولم يداع متخبلتي مبحاولة 
نقل ما سمعته من أفواه بعض الناس من سوء القول وبذيئه إلى من قيلت في حقهم؛ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 409 





مع أن بعض من عرفته كان يتلفظ بأقوال يشمئز السامع لهاء لتُنقل عنهم. وتبلغ 
لمن قيلت بحقهم». ومن كرم الله سبحانه وتعالى وإحسانه إلى أنه لم يجعلني نمّامًا 
ولمارًا ولا أمارس الوشاية. 

الإنسان يسير وفق ما قُدّر له» وهكذا قدَّر لي أن لا أنال التوفيق لدى مغادرتي 
فلوريدا إلى نيويورك بمهمّة الاتصال بأبناء العروبة في نيويورك للمساهمة في إقامة 
المدينة العربية» بعدما رسمت معالمهاء ومهّدت شوارعهاء وقام نفر من الأميركيين 
بشراء بعض قطع من أرضهاء لقد كنت آمل أن أجد من العرب من يساهم في إقامة 
هذه المدينة» لكن لم أعثر على واحد أبدى رغبته بالإسهام. ولقد سلّمت للأمر 
الواقع ولم أَبِْدٍ الأسفء وهكذا قُدّرَ أن أسدل الستار على هذا المشروع وأتركه 
لوقت آخر ربما أكثر مواءمة وأفضل توقيئًا . 


في عام 1358ه (1939م)» أقيم معرض نيويورك العالميء. وفتح أبوابه 
للزائرين وقد اشتركت فيه حكومة العراق» كان المشرف على الجناح العراقي قنصل 
العراق الفخري الشيخ مصطفى من عائلة الإبراهيم» وهو تاجر تمور كبير من مواليد 
البصرة ومن أصل نجدي من مقاطعة القصيم. وقد انَّصل بي لأعمل مرشدًا في هذا 
الجناح أتحدّث للزوار باختصار عمّا يحتويه الجناح من معروضات مع تقديم صورة 
عن القطر العراقي وعن الجهود المبذولة للقيام به ولرفع شأنه ومستواه؛ وعمًا 
نحتويه بوادي العراق من المواشي والخيول العربية الأصيلة والإبل» وعن التمور 
وما تصدّره العراق من هذه الثمرة اللذيذة إلى أنحاء المعمورة» وعن البترول في 
آبار كركوك والموصل وأنابيبه الممتدّة إلى شواطىء البحر المتوسط. وكان مما لفت 
أنظار روّاد هذا الجناح ما ارتديته من ملابس عربية: عقال مرعز أسود صنع دمشق» 
وغترة بيضاء صنع حلب» وزبون ملون خياطة دمشقء مفتوح من الأمام يرتدٌ طرفه 
الأيمن على الأيسر ويُعقد بشريط أبيض تحت الخاصرة وعباءة سوداء مقصّبة. 

حلَّيت واجهة المعرض بلوحة كبيرة كُتبت بخط عربي عريضء كما كان من 
بين المعروضات التي لفتت أنظار الزوار» ولاقت رواجًا كبيرًا أدوات الزينة النسائية 
المصنّعة من الفضة» وقد أحسنت حكومة العراق صنعًا بإرسالها عاملّين من مَهّرة 
الصاغة من طائفة الصابئة» فقد أعجب الزوار برشاقة أيديهما وخفّتهما وبراعتهما 


410 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 
الا 2252252 22 22 ا جا 1و ارا و1 0111 00 ير 


بالصنعة فراقبوهما باهتمام أوقات طويلة» ثم بادروا إلى شراء ما أنجزاه 
مصنوعات أو ما جلباه معهما من أعمال فضية صُنعت من قبل في العراق. 


راق للعديد من الروّاد لهجتي بالإنجليزية في قش عربية» وفي تلك الأثناء 
تعرّفت إلى فتاة تدعى (جيني ليه) في أواخر العقد الثاني من عمرها وكانت أثناء 
زياراتها المتكرّرة للمعرض تصطحب معها أخًا لها تصغرها سنا. 


دعتني ذات يوم لتناول وجبة العشاء في منزلها قائلة: والدي وخالتي التي هى 
في زيارتنا بغاية اللطف والظرف» لقد حدثتهم عن المعرض وعنكء» فأبدوا رغبتهم 
في التعرّف إليك والاجتماع بك والتحدّث معك فهل لك أن تلبّي دعوتناء وقبل أن 
أعبّر عن موافقتي واصلت حديثها قائلة: لا أكتمك أن خالتي في العقد السادس. 
وتعتزٌ بثقافتها العالية» فهي تحمل شهادات رفيعة» وتنتمي إلى عدد كبير من 
الجمعيات الخيرية والنسائية» فلقد مات زوجها قبل عامين» وترك لها عقارات 
وأموالاء ولم يكتب لها ولزوجها الإنجاب؛ ولذلك تبنّتنيء وأنا الآن بمثابة ابنة 
لهاء لي الحق في أن أرثها بعد وفاتهاء وأنا أحترمها كوالدة» ولا أَقُدِم على أيّ 
عمل إِلَّا بعد استشارتهاء وما تراه آخذه بالقبول. 


كنت موضع الترحيب أثناء تلبيتى الدعوة. ليس فقط من قبل والديها 
وشقيقتهاء بل من خالتها أيضّاء ولم يفاتحني والداها بأي شيء حول معرفتي 
بابنتهما وصدافتى لهاء ولم ككرا صفو أمسيتنا ولا بسوّال واحدء بل أداما 
الترحيب والتكريم» وذلك بخلاف خالة الفتاة التي كانت تسكن في مدينة أشلاند 
من ولاية كنتاكي» فقد وجَّهت إليّ أكثر من ثلاثين سؤالًا كان بعضها محرجّاء 
وكان لبعضها مغزاه» وقليل منها كان تافهًا ومن ضمن الأسئلة التي سألتهاء من 
أنت؟ إلى أي الأسر تنتمي؟ كم عدد أفراد أسرتك؟ في أي مدينة من مدن الوطن 
العربي المشهورة تسكنونء, في بغداد أم دمشقء أم القاهرة؟ ما نوعية الأعمال التي 
تمارسها أسرتكم» هل هم عمالء أم تبجارء أم مزارعونء أم سياسيونء أم أدباء؟ 
وما هو نوع ثقافتهم ومستواه؟ كم هي المدة التي قضيتموها في ربوع هذه البلاد؟ 
هل أتيت مهاجرًا أم زائرّاء وإذا كنت مهاجرًا هل فكرت في نيل الجنسية الأميركية؟ 
هل سبق لك أن تزوّجت وهل لك أولاد. وكم عددهم وما هي أسماؤهم؟ ما هي 


من 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 411 





الأسباب التي دَعَنْك إلى ترك وطنك والقدوم إلى هذه البلاد؟ هل لك إخوة 
الخصوصية التي تقوم بها؟ هل أنت موظف حكوميء وما نوع ثقافتك ومن أين 
هو ميولك السياسي. وهل مارستهء من أين لك المال الذي تنفقه؟ ما هى هوايتك؟ 

لقد طرحت هذه الأسئلة جميعًا أثناء تناولنا طعام العشاء الذي دام ساعتين 
ونصف الساعة» والحق أقول إنها كانت برغم كل شيء لبقة في أسئلتهاء فقد 
مهّدت لأسئلتها بقولها: يبدو حسبما رأيتكء ومن خلال الأحاديث التى تبادلناها 
قبل الطعام أنك شاب مهذب» رقيق المعشر. فهل لك أن تزيدنا معرفة بشخصك 
للاطمئنان عنك والركون إليك والوقوف على أحوالك وميولك ومعتقداتك». فهات 
حدّئنا عن نفسك. وشكرتها على حسن انطباعها حولي وقلت إنني مثل بقية الناس 
أعامل الناس جميعًا معاملة طيبة» أحافظ على صداقتهم وأصون كرامتهم 
وسمعتهمء وإنني الآن في مقتبل العمر وأرى الدنيا أمامي مفتّحة الأبواب؛ لذا 
بخيّل لي أنَّ بإمكاني الولوج إلى كلّ فجّء وأن أطرق كل سبيل مستعيئًا بالله الذي 
أعبده وأدين له بالوحدانية والطاعة. وأرجو منه سداد الخطا والتوفيق» فقاطعتنى 
سائلة: وهل تعتقد أن هناك إله؟ فقلت: نعمء إله واحد لا شريك لهء هو خالق كل 
شيء » بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وما لبكّت أن مهّدت لسؤالها الثاني 
بقولها: كثير من الأسر تحتفظ بأوراق تثبيت انتسابها إلى فحول الرجال كالأمراء 
والحكام والزعماء. فهل لأسرتك أوراق محتفظ بها كهذه؟ وقبل أن أجيب عن 
سؤالها 'استطرذت تقول: لأ أكعيلق أن أشرتنا تحفظ باوراق رسدةء: تيت انتماءنا 
إلى أسرة محترمة في إنجلترا كما تبيّن عدد أفراد من تتحدر منهم ونوع العمل الذي 
يمارسه كل واحد منهمء إن من بينهم العلماء والأدباء والتجار والمزارعين 
وأصحاب المهن» فهل لك أن تحدّثنا عن أفراد أسرتك وعن مهنهم التي 
يمارسونهاء وهل هم لا يزالون عربًا رحلًا أم يقطنون في الأمصار؟ فأجبتها قائلًا : 
كان الإنسان العربى الأول لا يعرف الاستقرار فى مكان واحدء وكان كثير الترحال 


412 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





يجوب الفيافي والقفار إِمّا لطلب الرزق أو لحياة أفضل» ولقد قضى الإنسان ون 
طويلًا وهو يتنقل من مكان إلى آخر إلى أن استقرٌ وأخذ يعمل في سبيل حياة مستقرة 
وفي سبيل ما تطلبته هذه الحياة حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. إن العرب ينتمون 
إلى قبيلتين عظيمتين هما عدنان وقحطانء ومع مرور الأيام نبعت من هاتين 
القبيلتين قبائل انتشرت في شبه جزيرة العرب» وكان من بين مشاهير هذه القبائل 
قبيلة تميم وإلى تميم تنتمي أسرتي. ولا فخر إذا قلت إن تميمًا تتمتّع بتاريخ مجيد 
ولها شهرة كبيرة وسمعة رائعة طيبة» فتميم - كما يُقال - كانت من أوائل القبائل 
العربية التي عَرَفت حضارة الاستقرار. 

يعرف العرب أنسابهم» وفي كل قبيلة أكثر من رجل متخصّص بأنساب القبيلة 
ومعرفة أفرادهاء ويحفظ ذلك عن ظهر قلبء بالنسبة إلى أسرتي فإنها هجرت حياة 
البادية والسكل مع متاك السعية 6 واخذت تاسات حياة الاسعران والسدت ند 
عيينة موطنًا لهاء ويُروى أن ثلث سكان هذه المدينة كانوا من أفراد أسرتناء وكان 
منهم الوزراء وأصحاب الرّتب السامية» كما أن بعضهم هاجر من العيينة إلى مدن 
أخرى داخل جزيرة العرب وخارجها. 

يعيش أفراد أسرتنا الآن في بلاد نجد في مدن القصيم وفي مديئة الرياض 
وقراها وفي اليمن وبغداد ودمشق والزبير والعراق» ففي هذه البلاد الأخيرة جامع 
كبير يحمل اسم الأسرة» وتضمٌ أسرتنا الآن من يعمل بالزراعة أو التجارة أو 
العلم» ومن هذه الأسرة ملاك الأراضي والساسةء ولم يكن بينهم وليس بينهم 
صاحب حرفة» فالعرب يحبّون أن يكونوا حماة للديار يهتمون بالخيل لأنهم أهل 
سنا “ونان : 

ثم سألت أسئلة قصيرة عابرة إلى أن قالت: بلادنا هذه ترحّب بالغرباء 
القادمين إليها من مختلف أنحاء الأرضء» كل يجدٌ فيها ما يجعله يستقرٌ فيهاء إنها 
بلاد جميلة جدَّاء فيها من الآثار والمعالم الجميلة الشيء الكثير» ولها متنزهات 
رائعة منتشرة في كل ركن من أركانها وفي مدنها وقراهاء وهي كثيرة الملاهي؛ 
وطرق العيش فيها سهلة هيّنة» وهذا ما جعلها تترئع على كرسي الصدارة لكثير من 
بلدان العالم» أوَليس كذلك يا عزيزي خليل؟ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 413 





لا شك أنَّ المدّة التي قضيتها في هذه الربوع الجميلة تدعُك تشعر معي 
الشعور نفسه وتؤيّدني بكلّ راحة في أن الأوصاف التي أطلقتها على هذه البلاد 
صحيحة وهي أهلّ لهاء فهل لك أن تخبرنا عن المدّة التي قضيتها في هذه الربوع. 
ومتى وطئت قدماك تربتها؟ 

رددت عليها قائلا: لا شك أن هذه البلاد عظيمة ورائعة الجمال» وهي كما 
قلت من أجمل بلاد العالم» قد كستها الطبيعية التي وهبها الله إياها بالجمال 
والكمال بكل ما فيه كفاية» وألبستها حلة زاهية فاخرة رائعة» جبالها مكسوّة 
بالأشجار ورياضها نضرة ومنتشرة هنا وهناك في كل مكان» مروج خضراء وأنهار 
كثيرة تنساب في أراضيها الشاسعة تروي مزارعها وحقولهاء وفوق هذا كله في هذه 
البلاد كل ما يصبو إليه الإنسان من حرية» يتمتع بها في القول والعمل والعبادة» 
عدا عن النظام الرائع والإنتاج الضخم والترتيب وغير ذلك مما جعلها تتزعُم بلدان 
العالم أجمع عن جدارة. والزائر لهذه البلاد» كلما طالت إقامته في ربوعها ازداد 
حبا لهاء وشغمًا بهاء وهو يكتشف كل يوم جانبًا رائعاء وعملًا متقنّاء مما يزيده 
ارتباظا بها وتعلّقًا. والوقت الذي قضيته حتى الآن فيها ليس طويلاء إنه شمل أربع 
سنوات فقطء تمكنت خلالها من الوقوف على معظم معالم البلاد وجوانب نموها 
وازدهارها ورقيّهاء فقد زرت اثنتين وأربعين ولاية من ولاياتها وتجوّلت في 
ربوعها . 

بعد فراغي من هذه الإجابة قالت ممهّدة لسؤال جديد: كثير من الناس يُطربهم 
الحديث عن أميركا وعمًا بها من مُتَع الحياة وبهجتهاء ويشوّقهم إلى الرغبة في 
زيارتها ما يسمعونه عنهاء ومن الناس مَن تَرَكَ وطنه وقَدِم مهاجرًا إليها سعيًّا وراء 
حياة أفضل» أو هروبًا من اضطهاد ديني أو سياسي» ورغبة بالتمتع بالحرية» فمن 
أي الفريقين أنت. هل كان قدومك لاكتساب الرزق وتأمين الحياة الأفضل أم كنت 
مضطهدًا في بلدك؟ 


أجبتها قائلا: لقد قَدِمتّ إلى هذه البلاد كمهاجرء ولكنني لست مهاجرًا في 
حدود معنى هذه الكلمة فأنا حتى الآن لم أقرّر الاستقرار والإقامة الدائمة في هذه 
البلاد» علمًا بأننى أول من جاء من المملكة العربية السعودية إلى الولايات 


414 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





المتحدةق. وأحمل تأشيرة الهجرة رقم واحد, وقد يِلتُها من القنصلية الأميركية فى 
نابولى» وهناك اتّفاقية معقودة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية اعرد 
تنصٌ بالسماح في كل سنة إلى مائة مهاجر سعودي بالقدوم إلى أميركا . 

ليس في بلادي اضطهاد ديني أو سياسي سيّب هجرتي» وكل فرد من سكان 
المملكة يعيش في ظل الشريعة الإسلامية» والشريعة تحكم الجميع من أمراء 
وزعماء ورعية» وكان القصد من قدومي إلى هذه البلاد الوقوف عن كثب على 
منجزاتها المدنية» مع التعرّف إلى معالمها والتمتّع برؤية مناظرها الخلابة وطبيعتها 
الرائعة ومن ثم العودة إلى الوطن العزيز. 

بودّي أن أخبرك أنني زرت فيما زرته شلالات نياغرا في شمال ولاية نيويوره 
على الحدود الأميركية الكندية» التي تستهوي النفوس وتأخذ بمجامع القلوب. 
والمرء يقف أمام منظرها المائي الخلّاب مندهشّاء إذ إنه يرى المياه المتدئّقة من 
علرٌ شاهق. وهي تنصبٌ تحت أقدام هذا المرتفع الباسق» ثم تجري مسرعة إلى ما 
لا نهاية» إن خرير الماء» لا بل ضجيجه المتواصل ليل نهار يوحي إلى الناظر إليه 
بالقدرة والعظمة اللامتناهية للخالق عرَّ وجَلء وإن رذاذه المنتشر فى هذا الجو 
والسكينة . 


من حسن الحظ أيضًا أن مكّنتني الظروف من الوقوف مذهولًا على حافة 
الوادي السحيق الرهيب المدعو «غراند كينيان» ونظرتُ في كل طرف من أطرافه 
وجوانبه وتلاله المنتشرة ومرتفعاته المبعثرة هنا وهناك» فلم يقع بصري على أي 
حيوان هائل الحجم يتنقل هناك ولا حتى على طير يحوم في تلك الأرجاء؛ حتى 
الشجر لم يكن لهذا الوادي فيه من نصيب» وقد شعرت باختلال بالتوازن» فرجعت 
إلى الوراء وأنا أشعر بشيء من التعب والفتور. 

تمنّعت بولاية أريزونا التي نُدْبت قِدَمها الأشجار المتحجرة المتكسرة الممتذة 
على أرض حمراء منبسطة» ولكم هو رائع ذاك الجسر الحجري الطبيعي فيهاء إن 
ولاية أريزونا - والحق يقال - فيها من المعالم والآثار الهندية الشيء الكثير» وإن 
متنزه ١سافرو»‏ الذي يؤمّه آلاف الزوار ليشاهدوا جماله وروعته مع المدينة القائمة 


لهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 415 





على مرتفع من الأرض تحت أقدام الجبل حيث أقامت الحكومة الأميركية مركرًا 
للمرشدين الذين يتحدّثون للزوار عن الهنود الحمر سكان هذه المدينة الهندية 
الخاوية على عروشهاء وعمّا كانوا يقترفونه من أعمال شريرة مثل قُطع الطرقات 
وسرقة المواشي وسلب الناس أموالهم وأرواحهم. هكذا يزعم هؤلاء المرشدون 
الحكوميون تسويعًا للموقف الأميركي اللاإنساني من الهنودء وسعيًا وراء تشويه 
سمعتهم والحطّ من كرامتهم . 

رأيت أيضًا في ولاية كاليفورنياء من المعالم الشيء الكثير وكان من بين ما 
لفت نظري متنزه «يوسامت» القومي. بمناظره الطبيعية الخلابة وأشجاره الضخمة 
الباسقة القائمة منذ ملايين السنين» والمنتشرة في واحات وجنبات هذا المتنزه 
الرائع الجمال» وكل هذا يوحي للإنسان بقدرة الخالق وهو يلمسها بكلتا يديه 
ويراها بناظريه» ولقد رأيت الأشجار العملاقة ولقد شقَّ في وسط إحداها فتحة 
كبيرة تمر فيها السيارات وهي آمنة مطمئنة» والشجرة هذه لا تزال حيّة باقية شاهقة 
الطول كما كانت على مرٌ الدهور. 

لم أتطرّق لذكر المعاهد العلمية لهذه البلاد على اختلاف أنواعها ومسمياتهاء 
وهي المعاهد التي ينهل المعارف منها الطلاب رجال المستقبل ولم أتعرّض إلى 
ذكر الاقتصاد الأميركي وطرق العيش في هذه البلاد والحاصلات الزراعية 
المتنوعة» والمنتوجات الصناعية والزراعية وما تحويه الأرض من كنوز هائلة. 
وقصدي من هذا كله التأكيد على روعة هذه البلاد وأنها أفضل البلدان للسكنى 
والعيش فيهاء ومع ذلك فأنا أحبّ وطني أكثر وأمنيتي أن أعود إليه عندما تتهيأ لي 
الفرصة . 

من جديد أخذت زمام الكلام وبادرت تقول: إن دستور بلادنا يخوّل أي رجل 
أمبركي أن يكون رئيسًا لجمهورية الولايات المتحدة. لا فرق في ذلك بين غني أو 
فقير في هذا المضمارء ومهما كانت الميول» وتباينت الأهواء»ء لكل إنسان مهما 
كان فلَهُ الحق في أن يرشّح نفسه لرئاسة الجمهورية أو لأيْ منصب يريد» ونجاحه 
في ذلك يعود إلى مقدرته ولياقته وكياسته وحنكته ومعرفتهء وبلادنا - والحمد لله - 
غنيّة بالرجال ذوي الخبرة الواسعة والاطّلاع التام على شؤون الحياة. ويتمنّع 





الأميركي بحقوق قَلّ أن يتمنّع بها سواه في أيّ أمة أخرىء ويمكنه القيام بمختلف 
الأدوار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية» فهل فكرت يومًا في أن تنال الجنسية 
الأميركية لتتمتع بهذه الحريات والمزايا؟ : 

جاء جوابي عن سؤالها هذا مسهبًا بمقدّمات واستطرادات فقلت: 

نعم إنني فكرت في ذلك ولا أزال أفكرء ولكنني لم أحاول حتى الآن, 
والمميزات التي أتمتع بها في الوقت الحاضر لا بأس بها وأنا قانع بهاء وبما أنني 
أوّل قادم إلى هذه البلاد من المملكة العربية السعودية كمهاجرء فإن حملي لتأشيرة 
الهجرة رقم واحد مهّد لي السبيل لأطرق كل باب موصد في وجه غيري. فَألِجُ فيه. 
وأسلك سبلهء فالشركات الكبيرة ورجال الأعمال والجماعات السياسية ومراسلو 
الصحف وغيرها من أفراد هذا الشعب العظيم أراهم يرحٌبون بالتعرّف إلى والتحرّث 
معي. ولا سيما في هذه الأيام بعدما عثر على الذهب الأسود في صحرائنا العربية: 
وتقدّمت شركات البترول بعروضها السخية إلى المملكة» وقد حازت الشركات 
الأميركية على امتياز استخراج البترول وبدأت بالإنتاج. ولقد حاولت كل من 
اليابان وألمانيا نيل هذا الامتيازء ولكن مليكي عبد العزيز رفض عروضهاء واختار 
الشركات الأميركية لعلمه أنها السباقة في هذا المجال» وهذا كان جواب مليكي 
لكل مَن فاتحه بهذا الموضوعء ذلك أن العرض الألماني والياباني كان مغريًا جا 
وأفضل بكثير من عرض الشركات الأميركية . 

من هذا يتبيّن لك الامتيازات التي أتمتّع بها في بلادك وهي عندي في غاية 
الأهمية» ويصعب علي في الوقت الحاضر التخلي عنهاء وإذا حصلت على الجنسية 
الأميركية» واندمجت بهذا الشعب الذي يقدَّر بمائة وأربعين مليونًا من البشر الذين 
قَدِموا من مختلف بقاع العالم. فسأذوب بينهم» ولن يُسمّع لي بعدها بحس أو 
ذكر. والإنسان يسعى في هذه الحياة للحصول على أمرين اثنين هما المال والجاه؛ 
وإذا 00 التوفيق في الحصول على المال 01 وعددهم كبير هم 
الذين تعثّرت بهم أقدامهم فلا ينالون من المال غير الكفاف اليومي» ويحُول الحظ 
بينهم وبين الوجاهة. 

أمَا أنا فلم أحاول بعد جمع المال لأكون ثريا وذلك كطريق نحو الوجاهة لقد 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 417 





استغنيت عن المرحلة الأولى» وأتمنّع الآن بالوجاهة الكاملة» حيث لم تبرح 
الصحف اليومية عن ذكر اسمي» ويلتقط مراسلوها أخباري وتنقلاتي» وما انفكت 
الدعوات تتساقط علي من الشركات والجمعيات والنوادي. 

هنا قاطعتني قائلة: إنني لا أوافقك الرأي حول عدد من الأفكار التي 
طباه لرجات الا لعترس 1 فى نينا ادر ةا الأقيا مقط اموا 
الني بين يديه» فبقدر كثرتها وحجمها الضخم يُجل ويُحترم. 

ربما فكرة الوجاهة كما عرضتها هي مقبولة لديكم معشر الشرقيين» أمّا عندنا 
نلاء هذا وقد قرأت في أحد كتب الاستشراق قول المؤلف: إن الوجاهة عند 
الشرقبين أثمن من الغنى ومن وفرة المال» ولكن كما يُقال: لكل رأيه» ولكل شعب 
ميوله ومفاهيمه وعاداته وطبائعه وأخلاقه وتقاليده. 

هنا تسلمت مجددًا الحديث واستأنفته قائلًا: لا بد أن تعرفي أن كثيرًا من 
المستشرقين الذين أتيحت لهم زيارة الشرق وكذلك الكتّاب ومراسلي الصحف 
الذين تسئى لهم التجؤّل في البلدان الشرقية» هؤلاء جميعًا لم يقيموا وقنّا كافيًا في 
الشرق» حتى يتمكنوا من دراسة طبائع أهله وأخلاقهم» إنهم يمرّون بالشرق على 
عجل مثلما يمر السحاب» دون أن يكون لديهم الوقت الكافي للوقوف على حقيقة 
أهل الشرق» لذلك تجدّهم يتناولون في كتاباتهم الصور السطحية دون تعمق أو 
تحقيق أو تمييزء وهذا الخطأ من قبلهم يَنقل إلى القرَّاء صورًا مرفوضة قائمة على 
أحكام خاطتة . 

واسمحي لي أن أوضِمَ هذا بسردٍ القصة التالية لحادثِ وقع لي أول ما قَدِمت 
إلى نيويورك: نزلت في فندق بلازاء وفي الصباح التالي خرجت من الفندق لأتجوّل 
في الشارع الخامس والطريق انخمسين» فقد كانت غرفتي تطل على المتنزه العظيم 
لمدينة نيويورك. ولدى سيري في هذا الشارع أخذت أمنّع ناظري بالأبنية الضخمة 
وأعجب من طولها وأنظر على مهل إلى الواجهات التجارية وعروضها حتى قربت 
من الطريق الثاني والأربعين الذي يتقاطع مع الشارع الخمسين» وهنا فجأة اشتدّ 
الازدحام ورأيت الناس يهرعون بسرعة» ووجدت نفسي بين الخلائق المنطلقة دون 
ضوابط كالكرة بين أرجل اللاعبين» فرجلٌ يدفعني» وآخر يضربني على كتفي 


418 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





بِشْدَّةء وثالث يبعدني عن طريقه ورابع يوجّه إلي السباب والشتائم» وأنا لا أعرف 
لكل هذا سببًا معقولاء وهنا قلت لنفسي: ما هذا الشعب» إنه كتلة من الوحوش, 
شعب ليس لديه أدب أو كياسة او احترام» وإِنَّ ما نراه على الشاشة البيضاء التى 
تصوّر لنا الأخلاق الفاضلة والعادات النبيلة للأمة الأميركية يختلف كثيرًا عمًا رأينه 
اليوم في ذلك الشارع العظيم. 

لو أني رجعت إلى وطني إثر ذلك وقّصصتٌ ما حدث ليء» أو كتبت ذلك فى 
الصحف والمجلات لكان قولي حقيقة لا ريب فيهاء ولكرَّنت في الوقت نفسه 
صورة سطحية فقد علمت فيما بعد. بعدما توطدت إقامتي في هذه البلاد. اق 
أخطأت بوجودي في ذلك الشارع في تلك الساعة. فقد كان الناس قد تركوا 
محلاتهم التجارية ومكاتبهم وأشغالهم» ولم يكن أمامهم سوى ساعة واحلة لتناول 
طعام الغداء ومن ثم العودة إلى العمل . 

فإذا أراد أي إنسان أن يكتب عن جماعة من الناس» اه من الأمم. عليه 
أن يدرس أولًا - بعمق وصبر - عاداتها وأخلاقها ويتعرَّف إلى ميولها وأهوائها. 
ومن ثم يسججل ما يراه وينشره على الناس. 

هذه هي مشكلتنا يا سيدتي مع كتابات المستشرقين وأمثالهم» وإذا ما أتيح لك 
يا سيدتي زيارة الشرق» والإقامة فيه وقنّا كافيّاء ووقفتٍ من ثم على عادات أهله 
وأخلاقهم لغيّرت رأيك عن الشرق وأهله» ولتخلّيت عن كتابات مرتزقة الغرب التي 
هي محشوة بالكذب والغش والخداع. 

هنا تغيّر لونهاء وبدأت علامات عدم الرضا والاستنكار تظهر على وجههاء 
لكن لم أعبأ بذلك وأتممتٌ حديثي بعد أن خمَّفتٌ من حدّة لهجتي فقلت: من 
البديهي أنَّ هذا ليس خطأهم وحدهمء بل هو خطأ الشرقيين أيضّاء لأنهم لم يكتبوا 
عن أخلاقهم وعاداتهم وعن بلادهم وما تحتويه من خامات طبيعية ومعادن كثيرة لا 
تحصىء لم يكتبوا في لغة غير لغتهم» فلربّما نجد كاتبًا شرقيًا أو مؤرحًا عربيًا كنب 
عن الشرق وبيّن مزاياه في لغة غير لغته» لكن هذا أيضًا لا يكفي. يجب أن يتناول 
هذا الموضوع عدد كبير من الشرقيين. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 419 





عسى أن يتم تدارك هذا الأمر في المستقبل» ومهما يكن من أمر أرجو 
المعذرة إن كنت قد خرجت عن الموضوع. 

لم تتنازل عن رأيها وتمسّكت به بكل إصرار رغم إدراكها أنه مبني على خطأء 
وكان شأنها شأن مثيلاتها - لاء بل أمثالها أيضًا - من الغربيين» ولذلك قالت: 
أما قلت لك لكل رأيه» ثم تابعت تقول متفلسفة: تتطلب الحياة من الإنسان أن 
يكون قويًا لبقا يجاريها ميولها وأهواءها ومن يعترض سبيلها نبذته دون اكتراث ولا 
اهتمام» أمّا مّنَ جاراها وماشى ميولها وسار في ركابها نال من امتيازاتهاء وحمّق 
مطامحه» ثم سكتت قليلًا لتقول : ما لنا ولهذاء لقد أخذنا كثيرًا من الوقت. وأحبٌ 
فقط أن أسألك سؤالًا واحدًا أرغب أن تصدقني القول فيهء فقلت: هاتٍ ما عندك» 
فقالت: لم يخلق الإنسان ليعيش وحيداء بل خلق الله تعالى شخصًا آخر يؤانسه 
ويواسيه ويشاركه أفراح هذه الحياة وهمومهاء فقوام الحياة الزوجان الذكر 
والأنثىء فهل سبق لك الاقتران بأحد من قبل» وهل لك ذرية؟ 

في الحقيقة إنها لم تُوفّقَ في طرح هذا السؤال» فقد ألقته جافًا بلا مقدّمات 
وبلا وسائل تلطيف. لقد صبّته عليّ صبًّا ورمته بوجهي رميّاء ومع ذلك أخذت 
الأمر بصدر رحب وأجبتها قائلًا: من عادات العرب الزواج المبكرء وهذا ما لم 
أمارسه على الرغم مما له من فوائد وفضائل» فهو يرعى الشاب ويحفظه من التسكع 
في الطرقات ويصون الأخلاق» ولهذا عد الزواج من العادات الحسنة لما فيه من 
اكتقاء شخصى: 

بِيدَ أن تنقلاتي ب بين البلدان العربية لم يترك لي الوقت الكافي لذلك لم أتزوج 
مبكُرًا فأنا منذ أن بلغت الثالثة عشرة من عمري لا أذكر أنني أقمت في مكان واحد 
أكثر من ثلاثة أشهرء لقد كنت أتنقل بين بلد وآخرء فقد مضى على وجودي في 
الولايات المتحدة أربع سنوات. زرت خلالها اثنتين وأربعين ولاية» فقالت: إِنَك 
رحالة؟ قلت: نعم» وخلال رحلاتي وقفت على أخلاق هذا الشعب العظيم وعلى 
عاداته» والآن قد يتسنى لي أن أكتب عنه» ولن أكون كالكتّاب الغربيين ين الذين كتبوا 
عن الشرق وأهله» فأنا شرقي ألتزم بالصدق وقول الحق» ويحقٌ لي الآن بعد خبرة 
أربع سنوات لا أربعة أيام أن أكتب مشاهداتي» وأعود الآن إلى لب السؤال» نعم 


420 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





قُدّر لي الاقتران بسيدة أميركية كنت قابلتها على شاطىء دجلة في مدينة بغداد. و 
الاثفاق يكنا على أن جائن مما إلى أميركاء_ وده تفترق عن مهنا في خبالة عدم 
نشوء المودّة بيننا وفشل زواجنا . وبالرغم من أنني تعلّقت بهاء فقد افترقنا بعد أربعة 
أشهر من قدومنا إلى هذه البلاد» لقد كانت زوجة مخلصة وطيبة» مكثتُ وإيّاها فى 
البلدان العربية تسعة أشهر قبل أن نسافر إلى أميركاء وكانت أول امرأة ضمنى 
وإياها فراش واحدء ولم تنجب لي والحمد للهء فقالت: أتحمَدٌ الله على حرمانك 
من البنين؟ قلت: نعم إنني أحمد الله على ذلكء, لو رزقنا الله بمولود, ما الذي 
سيكون عليه مصيره بعد أن نفترق؟ أما كان سيّحرم من حنان أمهء أو من رعاية 
والدهء لذلك حمدت الله» أولستٍ ترين ما أراه؟ 

فأجابتني: إنك تتكلم بلغة لا أفهمهاء ولا أرغب مجاراتك في هذا 
الموضوع . 

وما لبثت أن انتقلت إلى طرح سؤال جديد قائلة: يضطرٌ المرء في بعض 
الأحيان إلى ترك وطنه الذي ولد فيه ونشأء والالتجاء إلى وطن آخر لا يعلم عنه 
شيئًاء إمّا لزيارة قصيرة أو لهجرة طويلة أو لاقتباس علمء أو جري وراء مغنم» أو 
لتحقيق فكرة من الأفكارء فما هي الأسباب التي حملتك على ترك وطنك؛ وهل 
قَديِمتَ للزيارة وللوقوف على معالم البلاد وآثارهاء أم للهجرة والإقامة فيهاء وهل 
والداك ما زالا على قيد الحياة» وهل استشرتهما عندما عزمت على التوجّه إلى هذه 
البلاد؟ 


لقد بات عليّ مجددًا أن أسرد لها بعضًا من تاريخ حياتي على الأقل بصورة 
أولا: لقد أجبتك يا عزيزتي عن بعض هذا السؤال الطويل؛ 
وسأعيد بعض ما قلته مع شيء من التوضيحات: إن الإنسان في هذه الحياة مسيّر 
غير مخيّرء تقوده ظروف الحياة إلى ما لا يرغب فيهء فإذا لاحت له ألقى عليها 
شباكهء فإذا قدّر له اقتناصها فذاكء وإلَا عليه أن يصبر حتى تلوح له فرصة ثانية؛ 
وكان طموحي وما زال قويّا منذ نشأتي» ولقد تلقّيت من العلم ما خوّلني طرق 
بعض أبوابه كالتاريخ والجغرافية والحساب» والمحفوظات» وكنت شغوفا 
بالمطالعة» وقد سافرت مرارًا إلى البادية لشراء الخيول العربية والإبل» وأنا لم 


مقتضبة. وقلت 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 401 





أتجاوز وقتها الثالثة عشرة من العمرء ولقد جَبْتٌ ديار البادية والصحراء الواسعة 
على ظهور الإبل من الشمال إلى الجنوب. ومن الشرق إلى الغرب» واكتسبت من 
كان الصحراء قوة البأس» واحتمال المشقّات» والصبر على المكاره» كما 
نردّدت إلى الأمصار العربية: نجد والحجازء وعسير واليمن» والكويت» 
والمحميّات التسع والعراق وسوريا ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين ومصرء 
واجتمعت بالعديد من زعمائها . 

وفي إحدى زياراتي للحجاز كنت بصحبة أخي الشيخ ياسين الذي عُيّن قنصلا 
للحكومة السعودية في سوريا ولبنان» ثم تحوّل ليكون معاونًا لسمو الأمير فيصل نجل 
الملك عبد العزيزء وحينها حل محله في منصبه في سوريا ولبنان شقيقي الأكبر محمد 
عيدء وقد فاتحني جلالة الملك عبد العزيز بأمر الجيش النظامي الذي ينوي إقامته» 
وطلب مني أن ألازم سمو الأمير فيصل» فاستأذنت يومها جلالته بالذهاب إلى دمشق 
لقطع علاقاتي التجارية فيهاء فَأَذِنَ لي. وعدت إلى دمشق, ومنها انتقلت إلى مدينة 
معان في شرقي الأردن» حيث أوكل إلىّ بعض أقرباء والدتي فتح محل تجاري عملت 
فيه وكيلًا للتجار الذين كانوا يقدِمون بمواشيهم وخيولهم إلى شرق الأردن» وكانوا 
من أهل نجدء لقد جرت عادة هؤلاء التجار النجديين على التوجّه إلى دمشق» لكن 
اضطراب حبل الأمن في سورية والثورة على الاستعمار الفرنسي ألزمهم التوجه إلى 
معان. وفي أثناء إقامتي في شرق الأردن اجتمعت بأميرها عبدالله بن الحسين. 

بقيت في معان عامين فقط وأغلقت محلي التجاري هناك وتوجهت إلى العراق 
لمطالبة حكومتها بوقف الرواف الكبير في بغدادء» وذلك بعدما حصلت على رسالة 
توصية من الملك عبد العزيز آل سعود إلى الملك فيصل بن الحسين ملك العراق» 
وأثناء إقامتي في بغداد تعرفت على زوجتي الأميركية في الفندق الذي كنت أنزل 
به واتّفقنا على الزواج والذهاب معًا إلى أميركا . 

لقد قضى والدي نحبه قبل أن أتوجّه إلى هذه البلاد بخمسة أعوام» ولا تزال 
والدتي على قيد الحياة» وهي مقيمة الآن في دمشق» وقد عقدت قراني في منزلنا 
بحضور إخواني محمد عيد وياسين؛ وصادّقَ على عقد القران السفير الأميركي في 
بيروت عاصمة الجمهورية اللبنانية . 


0422 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





إِنَّ من عادات العرب أن يترك الوالد ولده بعد أن يتجاوز العشرين من عمره, 
أو قبيل ذلك» ليكوّن نفسه»؛ ولقد اعتدت أنا على السفر والتنقّل بين الأمصار منذ 
السنوات الأولى لحياة شبابي» لذلك لم أستشر أحدًا من أهلي عندما عزمت على 
السفرء مع تقديري أن غيابي لن يطول أكثر من خمسة أشهر . 

إنني على اتصال دائم بأفراد أسرتي» بأخويي الاثنين وأخواتي الخمس 
وبالمناسبة ثلاث من أخواتي متزوجات ولهن أولادء كما أنني لم أستخدم عند 
أحدء وكنت دومًا أدير أشغالي بنفسي » ومن سوء حظي أنني لم أتخرّج في جامعة, 
بل اقتصر تخرجي في مدرسة كان فيها خمسة فصولء وكان يهتم بهذه المدرسة 
عشرة من كبار المعلمين والأساتذة. 

ولعلّ في هذا الإيضاح ما يكفي فهل لديك أسئلة غيرهاء إذا كان لديك فأنا 
على أتمٌ الاستعداد للإجابة؟ 

فقالت: يخيل إلىّ بعدما سمعت هذا العرض منك أنّك رحّالة كبير فيك اللباقة 
والحسٌ المرهف. جبت البلاد شرقًا وغربًا وتجولت في كثير من الأماكن التي لم 
يسبق لكثير من الناس الوقوف عليها أو زيارتهاء وأصدقك أنني بعد استماعي 
لحديئك استصغرت شأن نفسيء فمع أنني أملك عقارات كثيرة وأموالًا ضخمة لم 
يتَحْ لي الخروج من الولايات المتحدة» لا بل أكثر من هذا لم أخظ بزيارة الكثير 
من ولاياتهاء ولعل السبب هو شعورنا بأنّ كل شيء موجود لديناء ففي بلادنا 
المعالم الجميلة والآثار والشلالات والأنهار والجبال المتنوعة» وكل ما يتمنى 
الإنسان رؤيته» ففي بلادنا ولايات صالحة لقضاء فصل الصيف وأخرى صالحة 
للشتاءء» لذلك ليس هناك ما يدفعنا لزيارة بلاد أخرى» وقد عرفت الآن أثنا غير 
محقّين وأن على الإنسان محاولة رؤية العالم والاقتباس مما فيه من معارف ورؤية 
ما يحتويه من آثار ومعالم» ولذلك بنيّتي زيارة أوروبا واليابان والهند والصين هذا 
العام . 

يخيّل لي بعد تجوالك في بلدان كثيرة من القارات الخمس أنك قد اجتمعت 
بزعمائها وقادتهاء فهل حدث ذلك ومن تفضّل منهم؟ 

أجبتها قائلًا: في الحقيقة لم تتح لي الفرصة بالاجتماع بزعماء البلدان 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 423 





الأوروبية التي زرتهاء على عكس البلدان العربية التي تعرفت على زعماء كل بلد 
زرته» وإنني أفضل من بين هؤلاء الملك عبد العزيز آل سعودء فقد قام هذا الرجل 
وحده بتأسيس مُّلكِ راسخ الأركان وبتوحيد شبه جزيرة العرب وقضى على التمرّق 
والاضطرابء وأحَلّ الوحدة والأمن والاستقرار والرخاء في بلادٍ لم تعرف ذلك 
منذ قرون طويلة. لقد رأى هذا العصر وعَرّف عددًا كبيرًا من قادة الشعوب والزعماء 
ومن هؤلاء: هتلر وموسوليني» وستالين» وروزفلت وتشرشل وغيرهم كثير. 

كان الوقت قد تأر في تلك الأمسية التي أمضيت معظمها أحاور تلك السيدة 
الفضولية وأجيب عن تساؤلاتها وأثناء عودتي إلى المنزل كنت أفكر في أمر تلك 
العجوز التي أكبرثٌ ثقافتها الواسعة بالرغم من غرورها وعجرفتها. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 45 





الفصل الرابع عشر 


نشاطات دعوية ومدرسة للمسلمين ف أيوا 


مرة ثانية انصل بي قنصل مصر في نيويورك الأستاذ شوقي بك» وطلب مني 
مقابلته» وعندما فعلت ذلك كان أمامه برقية تناولها بيده قائلا : هذه البرقية من مدينة 
كليفلاند بولاية أوهايو, ومن أسرة مذرء أصحاب معادن الذهب» وظاحة موكيا 
السيدة مذر إخبارها فيما إذا كنت أعرف أحدًا لديه إلمام بأحوال البلاد العربية مع 
إمبراطورية إيران ليُلقي في منزلها محاضرة عنهماء وترجوني إذا وجدته أن ينٌصل 
بها هاتفيًًا إذا أمكن ذلك» وواصل حديثه قائلا: أعرف أن لديك الكثير من 
المعلومات عن البلاد العربية» فهل تعرف شيئًا عن إيران؟ فأجبته قائلا: لدي 
معلومات مفيدة عن إيران بإمكاني أن أجعل المستمعين يصغون لِما أقوله بانتباه» 
فقال: سأنّصل بها الآنء وبعد خمس عشرة دقيقة كانت السيدة مذر تتكلم مع 
القتنصل الذي أخبرها عني» فقالت: بعد ثلاثة أيام سأكون في فندق بلازا في 

دخلت الفندق فى الموعد المحدد فوجدت السيدة مذر تنتظرنى فى بهوه. 
وألفيتها سيدة طوت العقد الرابع من عمرهاء تختلف عن غيرها من النساء في 
الملابس والزينة على الرغم من ثروتها الضخمة» ولم تتحل وقتئذٍ بأيْ مجوهرات 
لا في يديها ولا في أذنيها ولا على جيدهاء ترتدي ملابس بسيطة؛ ثوب من القطن 
ملون وطويل يحجب ركبتيهاء وبعد التعارف بادرتني بقولها: إنني عضو في نادي 
السيدات فى مدينتنا كليملاند» ومن عادة هذا النادي أن يجتمع أعضاؤه في أول كل 
شهر في أحد المنازل» وسيّعقد الاجتماع المقبل في الشهر القادم في منزلي» وكان 
ما طلبه مني الأعضاء إحضار من يحدّثهم عن البلدان العربية» وعن إمبراطورية 
إيران؛ وستكون ضيفنا ومحدثنا في هذا الاجتماع؛ وستصلك تذكرة ركوبك إلى 





عنوانك في نيويورك مع بعض التعليمات» وسنكون سعداء بلقائك» فودّعتها 
وانصرفت . 

توججّهت في الموعد المحدّد إلى كليفلاند» فوجدت السيدة مذر قد رتبت كل 
شيء وأعدَّت له عدته» فما أن نزلت من القطار حتى قابلني مدير المحطة وأخز 
بيدي وأوصلني إلى سيارة كانت واقفة قرب مكتبه قائلًا: هذه السيارة خاصة 
بالسيدة مذر»ء وكان السائق مؤدبًا وأنيسَاء وقد مر بي بأمهات شوارع المدينة, 
وأوقفني على بعض متنزهاتهاء وأراني قسمًا من معالمهاء حتى وصلنا إلى قصر 
السيدة مذر فدخلناه» وكانت له حديقة واسعة جدًّا كثيرة الورود» منسّقة الأزهار 
مغروسة ببساط أخضر سندسي» ودخلت القصر فوجدته كتحفة جميلة منسقًا تنسيقًا 
رائعًا في غاية البساطة بممراته الواسعة حتى دخلنا قاعة الانتظارء وكانت السيدة 
مذر جالسة هناك مع زوجهاء وبعد السلام اللائق والترحيب قذمت لنا القهوة 
التركية بأوان زاهية» وبعد استراحة قصيرة تقدم أحد الخدم إليّ قائلا: تفضل 
لأريك غرفتك لتأخذ راحتك فيها يعد عناء السفر. 


تملكتني الدهشة لدى دخولي إلى غرفة استراحتي» وكانت صالة كبيرة طولها 
اثنا عشر مترّاء في عشرة أمتار تقريبًا قائم في منتصفها سرير ضخم يشبه الْأسِرّة 
التي كان يستعملها نبلاء فرنسا في القرن الثامن عشرء وكان من الجهة الجنوبية 
للصالة باب مغلق قال إنه باب الحمام» وعندما دخلت إلى هذا الحمام لم نر عيني 
شبيهًا له أو مثله في أمهات فنادق الولايات المتحدة لا في سعته ولا في أناقته؛ 
كانت أرض وجدران وسقف الحمام من الرخام الأسود الذي تزينه الحنفيات 
ومفاتيح الأبواب والأدوات الصحية الذهبية. 

انتظم في اليوم الثاني عقد أعضاء الجمعية» وكان عددهنّ إحدى وأربعين 
سيدة» تجاوزت أصغرهن العقد الرابع من عمرهاء وكنت الرجل الوحيد بينهن؛ 
حتى السيد مذر زوج صاحبة الدعوة لم يضمّه مجلسناء وانتقلنا من غرفة الاستقبال 
إلى غرفة أوسع منها مفروشة حسب الطريقة العربية التي أعِذََت خصيصًا لكي 
تتمشى مع موضوع المحاضرة» مزدانة بمختلف التحف والأشياء الجميلة وورود 
زاهية في أركان الصالة ويتوسّط أحد جدرانها صورة كبيرة متخيّلة لأبي العلاء 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 427 





المعري» وإلى جانبها صورتان حملت إحداهما اسم عمر الخيام والثانية الدكتور 
طه حسين . 

رحبت بنا رئيسة النادي وشكرت السيدة مذر على ما بذلته من جهود كبيرة 
حتى تمككنت من إعداد هذه الأجواء العربية الرائعة الأنيقة» ثم واصلت حديثها 
نائلة : بما أن ضيفنا الشيخ خليل الرواف أول مهاجر من المملكة العربية السعودية 
إلى الولايات المتحدة» فسيحدّئنا أولا عن بلاده في هذا الجو العربي اللطيف. في 
هذه الصالة المفروشة وفمًا لطريقة بلاده» وسنتناول جميعًا غداءنا على سماط عربي 
بحوي أصنافًا عربية» إِنَّ ضيفنا مسلم من أتباع النبي محمد الذي حذَّر المسلمين من 
شرب الخمر ومنعهم من تعاطيهاء ولهذا لم أقدّم إلى ضيفنا الخمر» ثم وجَّهت 
كلماتها إلى الأعضاء قائلة: أرجو أن تمتنعن عن التدخين إكرامًا لضيفنا العزيزء 
والآن تفضّل أيها الشيخ الوقور فحدّثنا عن البلاد العربية وعمًا عرفته عن تاريخها 
وعن آثارها وحكوماتهاء وعدد نفوس كل منها وعن أمهات مدنها ومنتوجاتها وما 
تصدره منهاء وما تستورده من حاجيات» وعن جغرافيتها وبواديها وطبائع أهلها 
وعاداتهم وطرق معيشتهم» وإذا ما تفضّلت وذكرت لنا شيئًا يسيرًا عن سياستها 
وعلاقاتها مع الأمم الأخرى نكون لك من الشاكرين. 

قمت بتلبية طلبهاء وألقيت محاضرتيء فَسُرِرْن بما سمعنه؛ وبعد المحاضرة 
انتقلنا إلى غرفة الطعام» كان سا سباك ع كاتسينا الجترى عل لتر مين 
الطعام العربي وحتى التبولة اللبنانية والفتوش السوري. 

قضيت بضيافة هذه الأسرة الكريمة خمسة أيام تمنّعت خلالها بلطف وكرم 
السيد والسيدة مذر. وتحدثنا كثيرًا خلال المدّة التي أقمتها هناك وعرضّت عليّ 
خلال ذلك العمل مع ولدها في منجمهم للفحم فشكرتها معتذرّاء لقد كانت هذه 
الزيارة أطول زيارة من نوعها قضيتها في ضيافة أسرة أميركية أصيلة» هاجر أجدادها 
منذ زمن بعيد إلى هذه البلاد سعيًّا وراء الثروة ووراء مناجم الفحمء العمل الذي لا 
تزال أسرتهم من بعدهم تمارسه وتقطف ثماره اليانعة وفهمت أثناء حديثي معها أن 
أسرتهم ممتنعة عن شرب الخمر منذ أن أصدرت الحكومة الأميركية قانونًا حظّرت 
فيه تجارة الخمر وشربه من قبل الشعب, لذلك لم تقدّم الخمر لضيوفهاء وقالت: 





عندما ذكرت رئيسة النادي أنني لن أقدّم الخمر للضيوف إكرامًا لك لكم كان 
يسعدني لو أنها أضافت: إن أسرتي لم تشرب الخمرة منذ أن حرّمت حكومتنا على 
الشعب شربه» وتابعت حديثها قائلة: إن العديد من الأسر الأميركية لا تزال ممتنئن 
عن شربه» ثم أوضحت تقول: إن في هذه المدينة عددًا كبيرًا من السوريين. وقد 
أخبرتهم بقدومك ورجوتهم إعداد الطعام العربي الذي يروق لك فلبّوا مطلبى. 
وإنني أشكرهم على ذلك. كانت أيام الصيف على وشك الرحيل وكنًا نتناول 
الفطور في الثامنة صباحًا في إحدى شرفات القصر الواسعة المطلة على الحديقة, 
وكانت تقوم بقطف الزهور تملأ بها المزهريات في غرف القصر الأنيقة وذلك بعدما 
تزيّن المائدة بقسم منهاء ثم كانت تختار ما كان يتناسب وملابس زوجها من الزهور 
وتشبكه وتزيّن به صدره. 

لم يكن لها من الذكور غير ولد واحد غير متزوج» كان مهتمًا بشؤون معدنهم 
الفحمي ولا يزور والديه غير مرة واحدة كل شهر حيث يمكث معهما ثلاثة أيام. 
وتجوّلت برفقة السيدة والسيد مذر في حديقة القصر في عصر أحد الأيام» توقفا بي 
أمام إسطبل كان يحتوي على ثلاثة جياد أحدها عربي. قالت: إنه خاص بولدنا أمًا 
الاثنان فواحد لها والآخر للسيد مذر حيث يمتطيانهما في بعض الأوقات في هذه 
الحديقة الواسعة. وكان في القصر مكتبة قيّمة» قالت السيدة مذر إنها كانت تقضي 
أوقات فراغها تقلَّب صفحات كتبهاء وتقرأ ما تيسّر لهاء وليس في المكتبة غير 
ثلاثة كتب عربية قالت: إنها هدية من أحد معارفها السوريين قدَّمها لها قبل خمسة 
أيام وأحدها الجزء الثالث من تفسير القرآن للزمخشري والثاني من الشوقيات لأمير 
الشعراء شوقي» والثالث كتاب ألف ليلة وليلة من المطبوعات المصرية. وطرحت 
أثناء إقامتي عدّة أسئلة على رئيس الخدم وكان مما أجابني به: خدمت في قصور 
عديدة منذ خمسة وعشرين عامّاء قبل أن أتشرّف بخدمة أرباب هذا القصرء بيد 
أنني لم أرَ في حياتي سيدة كسيدتي السيدة مذر في أناقتها وفي ملابسها البسيطة 
وفي ظرفها وفي متانة أخلاقهاء لم أسمع مرة قط صوتها يعلو على صوت زوجهاء 
وأحاديثهما قيّمة» حيث أصغي ليلا في بعض الأوقات لسمرهما المهذّب الممتع؛ 
فيروق لي كثيرّاء تراها تصحو من النوم باكرًا في الساعة السابعة» ثم تلمس الجرس 


الهجر ة إلى الولايات المتحدة الأميركية 429 





نإذا بي ماثلًا بين يديهاء فتُخبرني بأصناف الطعام الذي ترغب في تناوله في ذلك 
اليومء ثم أغادرهاء فتأخذ حمّامها وزينتها المتواضعة. ولا ألبث أن أراها تتجوّل 
فى طرق الحديقة» وأراها أحيانًا تقوم بتعديل أغصان الأشجار المائلة» وقطف 
بيض الزهورء ولم أرَّها طيلة إقامتي في خدمتها في هذا القصر البالغة أربعة عشر 
عامًا دخلت المطبخ. للتحدث مع العاملين به ولمّا فاتحتها بذلك مستفسرًا قالت: 
إنها عادة قديمة اتبعها أفراد أسرتي وإني على نهجهم أسير. هذا ما أخبرني به 
رئيس خدمهاء لا يكدّر صفوها مكدّرء فعلى الرغم من الثروة الفاحشة التي 
يملكانها وبرغم ما يجنيانه من الفحمء لم يتعاطيا شرب الخمر ولم يتنازعا فيما 
بينهماء وقد سقت قبل قليل شهادة رئيس خدمها. وبعد انتهاء زيارتي غادرت مدينة 
كليفلاند بعد أن وعدتٌ السيدة مذر وزوجها بالعودة لزيارتهما ولدى عودتي إلى 
نيويورك تعرّفت في إحدى الحفلات على كلارا آدمز الرحالة المشهورة التي طافت 
حول العالم مع خطوط الطيران الدولية في مدة 17 يومّاء ولقد لفت انتباهها 
ملابسي العربية التي كنت أرتديها في ذلك الحفل فعرّفتني بنفسها وطرحت علىّ 
العديد من الأسئلة عن البلاد العربية. 

قَدِمَ في تلك الآونة أحد حكام البحرين سمو الشيخ حمد آل خليفة» وحل في 
نزل ولدوف أوستوريا في نيويورك» فذهبتٌ بصحبة الشيخ سليمان بدور صاحب 
جريدة البيان النيويوركية للسلام على سموّه. وكان الشيخ حمد أديبًا لديه إلمام بالغ 
بالأدب العربي؛ دومًا يستشهد في حديثه بآية قرآنية أو حديث نبوي أو قول مأثور أو 
بيت من الشعرء وكنّا مأخذوين ببلاغة حديثه» وسِعَة علمه» وقد استمعنا إليه مقدار 
ساعة من الزمن» ثم أخذ الشيخ بدور حديئًا صحفيًًا من سموّه وبعد ذلك أعطاني 
سموه مبلعًا من الدولارات» قائلًا : إنه مساعدة لفقراء العرب في مدينة نيويورك» 
وفاته رحمه الله أن مدينة نيويورك لم يكن فيها عربي محتاجء ولم أرَ من اللباقة في 
شيء رد هذه الهبة إليه» فقبلتها شاكرّاء وكانت من نصيب أحد أبناء العروبة» وكان 
مقيمًا منذ مدة طويلة في إحدى مستشفيات الحكومة. 

بلغ مجموع العمال العاطلين من الشعب الأميركي عشرة ملايين نفس» وذلك 
فبل دخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية» وكانت البلاد تقوم 


430 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 


بإعاشة قسم كبير من هؤلاء العمّال العاطلين وتنفق عليهم المبالغ الطائلة من 
الأموال» لقاء أعمال بسيطة كانوا يقومون بهاء فأصيب دولاب العمل بالشلل. 
وتعطّلت حركة التجارة» وكاد شبح الأزمة الاقتصادية - التي عمّت البلاد من أولها 
إلى آخرها - يتراءى في الأفق مرّة أخرى. كما كان الوضع في سنة 1930م. وقبل 
أن يعهد بإدارة البلاد إلى فرانكلين روزفلت, وكان التججار لا يرون بارقة أمل تجعل 
تجارتهم تأخذ طريق النمو والرواج والازدهار» ولكن عندما انتشر دخان الحروب 
الأوروبية» وتنشّق الشعب الأميركي رائحة البارود الكريهة». بدأ أصحاب المصانع 
الحربية ينفضون الغبار المتراكم عن أدوات مصانعهم التي مضى على بعضها 
غعشرون عامًا دوت أن تسق .واخذت الحكومة الأميركية تستعد للطزارئ 
فاستخدمت في مكاتب وزرائها ودواوينها الشباب المثقف ممّن كانت ترى فيهم 
الكفاءة والمقدرة» ودرّبتهم على المهام المقرّر عهدتها إليهمء وأوجد عمل 
الحكومة هذا حركة في المجتمع الأميركي» ولم يمْض غير أشهر قلائل على نشوب 
الحرب في أوروبا حتى انخفض عدد العاطلين من عشرة ملايين إلى سبعة ملايين 
حسب بيانات الحكومة وقتذاك» واستعْل تجار الحرب والسماسرة فرصهم فانتشروا 
بين صفوف الشعب الأميركي يُوحُون لرجاله وزعمائه وقادته بخوض الحرب دفاعًا 
عن أنفسهم وقيم بلادهم. موضحين لهذا الشعب ولهؤلاء الزعماء الخسائر الكبيرة 
التي ستلحق بهم اجتماعيًا واقتصاديًا في حال انتصار الألمان قائلين ستُحاصرون 
في قارّتكم وسيّهدّم كيانكم كأمة حرّة مستقلة وسيغدو مستقبلكم في ظلام داكن لا 
ترون فيه وميضًا من ضوء الحرية» وكان الشعب الأميركي منقسمًا على نفسه حيال 
الحرب والمشاركة فيهاء فمنهم من رأى فيها وسيلة دمار للبلاد وقتل لأعداد هائلة 
من المواطنين» ومّن رأى غير ذلك وقال إن مجالات العمل فتحت أمام العاطلين؛ 
ولقد انخفض فعلًا عدد العاطلين من عشرة ملايين إلى سبعة ملايين في وقت قصير 
حسب بيانات الحكومة وقتئل. 





وفيما أنا في أحد الأيام أتناول طعام الغداء في أحد مطاعم نيويورك العربية 
والابتعاد عن غوغاء هذه المدينة وضجيجها إلى بلدة هادئة فى إحدى الولايات؛ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 4131 





نقلت: ماذا تقصد بذلك». أسئمت عشرتي وبقائي على مقربة منك؟ قال: لاء هذا 
ما لم أفكر فيه مطلقّاء ولم يخطر لي على بال» إن سكان مدينة نيويورك ثمانية 
ملايين» وأنت واحد منهم لا يزيدهم مكوثك بينهم ولا ينقصهم ولن يشعروا بشيء 
إذا ما ابتعدت عنهم» وكل ما في الأمر أنني تلقيت البارحة رسالة من جالية سيدر 
رابدس في ولاية أيواء يُبْدون فيها رغبتهم في فتح مدرسة عربية دينية لتعليم أبنائهم 
لغة آبائهم وليستنيروا بتعاليم دينهم» إنها جالية محترمة تضم ثلاث عشرة أسرة» 
ولدى ناشئتها الجديدة رغبة أكيدة في تحصيل العلوم الدينية والعربية» وفكرت 
طويلًا أبحث عن رجل يتولى القيام بهذه المهمة فلم أرَ لها غيرك» إنها فرصة طيبة 
بحسن بك أن تغتنمها ولا أخالك ستنزل عند رغبتي وتحمقّق مطلبي إنك لن تخسر 
شيئّاء ستقف بنفسك على ما هُم عازمون عليه وعلى خططهم بتشييد المدرسةء فإذا 
راقّ لك الأمر وأعجبتك طرق عيشهم وأحبيت المكوث فيما بينهم فبها ونّعِمت وإِلا 
فبإمكانك تركهم والعودة إليناء وعلاوة على هذاء إنك ستستفيد من فرصة جديدة 
للتنقل في هذه البلاد العظيمة وتضيف إلى خبرتك شيئًا جديدًا فما هو قولك؟ 


فكرت بالأمر قليلاء واستعرضت صورة نيويورك وعدم الاستقرار بها بعدما 
مُلئت برائحة البارود المتفجّر في أوروباء ويعدما صَمَّت الآذان فيها بفعل ما كانوا 
يسمعونه ويقرأونه عن دوي المدافع وأزيز الطائرات وتفجير قنابلها.ء مرت هذه 
الصور جميعًا أمام خيالي» فوافقت على رأي الأستاذ بدورء وما هي إِلَا بضعة أيام 
حتى نقلني القطار إلى مدينة سيدر رابدس في أيوا تلبية لمطلب جاليتها الإسلامية. 


تقع مدينة سيدر رابدس في ولاية أيوا المشهورة بزراعة الذرة» وهي مدينة 
هادئة واسعة تشتهر بطيبة تربتها وكثرة إنتاجها من أصناف الذرة والشعير والبازلاء. 
فقد كانت تنتج سنويًا 770 مليون رطل من الذرة و165 مليون رطل من الشعير و65 
مليون رطل من البازلاء» وهي بذلك متفوّقة على غيرها من الولايات, وتُعَدٌ في 
الوقت نفسه الولاية الثانية التي تهتم اهتمامًا كبيرًا بتربية المواشي إذ يبلغ عدد 
أبقارها 'منيعة دين نقرّة وفبها أكثر من مليون وسبعمائة ألف رأس من الغنم» وفيها 
للعلم قسط وافر حيث فيها جامعات هنَّ جامعة أيواء والجامعة الأميركية» وجامعة 
ديموين حاضرة الولاية» وفيها أيضًا ثلاث عشرة كلية يدرس فيها مختلف العلوم 


432 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





وثلاث عشرة كلية للأحداث» ومساحة الولاية 56,290 ميلا مربعًا يقطن فيها 
7 من البشر ويفصلها عن ولاية نبراسكا نهر مزوري من الجهة الشرقية. 
وتقع هذه الولاية في وسط الولايات المتحدة تقريباء وهي معتدلة المناخ؛ جرّها 
لطيف. فيها هواء عليل؛ وتشعر بحرارة خفيفة في أيام الصيف. أما في الشتاء 
فبردها قارس وثلوجها كثيرة» وكان تعداد نفوس سيدر رابدس آنذاك خمسة وستين 
ألفُاء ويمر بها القطار السريع المنطلق من نيويورك إلى سان فرانسيسكو بولاية 
كاليفورنيا. وذهبتٌ إليها بالقطارء فاستّقبلت بحفاوة زائدة من قبل جاليتها العربية, 
وأنزلت في ناديها الإسلامي. وكان يتألف من طابقين الأول عبارة عن غرفة واسعة 
لها منافعها خصّصت للاجتماعات الأسبوعية والاحتفالات الوطنية» وكان الطابق 
الثاني مكونًا من صالة واسعة أعدَّت لإقامة الشعائر الدينية وبجانبها غرفة خصّصت 
للسكن وكان النادي قائمًا وسط منفسح من الأرض وكان محاطا بأربعة شوارع. 
وله حديقة زاهية بالورود والأشجار الباسقة. وحضر في اليوم الثاني لقدومي أحد 
محرري صحيفة «كازات» التي كانت تصدر في تلك المدينة وذلك بناء على طلب 
من السيد حسن عجرم الذي كان رئيسًا للنادي» وأخذ مني حديثًا صحفيًّاء وكان 
موضوعه عن البلدان العربية» وعن جولاتي في الولايات المتحدة الأميركية وكانت 
ليلة الجمعة من كل أسبوع موعد الاجتماع للجالية في ناديهم» وحدَّئت الحاضرين 
عن المملكة العربية السعودية» وقد حضر هذا الاجتماع بعض الإخوان العرب 
المسيحيين» وطلبوا مني أن أحدّثهم عن أوطانهم العربية» فلبّيت مطلبهم» وكنت 
أثناء دراستي في معاهد دمشق قد غيّبت عن ظهر قلب سورة «عم» مع تفسيرها 
السهل بشكل ممتع» ويعود الفضل بذلك لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بهجت 
البيطار. الذي كان يلقي علينا دروسًا باللغة العربية وبالتفسير والفقه والتوحيد؛ 
فتلوت عليهم هذه السورة مع تفسيرهاء فخيّل إليهم أنني رجل عالم من كبار علماء 
الإسلام» وبتشجيع منهم بدأت إلقاء الدروس الدينية كل أسبوع» وكانوا يواظبود 
على دروسهم العربية صباحًا أثناء العطلة الصيفية للمدارس الأميركية ويمكثون حتى 
الظهيرة» وكان واحدًا من هؤلاء جميعًا لديه إلمام بالقراءة والكتابة بالعربية بفضل 
عناية والديه به فلقد علّماه القراءة والكتابة» واسم هذا الطالب حسن شرانق» وكان 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 433 





هناك خمسة آخرون لديهم بعض الخبرة بالقراءة والكتابة» كما كان بينهم طالبتان 
هما عائشة وليلى حمد لديهما بعض الثقافة العربية. وقد تفوّقتا فيما بعد بدراستيهما 
وتوسّعت مداركهما فقد استفادتا من وجود بعض من عرب فلسطين من الباعة 
المتجوّلين الذين كانوا يتردّدون إلى بلدتهم. واستفادتا من عناية والديهما بهما. 


لوه 


لم يرق ما لاقيته من احترام ونجاح وتقدير لبعض الإخوان من التجار 
المتجولين» وَخُيّل إليهم أنني نحَّيتهم عن مراكزهم التي كانوا يتمتعون بها من قبل» 
وأخذوا يحرجوننى ببعض الأسئلة الدينية وغيرها بمشهد من رجال الجالية أثناء 
الاجتماعات الأسبوعية أو في منازل أعضاء الجالية» وكنت أجيب عن بعض 
الاجتماعات الأسبوعية باغتني أحدهم بسؤال قائلًا: ما معنى قوله تعالى: #الَرَ * 
يت الوم #* ف ف أن الْأَرْسٍ وهم يَف بَحَدٍ عَلهِرْ سيفن * في يطيع ب نير لله 
لخر ين فل ومن بعد 4( 0 وفيم أنزلت» ومتى كانت هذه الغلبة للروم؟ ؟ من 
حُسن الحظ كنت قبل سؤاله بأيام قلائل قد طالعت تفسير هذه الآية الكريمة» فقُّمت 
بتفسيرها وشرحت أسباب نزولهاء فبُهتوا لذلك» فقد أراد الله ألا أحرّج في موقفي 
فله الحمد والمنّة. ومع هذا لا بد من أن أبيّن أن هؤلاء التجار كانوا يحبّون الخيرء 
ومن خيرة الشباب ثقافة» فقد حصل الطالب حسن شرانق على معلومات جمّة منهم 
فصل ذلك توي على غير مز اميك المدرسة وكان التنافس بي بين الطلبة في 
المدرسة شديدّاء كل منهم يرغب في أن يكون الأول في صفه وشبّجعهم على هذا 
اناي ابازهع ركذا لم ينعي سرى ا يظمة اشير على ننج الحدرتة بعتي ختم 
القرآن الكريم معظمهم وصاروا يتصفحون الجرائد العربية ويطالعون بعض الكتب» 
لَكُم كانث دهشتي عظيمة عندما قاموا بأداء بعض التمثيليات العربية» وكان أعظم 
نجاح أصابوه فى تمثيل رواية بلقيس ملكة سبأء التي كتبتها لهم. وتعاونوا فيما 
ينهم على إصدار مجلة أسبوعية أسموها «المسلم الأميركي»؛: وصدرت هذه المجلة 
بعشرين صفحة كُتبت بالإنجليزية» وأوجدوا لها مراسلين من الشبيبة العربية في 





)غ0( سورة الروم. الآيات: 4-1 


414 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





الولايات المجاورة» وأخذوا ينقلون أخبار الجاليات العربية في كل ولاية. وقر 
تولّى تحريرها التلميذان: عبدالله عجرمء وعبدو عمرء وتولّت عائشة حمد رئاسة 
التحرير» وكانت أختها ليلى تساعدها أحيانًا» وهكذا طارت شهرة الجاليات العربية 
في هذه المدينة وازداد احترامها وتقديرها من قبل الجاليات العربية في الولايان 
الأخرى المجاورة وجاء لزيارتها بعض أفراد هذه الجاليات من ذلك أسرة رشيد 
خطار وإخوته فريد وسعيد ويوسف ونجيب وأولادهم. وغالبًا ما تم الزيارات فى 
وزضن الست واللحد هن كل أسبوع. : 

التحق بالمدرسة في العطلة الصيفية بعض الشبّان من الولايات المجاورة أذكر 
منهم قاسم علوان نزيل مدينة أشلاند من ولاية كنتاكي» وكانت بين أسرته وبعض 
أسر هذه الجالية صلة من القربى» وترأس قاسم علوان وعبدالله عجرم فيما بعد 
الجاليات العربية في الولايات المتحدة الأميركية وكنداء وقد زارا القاهرة على 
رأس وفد المغتربين واجتمعا بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر. 

ولقد احتلّت هذه الجالية العربية مركز الصدارة بين الجاليات العربية الإسلامية 
المقيمة في الولايات المتحدة لمحافظتها على آدابها وأخلاقها العربية وعقيدتها 
اللاي ولقا :هي غلية من اإآلافة والمودّة» وكنت أشعر براحة تامة وسعادة عندما 
كانت تستقبل زوارها العرب القادمين من مختلف الولايات بفائق الاحترام والتقدير 
سواء منهم الغني أو المعسرء والحق أقول لم أرَ طيلة إقامتي بينهم أحدًا التجأ إليهم 
فخيّوا ظنّه كانوا يتجاملون مع زوارهم ويلبّون طلباتهم بتواضع ودون فخر ولا منّة. 

نعم إنهم ذاقوا طعم العيش الهنيء منذ وقت قريب» ولكن النعمة لم تبطرهم 
ولم تجعلهم يشمخون بأنوفهم أو يصعرون خدودهم فحافظوا على طبيعتهم كما 
كانوا من قبل» وظلَّت أخلاقهم عربية نقية وعقيدتهم إسلامية صلبة ولقد ضمَّت 
الجالية العربية في سيدر رابدس الأشخاص التالية أسماءهم وعائلاتهم: 

حنبين شرانق 

خليل شرانق 


حسن عجرم 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 435 





زين العاصي 


أسرة حمد 

هاجر أفراد هذه الجالية الإسلامية تباعًا منذ ستين عامّاء وقدموا من البقاع في 
لبنانء وقد هاجرت ثماني أسر من بلدة واحدة هي جنينء ومارسوا الأعمال 
التجارية ونالوا التوفيق» واختصّوا بأعمال السمانة» ومن بينهم أسرتان يعمل 
أفرادهما في المصانع الأميركية» وأسرة اختصت بصناعة الأحذية» وأسرتان عملتا 
بالزراعة وهما الأخوان محمد العاصي ويحيىء فهُما يمتلكان مزارعهما الخاصة 
بهماء وقد زار يحيى القاهرة في صيف عام 1380ه (1960م)» ونشرت مجلة 
الأخبار حديئًا صحفيًا له. وكانت الجالية العربية الإسلامية تُقيم حفلاتها الدينية 
والوطنية في ناديها الإسلامي وغالبًا ما شاركها احتفالاتها الجاليات العربية من 
الولايات الأخرى ولا سيما أسرة رشيد خطار وأبناء إخوته الأربعة فريد وسعيد 
ويوسف ونجيب مع أسرهمء وأذكر أنه حل مرة عيد الأضحى فاحتفلنا به ثم ما 
لبث أن حل عيد الميلاد فاحتفلنا به اجتماعيًا وألقيت بالمناسبة كلمة نشرتها جريدة 
البيان النيويوركية . 


436 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


لم أحاول في السنوات الأولى لهجرتي الكتابة في الصحف العربية» ولكن 
الذي حدا بي فيما بعد للكتابة في الصحف ما نقلته يومًا الصحف العربية فى 
نيويورك عن مجلة الأندلسي البرازيلية الجديدة عن محاضرة ألقاها الأستاذ جميل 
بيهم وكان موضوعها «المرأة في البادية»» وقد استند الأستاذ بيهم في بحثه إلى ما 
اختبره بنفسه نتيجة مخالطته لجماعة من البدو الذين جاوروا مزرعته في لبنان» وقد 
ذكر المرأة البدوية بما لا يشرّفه كعربي مسلم ووصّمّها بأمور هي براء منها «كبراءة 
الذئب من دم يوسف». 





ما هي الدوافع التي حَدَّت بالأستاذ بيهم لإلقاء هذه المحاضرة؟ ولماذا راوغ 
فيما كتبه وتخبط تخبطًا شديدًا كما يتخبّط الإنسان في فيافي إفريقيا؟ فكنت تراه كأن 
جبلا يعلو به مرة ومنخفضًا يهوي به أخرىء يحاول الولوج إلى أدغالها فلا يلبث 
أن يفرّ من وحوشها المفترسة» ولقد أغاظني تهجمه عليها دونما سبب» وأظن - مع 
أن بعض الظن إثم - أن الذي دفعه إلى إلقاء محاضرته هو: ذكر مزرعته» فقط 
تطاول بها على الناس وتباهى» ولم يُقِم للناس - سامحه الله - وزناء ولم يحفظ 
شيئًا من كرامة الملايين من عرب البادية. ولقد اعتبر نفسه عربيًًا من ذرّية العرب 
البّداة ولكنه لم يحفظ للأمم العربية مكانتها وأهانهاء فأهان نفسه وحطّ من كرامته 
دون أن يدري. 

فتناولتُ القلم وسطّرت ما يلي ردًا عليه ونشرته في جريدة البيان التي كانت 
تصدر في نيويورك «للناس مذاهبهم حينما يكتبون» وفي أي موضوع يطرقون» 
والذي يُرجَى منهم هو: توخي الحقائق والتثيّت فيما يدعون» والباحث في أخلاق 
الأمم وعاداتهاء لا يسعه أن يهمل الاطلاع الواسع والخبرة والدراية بأحوال من 
يجعلهم موضوع بحثهء ومن الخطأ كل الخطأ أن يستدلٌ المرء على أخلاق وعادات 
أمّة من معرفته بأفرادٍ قلائل منها واتّخاذهم مثالا لبقيّة مجموعها. ولعلنا نلوم بعض 
الكتاب الغربيين الذين يمرون ببلادنا على عجل مرَّ السحاب» ونتناولهم بألسنة 
حداد شداد لسخافتهم وتلفيقهم أخبارًا مزوّرة عن بلادناء تشويهًا لسمعتنا وامتهانا 
لكرامتنا وحطّا من أخلاقناء إذ إنهم يرون الشرق وأهله ليسوا من الأهمية بمكان 
ليُكتب عنهم كما يُكتب عن البشرء وهكذا كان شأن الأستاذ جميل بيهم في 
محاضرته «المرأة في البادية» إِنّه لم يحفظ حرمة للملايين من قومه المنتشرين في 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 417 





البادية العربية» ولم يَرْعَ لهم كرامة ؛ وال نهم إتيام تفتقر إلى إثبات» ولا تصدر 
عن أبناء الصحراء المترفعين بأخلاقهم عن كل ما يشينهم» فكأنه - هداه الله - لم 
بقف على فضائلهم ليتحدّث عنها كأننا يك ماضينا وأنفسنا وأدبناء 
وأخذنا نحبّذ كل ما هو غربي. 


حتى ترّهات كُنّابهم المسخّرين ننسج على منوالها كما فعل الأستاذ جميل 
بيهم. فلو أنه - هداه الله إلى طريق الصواب - خصّص قسمًا من وقته للبحث 
والحقيقة وتجوّل في الجزيرة العربية وبين قبائلهاء فاحصًا دارسًا عادات أهلها 
وأخلاقهم. متبينًا منزلة المرأة بينهم لَمَا تسرّع في حُكمه عليها وعليهم. ولما قال 
عنها «إنها سقط المتاع. وإنها لا شيء حتى في نظر نفسهاء إذ إنها تفتخر إذا 
صُربت» لا يا سيدي الأستاذء إِنَّ ما استنتجته من عادات وأخلاق جماعة من البدو 
مجاورين لمزرعتك لا ينطبق على القبائل البدوية المنتشرة في صحرائنا العربية» 
فهذه جماعة أُلِمَّت حياة الراحة والدّعة والخنوع بسكناها حول القصورء فمّسَحْتَ 
أخلاقها وخرجت من العائلة البدوية» وأخذت تجاري الحضر بكثير من عاداتهم 
وطبائعهم» ولسوء 0 لأنهم غدوا والحالة هذه لا بدوًا 
مع البدو يتمتّعون بحرية الصحراء» وينتعشون بهواتها النقي» وتصقّل أدمغتهم حرارة 
شمسها وجفاف جوّها النشيط الهادئ» ولا حضرًا مع الحضرء نالوا قسطا من 
التهذيب الحضري» بل خسروا السمت العربي الذي هو أثمن جوهرة في تيجان 
ساكني الصحراء المزدانة بالإباء والأنفة وصدق الحديث. وإن تجوالي في باديتنا 
العربية» ووقوفي على أخلاق سكّانها وعاداتهم يجعلانني أخالفك فيما ذهبت إليه 
في محاضرتك «المرأة في البادية »» ولا ينبتك مثل خبير. هؤلاء قومنا من سلالة 
الذين اهتدوا بهدي القرآن واتّبعوا تعاليمه» وتأدّبِؤا بأدبه» فهم عرب مسلمون في 
ا ا ل ا ل 1 
الإسلام لم تتبدّل منهم الطباع ولم تتغير فيهم الأختلاق »ولا :تال الأسر العربية 
من ساكني المدن ترسل أولادها ليقيموا بينهم ويتخلّقوا بأخلاقهم كما كان يفعل 
عرب مكة قبل الإسلام. 


وأمراء الأسرتين الأموية والعباسية فيما بعد. يرسلونهم - كما ذكرت - من 


418 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 


المدن ليقيموا بين البداة في البادية ليتطبعوا بطبائعهم وليكسبوا فضائلهم. والمرأة 
البدوية اليوم هي بأخلاقها وفضائلها كسالفاتها اللواتي ذكرهن تاريخنا العربي , 
فمجد ذكرهن وأعلى شأنهن. رعو جيتع اليو بود كير ومقام ينام رفيع بين قومها 
وذويها ولها من الحقوق ما يجعلها بعيدة كل البعد أن تكون «كسلعة تُباع وتشتر 
وتورث ولا تَرث ويُقايّض عليها في الزواج». 





أمّا أنها ( تقوم بأعمال شاقة ومنوط بها كل شيء حولها». فإن ذلك لكونها 
تشعر بمسؤولية الحاكم المطلق والراعي الأمين في صحرائها الواسعة ومملكتها 
الكبرى» فترى الواجب يدعوها لتهتم بشؤونها وتتعهّد كل ما يحيط بهاء فهي تجمع 
الوقود وتُحضر الماء» وتنوب عن زوجها أثناء غيابه في استقبال الضيوف 
ومحادثتهم وإعداد طعامهم وتقديمه لهم. وإنها تفاخر بخدمة منزلها ونسج خيمتها 
وخياطة ثوبها وسياسة ماشيتها وتربية أولادهاء فخرها بوضع السرج على ظهر فرس 
زوجها حينما يذهب لقتال أعدائه» أو حماية ماشيته» وتفعل هذا عن طيب خاطر 
وسماحة نفسء» وهي باسمة شاكرة» فلا تسمعها يومًا شاكية حالها ولا متبرمة 
بعيشهاء وترى الحياة حلوة كلها بشقائها ونعيمها وكدرها وسرورها ولا تيأس إذا 
مسّها الدهر بسوء لا يطاق» تصادف إحداهن وقد مضى عليها يوم أو بعض يوم 
دون طعام. فلا تشكوا رده تتبرم ‏ إذا حدّئتك بلهجة حلوة صادقة تفيض رقة وأدبًا لا 
خنوع فيها ولأحملن وفي اهنا أكبر دلالة على طيب عنصرهاء وسمورّ أخلاقها 
وكرامة نفسها وحسن تربيتها» وهي تحافظ على سمعتها كامرأة عربية شريفة» وهذا 
ما حمل البدوي أن يذكر اسمها مفاخرًا إذا انتسب» تراه يفعل ذلك أينما كان في 
المجالس أثناء حديثه مع الناس أو في حروبه عندما يواجه عدوه فيقول منتسبًا وبكل 
حماسة أنا أخو سلمىء أنا أخو علياء أنا أخو شما أنا أخو نورهء إنها أسماء 
فتيات عربيات يذْكُرُهن الرجال وقت اللمّات وعند الشدائد» والمرأة العربية تعمل 
اورف كانت تعمله أخواتها منذ قرون مديدة» إنها بطلة الحروب والغارات» 
تذكرنا بأخواتها العربيات» بطلاات اليرموك. من أمثال خولة بنت الأزور وسواها. 


واحترام البدوي للمرأة في البادية يكاد يكون سُنَّةَ متبعة» وعادة موروثة كابر 
عن كابر» وهذه أشعار العرب تسبح بحمدها وتمجد ذكرها: 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 039 





وإن دعيت إلى جلى ومكرمة يومًا إليك سراة الناس فادعينا 

تقرأ هذا وغيره من نفائس القول يا سيدي الأستاذ ثم تَدّعي أنها في نظر 
البدوي «من سقط المتاع». فلو كانت كما ذهبت إليه. هل يجاهر البدوي بذكر 
اسمها؟ والبدوي من أعرق الناس في الإباء والشهامة والشمم والترفع عن 
النقائص » وهل كانت تحيي كرام الناس وتسقيهم » وتدعو إلى الجلى والمكرمات؟ 

إن الآية الكريمة التي استشهدت بها على إهانة العرب للنساء وكراهتهم لهن 
وهي قول الله تعالى: رَإدَا ميْرَ أسَدُهُم بِالأنق ظَلَّ وَجَهُمُ منوَنا وهْرَ كيه لقد خفي 
عليك أيها الأستاذ مغزى هذه الآية الكريمة وسبب نزولها. 

إنها نزلت بحق أفراد كانوا ينتمون إلى قبيلتّي خزاعة ومضر وبعض تميم» 
وكانت هذه القبائل قد هجرت جماعة منها الحياة البدوية وتحضّرت,ء وعلى هذا 
نزلت بحق طائفتين عربيتين من الحضر والبدوء ولا يحقٌ لك أيها الأستاذ أن 
تستشهد بها على جماعة دون الأخرى. 

ننه ازول هق ] لكيه وي أن مشركي العرب اذَّعوا أن الملائكة إنانًا وأنهم 
بئات الله فأنزل الله تعالى قوله: #وَحمَلُونَ ينه نت سِبْحَدمٌ وَلْهُم ما يَنْتَهْوتَ * وَإدَا 
بِيْرَ أحدهم بالأنق ظَلَّ وَجَهُم مود وَهْرٌ كييك *20(4, 

وكانت فئة صغيرة من العرب فى الجاهلية تَّئِد البنات. خوفًا من العار وخشية 
أن لا يجدوا لكريماتهم أزواجًا أكماءء وقد أجاد الشاعر حافظ إبراهيم في الإحاطة 
بهذا المعنى. وهو يتحدث على لسان اللغة العربية بقوله: 

ولدت فلمّا لم أجد لعرائسي رخالا أكفاء وَأذك بشائتي 

استنكرت غالبية القبائل العربية البدوية وأد البنات». وأخذ بعض رجالات 
العرب يقاومون هذه العادة الخبيثة بشتّى الوسائل» وقد حفِظ عن صعصعة التميمى 
جد الفرزدق أنه فدى الموءودات وحالَ دون وأدهنء ولهذا أشار الفرزدق في شعره 
مفتخرًا : 





(1) سورة النحلء الآيتان: 257 58. 


440 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





وجدي الذي منعالوائدات وأحيا الوتيدولميوئد 

يوغل 'من هذا :وغيزه أن وآ الننات كان هاا وقليلًا دَفَعت إليه أسباب غير 
اعتيادية» وُجِدَّت قبل الإسلام وحرّمها هذا الدين الحنيف. 

قد يُغفر لك أيها الأستاذ المحاضر كل ما ادّعيته» واستنتجته عن المرأة فى 
البادية وما وصَّمْت به أهل البادية» إِلَّا قولك: «وكان من البديهي أن تبقى المرأة 
التي عرفنا مقامها عند البدو محرومة من التربية والتعليم» فما الذي تعنيه بالتربية 
والتعليم؟ هل تعني أنها لا تحسن استعمال الشوكة والسكين في طعامهاء وأنها لا 
تنام على سرير وثير وغير ذلك من المحدثات؟ أم تعني التربية الأخلاقية؟ وهذا ما 
ثلام عليهء ولن نَغفر لك هذه الزلّة أبدّاء فالمرأة البدوية في أخلاقها وتربيتها 
وآدابها مستقيمة كالصراط السوي» وطاهرة كالسحابة في سمائهاء ونقية كهواء 
صحرائها . 

أمّا قولك: «محرومة من التعليم» فاللوم يقع عليكم أنتم يا رجالات الأمة 
وقادتهاء والتقصير صادر عنكم أيها المثقفون» فالواجب يدعوكم للإسراع في 
مقاومة الأمّية» واستئصال شأفة الجهل من بين البدو وتعليمهم مبادىء القراءة 
والكتابة» كما فعل الملك عبد العزيز آل سعود مع السارحين في البوادي النائية عن 
العمران وبذلك تكونون حمًّا مخلصين لأمتكم ووطنكم. فقد بدّل عبد العزيز حياة 
الجزيرة من بداوة إلى حضارة ومن جهل إلى معرفة. 

تستقبل الولايات المتحدة كل عام آلاف البشر من أنحاء العالم زوَارَاء 
ومهاجرين؛ ومن هؤلاء جماعات من الشعب العربي» وكان لهؤلاء العرب شرف 
المساهمة في النهوض إلى المستوى اللائق بها الذي تتمتع به الآن وصحيع أن 
هجرة العرب جاءت متأخرة عن بقية شعوب العالم» فهي قد ابتدأت منذ أكثر من 
مائة سنة بقليل» ولكن العرب أخذوا بنصيبهم في تعزيز مكانة وطنهم الجديد والذود 
عن كيانه . 

كان إخواننا العرب اللبنانيون في طليعة المهاجرين من البلاد العربية» هاجروا 
إليها مع أسرهم. وما زالوا يعملون فيها بجدٌ ونشاط وإخلاصء ومن دون ملل أد 
فتور حتى أصبحوا في السنوات الأولى من هجرتهم - لا أقول من الطبقة الأولى 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 441 





ني الشعب الأميركي في أعمالهم وأحوالهم الاجتماعية» لكنهم والحق يُقال - 
حافظوا على آدابهم ونشاطهم حتى غذوا من أوائل الطبقة الوسطى؛ وساعدهم على 
نيل هذه المرتبة التجارية والاجتماعية طبيعة أخلاقهم وعاداتهم العربية المحترمة 
وس أحدوثتهم بين طبقات هذا الشعب العظيمء فقد انتشروا في هذه البلاد 
واندمجوا مع أهلهاء ولا تخلو مدينة من مدن الولايات المتحدة إِلَا وتجد فيها 
جماعة من العرب اللبنانيين الذين أسّسوا النوادي والجمعيات وأقاموا دور العبادة 
ونبغ منهم المحامون والأطباء والقضاة والنواب ورؤساء البلديات» وأساتذة 
المعاهد العلمية والجماعات والشعراء والأدباء» وتّظهر الإحصاءات أن عدد 
اللبنانيين في الولايات المتحدة يفوق مجمل تعداد سكان لبنان حاليًا . 


لم تكن الجالية اللبنانية وحدها التي حازت على الشهرة الواسعة والنجاح 
الكبيرء بل حظيت بالشىء نفسه الجاليات العربية الأخرى التى قَيِمت من فلسطين 
وسورية والعراق وبقية الأقطار العربية. 

نلك إن الشيغة الطب وفيض الأحدوس هس القن ارصلت الصالبات العو 
إلى المركز الاجتماعي والاقتصادي الممتازء فأنت تسمع بين آونة وأخرى عن 
إدخال أفراد من الشعب الأميركى السجن بسبب السرقة أو الاختلاس أو الاعتداء 
على الأموال والأعراضء لكن نادرًا ما تجد بين هؤلاء من هو من أصل عربي» 
وفي الحقيقة من حسن حطّ الجاليات العربية أنه لم يُسمع قط أن أحدًا منها أعدم أو 
قتل أو اختلس أو اعتدى على مال أو عرض» ولهذا قلت إن المهاجرين العرب هم 
خيرة شعب أميركا فى الخلق والاستقامة. 

ولقد أحرز أدباء العرب في المهجر قصب السبق في تكاتفهم وفي إنتاجهم 
الأدبى وفى تعزيزر لغة آبائهم وأجدادهمء فأنشأوا الصحف والمجلاات العربية 
وأقاموا جمعيتهم المسماة «الرابطة القلمية»» التي عرّزت مركزهم ولا يذكر تاريخ 
وطنهم الجديد أن جالية من جالياته العديدة أجمعت كلمة مفكّريها وكتّابها على 
التكاتف والتعاضد في الإنتاج الأدبي كالجالية العربية» وقد عناهم الشاعر حليم 
دموس في قصيدته التي نظمها عن اللغة العربية في المجمع العربي بدمشق حيث 
قال : 


442 صفحات مطوية من تاريخنا العربى ي الحديك 
ااال سس سس ب سس | رم 


في بلادالغرب منها عصبةرامواعلاها 


بمعان راكلعات رجمع الدهر صداها 


لا يسعني عند ذكري لهذا الرعيل الأول من مهاجري العرب إلا أن أقف بكر 
إجلال وتقدير لهذه النخبة الصالحة من أبناء العروية» الذين رفعوا في دار هجرتهم 
اسم وطنهم الأول عاليًا مزهوّاء وهذا الوطن يقدّر جهادهم المبرور وحفظهم 
لكرامتهم وللغة الآباء والأجدادء وأوفى هؤلاء: إيليا أبو ماضيء جبران خليل 
جبران» نسيب عريضة؛ ندرة حدادء عبد المسيح حداد. رشيد أيوب. أبو علي خير 
اللهء حبيب كاتبة» سليمان بدورء سلوم مكرزل, الدكتور شطارة» فوزي البريدي. 
سليمان كرم وغيرهم. 
خلف من بعدهم خلف. أتوا إلى هذه البلاد» منهم من انّخذ الكتابة مهنة 
وأراد أن يَلحَق بالرّكب الأول من أدباء العروبة» ولكن البون كان شاسعًا بين ما 
كتبه المهاجرون الأوائل وما كتبه من اتّبعهم من العرب في الثلاثينيات من هذا 
القرن» فالأوائل أوقفوا أنفسهم على خدمة وطنهم وأمتهم ولغتهم وكانوا حمًا 
مجدّين ومخلصينء. وكان ل وإنك لتلمس الفوارق الظاهرة بين 
أخلاق السابقين واللاحقين» وكذلك بين الكتابات والعمل» وكأن الشاعر عناهم 
بقوله : 
هذا من الآسن المائي جبلته وذاك من طاهر السلسال مجبول 
شتان بينهما شتان لو علمت أبناءأمي أخواتي البهاليل 
ولنقف على الفوارق بينهم. إليك ما قاله شاعرٌ من الرعيل الأول هو ندرة 
حداد عندما عاودته الذكرى لوطنه ومرتع صباه؛ فقد عبّر عن أشواقه وحنينه إلى 
تلك الربوع وإلى ساكنيها من أبناء قومه فقال: 
لا زار جفني الكرى لا هزني الطرب20 إن كنت يومًا لغير العرب أنتسب 
هم الكرام وأبناء الكرامء هم القومالأماثل في الدنيا وإن نكبوا 


اليجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 443 





إن طال أو لم يطل عنهم تفرقنا 2 همالأحبةإن غابوا وإن قربوا 
با أيها الشرق كم في الغرب مكتئبًًا ‏ يئنإنهمشتاق وينتحب 
يبكي على إلفه النائي البعيد وقد دهتك فيه خطوب الدهر والنوب 
هي الحياة فأحلاها وأجملها ألاأراني ع نالأحباب أغترب 
إن كان هذا ما تغنّى به الشاعر ندرة حداد وأعرب به عن مشاعره فإليك ما كتبه 
احد المهاجرين الجدد من أدباء العرب في إحدى الصحف العربية تحت عنوان 
إلى أين يقودنا التفكير في تقرير مصيرنا». 
استهل مقاله متهجّمًا على قومه العرب لركوبهم الجمال ولاختلاف ملابسهم» 
نذكر الطربوش والكوفية والعقال» وبتعبير يشمئز لسماعها كل إنسان. وكان ممًا 
قاله ودعا إليه أن يعود العرب إلى الوراء ويطلبون حماية بعض الحكومات الأوروبية 
ذات الجيوش القوية والاستعدادات الحربية والعمل تحت إرشاداتها . 
كان هذا الكاتب شابًا في مقتبل العمر جديد العهد بالحياة» ذكّرتني كتاباته 
بذاك الشاب الذي استقل الباخرة من ميناء بيروت إلى فرنساء وعند إقلاع الباخرة 
ما كان منه إِلّا أن تناول «طربوشه» الذي كان معتمًا بهء وألقاه في اليم واستبدله 
بقبعة أوروبية» وكنت وقتها أودّع صديقًا متوجهًا إلى إيطالياء ولمّا رآه أحد الحضور 
صاح به: إنك لأحمق أيها الشاب؛. هل استبدلت أخلاقك قبل استبدالك 
للطربوش؟ 
قلت كان ذلك المهاجر جديد عهد بالحياة» ولهذا لم أتطرّق إلى ذكر اسمه 
عندما رددت عليه كما فعلت مع الأستاذ جميل بيهم» الذي كان قد تجاوز العقد 
الرابع من العمرء وله تجارب كثيرة في الحياة» واكتفيت بكتابة مقال تحت العنوان 
الذي اختاره هو لمقاله «إلى أين يقودنا التفكير في تقرير مصيرنا»؟ ونشرته أيضًا في 
البيان وقلت فيه : 
إن ركوبنا النجائب في صحرائنا العربية لا يزريناء ولّبسنا الطربوش والكوفية 
والعقال في مدننا وأمصارنا لا يقلّل من هيبتنا إن كنّا عصبة واحدة» ولكن الذي 
يزرينا ويجعلنا محتمّرِين في نظر العالم هو تخاذلنا وانشقاقنا واحتقار بعضنا بعضًا. 


444 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 
لكك كت الك 135 مدعا 115 جلا زر ناو 0 


وإن العتاد الحربي لا يُفيد الأمة شيئًا إِنْ هي فقدت معنوياتها ودبّت الفرقة بين 
صفوفها. هذه هي فرنسا لم يغن عنها استعدادها الحربي شيئًا ولا كثرة سكانها من 
الملايين» إِنْ تخاذلها وتقهقرها أمام ألمانيا بهذه السرعة التي أدهمشت العالم كانت 
بسبب اختلاف كلمتهاء ففرنسا المتخاذلة على نفسها هي التي ارتمت بصورة 
مخجلة تحت أقدام ألمانياء والثلاثة ملايين من الفلنديين المتتحدين» أصحان 
الإنتاذ القري بخان فهو حت الذي ونوا اريمة شه وعنهًا لرجه امام اليد 
الروسي» الذي إذا ذُكر تّهلع القلوب منه. 
لماذا نطلب من الحكومات الأوروبية حمايتناء والعمل تحت إرشاداتها؟ فلقد 
جرّبنا الحماية من قبل والارتماء في الأحضانء هل الحماية مهما كان نوعهاء 
ومهما اختلفت طرقها سوى طوق من حديدء يلتف على عنق الأمة ويكبّل أياديها. 
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا 


ِنْضِف بأس هؤلاء الرجال وقوّة مراسهم على القتال وتملهية وحنكة قائدهم 
عبد العزيز آل سعود وتجربته إلى ما لدينا من علم وثقافة» فنكون بذلك أمة يُحْسى 
بأسها ويُحذر بطشهاء ومرة ثانية تطاول هذا الكاتب في مقالٍ كَتَبِهِ تحت عنوان 
«القضية العربية بين الأمس واليوم» وتطرّق في بحثه الجديد إلى إمارة شرقي الأردن 
ومملكة الحجاز فرددتٌ عليه بالعنوان نفسهء وكنت في ردّي الأول لم أذكر اسمه. 
ولكنني ذكرت اسمه في ردّي الثاني» وكنت مؤدبًاء فحبّذت بعض آرائه وانتقدته في 
بعضها وإليك بعض ما قلته : 

وكان يُرجى للمقال أن يكون له صدى أبعد» وفائدة أعمّ. وتقديرًا أكبر لدى 
القرّاء» لو سمّى الكاتب جميع الإمارات والممالك العربية التي جاء قيامها من 
التجارب الخاسرة في الجزيرة العربية» التي أسفرت عن إخفاق تامء ولم يكُتَفٍ 
بذِكر إمارة شرقي الأردن» ومملكة الحجازء إذ إن القارىء يتوحّى من الكاتب أن 
يكون حياديًا لا ينحاز إلى فئة دون أخرىء» ويجدر به أن لا يقتضب أحاديثه إذا 
خاض في المواضيع العامة» فجعلها مبتورة مبهمة» ومن اللائق به أن يُشبعها دراسا 
وتنقيحاء فيبيّنها للناس واضحة الشكل ليل القارىء بالموضوع من كافة جهاته. 


لهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 445 





لا يا سيدي البريء» ما هذا الأمر الذي اضطرَّرزت معه لتقصّر مقالك على ذكر 
إمارة شرقي الأردن ومملكة الحجازء وتعِفٌ عن ذكر باقي الممالك والإمارات؟ 
مل لك مآرب أخرى في التعرّض إلى هذه الإمارة وهذه المملكة أو موعَّرٌ إليك 
إيكتب ذلك؟ أم هذا ما تعتقده وتؤمن به؟ 

لاء لا يا سيدي البري إِنْك تعلم» كما أن كل إنسان في هذه الكرة الأرضية 
مّن لهم إلمام بالسياسة العامة يعلم أن إمارة شرقي الأردنء هي كغيرها من 
الإمارات والممالك القائمة في أطراف الجزيرة العربية» خاضعين إلى نفوذ أجنبى 
ومرتبطين بمعاهدات مع الحكومات الاستعمارية الأوروبية» فهم بطبيعة لكان 
والواقع مضطرٌون إلى التملّق لهم ومسايرتهم فيما يريدون. 

أنّا'مفلكة الحصاز - كما سمّيتها ت وأغتقد أنك تعنى المملكة العربية 
النزقية »في حرّةطزيقة “له شالطة: لأحد علتها :فهى اقائمة ينفسها تتمتع بالطمانيية 
الداخلية والاستقلال الخارجي». وهي سائرة بخطى ثابتة في المصلحة العربية 
العامة» وقامت بتجارب عديدة لم تخفق بواحدة منهاء وعلى رأسها رجل لم يكن 
بومًا ثرثارّاء وضع تاج مُلكه على رأسه بيده لا لأحد بذلك منّة - إلا لله وحده - 
ولا يزال يرينا في كلّ يوم من ضروب الحنكة والكياسة؛ في إدارة سياسة مملكته ما 
جعله يزداد إجلالًا وإكبارًا لدى العالم أجمع وإذا تبقّى لنا نحن العرب بعض 
الاحترام والمكانة في نفوس الأمم فيعود الفضل به لهذه المملكة الفتيّة القائمة في 
الحجاز مهد العالم الإسلامي» وفي نجد قلب الجزيرة العربية» وإلى رجلها البطل 
عبد العزيز آل سعود. 

بعد ذلك لم أسمع أن عبدالله بري كتب شيئًا في هذه المواضيع» أو تطرّق 
لذكر قومه العرب بما يشينهم أو يسيء إليهم . 

هذا هو البون الشاسع بين الرعيل الأول وما عملوه في دار هجرتهم» وبين 
المهاجرين اللاحقين من أبناء أمتهم. ويعود السبب في ذلك إلى أنْ الرعيل الأول 
من المهاجرين الأوائل كانوا أمئّن أخلاقًا وأصلب عقيدة» وأقوى إيمانًا بوطنهم 
رأمتهم, وأمتن علاقة مع لغتهم من المهاجرين الجددء ولم ير المهاجرون الأوائل 
ما فعلته الأمم الأوروبية المستعمرة الغاشمة بأوطانهم وساكنيها من ذل واستعباد 
دفهر وتفرقة . 


446 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





المهاجرون الجدد رأوا كل ذلك. ومشوا في هذا الظلام الداكن لا يرون في 
بارقة أمل في الحرية والاستقلال» وعلى هذا اعتادوا على الذلٌ والاستعباد 
واستساغوا لأنفسهم حياة الخنوع والمذلّة والاستكانة التي قدَّمها لهم المستعمر 
الأوروبي وهي التي حالت بينهم وبين عروبتهم وأبعدتهم عنها . 

حدث أنه بعد ثلاثة أشهر من إقامتي في سيدر رابدس» وقبل اعتداء اليابانيين 
على بيرل هاربرء وكانت الحكومة الأميركية لم تدخل الحرب بعد. حضّرٌ إلى 
النادي الإسلامي رجلان من رجال الحكومة وسألاني هل تتجنّد إذا دخلت 
الولايات المتحدة الحرب» فأجبتهم بقولي: إنني ببلد هاجرتُ إليه محبّة فيه وإنني 
اليوم أتمتّع بخيراته وحرياته» ولا أمانع مطلمًا أن أتجنّد فيما إذا دخلت الولايات 
المتحدة الحرب وخاضت غمارهاء فشكرانى وانصرفا. 

علايت علن ترك هدة الجالية الإسلامية بعد أن أقمت بين ظهرانيها أتمتع 
بتقديرها واحترامها ستة عشر شهرًاء مرَّت وكأنها أيام قلائل» وتركتها لا زاهدًا فيها 
ولا كرمًا لجاليتها الإسلامية التي كنت أحترمها وموضع إكرامهاء لكن عزمت على 
تركها بعد أن أسّست فيها مدرسة لتعليم العربية والإسلام وبعد أن أصبح بإمكان 
أهالى هذه الجالية رعاية شؤون مدرستهم إذا لم يجدوا مدرّسًا آخر. 

استخرتُ الله وقرّرت العودة إلى نيويورك وأرسلت في اليوم الثاني إعلانًا 
نشرته بعض الصحف العربية» وجّهته إلى من لديه الكفاءة ليأخذ مكان عملي في 
هذه الجالية وليقوم بإدارة النادي والمدرسة العربية» ولم يتقدَّم أحدء وبقيت 
المدرسة تُدار بواسطة تلاميذها المتفرّقين» ولا سيما الطالب السيد عبدالله حسن 
عجرم وقد غدا فيما بعد رئيسًا للجاليات العربية في الولايات المتحدة الأميركية 
وكنداء وقد قام. كما قلت» بزيارة القاهرة على رأس وفد للمغتربين واجتمع 
بالرئيس جمال عبدالناصر» ثم خلفه في مركزه السيد قاسم علوان نزيل أشلاند 
كنتاكى» وكان من المنتسبين إلى المدرسةء وقد زار أيضًا القاهرة والتقى بالرئيس 

كنت قبل أيام من تركي مدينة سيدر رابدس قد تلقّيت دعوة من أحد معارفي 
وهو السيد علي العبدوني نزيل لوكن وسط فرجينياء وسبق لي أن وعدته بالزيارة؛ 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 447 





وهكذا شدَّدّت الرحال إليه» بعدما ودّعت جالية سيدر رابدس وداعًا حارّاء متمنيًا 
لها حياة سعيدة حافلة بالمسرّات ورغد العيش» وأسدلت الستار على العلاقة بيني 
وبينهاء وكان بودّي أنها بقيت مشرّعة لأتمُم تمثيل دوري على مسرح حياة هذه 
الجالية كرئيس ديني لها وواعظ ومعلّم لناشئتهاء ولقد كان وقع مغادرتي على هذه 
الناشئة أشدّ من وقعه في نفوس آبائهم. وهذه هي مشيئة القدّر تتصرّف بالإنسان 
أحيانًا دون إرادته» وقال الشاعر: 
ماكلمايتمنى المرءيدركه 2 تجري الرياح بما لا تشتهي السفن 
تلقيت أثناء إقامتي في مدينة لوكن برقية من الأستاذ نبيه فارس» وكان معاونًا 
لرئيس القسم العربي في إذاعة صوت أميركاء يدعوني فيها للانضمام إلى هيئة هذه 
الإذاعة» ولم أرغب في الاستجابة لطلبه وصمّمت على رفضه. ولكن برقياته 
المتواصلة وإلحاحه بضرورة قبول عرضه أثر بن شرل عند رفيته وتوجّهت إلى 
مدينة نيويورك حيث التحقت بهذه الإذاعة. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 449 





أخبرت في اليوم الأول لاستلامي العمل في إذاعة صوت أميركا أن أكتب ما 
أريد وأذيعه» ولبثت على هذا بضعة أيام أكتب وأذيع دون مراجعة أحد أو رقيب» 
وبعد أسبوعين أصدر رئيس القسم - وهو أميركي الجنسية - بيانًا أمر فيه أن يَعرض 
المذيعون عليه كل ما يكتبونه ومن ثم يُذاع» وقدّمت لهذا الرئيس ما كتبته فجرى 
قلمه الأحمر على بعض الجملء» فقلت له: إن حكومة الولايات المتحدة الأميركية 
لم نُصدِر حتى الآن بيانًا بشأن حقوق وحريات العرب والمسلمين في أوطانهم» 
حتى نبني على هذا البيان ونستمدٌ منه مادة نمشي عليها فيما نقوله» وسيكون لذلك 
وفع أبلغ تأثيرًا لدى المستمعين من العرب والمسلمين» فرمقني بنظرة فيها من 
الاستغراب ما فيهاء وتلقّيت منه جوابًا فيه من الغموض ما يُشْثَمٌ منه عدم الاكتراث 
بالعرب والمسلمين» وأوضح لي ما أسلفه قائلا: إن العرب والمسلمين ليس لهم 
حكومات مستقلة. وهم تحت الانتدابين الإنجليزي والفرنسي» وستنظر حكومة 
الولايات المتحدة الأميركية في هذه الأوضاع بعد انتهاء الحرب» وناولني قصاصة 
من الورق درّن فيها الجملة الآتية: «مواعيد عرقوب» وقد قصد ما قاله الشاعر: 
كانت مواعيد عرقوب لها مثلًا ‏ وما مواعيدهاإلاالأباطيل 

ثم قال: أرغب أن يكون ردِّك على ما تذيعه محطة برلين من أن الحكومة 
النازية سوف تسعى جاهدة بعد أن تكسب الحرب في سبيل توحيد الأقطار العربية 
ولسوف تترك العرب يحكمون أنفسهم دون تدخُل منها. 

حاولت فيما كتبته بهذا الشأن أن تكون كلماتي مبهمة لا يُسْتَمُّ منها التعرّض 


450 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





لأحد من المستعارس» وعند عرضها على الرئيس أضاف إليها كلمات نابية عن 
ألمانياء لكني لم أقلها عند إذاعتي لما كتبته. 

وجدت في اليوم الثاني على طاولتي بعض العناوين» ولدى انتهائي من قراءتها 
رأيت ”رئيس القسم واقمًا فوق رأسي حيث أملى علي بعض الفقرات» ثم أردف 
قاكلة: .يوت أن تدوق هذه العبارات فيما ستكتبهء وكانت طافحة بالسباب والشتائم 
والعبارات الشائنة بحق الأمة الألمانية» كما طلب مني أن أجابه بالغو ل يونين 
بحري الذي كان يذيع من محطة برلين. 

لم أوافق على طلبه» وبدلًا من أن أدبج الصفحات بالشتم والسباب اكتفيت 
بكتابة بضعة أسطر كانت تحتوي على طلب استقالتي وعللت هذه الاستقالة بقولي: 

إن المملكة العربية السعودية التي أنتمي إليها وأحمل جنسيتها لا تزال على 
الحياد» لم تُعلن عن ميلها لأحدء وأخشى أن أجاريكم ميولكم وأنزل عند رغبتكم 
فتغضب عليّ حكومتي. وأسرتي ليست نكرة في البلاد العربية ولها مكانتها الرفيعة 
في المجتمع العربي» وبما أنه يُذكّر اسمي واسم بلادي قبل أن أذيع كلمتي فيُقال 
بعد الديباجة: أيها العرب تستمتعون الآن لِما يذيعه عليكم الشيخ خليل الرواف من 
المملكة العربية السعودية. أرجو قبول استقالتي. 

قدّمت طلب استقالتي إلى رئيس القسم فانتفض مغضيًا وقال: إن الإذاعة كتبت 
إلى دائرة التجنيد أنكم تساعدوننا في عملناء والآن إذا أصرَّرْت على استقالتك 
ستّساق إلى الخدمة العسكرية. 

ساءني هذا التهديد فتمسّكت بإصراري على الاستقالة قائلًا: إنني أفضّل أن 
أجِنّد وأن أخوض غمار الحرب لملاقاة النازية الألمانية وجهًا لوجه على أن أبادلهم 
السباب والشتائم عبر الأثير» وغادرت المكتب. 

لم أتناول طيلة عملي في صوت أميركا أجرّاء ولدى مطالبتي بذلك لم يلب 
رئيس قسم الإذاعة مطلبي بشكل خلا من الدبلوماسية» وخلال ذلك حاول نفرٌ من 
مستخدمي الإذاعة إعادتي لأعمل فيها ثانية فلم أستجبُ» وإثر ذلك كُلّفت من قبلهم 
ومن قبل مكتب الاستعلامات الأميركي أن أترجم إلى العربية ما يقرب من خمسين 
صفحة حَوَّثْ جملا متداولة للمخاطبة» وقد سجّلتها على عشر أسطوانات» وقد 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 451 





أخذوا يذيعونها على الجنود المزمع إرسالهم إلى بلاد المغرب والجزائر وتونس 
للقتال ضدٌ جيوش النازية» وتقاضيت على عملي هذا كمية محترمة من الدولارات. 

كانت الحرب العالمية مستعرًا لهيبها في أوجّ معمعتهاء وكانت النازية الألمانية 
بزعامة هتلر ترفل بأثواب العرّ والسؤدد» وكان الجند النازي ينتقل من نصر إلى 
نصرء وكانت الجيوش الألمانية تحتل البلدان الأوروبية الواحدة تلو الأخرى» 
وكادت أوروبا بأسرها أن تستسلم لهتلرء وبلغ الضيق ببريطانيا إلى حدّ أنَّ حكومتها 
قرّرت نقل عاصمتها إلى كندا وأخذت الأسرة المالكة تتأهّب للرحيل عن مدينة 
لندن التي أمطرّتها النازية بقنابلها الفتّاكة الهدّامة. 

حدتٌ هذا كله وأكثر في برهة وجيزة من الزمن مما ونّر أعصاب قاطني 
الولايات المتحدة وهرَّ كيان البلاد» وتأّر وضعي وماذا كان بإمكاني أن أعمل في 
هذا المعترك من الحياة» كل مهتم بنفسهء ولا يعرف ما سيحمله له الغد من 
مفاجآت»ء أَضِف إلى ذلك انقطاع المواصلات الخارجية؛» فلم أعد أسمع عن 
أوطاننا وقاطنيها شيئًا يخمّف عني أعباء الحياة. 

غدّت مدينة نيويورك العملاقة بمتنزَّهاتها الواسعة وملاهيها ومبانيها الشامخة 
وملايينها الثمانية عَدَت بناظري كقرية من قرى حوران أو من قرى نجد الصغيرة لا 
يجد المرء فيها ما يرفّه به عن نفسه. وفي الحقيقة اعتراني بعض الضيق حتى إنني 
لزمت المنزل يومًا كاملا أفكر فيما يمكن أن أعمله لكسب عيشيء» وخامّرني شعور 
بالحزن العميق لتَرْكي العمل بالإذاعة» وحدث في هذه الفترة المضطربة أن كُلّفت 
من قبل القائمين على مكتب الإذاعة البريطانية في نيويورك في أن أنقل إليهم أخبار 
الجاليات العربية الإسلامية في الولايات المتحدة وأن أتحدّث عمًا يقومون به من 
أعمال ونشاطات دينية وأن أذكر أسماء من التحق منهم بالجيش الأميركي» وذلك 
كله ليُذاع من الإذاعة البريطانية. 

قمثُ في هذه الفترة بفتح ثلاث مدارس لتدريس مبادىء الديانة الإسلامية مع 
مبادىء العربية» وكانت المدرسة الأولى في بروكلن والثانية في هارلم والثالثة في 
منهاتن في الشارع الخامس - والطريق السابع والأربعين» وكنت أدرس في 


452 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





المدرسة الأخيرة اللغة العربية فقط صباح كل يوم حتى وقت الظهيرة» وأتقاضى 
أجرًا من تلاميذها إذا لم يكونوا من المسلمين» وكان من بينهم ضابطان أميركيان. 

أما في مدرستّي بروكلن وهارلم فكنت أدرس الديانة واللغة العربية وكان 
أغلب تلاميذهما من المسلمين الذين اعتنقوا الديانة الإسلامية منذ وقت رينت ولم 
أتقاضَ أجرًا من تلاميذ هاتين المدرستين» بل كنت في أغلب الأحيان اويا 
أتقاضاه من تلاميذ المدرسة الأولى عليهماء وكانت أوقات الدراسة فيهما ليلا بعد 
المغرب من كل يوم من أيام الأسبوع» وكنا نقيم صلاة الجمعة في مدرسة هارلم. 

عَهدت إليّ جالية نيويورك الإسلامية أن أكون رئيسًا ديا لها وإمامّاء وأخذت 
أعقد قران المسلمين» وأعطي شهادات للذين دخلوا في دين الله. وأخذّت 
الدعوات تنهال عليّ من الجاليات الإسلامية في الولايات المتحدة لا سيما للقيام 
بأعمال عقد القران. 

كان من بين هذه الدعوات رسالة جاءت من جالية سيدر رابدس ذدُعِيت فيها 
للقيام بعقد قِران الآنسة عائشة حمد على شاب من شباب الجالية وكان مع الدعوة 
تذكرة ركوب بالطائرة» وفي اليوم المدا را لعي كراد ووينيت جئت بخبر موت العريس» 
وكان الحادث بالفعل مزعبّاء فبدلا من زف إلى عروسه واريناه التراب وبكيناه ثم 
عدت أدراجي إلى نيويورك. 

كما تلقّيت دعوة من فاطمة ابنة عمر طوسونء» إحدى أميرات الأسرة المالكة 
المصرية» وكانت تُقيم في واشنطن العاصمةء لأقوم بعقد قرانها على أميركي كان 
موطّمًا في وزارة الخارجية الأميركية» وكان قد أعلن إسلامه بحضور الدكتور أبي 
علي خير الله قبل عقد القران» وقد أهدتني علبة فضّية فاخرة يمكن أن تُستخدم 
لحفظ الأشياء الثمينة . ْ 

تعرّفت في هذه الأثناء على السيدة إيمي فندربلت وتوئّقت الصداقة بينناء وقد 
دعتني ذات يوم لزيارة مكتبها في مبنى «ستيت بلدنغ»» وكان مكتبًا فخمًا أعدَّته 
للإعلانات» وكانت في زيارتها الآنسة كارل الكاتبة الشهيرة» وقد أبدت رغبتها في 
أخذ حديث مني ودعتني لزيارتها في مسكنهاء وبعد أسبوع ظهّرٌ مقالها في فى أمّهات 
الصحف الأسبوعية في الولايات المتحدة الأميركية. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 453 





علّقت جريدة السائح النيويوركية بقلم الأستاذ حبيب كاتبه على ذلك المقال» 
وبعد أمدٍ قصير طلبّت مني هيئة الإذاعة الأميركية (إِي بي سي) بواسطة السيدة 
فندربلت أن أزور الإذاعة لمدّة عشرين دقيقة لأجيب خلالها عن أسئلة تتعلق 
بالمملكة العربية السعودية وملكها عبد العزيز. 

إن السيدة إيمي فندربلت هي إحدى سيدات مدينة نيويورك المتحدرة من عائلة 
شهيرة وهي الكاتبة البليغة المثقفة. الإنسانية النشطة؛ ذات الحركة الدائمة 
لذو من شيك عن مزانها القيِّم الذي أطلقّت عليه اسم (أدب المعاشرة) أو قواعد 
التشريفات طبَعته ثم نشرته في الولايات المتحدة الأميركية وجمعته في مجلّد واحد 
بلغت صفحاته السبعمائة صفحة. 

كان لهذا المؤلّف رواج واسع في المحيط الأميركي» لم يحدث رواج مثيل 
في موضوعه ولقد أعيد طبعه سبع مرات» أول طباعة له كانت عام 1372ه 
(1952م)» ثم 1374ه (1954م). 1375ه (1955م): 1376ه (1956م). 
8ه (1958م). 1383ه (1963م). 1387ه (1967م) ويفوتني العلم فيما إذا 


كان أعيد طبعه مرّات أخرى. أم لا... ولكنني أعرف حقّ المعرفة أن عدد النسخ 
التى أعيد طباعتها بلغت مليونين وسبعمائة وخمسين الف نسكة حتى عام 7ه 
(1967م). 


بيعت كل نسخة منه بواحد وعشرين دولارًا أميركيّاء وقد اشتريت نسخة من هذا 
المؤلّف في عام 1407ه (1987م)» عند زيارتي مع عائلتي إلى أميركا حيث زرنا 
شقيق زوجتي الإسكندرانية الأستاذ علي السيد كرى في كربس كسرتي بولاية 
تكساس . ولقد كنت أحترم هذه السيدة الفاضلة إيمي فندربلت» وأقدّر لها مساعدتها 
ونبلها وشهامتها لما أنا قائم به عن تعريف مليكنا المرحوم عبد العزيز للأمة الأميركية 
وعن المملكة العربية السعودية» وعن الشعب العربي الذي أنتمي إليه . 

كانت السيدة فندربلت من محبّي العرب ومن المخلصين لقضيتهم فلسطين» 
ولقد كنت أتبادل الرسائل معها أثناء وجودي في نيويورك» وذكرتني فيها بإعداد 
مقالة عن حياة الملك عبد العزيزء وبعد خروجي من المستشفى مباشرة أرسلت لها 
المقال المطول الذي كتبته عن حياة الملك العظيم» بعنوان: من هو عبد العزيز 


454 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





وقد نشرت هذا المقال فيما بعد عام 1361ه (1942م)» جريدة البيان النيويوركية 
ونقلته عنها إحدى صحف بيونس إيرس الأرجتتينية . 

طلبت مني السيدة فندربلت مقابلة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله 
فلبّيت رغبتها وقدَّمنُها إليه عند استقباله لمهاجري العرب في سفرته الأولى إلى 
الولايات المتحدة الأميركية عام 1362ه (1943م)» أثناء الحرب العالمية الثانية, 
وكان برفقته الملك خالد بن عبد العزيز رحمهما الله. 

لقد قابلا الرئيس الأميركي روزفلت وقدَّما إليه رسالة كانا يحملانها من 
والدهما العظيم» الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود. لقد خاطرا 
بحياتهما أثناء الحرب العالمية الثانية» في الوقت الذي كانت فيه الطائرات الألمانية 
النشائلة :تجوت النضياء تعن ع خمل الدضير الشريية» وثلقيها على المدن 
والأمصار بلا هوادة. ولقد فقدثُ هذه السيدة إيمي فندربلتء كما فمَّدَها الكثير من 
أصدقائها ومعارفها ومقدّري إنسانيتهاء بعد أن أزمعّت السير لملاقاة ربّها منذ اثني 
عشر عامّاء وخلّفت وراءها رجلا ذا نشاط ملحوظ حسبما أعرفه» واسمه لنكولن 
كلاراك ولم أعلم عنه شيئًا منذ أن غادرت الولايات المتحدة الأميركية عام 1368ه 
(1949م). ومع علمي هذا فلقد كتبتٌ إليه في 10/ 8/ 1408ه»ء الرابع والعشرين 
من الشهر الخامس من عام 1988م» وأرسلت هذه الرسالة إلى المطبعة التي قامت 
بطباعة مؤلّف والدته (أدب الإتيكيت) ولم أستلم جوابًا لرسالتي حتى هذا التاريخ. 


أخبرني أحد الأصدقاء وهو السيد جورج حكيم» وهو لبناني الأصل ينزل في 
نيويورك وكان على اتنّصال دائم ببعض المهتمين بالتجنيد أن اسمي ظهر في دفتر 
التجنيد وأنني بعد أيام سأدعى للخدمة العسكرية في الجيش الأميركي» وقال: هذا 
الأمر لا مفرٌ منه. 

كان لهذا الصديق صلة بأحد الجنرالات في الاستخبارات العسكرية الأميركية 
فذَكّرني لديه» وكان مما قاله» إن خليل يتكلم الإنجليزية والعربية ولديه إلمام 
باللغتين الفرنسية والتركية» فأجابه الجنرال هذا الشخص سنحتاج إليهء أفهمه ليْقدّم 
نفسه للخدمة العسكرية معنا قبل أن يأخذه الجيشء إذا وافق صديقك فسأخبر الهيئة 
الطبّية التي ستقوم بفحصه لتهتمٌ بأمره. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 455 





قدّمت نفسي إلى مكتب التجنيد». وأجلك على الكشف الطبي؛ فلمست من 
الطبيب اهتمامًا تامّا بأمري» وكانت رجلي اليسرى تقصّر قليلًا عن اليمنى فقد 
كيرت وأنا في الثانية عشرة من عمري ولم تُجبّر كما ينبغي» ولم يُعِر الطبيب أيّ 
انتباه لهاء وبعد خمسة أيام تلقّيت بطاقة التجنيد تحمل الرقم واحد للجندية 
الممتازة» ورسالة تُشعرني أن أحضر إلى مكتب التجنيد لأستلم تذكرة السفر من 
نيويورك إلى معسكر كمب لي في فرجينياء وكان الوقت الذي حُصّص لإقامتي في 
المعسكر عشرين يومًا فقط. 

كانت المهمة التي سأقوم بها في قلم الاستخبارات العسكرية دقيقة جدّاء 
ومركزها ممتازء ذلك أن قلم الاستخبارات كان لا ينتمي إليه غير الأميركيين» لكن 
حاجة الجيش إلى رجل مسلم يُتقن عذة لغات ليُرافق الجيش المزمع إرساله إلى 
شمال أفريقيا جعلتهم في البداية يتجاوزون قواعدهم. 

في اليوم الأول الذي ارتديت فيه الملابس العسكرية كانت صحف نيويورك 
الحوه كر صورتن عل سعكافيا الأركى + ونا نعث أناعلبيك أن فلع 
الاستخبارات استغنى عني واستعان بأحد الجنود اليهودء وهنا طَلِب مني الانضمام 
إلى الجيش فرفضتٌ وقدّمت طلبًا أعتذر فيه عن الخدمة في الجيشء» وانقطعت عدّة 
أشهر عن الالتحاق بالثكنات العسكرية» ومرّت خمسة أشهر والدوائر الحكومية 
ترسل لي بين فترة وأخرى والإنذار تلو الآخر مع طلب عنواني الغابت لترسل من 
يقبض على ويُدخلني إلى الخدمة في الجيش الأميركي مكرمًا. 

بعد خمسة أشهر وصل إلى منزلي رجلان وأخذاني بالقطار إلى محل في 
الصحراء وصلناه بعد مسيرة يوم وليلة» وكان هنالك مبنى كبير يودع فيه الفارّون من 
الجيش الأميركي وظَلِب مني الدخول إلى هذا المكان الذي كان الازدحام فيه شديدًا 
إلى حدّ أن الإنسان لا يمكنه السير في وسط الجنود الهاربين» ورفضت في البداية 
الدخول إلى المبنى وحاول الجنديان إرغامي على ذلك» وأخذ أحدهما حقيبتي 
اليدوية وألقاها إلى داخل السورء وكان فيها المصحف الشريف. فحاولتٌ ضربه على 
وجهه فأمسك الجنود بيدي وأخذوني إلى الضابط المهتم بشؤون الفارّين من الخدمة 
العسكرية» وكان لديه عِلمّ بقدومي وعلى معرفة بأنني إمام المسلمين في نيويورك. 


456 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





لما سألني عن سبب محاولة اعتدائي على الجندي أخبرته برميه لكتان 
الحسلمين المعدس على الأرضن» ولقل كان بعص الأميركبيق فى ذلك الوقن 
يعتقدون أن بعض العرب الأميركيين يتعاطفون مع ألمائيا بسبب كرههم لليهود, 
ويبدو أن قائد المنطقة التي اعدف إنها كان مانا نيذه الأكار غات أنه عثر معي 
على صورة أمين الحسيني الذي زار ألمانيا وقابل هتلر. . لقد أكثر من التحقيق معي 
كأنني جاسوس ألماني» وسألني عن العمل الذي أمارسه فأخبرته عن المدارس الني 
أعمل بها بتدريس اللغة العربية والإسلام وأخبرته أنَّ اي اك ل برقي 
كانا من ضمن تلامذتي» فسأل عن اسميهماء ولقد فوجئت عندما رأيتهما بعد يومين 
في مكتب القائد الذي استدعاهما للتعرّف علي وللاستفسار عني. ويبدو أنهما أثنيا 
على حيث إنني أخذت بعد يومين من مقابلتهما إلى معسكر كمب لي بولاية فرجينيا 
حيث حوكمت من قبل أربعة ضباط سألوني عن سبب عدم امتثالي للانضمام إلى 
الجيش» فأخبرتهم بشعوري بالإهانة بسبب صرف نظر الاستخبارات العسكرية عن 
الاستفادة من خدماتي في الترجمة ومرافقة القوات الذاهبة إلى شمال أفريقيا. 


كان الضابط الذي عُهِد إليه بالدفاع عني يهوديّاء ولقد كان موضوعيًا فأحسّن 
الدفاع عني» وسألني أحد القضاة: هل ترضى الآن أن تلبس زيّك العسكري وتنضم 
إلى الجيش الأميركي؟ فقلت: نعم أقبل ولكني لن أكون متحمّسًا كما كنت من 
قبل 

لم أدخل الحمام لمدة يومين كاملين» وذلك أنه كان يدخله مائة عسكري دفعة 
واحدة أو أكثرء فسألني المسؤول: لِمّ لا تدخل الحمام وتنظّف بدنك؟ فأجبته: 
إنني لم ولن أتمكن إذ إنتي لم يسبق لي أن كشفث عؤزتي أمام التاسن+ فهذا محرّم 
بالدين الإسلامي» فأخذ بيدي إلى رجل الدين العسكري المسؤول وكان ضابظّاء 
ونع عدة أسنلة ركهها إلى رصح لد انق مان تمص دراك بالبوم ناي 
كم من الوقت تحتاج في كل صلاة؟ فقلت: خمس دقائق» وفي تلك الأثناء حضر 
قايظ انيس الحيه تق وبر سيره السيووك النكي عالق + ققال لهاة أعدوائله 
مكانًا خاصضًا وعاملوه كما ينبغي» إنه ليس جنديًا 0-06 نهو فنك كان البحض 
الأميركي. وهكذا نصبوا لي خيمة إلى جانب المبنى» وصار يأتي كل صباح جندي 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 457 





ويأخذ بيدي إلى الحمام فأدخله قبل دخول الجنودء وفي أثناء التمارين العسكرية 
التي كنت أشارك بها مع الجنود صرت إذا حضر وقت الظهيرة أو العصر يُسمح لي 
بالذهاب لأداء الفريضة بوقتها . 

لما اشعطع تحمل سدرة العدريناتة المكرية سح كير رجلية وأدعلت 
المستشفى في كمب لي» ثم أعطيت تصريحًا بإعفاء شرفي من الخدمة العسكرية. 
وكان هذا التصريح يمنحني الحق بتقاضي تعويض مناسب وطالبت به دون إجابة» 
ثم بعد عودتي إلى المملكة طالبت مجدّدًا وقدّمت الوثائق المناسبة للسفارة 
الأميركية ولكنني لم أتمكن من الحصول على التعويض الذي أستحقّه. 

لم تنقطع صلاتي - أثناء الأشهر الخمسة الأولى من جنديتي - بمدارس 
نيويورك وإمامة المسلمين فيهاء وبعد التسريح من الجندية عُدتٌ إلى نشاطي المعتاد 
وزدته عمًا كان مِن قبل من الجوانب العامّة» لكن ضيّقته بالنسبة إلى ساعات 
التدريس في المدارس الثلاث . 

كانت الحرب العالمية الثانية لا تزال مستعرة الأوار لم تضع أوزارها بعدء وما 
زال شررُها يتطاير في كلّ مكان, ولهيبها يحرق كل شيء؛ وأخدّت أمَمْ الأرض 
نتساءل: متى تنتهي هذه الحرب» وتنقشع غياهب البؤس والشقاء» فلقد قاست 
البشرية حتى الآن من الأهوال الشيء الكثيرء وعانت من القتل والتدمير والتشريد 
ما لا يطاق» وبعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على هذا النزاع المرير بين الحلفاء 
ودول المحورء ظهر بصيص من الأمل أخذ يلوح في الأفق ويشير إلى أن كفة 
الحلفاء بدأت ترجح بعدما أحرزوا أوّل نصر حاسم في موقعة العلمين» ومن ثم 
استعادوا شمال أفريقيا وطردوا قوات المحور منها. 

في هذه الفترة الحرجة وأثناء هذا الصراع الشديد والنزاع المستمر قَدِمَ من 
المملكة العربية السعودية كما ذكرت في عام 1943م» إلى نيويورك وفد برئاسة 
صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز وعضوية سمو الأمير خالد بن 
عبد العزيزء وكان مع الوفد الملكي إبراهيم السليمان رئيس ديوان الأمير فيصل» 
ومرزوق الريحان مرافق الأمير فيصل الخاص الذي لم يفارقه قطء بل كان يتبعه 
أينما ذهب. 


458 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





غادر الوفد مدينة نيويورك متوجهًا إلى واشنطن» وحل ضيمًا مكرّمًا على 
الحكومة الأميركية في نزل (بيرل هاوس) تجاه البيت الأبيض» وقابل الأمير فيصل 
الرئيس الأميركي روزفلت. وقدّم إليه رسالة من والده المغفور له الملك 
عبد العزيز» وتحادّث معه في أمور كانت تهمٌ البلدين» لم يفصح عنها سموّه وقتها. 

وافاني الحظ في أن أكون بصحبة الوفد طيلة إقامته في الولايات المتحدة 
الأميركية» وفي تلك الأثناء انّصلت بي الجالية العربية في واشنطن للحصول على 
موعد من سمو الأمير فيصل لتحظى بشرف السلام عليه والحديث إليه» وحدّد سموه 
موعدًا لهاء وقبل الموعد بعشر دقائق كلَّفني إبراهيم السليمان بالتوججّه إلى السوق 
لإحضار أشياء قال إنها ضرورية طلبها الأمير فيصل وألحّ على إحضارها بالحال. 
فقلت إن موعد زيارة الجالية العربية قد حان» فأجابنى : إذا تأخرت ستأخذ الحيطة 
بمقابلتهم» فنمّذت طلبه» وعدتٌ إلى دار الضيافة 0 الحاجات التي أوصاني 
عليهاء وإذا بي أجد أفراد الجالية قد تشرّفوا بالسلام على سمو الأمير وغادروا 
المنزل» ولدى مقابلتي لسمو الأمير فيصل بعد ذلك قال لي: كيف تَدَعْ أفراد 
الجالية العربية ثم تغادر المنزل دون أن تقابلهم. فأخبرته بما أوصاني عليه الشيخ 
إبراهيم » ومكث الوفد في واشنطن بضعة أيام» زار خلالها معالمها ودور آثارها 
ومصانعهاء ودار سك النقودء وحديقة الحيوانات فيها وانهالت عليه الدعوات من 
أفراد الجالية العربية» فلبّى بعضها فقط. حيث لم يكن لديه منّسع من الوقت ليلبي 
الدعوات جميعًا وقبل مغادرة الوفد مدينة واشنطن أقام الأمير فيصل حفلًا كبيرًا في 
فندق الماي فلور حضره العديد من الرسميين الأميركيين الموجودين في المدينة» 
ولقد كتبت اثنتان من صحف واشنطن عن الحفل الفاخر الذي سيطر عليه المظهر 
العربي من حيث المجلس والمأكل والملبس. 


ثم غادر الوفد واشنطن إلى نيويورك» وقبل أن يغادر البلاد طلبت من سمو 
الأمير فيصل السماح بمرافقته للوطن العزيزء فاعتذر سموّه قائلّا: توجد طائرة 
صغيرة ستقلّنا إلى لندن» ولا يوجد منّسع فيهاء حتى هدايا الملك عبد العزيز الغي 
نحملها إلى ملك إنجلترا ورئيس الوزراء تشرشل لن يُسمح قائد الطائراة بتحميلها 
بطائرته» ذلك أنه يرغب أن يكون حمل الطائرة خفيمًا بسبب ظروف الحرب الدائرة 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 459 





رحاها والتي طَحَن كل من اقترب منهاء وعندما ودّعته ابتسم قائلًا : في المرة الثانية 
إن شاء الله فدعوت له بالسلامة في حله وترحاله. 

في الحقيقة كانت زيارة سمو الأمير إلى نيويورك ولندن في ذلك الوقت الحرج 
رخاطرة كبيرة وفيها جرأة نادرة» ولا بد أن الرسالة التي كان يحملها للرئيس 
روزفلت مع الرسالتين الأخريين إلى ملك بريطانيا ورئيس وزرائها أهمية قصوى. 
وعندما صارحتٌ سمرّه حول هذه المخاطرة» قال: كل شيء يهون في سبيل 
مصلحة البلاد. 

كان سمو الأمير ذا أخلاق عظيمة» يقابل الناس بلطف ويصغي إليهم ويتبادل 
الأحاديث معهم. وممًّا يُعرف عنه أن الإنسان إذا دخل مجلسه لا يملك أن يميّز 
صديقه من عدوهء وهذه خصلة حميدة ميّزته» وهي رائعة إذا ما صدّرّت عن الزعماء 
وأصحاب النفوذ. 

كان سموٌ الأمير خالد بن عبد العزيز شابًا مهذبّاء ومؤدبّاء ومتزناء يجلس في 
المكان اللائق به؛ كريم الخلق». كريم المعشرء فيه كل اللياقة والكياسة. لم يكن 
آنذاك قد مارس الحكم كأخيه سمو الأمير فيصل» وكانت هوايته القنص والتفسّح 
في البادية بين العشائر العربية. 

سألني مرزوق الريحان عن عملي في الولايات المتحدة الأميركية فأجبته: إنني 
لم أمارس الأعمال التجارية بعد. وإن عملي الآن هو تعليم الناشئة الإسلامية 
الجديدة أمور دينها مع اللغة العربية» ولديّ ثلاث مدارس» واحدة في هارلم 
والثانية في بروكلن والثالثة في منهاتن» وتلاميذ المدرسة الأخيرة غير مسلمين إنهم 
أميركيون بعضهم جنود وضباط أتقاضى منهم أجرّاء أما المدرستان الأولى والثانية 
فلا أتقاضى منهما شيئّاء إنهم مسلمون عشرة بالمائة منهم بيض والباقي ملونون» 
ورغب مرزوق بزيارة هذه المدارس» فصحبته إلى الأولى والثانية» وأخبر سمو 
الأمير فيصل بما شاهده في المدرستين. 

كنت متفائلًا جدًا ومستبشرًا خيرًا بما كنت أقوم به من الخدمات الدينية 
وانتشار الإسلام في ربوع هذه البلاد العظيمة» وقد حصلت على النفوذ في أوساط 
المسلمين الجددء فقد أولوني الاحترام واعتبروني مرشدهم الروحي وواعظهم 
الديني وإمامهم جزاهم الله كل خير. 


460 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





كنت أحدّئهم دومًا عن المغفور له الملك عبد العزيز وعمًا كان يقوم به من 
الأعمال المجيدة لصالح بلاده ورعيّته التي سجلها التاريخ على صفحاته الناصعة 
بسطور من ذهب وأحرف من نور» وبدأت الصحف الأميركية العربية منها 
والإنجليزية تنشر أحاديثي ومقالاتي عن المملكة العربية السعودية وعن مؤسّسها 
الملك عبد العزيز ويمكن للقارىء الاطّلاع على بعض النماذج في ملاحق الكتاب. 

لقد دخل في دين الله - وشهدت على ذلك - أعداد كبيرة من الأميركيين. 
وقد تحدّث الرحّالة السوداني مطر في كتاب رحلاته عن نشاطاتي في الدعوة 
الإسلامية في أميركا وذكر أن عدد من أسلّم على يدي وهداه الله بي من البيض 
والملونين قد تجاوز ألما وثلاثمائة واثنين وأربعين أميركيّا. وفي الحقيقة ليس لد 
إحصاءات صحيحة بعدد الذين هداهم الله بي» وعندي أنهم كانوا شع قات 
عُشرهم من البيض والباقي من الملونين» ومعروف أن الإسلام لم يميّز بين أسود 
وأبيض» وأمير أو صغير» فالجميع سواسية كأسنان المشط. والجميع لآدم وآدم 
من تراب. 

لمّا كان عدد الداخلين في الإسلام من الأميركيين يزداد يومًا بعد يوم وجدت 
نفسي مكلّقًا بتلقينهم مبادىء الديانة الإسلامية» ووَضع كتاب لهم بهذا الشأنء 
وأعانني الله وساعدني بعض الإخوان فوضعت كتابًا موجرًا باللغتين العربية 
والإنجليزية لقواعد الإسلام الخمسة وأركان الإيمان» وطبعت منه عشرة آلاف 
نسخة» وكان لهذا الكتاب رواج كبير بين فئات المسلمين في الولايات المتحدة؛ 
أخذ منه الشيخ خليل البزّيء رئيس الجالية الإسلامية الشيعية في الولايات 
المتحدة» مائتي نسخة» كما أخذ سعادة محمود حسن باشا سفير مصر في 
واشنطن» مائتي نسخة وزّعها مجانًا على أفراد المسلمين؛ كما طلب العديد من 
المسلمين المتيسرة أمورهم نسحا تّراوح عددها ما بين العشرة إلى الخمسين نسخة. 

وضعت كتيبًا آخر ابتدائيًا في تعليم اللغة العربية احتوى على كلمات سهلة 
وجمل بسيطة فصل أحرفها عن بعضها أحرف المدّ الثلاثة: الألف والواو والياء 
مثل: باب» داري» ماذاء هات. ما في» صافيء عامء فوزيء صارء حانوت؛ 
وذلك ليَسهُل على المبتدىء تلاوتها وكتابتها وقسَّمته إلى عشرين فصلا . 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 4061 





بينما أنا في ذروة نشاطي هذا انّصَلت بي هاتفيًا فتاة اسمها كونستانت ولمان 
ورغبّت بالتعرف إليَّ» وأخبرتني أن والدها كان محاميًا شهيرًا وأستادًا كبيرًا للقانون 
له مؤلفات تُدرّس في الجامعات» كما أعلمتني أن والدها قد توفي» وأنها تعيش مع 
لبها وأنها ترغب بتعلّم اللغة العربية . 

بناءً على موعد اتّفقَنا عليه جاءت إلىّ فصحِبتُّها إلى الأكاديمية الإسلامية 
نأخدّت درسًا بالعربية» ودعتني في اليوم الثاني إلى الطعام بحضور أمهاء وهناك 
جرى الاثّفاق بيننا على الزواج بعد أن تُعلن عن إسلامها وتصبح تُدعى كرما. 

حدث هذا عام 1364ه (1945م): وكانت هذه الفتاة في العقد الثالث من 
عمرهاء متخرّجة في إحدى الجامعات» ويبدو أنها كانت مكوّنة فكرة مسبّقة عني» 
وفي تلك الآونة حضر إلى الولايات المتحدة وفد كبير ضمٌ غالبية الأمراء من أبناء 
المغفور له الملك عبد العزيز للمشاركة في مؤتمر سان فرانسيسكو للتوقيع على 
ميئاق الأمم المتحدة؛ وقد لازمُتٌ هذا الوفد وعملت مترجمًا ومرافقًا للأمير 
(الملك) فهد. ولهذا تأجل زواجي إلى ما بعد سفر الأمراء. 

فقد وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارهاء وألقت ألمانيا سلاحها 
واستسلمت دون قيد أو شرط كما أراد الحلفاء» وتغيّرت معالم برلين» عاصمة 
ألمانياء فقد دكت أبنيتها الأنيقة وشوارعها المستقيمة الواسعة» قنابل الطائرات 
ذكا» وكاقت يرلين القن الرقس لوعدر» الرجل الى حارت العالم وأففن 
مضجعه» فقهر فرنساء واستولى على كثير من دول أوروباء» وأخضع لحكمه شمال 
أفريقياء وأرسى جيشه قواعده في العلمين. فكان على قاب قوسين من 
الإانككلر هه طافية اكوم النقر را الصوية وت لي روس حت 1 لك 
جدًا من أبواب موسكو - ثمانية عشر ميلا فقط - وصبٌّ جامٌ غضبه على لندن» 
نأمطرها بمتفبّرات فتّاكة هدّامة» لم تَأتِ على شيء إِلَا جعلته كالرميم وحاول أن 
بلوي ذيل الأسد البريطاني ليملي عليه إراداته» ويجعله تحت سيطرته ونفوذه» كما 
حاول أن يجعل البحر المتوسط بحيرة ألمانية» كما حاول نابليون بونابرت من قبله 
رلكن جواده عثر ولم يفلح. فتراجّع أمام جحافل الحلفاء. وبفعلٍ سيطرتهم 
دقرّتهم. وأخمّق في أن يجمع أمره. تاركا وراءه في البلدان التي احتلها الخراب 


002 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





والدمارء وبقيت جيوش الحلفاء تلاحقه حتى سقطت برلين» وانقسمت ألمان إلى 
ا ووقعت فريسة بين مخالب أربع دول تَقاسَمّتها فيما بينهاء وانّخذ كل منه, 

مقرًا فشَّرْقها تحت حكم الروسء والشطر الآخر استولت عليه الحكومات 7 
فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأميركية. واستنشق العالم نسمة الحرية, 
وانقشعت عن سمائه فظاعة الحروب وويلاتها وبدأ الشمل المتبعثر يلتئم» وأخذ 
الناس يجمعون ما تنائّر من أمورهم ويعيدون بناء ما أَنَتَ عليه الحرب من مصانعهم 
ومنازلهم. وأمنوا على أموالهم وأنفسهم. فتحرّك دولاب العمل في ربوعهم. 
وفتحت المصانع أبوابها وأخذت تنتج وتصدّر. 


أعلن الحلفاء عن مؤتمر للسلام» وجعلوا مقرّه مدينة سان فرانسيسكو من 
ولاية كاليفورنياء ذُعِيَتَ إليه حكومات العالم الصديقة لدول الحلفاء وبدأت وفودها 
تَوْمُ المدينة» الواحد تلوّ الآخرء وكان من بينها وفد المملكة العربية السعودية وعلى 
رأسه سمو الأمير فيصل بن عبد العزيزء وعضوية إخوانه الأمراء محمدء وفهد. 
ونواف» أبناء عبد العزيز وسمو الأمير عبدالله الفيصل» والأستاذ علي رضا زينل. 
وقد رافق الوفد كلّ من حافظ وهبة» والدكتور رشاد فرعون وإبراهيم السليمان. 
وصالح العبادء وعبدالرحمن البسامء وكان برفقة كل منهم أحد معاونيه» فمرزوق 
الريحان اختصٌ بالأمير فيصل» وذياب الجوهر بالأمير محمدء وسليمان بالأمير 
فهد. والدكتور فرعون بالأمير نواف» ولم أعد أذكر اسم الذي اختصٌ بمرافقة 
الأمير عبدالله الفيصل» وقد حُصّص لكل أمير منهم مرافق كمترجمء فألحجقت أنا 
بالأمير فهد بن عبد العزيزء وبقيت بمعيته طيلة إقامة الوفد في الولايات المتحدة 
الأميركية . 


اهتمت شركة الزيت السعودية - الأميركية «أرامكو» اهتمامًا بالعَّاء بأفراد 
الوفد العربي السعودي يفوق الوصف. واعتنت به اعتناءً زائداء لم تَرَهُ بقية الوفود» 
فالترحيب الكبير» والإكرام الزائد. والملاقاة الطيبة» التي قوبل بها رؤساء شركات 
البترول ومن أفراد الشعب الأميركي» شيء يكاد يفوق التصوّرء ويفوق الوصف وقد 
خصصت الشركة لكل أمير مرافقّين اثنين من الأميركيين للمحافظة عليهم» والاعتناء 
بهم وبراحتهم. ووضعت تحت تصرّف الوفد العربي طائرة خاصة نقلتهم من 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 463 





نيويورك إلى سان فرانسيسكو ثم طافّت بهم أمّهات مدن الولايات المتحدة الأميركية 
نشاهدوا معالمهاء ووقفوا على مصانعهاء وتجؤّلوا بمتنزّهاتها ودور آثارهاء 
وأقامت لهم الحفلات الفخمة» لتجعل من هذا كله نموذجًا حسئاء في علاقتها مع 
الحكومة العربية الفتية» الغنية بذهبها الأسود. 

لم يقتصر هذا الترحاب واللقاء الجميل على أفراد شركة الزيت العربية - 
الأميركية (أرامكو) وأفراد الشعب الأميركي بمجموعه» بل شاطرتهم به حكومة 
البلاد» فكلّفت وزارة الدفاع لتحتفل بالوفد العربي» فأقامت الوزارة عرضًا للدبايات 
على شرفه؛ وأحضرت لهم ملابس الجنود فلبسوهاء وقدّمت لكل فردٍ من أفراده 
صورًا فوتوغرافية ملونة كبيرة» وركبوا الدبّابات وهم بملابس الجنود. وطافت بهم 

في الأيام التي قضاها الوفد في كاليفورنيا زار مدينة لوس أنجلوس» وتعرّف 
على الكثير من رجالات السياسة والأعمال الحرّة ثم عاد إلى سان فرانسيسكوء 
وأقام سمو الأمير فيصل حفل غداء في أحد المنازل المشهورة في هذه المدينة دعا 
إليه رجال السياسة» وأرباب المصانعء والبنوك ورجال الأعمالء والرؤساء 
المنفذين في شركة الزيت العربية - الأميركية» وكان حفلًا فخمّاء تحدَّث القوم فيه 
حول مختلف الشؤون السياسية منها والاقتصادية. 

أقامت شركة الزيت العربية - الأميركية على شرف الوفد العربي حفل غداء في 
أحد متنرّهات سان فرانسيسكو. دعت إليه كثيرًا من وجوه المدينة من ذوي الميول 
السياسية والاقتصادية» وتمشَّى أعضاء الوفد في مروج المتنرّهات الخضراءء 
وطرقها المستقيمة» وتحت أشجارها الوارفة الظلال. 

أثناء إقامة الوفد العربي السعودي في مدينة سان فرانسيسكوء قَدِمَ من دمشق 
لزيارة الولايات المتحدة الأميركية ثلاثة زعماء كانوا ينتمون إلى البرلمان السوري». 
وهم فواز الشعلان» رئيس قبيلة الرولة» وفاعور الفاعورء زعيم قبيلة الفضل» 
وحسن الأطرش أحد زعماء الدروز في سورية» وحلّوا ضيوفا في الفندق الذي كان 
بحتله الوفد السعودي» فقضينا معهم أوقانًا طيبة شيقة. 

وجّه الصف الثالث من إحدى المدارس الابتدائية في مدينة سان فرانسيسكو 


464 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





دعوة إلى سموّ الأمير نواف بن عبد العزيز لزيارة المدرسة وكان أصغر الأمراء سئّاء 
لم يتجاوز الثانية عشرة من عمرهء وأُسْفَعَتها ناظرة المدرسة بدعوة منهاء فلبَى سموه 
الدعوة عن طيب خاطرء وبعد تطوافه في المدرسة» واجتماعه بالأساتذة والمهتمين 
بأمرهاء دخل الصف الثالث» فحيّاه الطلاب» فرد التحية بأطيب منها . 


ثم أجاب عن أ ئلتهم التي وجهوها لسموّه. وكانت عن زيارة سموه لأميركاء 
وهل كان مسرورًا؟ وهل بلادكم فيها الأشياء الموجودة في بلادنا؟ وبعدها سألهم 
عن أسماء القارات الخمس؟ وعدد حكومات أورويا؟ ومن هي أقوى دولة فيها؟ 
وإلى أي الحكومات ينتمي كل من تشرشل وستالين؟ ومن منهما أكثر لباقة وسياسة؟ 
وأنضج فكرًا؟ ومن هي المملكة الفتية في البلاد العربية التي ظهر فيها البترول؟ ومن 
هو مليكها؟ وفهم التلاميذ أسئلته ولكن لم يكن لدى أيّ منهم الجرأة الكافية ليجيب 
عن سؤال واحد منهاء ربما لم يكونوا قد وقفوا عليها بعد. ولم يدرسوها في 
مدرستهم» فقال لهم سموّه إن أسئلتي صعبة عليكم على ما أعتقد. ولكن مَن 
يجيبني عن سؤال واحد: من أي البلاد أتيت أنا؟ فقال أحدهم من (ساوث إريبيا) 
أي من جنوب البلاد العربية» فقال: ومن هو مليكي وما اسمه؟ فلم يجبه أحدء 
فقال سموه: إني متأسّف لعدم معرفتكم اسم بلادي واسم مليكي» فكيف تدعون 
أميرًا لزيارتكم» ولا تعرفون اسم بلاده؟ ولا اسم مليكه؟ وأردف قاتلا : 

إن اسم بلادي» المملكة العربية السعودية» واسم مليكي عبد العزيز آل سعود. 
وإن المملكة التي ظهر فيها البترول هي بلادي» وقبل أن يودّعهم استأذنوه لأخذ 
صورة لسمرّه معهم فحقّق مطلبهم ونزل عند رغبتهم. ثم غادر المدرسة مودّعًا 
بالاحترام والتقدير. 

كانت نفسية الأمراء طيلة إقامتهم في سان فرانسيسكو مُرضية للغاية» وكانت 
الأحاديث فيما بينهم» تدور حول ما شاهدوه ويشاهدونه من العظمة والحرية؛ 
والعمران والازدهارء في ربوع أميركاء وقد صمِّموا على أن يسير وطنهم البلاد 
العربية السعودية على منهاجها في العلوم والفنون والعمران والازدهار» وكانوا 
يبنون هذا التصميم على واردات البترول التي ظهرت بكميات كبيرة وافرة في 
المملكة. 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 465 





لم يتسنّ لي الاختلاط كثيرًا بسمو الأمير فيصل إذ كان نزيل فندق في سان 
فرانسيسكو وبقيّة الأمراء نزلاء في فندق في بيركلي وكان أخوه سمو الأمير محمد 
ورفاقه لا يغادرون الفندق إلا قليلًا. وكان الأمير نواف ينهض مبكرّاء ويذهمب 
الأاسؤواق» ليذاسس ما تعرهية الجحال الفجازية من التحف النفيسة ول يفؤته أن 
يشتري ما يروق له من التحف بعض الأحيان» واعتاد سموّه أن يطرق باب غرفتي 
صبيحة كل يوم لأتناول معه الإفطار وليقصٌ علي ما شاهده في ليلته. وفي أحد 
الأيام قلت إنني يا صاحب السمو لم أَنَمْ طيلة الليلة الماضية فهل تأذن لي هذا 
اليوم أن أمكث في غرفتي لآخذ راحتي؟ ولكنه أصرّ على مرافقتي» فامتثلتٌ لأمره 
ونزلت عند رغبة سموه. 

كان الأمير نواف أصغر أعضاء الوفد سناء وكان عظيم النشاط متّقد الذكاءء 
ومع أنه لم يتجاوز وقتها الثانية عشرة من عمرهء كان يسأل بعض زواره عن المستر 
تنشرشل» وعن ستالين» وعن الرئيس روزفلت» ويستوضح أيّهما أحسن سياسة 
وأقوى تفكيرّاء وكان بعضهم يفضّل روزفلت ثم تشرشل» لكن سموه فضّل تشرشل 
ورأى فيه رجل دولة خدّم أمته وقادها في أصعب الظروف. 

كان سمو الأمير عبدالله الفيصل يستيقظ باكرّاء ويتناول فطوره في غرفته كبقية 
الأمراء الذين كانوا يأخذون فطورهم في غرفهم ثم كان يأخذ مجلسه في إحدى 
زوايا بهو الفندق. 

لقد وفق سموه بمرافقة شاب نشيط» يجري دم الشباب في عروقه» كان يدرس 
في جامعة كاليفورنياء وكان لهذا الشاب معارف عديدونء. وكان سمو الأمير عبدالله 
لبي دعواتهم فسنحت له فرص طيبة» لقد كان متأجّج العاطفة» شديد الإحساس» 
جم التواضع» كريم النفس». هادنًا في مشيتهء تنم نظراته عن خبرة واسعة» ومعرفة 
بأحوال الناس . وقد حملتني هذه الصفات الحميدة على التنبؤ له بمستقبل زاهر. 

كانت زيارة الوفد العربي للولايات المتحذة الأميركية طيبة ومفيدة» كما 
أعتقد. وعلى ما تبيّن لي» ولمستهء وسمعته من أفراده؛ بل كانت من أحسن 
الأوقات التي مق بيع في سفرهم للخارجء إذ شاهدوا معالم مدينة عظيمة 


466 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





ووقفوا على ما بها من عمران وازدهار؛ واجتمعوا برجال أفاضل. منهم 
السياسيون» والمثقفون» ورجال الأعمالء وكان ما لقوه من احترام» وتقدير. يفوق 
الوصف . 

والعرب بطبيعتهم » يقدّرون» ويحترمون من يبادلهم الاحترام والتقدير. ونبيهم 
محمد يَكِةِ يقول: "نكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم»؛ فالشعب 
العربي ومنهم السعوديون يسعون بين الناس بكلتا الفضيلتين» الأخلاق والأموال. 

كما أتيح للأمراء الالتقاء بكاقة أفراد الشعب» ومنهم الخدم والعمال. وقد 
رأوا العلماء واختبروا الجميعء إذ إن ديمقراطيتهم التي نشأوا عليها منذ نعومة 
أظفارهم كانت بعيدة كل البعد عن العنصرية» فلا أثر لها عندهم» فالملك والأمير 
منهم يجالسون ويقضون أوقات فراغهم مع خدمهم. ولا فرق لديهم بين الطبقات» 
فقيرهم كغنيهم» وخادمهم كأميرهم؛ فكلهم سواسية كأسنان المشط وكلهم لآدم 
وادم من تراب. 

كان للصورة الفوتوغرافية التي أخَِدّت لسمو الأمير فيصل وهو يصافح ذياب 
الجوهر مرافق الأمير محمدء أثناء نزوله من الطائرة» والابتسامة يشرق بها وجهه 
الصبوح» وقعها الحسن الجميل لدى كل من شاهدها. 

كان لسمو الأمير فيصل أموره الخاصة وأشغاله السياسية» كما كان بعيدًا عنّاء 
ينزل فندقًا بسان فرنسيسكوء كما ذكرتء ولذا لم يتسنّ لي الاجتماع بسمرّه إلا 
قليلاء والذي أعرفه عنه أنه قليل الكلام» يتطرق في بعض الأحيان في مجلسه العام 
إلى الأمور السياسية. ويتكلم عنها بصورة عامة تاركًا لمن في مجلسه الخوض فيها 
لكي يستمع إلى آرائهم» وهذا ما جعله يتغلّبِ على منافسيه في السياسة» وفي غيرها 
من شؤون الحياة» كان يأخذ الأمور بالتجمّل والصبر والأناة» وضبط الأعصاب» 
فلا يتسرّع. أو يَبْتَ في الأمرء إلا بعد فحص وتدقيق» لا تَعرف في مجلسه؛ من 
هو المقرّب إليه أو النافر منه أو عدوّه من صديقه» كلهم في مجلسه سواسية» يبتسم 
لهذا ويصافح ذاك» ويصغي للمتكلم» إذا أحب أحبء وإذا أبغض أبغض. وما من 
أحد يزعزعه عن معتقده أو في حبّه وبغضه. لديه موهبة في اختيار الرجال 
واختبارهم» كان يأخذ الأمور كلها على عاتقهء ويمضي الساعات الطّوال لمتابعة 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 06 





أمور الحكم وما أنيط به من أمور الدولة» وهو جدير بتحمّل المسؤولية كاملة» 
فكان عند قول القائل: 
وإنّما رجل الدنياوواحدها من لايعول في الدنيا على أحد 

قبل أن يعيِّن الشيخ حافظ وهبة سفيرًا للمملكة في لندنء عيِّنه الملك 
عبد العزيز معاونًا للأمير فيصل وكان (فيصل) نائبًا للملك في الحجازء فأخذ سمرّه 
بشتغل ليلا في قصره ويُنهي جميع أمور الرعيّة المعروضة عليه؛ وفي الصباح يأتي 
حافظ للمكتب فيجد جميع الأعمال منتهية والأوراق مفصول فيها ومفروزة على 
الطاولة لتذهب إلى الأقسام المخصّصة لهاء ولم يجد حافظ عملا يقوم به» وبقي 
على هذا أيامًا قلائل» فقدم حافظ وهبه يرث استقالته لجلالة الملك عبد العزيزء 
فاستفسر جلالته عن سبب استقالته» فأجابه: إن فيصلا يقوم بشؤون الرعية خير 
قيام» ولم يترك لي عملا أمارسه أو أقوم به وبعد أعوام تشعبت أمور الدولة» 
وكثرت مطالب الشعبء. وأخذ الفيصل يغادر الحجاز لحضور المؤتمرات» فعيّن 
الملك عبد العزيز ياسين الرواف وخالد القرقني معاونين لسموّه. 

قبل مغادرة وفد الأمراء لمدينة سان فرانسيسكو عاتدين إلى المملكة أراد 
الملك فيصل كآ أن يصطحب معه الأستاذ علي رضاء الذي كان يدرس وقتها في 
كاليفورنياء للعودة والعمل في المملكة واستأذن علي رضا الملك فيصلاً. لكي 
يسمح له بأن يتزوج من امرأة أميركية وأن يأخذها معه إلى المملكة» فوافق الملك 
فيصل كانه على ذلك وطلب مني أن أعقد قران الأستاذ علي رضا على زوجته 
الأميركية مريام علي رضاء التي اشتهرت بعد ذلك في كتاباتها ومقالاتها عن 
المملكة» ولقد عقدت قرانهما على بركة الله؛ ورافقّت السيدة مريام وزوجها وفد 
الأمراء في عودتهم إلى المملكة؛ وهي تقيم حاليًًا في كاليفورنيا ويُقيم أولادها في 
المملكة. 

وبعد العودة من سان فرانسيسكو تم عقد القران في دار والدة كرما (كونستانت 
ولمان)» وكانت تقطن في بناءٍ يحمل الرقم 681 في شارع مدسن في نيويورك» 
وبحثنا عن بيت لنا فعثرنا على طابق سادس في مبنى يحمل الرقم 817 على الشارع 
الخامس الذي فصل شرقي نيويورك عن غربيها وهو حمًّا من أكبر شوارع مدينة 


468 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





نيويورك» وهذا المنزل هو الذي سكنه منذ قرابة عشر سنوات الرئيس الباق 
كيو 

كان اتيك اها ردقه كدي مك نا يان فقد حوى ست غرف نوم 
وصالة كبيرة يمكن أن تستوعب أكثر من مائة إنسان مع غرفة طعام كبيرة وثلاث 
غرف للخدم. إلى جانب المطبخ الواسع. وكان المبنى يشرف على المتنرَّه الكبير 
في نيويورك» ويحتوي هذا المتنزه على مطعم مفتوح صيفا وشتاء. وملاعب 
للأطفال وعربات تجرّها الخيول الفاخرة يتنزَّه عليها أهالي نيويورك» وفيه عدد من 
المنشآت تضم مختلف الآثار وتحكد كفن النتاء كفن ال ماكن تمنه وتتكل لدعي 
للتزلج. ودفعنا إيجار هذا الطابق مبلغ ألف دؤلاز شهريا ؛ وقيل لنا إن الايجار 
مرتفع فراجعنا الحكومة فأرسّلت مَن ثمّنه وأنزل إيجاره إلى سبعمائة وخمسين 
دولارًا للشهر. 

بعد الزواج مباشرة قرّرت العمل بالتجارة وذهبت إلى أحد البنوك في مدينة 
بعض المعلومات عني فقدّمتها له. وقام بالانّصال بالقنصلية الأميركية في جدّة 
وجاءت المعلومات مطابقة لِمَا قدّمته وحصلتٌ على السلفة» وبدأتٌُ العمل التجاري 
في أعمال التصدير لا سيما الأقمشة وغيرها ووٌفّقت في الأعمال التجارية حتى أنه 
بات يعمل في مكتبي سبع سيّدات وذلك بالإضافة إلى زوجتي. 

كان الزواج موقْقًَا في البداية» وقد رُزقت من زوجتي بولد أسميته نوافاء وكان 
في زوجتي حرص شديد على مستقبل ولدنا وظلت علاقتنا على خير ما يرام؛ 
وأعمالي موققة ولي عملاء كبار من سوريين ولبنانيين وسواهم. 

في عام 1946م, عاد الأمير فيصل لزيارة أميركاء ومن ضمن مرافقيه في هذه 
الزيارة الشيخ حافظ وهبة والشيخ علي رضا زينل» ومرزوق الريحانء وأثناء 
وجودهم في نيويورك كنت أتردّد عليهم في فندق ولداوف إستورياء كان الشيخ 
عبدالله سليمان الحمدانء» وزير المالية آنذاك يقوم بزيارة لنيويورك» وكان برفقته 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 469 





والسيد صدقي كعكة؛ وسليمان الحمدء وأحمد موصلي رئيس مكتبه» ولقد أجريت 
معهم بعض الصفقات التجارية وتعهّدت بتوريد بعض الأقمشة والأشياء الأخرى 
لهم إلى المملكة. 

زار مدينة نيويورك صاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز يله عام 
6ه (1947م). وكان وليًّا للعهد. قادمًا من المملكة العربية السعوديةء 
مصطحيًا نجله الأمير ممدوح وبرفقته المشايخ سليمان الحمد السليمان وفهد بن 
كريديس» وفؤاد حمزة. ومن العسكريين اللواء حمد النملة» ولقد رافقت جلالته 
أثناء هذه الزيارة إلى واشنطن العاصمة». وحضرت الاحتفالات الكبيرة التي أقيمت 
لجلالته من رجال الحكومة الأميركية ومن موظفي شركة أرامكو ومن السفارة 
السعودية وتوجّه جلالته إلى زيارة ولاية كاليفورنياء وعدتٌ أنا إلى نيويورك مع 
الشيخ فهد بن كريديس» وساعدته بشراء الحاجات التي أوصانا عليها جلالته» ولقد 
كان ابن كريديس كآنه شهمًا كريم الأخلاق» ولقد سعدت برفقته كثيرًا . 

كلّفت أحد معارفي من أرباب الصحف بجمع ما تنشر ٠‏ المجلات والصحف 
الأميركية أثناء تنشّلات جلالته في ربوع هذه البلاد العظيمة» ٠‏ فجمّعَها في مجلّدِين 
ضخمين قدَّمتهما لجلالته . 

كما زار مدينة نيويورك في تلك الفترة أيضًا في أوقات مختلفة أصحاب السمو 
الأمراء ناصر بن عبد العزيز كب وعبدالمحسن بن عبد العزيز كأثه » وطلال بن 

و 

عبد العزيزء وعبدالرحمن بن عبد العزيز - أطال الله عمريهما - ولقد رافقت كُلا 
منهم أثناء زيارتهم في التعرّف إلى معالم مدينة نيويورك وشراء بعض الحاجات 
منها . 

توطدت علاقتي بعد ذلك بسموٌ الأمير طلال بعد عودتي إلى المملكة وكان 
سموّه قد أوصاني بشراء بعض الحاجات من أميركاء وأذكر أن سموه قد ذكر أثناء 
زيارته لمدينة نيويورك أنه سوف يتعلم اللغة الإنجليزية في مدة قصيرة وفعلاء فلقد 
وجدت سموه عند عودتي للمملكة في السنة التالية لزيارته يتكلم الإنجليزية 


في سنة 1397ه (1977م)» أثناء وجودي بمكتب سمو الأمير طلال بالفاخرية 


2410 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





أطلعَني سموّه على صورة منشورة في جريدة الجزيرة للرئيس الأميركي نيكسون 
وعائلته واقفين أمام البناية التي كنت أسكنها في نيويورك» وعلمت بعدها أن 
الرئيس نيكسون استعمل لسكنه الطابق السادس الذي كنت أسكنه أثناء إقامتي فى 
نيويورك» وكانت هذه البناية تحمل رقم 817 الشارع الخامس من مدينة نيويورك, 
وأثناء زيارة سموّه لنيويورك مع بعض رجاله عام 1953م, مرّوا من أمام العمارة 
التي كنت أسكن بها فأخبرهم سموه بأنْ خليل الرواف» أحد عقيلات نجد. كان 
يسكق ويدين عمل تجازيًاة فى هذه العمازة. :وعدرنا ألقيت على تمزه مقاليد وزارة 
المواصلات عُيّنت فيها رئيسًا لقسم المشتريات. ثم عملت كوكيل لسمرّه في 
المنطقة الغربية في جدة. 

00 لأذكر أن وزير المالية عبدالله السليمان أوصاني بشراء بضائع من واردات 

دة للحكومة بمقدار ثلائمائة وخمسين ألف دولار على أن أتقاضى عمولة 

خمسة بالمائة» وأن تكون هذه الصفقة باكورة أعمال ستتطوّر فيما بعد.» حيث أكون 
المسؤول عن توريد كل ما تحتاجه المملكة في المستقبل. 

أوصاني ذ في الوقت نفسه بإعادة طبع خمسة وعشرين ألف نسخة من كتاب ترجمة 
معاني القرآن باللغة الإنجليزية وخمسة وعشرين ألف نسخة من كتاب الإسلام للأستاذ 
غلوش» رئيس جمعية الشبّان المسلمين في مصرء على أن لا أتقاضى أي ربح أثناء 
البيع» بل يكون البيع بالتكلفة» وعلى هذا الأساس أعطاني شيكا بمبلغ مائة ألف 
دولارء وكتب الشيك وقتها الأستاذ أحمد الموصلي وقال الوزير ابن سليمان: 
استخدم هذا المبلغ للبدء في طباعة الكتب الإسلامية ولتسديد جزء من ثمن البضائع 
التي أوصيت بشرائها وسوف يعطيك الشيخ أسعد الفقيه؛ سفيرنا في واشنطن» باقي 
المبلغ حالما يتسلّم مبلغ العشرة ملايين دولار من أرامكو . 

لكن أرامكو تأخَّرت في تسديد الشيك لسعادة السفير الذي شرَّعَ في تأدية ثمن 
التشعرياف غلى دفعاك معيرة وكاتة الخ دقعة مده سسة الآف ؤولاز مذدها 
خلال فترة تجاوزت السنة أمام الأمير فيصل بن عبد العزيز وكان وقتها في زيارة 
للولايات المتحدة. ولقد أدّى تأخير تسديد المبلغ إلى إلحاق ضرر كبير بأعمالي 
التجارية؛ إذ إنني اقترضت من البنوك جزءًا كبيرًا من ثمن البضاعة عند شرائها . 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 471 





نتيجة مشاكلي مع البنوك والضائقة المالية التي أصابتني وتأثيرها على أعمالي 
التجارية أصبت بخيبة أمل شديدة وتحوّل ذلك إلى مرض شديد ألزمني الفراش مذدّة 
شهرين كاملين. 

لقد نتج عن ذلك تدخُل زوجتي كرما في الموضوع وأدَّى تدجُُلها هذا في 
النهاية إلى طلاقنا وفراقنا بالرغم من انسجامنا وسعادتنا في حياتنا الزوجية خاصة 
بعد قدوم المولود الذي رزقنا الله به» وطلاقنا مهّد الطريق لعودتي إلى أرض 
الوطن» إنها إرادة الله التي تسيّر شؤون العبادء فلقد ذهبت إلى أميركا على إثر 
زواجي من زوجتي الأولى الأميركية» وغادرتها بعد طلاقي من زوجتي الأميركية 
الثانية . 

بعد أن أصبحت طريح الفراش بدأت زوجتي بملاحقة الموضوع مع أسعد فقيه 
لتحصّل باقي المبلغ وأخبرته بمرضي وبالمشاكل التي أصابتنا نتيجة تأخر تسديد 
المبلغ . 

بدأت زوجتي التي تضايقت من ورطتنا مع البنوك ومن ضائقتنا المالية» تلح 
عليّ بانّخاذْ موقف حاسم لتحصيل المبلغ عن طريق المحكمة؛» فزوجتي الأميركية 
لم تقدّر ظروف السفارة المالية التي نتجت بسبب تأخر تسديد الشيك من قبل 
أرامكو. 

كانت غالبًا ما تقول لي: لا بد من أن ترفع القضية إلى المحكمة» وحاولتٌ 
أن أشرح لها الأمر وأوضح لها الحقيقة فقلت: لقد قَدِمْت إلى هذه البلاد وحيدًا 
وبنيت خلال سنوات سمعة رائعة لبلدي ومليكي عبد العزيزء وفعلت ما فعلت عن 
حب ووجدان صادقّين» أتريدين مني هدم كل ما بنيته من أجل كمية من المال» ما 
من مال في الدنيا يساوي حبي لوطني ومليكي عبد العزيز» وإن شاء الله سوف يقوم 
السفير بتسديد المبلغ وسيعطينا أموالًا إضافية لتعويضنا عن التأخير وعن الضرر 
الذي أصابنا ولسوف تنكشف هذه الغمّة عنًا قريبّاء فاصبري ودعي عنك هذه 
الأفكار التي لا تفيد. 

طلبتٌ من زوجتي أن تمتنع عن مضايقة سعادة السفير وهدّدتها بالطلاق» 
وتطوّر الخلاف وسِرّنا في طريق الفراق. 





قبل الطلاق بشهر واحد قامت بسحب مبالغ كثيرة من أرصدتي من البنوك, 
وطالبتني أن أجعلها شريكًا لي في أعمالي التجارية فرفضت» وأوقفتٌ العمل 
وأعلنتٌ عن إفلاسي وكانت عليّ بعض الديون لمّن كنت أتعامل معهم في البلاد 
العربية مثل : عبدالله الخريجي. وصدقة كعكعيء وعبد الرحمن القصيبي» فسدّدتها 
وكان آخرها مبلغ ألفي دولار سدّدته لآحد آؤلاه القصيبي في الرياض بعد عودتى 
إلى المملكة من أميركا . 

إثر هذا طلَّت زوجتي وافترقنا إلى غير عودة» وقرّرت العمل في سبيل مغادرة 
الولايات المتحدة والعودة إلى الوطن العزيزء لقد استمر زواجي ثلاثة أعوام. 
والذي أذكره أنها كانت امرأة تحبّ التجارة والمال. وهي لا تزال حية حتى الآن, 
ولقد قابلتها في واشنطن أثناء رحلتي الأخيرة في صيف عام 1412ه (1991م), 
إلى أميركاء ولقد تمكنت في السابق من قطع صلتي مع ولدي نواف حيث غيّرت 
اسمه ولم أَعَذْ أعلم عنه شيئًا لسنوات طويلة ثم علِمُت من بعض الإخوان المصريين 
الذين كنت أعرفهم في أميركا أنَّ نوافًا الذي أصبح اسمه كليف أبو شادي كان 
ضمن الذين ذهبوا إلى حرب فيتنام . 

لقد طويت بقرار الطلاق والنية بالعودة إلى الوطن صفحة غالية من حياتي؛ 
صفحة كلها نشاط في سبيل بلدي ومليكي وأمتي وعقيدتي» فلن يكون بعد اليوم 
نشاطات دعوية» ولا افتتاح مدارس» ولا خطابات». ولا مهرجانات. لن يكون بعد 
اليوم اجتماعات كالتي عقدتها في منزلي لتأبين عبدالمنعم رياض» وكما فعلت 
عندما كنت أحتضن وفود الدول العربية في الأمم المتحدة» ففي عام 1367ه 
(1948م) - على سبيل المثال - عندما قرّرت الأمم المتحدة الاعتراف بإسرائيل 
خرجت وفود الدول العربية من الجمعية العامة وهي بحالة سيئة جذا من الانهيار 
النفسي» والغضب الشديد»ء فوجّهت دعوة لهذه الوفود العربية للاجتماع في منزلي 
للتباحث حول كل ما جرى والتخطيط لما يمكن عمله وللقيام بمظاهرة إعلامية 
يستنكرون فيها الاعتراف اللإنساني بإسرائيل وباغتصاب الصهاينة لفلسطين العربية. 

حضر الاجتماع أكثر من سبعين رجلا من كبار شخصيات العرب السياسية 
والدبلوماسية مع أرباب الصحف والمجلات وبعض زوار لندن مثل أمين زيدان 


الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية 473 





نجل جرجي زيدان» صاحب المؤلفات المشهورة وصاحب جريدة المقطم. وتكلم 
في الاجتماع الأستاذ الكبير فارس الخوري؛ وأعرب عن استيائه الشديد ورفضه 
للقرار الذي اتّخذته الأمم المتحدة والدول الكبرى. 

كانت تربطني بالأستاذ فارس الخوري صداقة كبيرة» فعندما أقمْتُ حفل تأبين 
لعبد المنعم رياض تكلّم فيه الأستاذ الخوري» وحضر ذلك الحفل في منزلي 
محمود حسن باشاء السفير المصري في واشنطن» وحضر معه قنصل مصرء كما 
كان من بين الحضور أمين زيدان» وأصحاب الصحف العربية الست في نيويورك» 
وهم إيليا أبو ماضي» صاحب «السمير» وفوزي البريدي» صاحب «الإصلاح»» 
وعبد المسيح حدادء صاحب «السائح»». والشيخ سليمان بدور» صاحب جريدة 
«البيان»» والأستاذ المكرزل» صاحب «الحياة»» وكذلك صاحب جريدة «مرآة 
الغرب»» والبقية من الشعراء العرب وعلّية القوم من عرب نيويورك» وكان عريف 
هذه الحفلة أبو شادي الأستاذ الأديب أحمد زكي. 

كنت أيضًا قد أقمت حفلًا خاضًا للأستاذ أحمد زكي تكلَّم يومها فيها عن 
الإسلام والمرأة المسلمة. 

مع أواخر عام 1948م» أوائل عام 1367ه. عزمت على مغادرة الولايات 
المتحدة إلى الوطن العزيزء وهنا قذمت كشفا إلى الحكومة بحساباتي التجارية» 
حيث لا يمكن لأيّ تاجر مغادرة الولايات المتحدة الأميركية إِلَا إذا قَدَّم كشف 
حساباته وسدّد ما ترنّب عليه من ضريبة الدخل» وضريبة الدخل في الولايات 
المتحدة تُدفع تصاعديًا بعد أن يُخصم منها مصروف الأسرة الشهري مع ما تحتاجه 
الأسرة من الملبوسات وما يقدَّم من تبرعات للجمعيات الخيرية مع إيجار المنزل 
والمشافي والأموال المرسلة إلى الخارج لمساعدة الأهل لمن كان أهله خارج 
الولايات المتحدة» وبلغت ضريبتي السنوية للعام الأخير في الولايات المتحدة 
(6600) دولار. وسدّدت هذا المبلغ وأعدَدْتٌ العدّة للسفر. 


الجزء الثالث 
فراق طويل ثم لقاء 


نراق طويل ثم لقاء 477 





يختلف الجزء الثالث من الكتاب عن الجزءين الأول والثاني» فهو أقرب إلى 
الخاتمة منه إلى الجزء المستقل» ولم أستعرض فيه تفاصيل ذكريات حياتي بعد 
العودة إلى الوطن الغالي» وإِنَّما اكتفيت بتقديم نبذة موجزة عن بعض الأحداث 
والانطباعات المهمة التي مرَّت بي. وكذلك قصة زيارتي الأخيرة للولايات المتحدة 
عام 1412ه (1991م)» التي توّجها الله بلقائي مع الابن نواف الذي أقرٌ عيني به 
بعد أن تجاوزت الخامسة والتسعين من عمري» وعد أن»“فقدت الأتقيا لاه خمسة 
وأربعين عامًا . 

عندما تركت الولايات المتحدة الأميركية وعدت إلى المملكة كنت قد 
تجاوزت الخمسين من عمريء ولكن بدايتي لحياة جديدة بعد العودة لم تجعلني 
أنظر للحياة بمنظار رجل في العقد الخامس من عمره وإنما نظرة شاب في الثلاثين» 
يوشك أن يدخل مرحلة جديدة من حياته» ولقد طالت حياتي ولله الحمد بعد 
العودة وامتدّت إلى ما يقارب النصف قرنء» ولكنها كانت على الإجمال أقل إثارة 
وصخبًا من حياتي في المرحلتين السابقتين. 

وها أنا ذا قد تجاوزت الخامسة والتسعين من عمريء أحمد الله ربي على 
الصحة والعافية وأشكره على مدَّي بالقوة والصبرء اللذين ساعداني على الانتهاء 
من هذا الكتاب وتقديمه للقارىء العربي الكريم. 


نراق طويل ثم لقاء 079 





الفصل السادس عشر 





العودة إلى أرض الوطن 


كما جئت إلى أميركا عن طريق البحرء أراد لي الله أيضًا أن أغادرها بالبحر 
أيضًا. فبعد أن عزمت على مغادرتها منعني الطبيب من ركوب الطائرة لمرض ألم 
بي» فركبتٌ باخرة تابعة لإحدى شركات النقل التي كنت أشحن عليها البضائع 
المصدّرة إلى عملائي بالشرق الأوسط. ولم تأخذ الشركة أجرة ركوبي بسبب 
معاملاتي التجارية الطويلة معها والصلة التي تربطني بمديرها. وكانت الباخرة 
تحمل عددًا من التجار من مختلف القارات» وكان البحر هادا ولم نشعر بالتعب 
وأمضينا على ظهر الباخرة أحد عشر يومًا إلى أن وصلنا إلى أحد الموانىء الإيطالية 
ومن ثم واصّلت الباخرة سيرها نحو الإسكندرية» وأمضيت بعض الوقت على ظهر 
السفينة أتحدث إلى مختلف التجار الذين كانت أحاديثهم شيّقة ومفيدة. ولكن معظم 
وقتي أمضيته وحيدًا أفكر وأتأمل» لقد كان شريط حياتي في أميركا بحلوه ومرّه يمر 
من أمامي وكأنه فيلم بدأ بزواجي الأول وانتهى بطلاقي الثاني. أكثر من ثلاثة عشر 
عامًا من حياتي أمضيتها في هذه الدولة الكبيرة وكنت أشعر من اليوم الأول أنني لن 
أستقرٌ بهاء فلقد كان حنين الوطن يطغى دائمًا على متعة الحياة في أميركا. 

عشت فيها أيامًا من الفقر وأخرى من الغنى رأيت فيها الراحة والشقاءء 
وحقّقت النجاح في أشياء كثيرة وأْصِبْت بخيبة أمل في أشياء أخرى» وكما يقال إن 
أنصف الدهر «فيوم لك ويوم عليك». 

وها أنا ذا اليوم أعود أدراجي إلى الوطن وفي نفسي مسحة من الحزن على 
فراق بلد المهجر ولهفة من الشوق لرؤية الأهل والوطن. وكان ينعُص نهفتي 
بالعودة مسألة ولدي نواف الذي أخذته أمه بعد أن حكمت المحكمة لصالحها 
وضاعت في زحام نيويورك» بل في زحام أميركا وكنت أثناء رحلة العودة أمني 





نفسي بلقائه بعد فترة قصيرة. فلقد كنت أعتقد أن قلب أمه سَيّلِين وسوف تمكننى 
من رؤيته. ولهذا فقد بدأت حتى قبل وصولي إلى أرض الوطن أفكر بأمر عودتي 
إلى أميركا لرؤية نواف. ولو علمت في ذلك الوقت أنني لن أراه ثانية إلا بعد أن 
أتجاوز الخامسة والتسعين من عمري لكانت قواي قد انهارت ولكنت قد سقطت 
في اليم من ظهر الباخرة وابتلعتني أمواجه. ولم يكن فقدان نوّاف هو الشيء الوحيد 
الذي كان يشغل تفكيري أثناء رحلة العودة في الباخرة. فلقد كنت أفكر في ظروفى 
وما آلت إليه حالتي. فبعد سنوات طويلة في المهجر أعود أدراجي وحيدًا إلى 
الوطن وقد تجاوزت الخمسين من عمري. لقد كان علي أن أبدأ حياتي من جديد. 
ولكن هل يمكن للإنسان أن يبدأ حياته من جديد وقد تجاوز الخمسين من عمره؟ 
هل يمكن أن يبدأ عملا ويكوّن أسرة جديدة في هذا الوقت المتأخر من عمره؟ 

هل فاتني القطار؟ أم إن الرحلة تنّسع للجميع؟ رفعت وجهي نحو خالقي عر 
وجل ورجوته أن يسهّل أمري ويعينني في القادمات من أيام حياتي. 

وبعد وصول الباخرة إلى الإسكندرية أخذ أحد موظفي الجمارك مني خنجرًا 
جميلًا كان الملك فيصل كدت قد أهداني إياه أثناء زيارته إلى سان فرانسيسكو عام 
4ه (1945م). وأذكرٌ أنَّ موظف الجمرك قال لي يومها: إِنَّ هذا الخنجر ذو 
حدّين ولا يمكن السماح بإدخاله لمصر إِلَا بتصريح خاص. وأخبرت نائب القنصل 
السعودي في مصر في ذلك الوقت والذي أصبح سفيرًا فيما بعد الأستاذ أمين أبو 
الذهب يدنه عن الخنجر وقام باسترداده من إدارة الجمارك بالإسكندرية. وفي 
القاهرة أمضيت ستة أيام بضيافة صديقي عبدالحي عامر الذي عشت معه في لوس 
أنجلوس وعدت معه بالسيارة من كاليفورنيا إلى نيويورك» ولم أزل حتى الوقت 
الحاضر أزوره بين الحين والآخر إِمّا في منزله في القاهرة أو بالإسكندرية. 


بعد الأسبوع الأول الذي تلا عودتي والذي أمضيته مع عبد الحي عامر في 
تذكر أيام لوس أنجلوسء اتصلت بالشيخ فوزان السابق كدت سفير المملكة في مصر 
وكانت تربطني معه معرفة ومودّة قديمة» ولم ينقطع انّصالي به أثناء وجودي في 
المهجر. وبعد عودتي من أميركا أصبحت أنزل بضيافته كلما أزور القاهرة. لقد كان 
رحمه الله لا يسمح لي بالذهاب إلى الفنادق. 


فراق طويل ثم لقاء 461 





فالسفارة - كما كان يقول - فيها غرف واسعة كثيرة. وكان يخصّص لي الغرفة 
الجتخاورة لمكتيه :وا لمعرة الياعة نها وا وكان من موظفي السفارة وقتها الأستاذ 
خير الدين الزركلي الشاعر والأديب والمؤرخ المعروف. 

سألني الشيخ فوزان السابق يوم وصولي إلى القاهرة عام 1368ه (1949م)؛ 
عن برامجي. فأخبرته في رغبتي بالتوجّه إلى المملكة لزيارة جلالة الملك 
عبد العزيز وتقديم الولاء والاحترام له ولكي أعرض على جلالته بعض الأمور 
المتعلقة بتجارتي. فقال حسنًا تفعل» وسوف أكتب أنا إلى الملك عبد العزيز أخبره 
بقدومك وببعض نشاطات الدعوة التي كنت تقوم بها في أميركاء فلقد كان الشيخ 
فوزان على علم بأخباري في أميركا من خلال الرسائل التي كنا نتبادلها . 

في ذلك الوقت صادف في القاهرة وجود صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله 
الفيصل الشاعر المشهور وكان وقتئظٍ وزيرًا للداخلية ولقد استلم سموه فيما يعد 
أعباء وزارة الصحة إضافة إلى الداخلية. لقد كانت معرفتي به قديمة ووثيقة» وتعود 
إلى فترة زيارته للولايات المتحدة عام 1364ه (1945م)؛ من ضمن وفد الأمراء 
الذي رأسّه والده الشهيد فيصل كأنة » وعند قدومي لزيارته في القاهرة أخبرني 
سموّه عن عزمه على المغادرة إلى جدّة» فسافرت معه وأمضيت في ضيافته في مكة 
المكرمة عدة أشهر أذَّيت خلالها فريضة الحج. وكان جلالة الملك عبد العزيز في 
ذلك الوقت مقيمًا في جدة مشغولا بموسم الحج وباستقبال رؤساء وفود البعئات 
الإسلامية التي قَدِمَت لأداء الحج» ولقد زرت جلالته في جدة قبل الحج وبعده. 
ولقد استقبلني يدنه أفضل استقبال وطلب مني أن أحدّثه عن أميركا وما رأيته فيها. 
كما زرت في مكة في ذلك الوقت أيضًا سمو الأمير طلال بن عبد العزيز وكانت 
فرحتي الكبيرة بلقاء شقيقي ياسين وعمّي قاسم اللذين قَدِما لأداء فريضة الحج. 
وفي مكة أيضًا قابلت الأمير نايف بن شعلان أحد مستشاري جلالة الملك 
عبد العزيز الذي سبق أن قدم إلى نيويورك للعلاج عام 1366ه (1947م). 

بعد أداء فريضة الحج ذهبت إلى الرياض لأداء بعض الأعمال وزيارة ولي 
العهد الملك سعود يدنه ولقد بقي جلالته في ذلك الوقت في الرياض لرعاية 
شؤونها ولم يرافق والده بالسفر إلى مكّة. وبقيت في ضيافته بالرياض شهرًا كاملا 


4562 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





ولقد كلّف رحمه الله مستشاره فهد بن كريديس بملاحظة شؤوني. ولقد كان ابن 
كريديس طيلة فترة إقامتي في الرياض خير الصاحب والصديق وبذل قصارى جهده 
لتأمين راحتي وتلبية احتياجاتي . 

تعود معرفتي بالأستاذ فهد إلى عام 1366ه (1947م) أثناء زيارته لمدينة 
نيويورك مع الملك سعود. ولقد أبقاه الملك سعود في نيويورك أثناء ذهابه إلى 
كاليفورنيا وأشرفتٌ بدوري على مساعدته في نيويورك. ولقد ردٌّ ابن كريديس 
مساعدتي بأفضل منها وأمضينا معًا وقنًا طويلا في الرياض نتحدَّث عن أيام زيارته 
لنيويورك وعن المناطق التي اصطحبته لرؤيتها. 

بعد مغادرة الرياض رجعت إلى مكة وحَلَلّت ثانية في ضيافة الأمير عبدالله 
الفيصل ٠١‏ وأثناء وجودي في مكّة اتصلت ببعض عملائي من التجّار السعوديين الذين 
كنت أرسِل لهم مختلف أنواع البضائع من أميركا. ولقد كانت لي بعض الحقوق 
المستحقّة لدى بعضهم ولقد قاموا مشكورين بتسديدها بالكامل. فلقد حصلت على 
مبلغ يصل إلى حوالي 20 ألف دولار من السادة عبدالله الخريجي وصدقة كعكي 
وأحمد بقشان وتوفيق هاشم . ودفعت من جانبي مبلغ ألفي دولار إلى الأستاذ خليفة 
القصيبي كانت متبقية في ذمتي لوالده الشيخ عبدالرحمن كن من معاملات تجارية 

كذلك فلقد تسلّمت من الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز كفلثه مبلغ ثمانية 
آلاف دولار ثمن بعض الأشياء التي كنت قد أرسلتها إليه من نيويورك قبل مغادرتي 
لها . 

أثناء وجودي في مكّة في ذلك الوقت قمت أيضًا بزيارة الأمير نواف بن 
عبد العزيز حيث تحدّئنا معًا عن زيارته للولايات المتحدة قبل عدة سنوات عندما 
قَدِم سموّه مع وفد من الأمراء لتوقيع ميئاق سان فرانسيسكو. 

تطرّق بنا الحديث إلى تطورات السياسة العالمية وفهمت من سموه يومها أنه 
لم يزل يعتقد أن ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية 
هو أفضل زعيم سياسي في تاريخ الغرب الحديث. ولقد أهداني متيو نتيا 
من الألماس وكذلك سجادتان نفيستان من صنع أيادي رجال أصفهان من أعمال 


فراق طويل ثم لقاء 43 





إيران» ونظرًا إلى أنني لم أكن متزوجًا في ذلك الوقت فلقد بعت الخاتم لعدم 
حاجتي إليه ولرغبتي في تحصيل أكبر قدر من النقد للبدء في تجارة جديدة. ولقد 
اشترى الخاتم مني السيد أحمد بقشان ونقَّدَنِي خمسمائة جنيه مصري ثمنًا له يوم 
كان الجنيه المصري في أوجّ قيمته حيث كانت قيمته تزيد على الجنيه الإسترليني 
بخمسة قروش مصرية. 

بعد أن أمضيت عدّة أشهر في مكة المكرمة كنت خلالها أكثر التردّد إلى زيارة 
الأمير طلال. سافرت إلى القاهرة بصحبة الأمير عبدالله الفيصل الذي ذهب إليها 
للمداواة لقد كانت القاهرة مركز العلاج الأساسي للكثير من السعوديين في ذلك 
الوقت. ولكن تطور الخدمات الصحية في المملكة وتوسّعها فيما بعد جعل المملكة 
ولله الحمد تمتلك أفضل الإمكانات الصحية المتطورة في العالم. ولكن الوضع 
الصحي لم يكن على هذا المستوى من التقدَّم كما ذكرت في السابق. وأقمت مع 
الأمير عبدالله الفيصل مدّة شهر كامل أثناء تلقّيه العلاج. ولقد أقمنا في سرايا كبير 
خصّصته لسموّه الحكومة المصرية بالقرب من سرايا عابدين الشهير. وبعد شفاء 
الأمير المحبوب والشاعر الإنساني صاحب الحسٌ المرهف عُدنا جميعًا إلى 
الرياض للسلام على جلالة الملك عبد العزيز ونزلنا بصحبة سموّه في دار الأمير 
عبد العزيز بن مساعد أمير حائل عندئذٍء ولقد كان للأمير عبدالله الفيصل منزلة رفيعة 
لدى جلالة الملك عبد العزيز الذي كان يكن لحفيده محبّة كبيرة جدًا. ولقد أكرمني 
الملك عبد العزيز كآثة أيّما إكرام. 


بعد انقضاء مدّة قصيرة تركت الرياض إلى القاهرة ومكثت في ضيافة الشيخ 
فوزان السابق عدة أيام أخبرته خلالها عن رغبتي بزيارة دمشق والتوجه بعد ذلك إلى 
الولايات المتحدة لممارسة التجارة فيها من جديد» ولمحاولة البحث عن الولد 
نواف» وعملا بمشورة الشيخ فوزان رجعت إلى مكة للاستئذان من الملك 
عبد العزيز قبل العودة إلى الولايات المتحدة وفي مكة أقمتٌ مع الشيخ سليمان 
البسام في دار ضيافة الملك عبد العزيز الذي قدَّم لنا سيارة خاصة لاستخدامها أثناء 
إقامتنا في ضيافته في مكة. وكان الشيخ سليمان يتردّد إلى زيارة بعض أقاربه في 
مكة وهو الأمر الذي أتاح لي فرصة استخدام سيارة الضيافة الملكية للتنقل بين مكة 


414 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





وجدة والمدينة. ولم تكن الطرق في ذلك الوقت كما هي عليه في الوقت الحاضر 
ولكنها لم تكن سيئة. فلقد كان التنقل بين مدن الحجاز منذ ذلك الوقت سهلا 
ومريحًا. وفي بعض الأوقات كنت أتوغل بسيارتي قليلًا في الصحراء أبحث فيها 
عن مشاهد تذكرني بأيام قديمة كنت خلالها أجوب الصحراء مع العقيلات ولا 
أعرف السفر إِلَّا عبر الصحراء الواسعة فرارًا من المنازل والغرف الجميلة داخل 
الجدران الأربعة التي كنت أعتبرها كغرف السجن. 

ولم تُتحْ لي فرصة للاستئذان من الملك عبد العزيز بالعودة إلى أميركا فلقد 
كان مجلسه دائم الاكتظاظ بالحضور وكلما هَمَمَْت بمكالمته في الموضوع كنت 
أرجىء الأمر لوقت لاحق ولكن يبدو أنَّ جلالته قد عرف بمسألة عزمي على السفر 
إلى أميركا من الشيخ فوزان السابق الذي كتب له بالأمر من القاهرة. 

فبعد عودتي من رحلتي إلى المدينة بالسيارة أخبرني الشيخ سليمان البسام أن 
بعض رجال الملك عبد العزيز كانوا يبحثون عنّي طيلة النهار. وفي مساء ذلك اليوم 
التقيتُ في منزله في جدّة بالشيخ عبدالله السليمان والشيخ محمد سرور الصبّان 
والشيخ إبراهيم الطبيشي. ولقد همس الشيخ محمد سرور في أذني وأعلمني أن 
الملك عبد العزيز قد أمر لي بتذكرة إركاب إلى أميركا من القاهرة. وأدركتٌ عندها 
أن الشيخ فوزان السابق رحمه الله قد كتب إلى الملك عبد العزيز بهذا الخصوص. 
وأوصاني الشيخ محمد سرور بشراء بعض البضائع للملك فور وصولي إلى أميركا 
وطلب مني مراجعة السفارة لاستلام قيمة البضاعة. فأخبرته بأن عودتي للولايات 
المتحدة قد تأخّرت بعض الوقت وأن الأشياء التي يريدونها يمكن تأمينها بوقت 
أسرع وسعر أرخص من فرنسا. 

أبديتٌ استعدادي للسفر إلى فرنسا لشرائها. ويبدو أن وزراء الملك عبد العزيز 
أخذوا بمشورة شراء البضاعة من فرنسا ولكنهم لم يكلّفوني بتأمينها. فلقد علمت 
فيما بعد أن الشيخ عبدالله السليمان قد أوقّد السيد عبد القادر إدريس أحد مرافقي 
الملك فيصل بن عبد العزيز إلى فرنسا لشراء الأشياء المطلوبة. 

بعد عودتي إلى القاهرة صرف لي السفير السعودي الجديد في مصر الشيخ 
عبدالله الفضل تذكرة سفر إلى الولايات المتحدة تنفيذًا للأوامر التي تلقّاها من 





الملك عبد العزيز وكنت أنا أَعِدُ العدّة للسفر إلى دمشق لزيارة بعض الأهل 
والأصدقاء قبل العودة إلى أميركا. هذا ما كنتٌ أنويه ولكن الله أراد لي شيئًا آخر. 
وَصَدّقٌّ مَنَ قال إِنَ الإنسان يسعى ويريد ولكن الله يفغل ها يريد: فبينما كنت أعِدٌ 
عدَّة السفر إلى دمشق قبل مغادرتي إلى أميركا دخل عارض جديد في حياتي وغيّر 
علي مخطط سفري وحياتي في السنوات الباقية من عمري. ففي أوائل عام 1369ه 
أواخر عام 1949م» وأثناء وجودي في فندق سميراميس رأيت امرأة مصرية كلها 
حيوية وجمال ونشاط. رأيتها تدخل الفندق لزيارة إحدى قريباتها. ولقد أعجبّت 
بها من أول نظرة وملّكّت على فؤادي. فانتظرتها حتى غادرت الفندق ولحقت بها 
بسيارة أجرة. وعرفت المنزل الذي دخلته. 

لم أَنَمْ إلا ساعات قليلة في تلك الليلة. فلقد أمضيت معظم الليل وصباح 
اليوم التالي أفكّر في أمر تلك المرأة المصرية التي لا أعرف عنها شيئًا والتي 
استحوذت على مكانة كبيرة في نفسي منذ النظرة الأولى. ونويت أن أتزوجها 
وعرفتٌ من عدم وجود دبلة الزواج في يدها أنها غير متزوجة» فأنا أعرف حرص 
المصريين والمصريات على لبس دبل الزواج. 

في عصر ذلك اليوم كنت في طريقي إلى منزل تلك المرأة التي أراد الله لها أن 
تكون زوجتي الثالثة بعد زواجي وطلاقي من الأميركيتين. 

دخلت المنزل بكلّ ثقة وهدوء وقابلتٌ شقيق زوجة المستقبل السيد حسن 
أحمد كرى وأخبرته عن نفسي وبأنني أرغب الزواج من المرأة الشابة التي رأيتها 
بالأمس. واستغرب في البداية موقفي ولكنه سرعان ما ويُقّ بي وعرفتٌ منه أن تلك 
المرأة هي أخته وأنها تعيش في الإسكندرية مع والدتها وأنها قَدِمَت لزيارة القاهرة 
لعدّة أيام فقط. وأخبرني أيضًا أن والدهما السيد أحمد كرى الذي توفي في السنة 
الماضية كان عضرًا في البرلمان المصري وأمين صندوق حزب الوفد أيام الزعيم 
سعد زغلول. خطبت الفتاة من أهلها وخلال أيام أخبروني بالموافقة وبعد فترة 
وجيزة تمٌّ عقد القران» وبعد الزواج سكنت مع زوجتي الجديدة في شقّة جميلة 
بالزمالك وكان جاري في العمارة نفسها الشيخ كمال أدهم. ولقد سبق أن قابلته 
مقابلة قصيرة أثناء زيارته الخاطفة إلى سان فرانسيسكو لزيارة بعض أمراء الوفد 


466 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





السعودي عام 1364ه (1945م)»: ومنذ جيرة الزمالك تونَّت معرفتي بالشيخ كمال 
أدهم فكان الأخ الكريم خير صديق وكما يُقال (كم من أخ لم تلده أمك) ولم أزل 
أتردّد إلى زيارته حتى الوقت الحاضر. ومن الزمالك انتقلت مع زوجتي للسكن في 
منزل جميل في مصر الجديدة لم نرّل نحتفظ به حتى الوقت الحاضر. 

خلال عامي 1369 و1370ه (1950 و1951م): حاولت التزام بعض 
التعهّدات لصالح وزارة الداخلية ووزارة الدفاع والحرس الملكي ولكن الحظ لما 
يحالفني وخلال عام 1370ه (1950م)» تعرّنت زوجتي في القاهرة على أم 
محمد. زوجة الملك فيصل كآنه ولقد كانت زوجتي تزورها في بيتها القريب من 
منزلنا في مصر الجديدة. 

في عام 1371ه (1951م). جئت مع زوجتي إلى جدة ونزلنا لفترة وجيزة 
ضيوفًا في قصر الملك. ثم انتقلنا إلى منزل خاص أعطاني إياه الملك فيصل رحمه 
الله. وهكذا انتقلت للحياة في جدة وعملت في التجارة ومختلف أعمال الاستيراد 
والتعهّدات. وكنت كثير التردّد إلى الطائف لزيارة الملك عبد العزيز. 

لقد كنت في الطائف مع الأمير طلال يوم وفاة الملك عبد العزيز كنه: لقد 
كانت فاجعة كبيرة ألمّت بالمسلمين جميعًا. وخلال مرافقتي الطويلة للأمير طلال لا 
أذكر أنني رأيت سموّه حزيئًا متألمًا مقل تاكرة وخرته آنه يرع وقاة والده املك 
عبد العزيز. وأذكر أنني حاولت يومها التخفيف عن سموه لما رأيت شدَّة حزنه وتأثره 
فقلت له: إِنَّ المُصاب كبير يا سمو الأمير وهي إرادة الله في خلقه. فأجابني قائلًا: 
الحمد لله على قضاء الله. لقد فقدنا عبد العزيز يا خليل» إنه البطل وإنه القائد. . . أمَة 
في رجل واحد. وانتقل حب الملك عبد العزيز رحمه الله من الأمير طلال إلى جميع 
أنجاله الذين لا أعرف شيئًا يشدٌ انتباههم أو يؤثّر فيهم أكثر من الحديث عن والد هذه 
الأمة الملك عبد العزيز. وبما أنني لم أتفرّغ للأعمال التجارية الخاصة بي» فلقد 
عملت وكيلًا للأمير طلال في المنطقة الغربية لعدة سنوات أشرفتٌ فيها على أعماله 
التجارية وشؤونه الخاصة» وأعطاني سموه منزلًا خاصضًا للسكن بالقرب من مكان 
العمل. وبعد أن أصبحت أرافق سموّه في كل رحلاته تقريبًا قرّر سموه أن يعيّن وكيلا 
آخر لكي أتفرّغ لمصاحبته في أسفاره الكثيرة. 





في عام 1374ه (1954م): سافرت مع زوجتي المصرية إلى سوريا ولبنان 
وأمضينا هناك وقنًا ممتعًا مع بعض الأهل والأصدقاء. ومنها ذهبنا إلى القاهرة ثم 
إلى جدة» ولقد أمضيت سنوات طويلة من عمري أتردّد بصحبة زوجتي بين منزلنا 
في القاهرة ومنزلنا في جدة. لقد توفيت زوجتي مؤخرًا وغادرت هذه الحياة الفانية 
ا الله فلقد كانت امرأة فاضلة طيبة. ولقد رزقني الله منها بابنتين تعمل إحداهما 
في الوقت الحاضر طبيبة جراحة في المستشفى العسكري بالرياض والثانية أستاذة 
في إحدى مدارس الرياض الثانوية. 

منذ أن عُدت من الولايات المتحدة وحتى الوقت الحاضر لم تنقطع زيارتي 
المتكرّرة لسوريا ولبنان خاصة في الخمسينيات والستينيات» أحيانًا أذهب بمفردي 
وأحيانًا بصحبة أفراد أسرتي أو بمعية الأمير طلال. دمشق وقاسيونهاء بيروت 
وسواحلهاء أشجار الغوطة» زحلة البقاع» أرز لبنان ومياه بردى. هذه كلها ذكريات 
جميلة في حياتي تشدّني دائمًا إلى زيارة سوريا ولبنان وكما يقول فريد الأطرش في 
بساط الريح «أنا عاشق سوريا ولبنان» والأستاذ فريد الأطرش ليس غريبًا علي فلقد 
كنت أعرفه جيدًا وقابلته مرات عديدة في القاهرة ولبنان. ولقد استمعت إليه مرّة 
يغني بعض أغانيه الجميلة بين عدد قليل من أصدقائه ومعارفه في محل خاص في 
أحد مقاهي جبل لبنان. وفي إحدى زياراتي لبيروت في أواخر الخمسينيات التقيت 
باللواء محمد المطلق وقد كان وقتها قائدًا للقاعدة الجوية في الظهران وذلك قبل أن 
يتقاعد ويتفرّغ للأعمال التجارية. ولقد كان اللواء محمد متزوجًا من ابنة إحدى 
شقيقاتي التي توقاها الله قبل عدة سنوات في الظهران. التقيت اللواء محمد في تلك 
السنة في بيروت وكان يتنزّه مع زوجته وأطفاله في لبنان. ولقد كنت في السابق قد 
حدّئت اللواء محمد عن جمال الجبل الذي ينتشر الأرز في مرتفعاته في إهدن أو 
بشري. واتّفقنا على أن نذهب سوية من بيروت إلى جبال الأرزء ولقد كانت مناظر 
الطريق خلابة وشجيرات الأرز المنتشرة هنا وهناك في غاية الروعة. ولقد واجهتنا 
بعض مخاطر صعود الجبل بالسيارة بسبب ضيق الطريق ولكن المنظر من قمة الجبل 
كان رائعًا يفوق الوصف والتعبير. 


مررنا ببعض القرى الصغيرة وتناولنا طعام الغداء فى حديقة أحد المقاهى بين 


408 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


أحضان شجيرات الأرز. وأذكر يومها أن اللواء محمد المطلق أبدى إعجابه الشدير 
بمناطق الأرز الجميلة» وقال: الآن عرفت لماذا اختار اللبنانيون الأرزة لتكون 
شعار علم بلدهم. ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي رافقت فيها اللواء محمد 
المطلق وأفراد أسرته في إجازتهم. فلقد رافقتهم أنا وأفراد أسرتي في رحلة ممتعة 
إلى الولايات المتحدة في بداية السبعينيات. 





أثناء زيارتي المتكرّرة لدمشق في الخمسينيات والستينيات كنت أقيم في دار 
شقيقي ياسين أو دار شقيقي محمد عيد. وكان نهر يزيد أحد فروع نهر بردى يمر 
في حديقة منزل شقيقي ياسين. وكنت أعشق كل ليلة تأمّل مياه نهر يزيد التي تعكس 
مصابيح الحديقة وهي تمر من أمام أعيننا. ولقد كانت زوجتي تحب الذهاب إلى 
متنرّه الربوة القريب من دمشق حيث تنحدر المياه من أحد فروع بردى في واجهة 
المقهى. ومنذ بدأت الحرب الأهلية في لبنان اقتصرت زياراتي على دمشق 
ومصايفها ولقد حرمتني الحرب وأهوالها من زيارة بيروت وجارة الوادي والتمتع 
بمناظرها الخلابة. 

وإذا كنت أتردد على سوريا ولبنان للتمتع بالطبيعة الجميلة والنسيم العليل 
ولكي أبحث عن ذكريات طفولتي في دمشقء فإن لمصر في حياتي قصة أخرى. 
فلقد زرت القاهرة أول مرة عام 1337ه (1919م)» وزرتها عدة مرات قبل هجرتي 
إلى أميركا عام 1354ه (1935م) ولمًا عدت إلى أرض الوطن قَديِمت عن طريق 
الإسكندرية والقاهرة. ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم أصبحت لي القاهرة منزلًا ثانا 
أتردّد إليه مرات عديدة كل عام. ومع زيادة معرفتي بمصر تبيّن لي حب أهلها 
للغريب ورحابة صدورهم ولطف ألسنتهم ورقة قلوبهم المفعمة بالخير. لقد تعرّفت 
إلى الكثير من أبنائها ودرست ثقافتهم وحبّهم للعلم والمعرفة. وإن لفتة سريعة 
لمعالم مصر وآثارها تنبئنا عن أهمية أهلها. 

أزمّرها وجامعاتها العديدة وأدباؤها وعلماؤهاء مكتباتها وصحفها ومتاحفها 
ومسارحها وأهراماتهاء وصوت أم كلثوم والموسيقى الشرقية فيهاء كل هذا وغيره 
يجعل القاهرة مدينة رائدة في عالمنا العربي. إن القطر المصري بشماله وجنوبه بنيله 
ومزارعه بإسلامه وعروبته بزعماته وأبطاله يتألق عاليًًا منذ فجر التاريخ. إن منجزات 


فراق طويل ثم لقاء 469 


الفراعنة العلمية التي لم تزل مذهلة ليس فقط كما نراها في الأهرامات ولكن في 
ابتكارهم لتحنيط ملوكهم وأبطالهم وأثريائهم» ذلك التحنيط البشري الذي لم يزل 
علماء هذا القرن عاجزين عن معرفة سرّه رغم ما لديهم من آلاف الاختراعات 
العظيمة التي صعدوا بواسطتها إلى الفضاء والعقل المصري المبدع لم يكن غائبًا 
عن ميدان أبحاث الفضاء. 


لم أجد في القاهرة سحر لبنان ونسيمه العليل ولا ذكريات طفولتي التي 
أمضيتها في أحضان قاسيونء, ولكنني وجدت حضارة عريقة وثقافة عميقة ومنجزات 
فِنّ وعلوم وأدب وفكر. لهذا فلقد وجدت في القاهرة ما يروي عطشي إلى القراءة 
والمعرفة. ففي القاهرة أمسكت بالقلم في بداية الستينيات وبدأت أخظ أولى 
صفحات هذا الكتاب. وإِنَّ أحد الأسباب التي تدفعني إلى مواظبة حضور مجلس 
الأمير طلال اليوم بالرغم من تقدّمي بالسنّ هو اهتمامي بالاستماع إلى مواضيع 
العلم والثقافة والأدب التي تُثار فيه. 

لقد تركت جدة عروس البحر الأحمر في عام 1390ه (1970م): وانتقلت 
للعيش في الرياض لأن ابنتي الكبيرة أرادت الالتحاق بكلية الطب» ولم تكن هناك 
عندئذٍ كلية للطب في جدة. وكان لدي أثناء إقامتي في جدة مزرعة من الحمام 
محاطة بالأسلاك من جميع جهاتها وعندما قرّرت الرحيل إلى الرياض أعطيت 
الحمام إلى أحد الأصدقاء وأنزلت جميع الأسلاك التي تحيط ببيت الحمام ولم يبقَّ 
منه غير سقفه الخشبي. ولم تمْضٍ ساعة من الزمن إلا وإحدى الحمامات البيضاء 
التي كنت أقتنيها تعود إلى ما بقِي من بيت الحمام الذي أزلت آثاره ونزلت تلك 
الحمامة في مكان العششنٌ الذي نشأت وترعرعت في أكنافه» وبقيت يومين لا تفارق 
مكانها لا تأكل ولا تشربء برغم الب الذي كنت أنثره على الأرض أمامهاء 
والماء الذي أقدّمه لها فلم تتناول حبة منه ولا قطرة ماء حتى سقطت ميتة. 





فالحمامة فضّلت أن تموت فى وطنهاء المكان الذي فتححّت عينيها فوجدت 
نفسها فى ربوعه» المكان الذي كانت فيه مقيّدة غير حرة» كانت تجد فيه ماءها 
وغذاءهاء ورفاقًا لها نشأت بينهم ١‏ وعندما أبعِدّت عنه عادت إليه مسرعة.ء فوجدت 


450 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الحواجق فك أزيلت»:قلم يق من :وطتها الأول قبن سقى) "ققدت ملظل تسد 
تراودها الذكريات السالفة الحلوة» إلى أن ماتت. 

تذكّرني هذه القصة بقصة أخرى حدثت معي في منتصف عام 2ه (مطلع 
عام 1924م)». فلقد غادرت ورفيقًا لي القطر المصري برا وكان معنا حصان, 
وجمل يحملان زادنا وأمتعتناء فوصلنا بعد سفر شاق ضواحي مدينة غزة بفلسطين» 
وأقمنا ثلاثة أيام عند صديق لنا أعرابي في بيته المنسوج من شعر الماعز» لنستعيد 
قوتنا ثم نواصل السفر إلى دمشق وكان هذا من معارفنا وكان آباؤه معروفين لدى 
القوافل النجدية ويُعرّفون بأولاد غنام. كان لدى هذا الأعرابي كلب كنت وصديقى 
نهتمٌ بإطعامه طيلة إقامتنا بضيافته» وعند مغادرتنا غزة تبعنا هذا الكلبء وبقي 
يمشي وراءنا نهارًا ويحرسنا ليلاء إلى أن وصلنا مدينة دمشق» وأقام هذا الكلب 
في دمشق ثلاثة أيام في الحي الذي نسكنه». وكان موضع الرعاية منّاء ومن أبناء 
الحي الذين سموه الكلب المصري نظرًا إلى قدومه معنا من مصر ثم فقدناه ولم 
نعلم أين ذهب. 

وقدّر لي بعد مضي ثلاثة أشهر زيارة هذا الأعرابي في مدينة غزة التي تبعد 
مئات الأميال عن دمشق. فوجدت الكلب الذي رافقنا حتى دمشق هناك عند أهله 
وفي وطنه. لم ترق له الحياة في مدينة دمشق عاصمة بني أمية وإحدى عجائب 
الدنيا السبع» ففضّل العودة إلى وطنهء الذي أحبّه أكثر من بقاع العالم أجمع ففيه 
يرتع مع رفقائه» ولذلك فهو محب له وشغوف به. 

لقد ملَّ هذا الكلب التنقّل في شوارع دمشق. وعانى من الطعام الدسم الشهي 
الذي كان يقدّم إليه» والعناية الفائقة التي كنّا نحوطه بهاء وفضّل أن يعود إلى وطنه 
إلى مراتع لهوه وصباه. فقطع مشيًا من دمشق إلى غزة أكثر من ستمائة كيلومتر إلى 
أن وصل إليه ليتمرّغ على رماله الصفراء ويلهو في مروجه الخضراء. وكا أثناء 
قدومنا إلى دمشق قد بتنا ليلة واحدة في فندق القنيطرة. ولقد أخبرنا صاحب الفندق 
فيما بعد أنه شاهد الكلب الذي كان بصحبتنا يعود للفندق ثانية ويمضي في فنائه ليلة 
واحدة ثم يختفي في صباح اليوم التالي. 

إن الإنسان مثله مثل الحيوان مفطورٌ على حب الوطن» يسافر ويطوف أقطار 


فراق طويل ثم لقاء 461 





الدنيا ودائمًا يحن إلى الوطن يريد العودة إليه. وأثناء إقامتي في الولايات المتحدة 
لاحظت أن جميع العرب يحبّون سماع أخبار الوطن ويتمنّون العودة إليه ولكن 
مصاعب الحياة ومشاغل الدنيا تعترض طريقهم. ولقد اطلعت على مقال بقلم 
السيدة أسمى طوقان نشرته في مجلة العربي الكويتية في عددها الرابع والأربعين 
نتحدّث فيه عن حب الوطن وتحاول في تصوير عاطفي رائع أن تصف للعالم ألم 
الشعب الفلسطيني بعد خروجه من فلسطين عام 1367ه (1948م)» ففي مقالها 
«الوطن يا له من وطن» تقول السيدة طوقان إن الوطن هو «هذا الثرى الذي تدوسه 
أقدامناء أطفالنا عندما نخطو خطوتنا الأولى المتعثرة» وتردّد أجواؤه صدى 
فحكاتكا ضارا ودرذه أرجارة قصة عاستا الأول ثانا رح روقص طموحهنا 
وعركنا ونجاحنا كبارًا. .» لقد وجدت في كلامها عن الوطن الكثير من المعاني 
التي كانت في نفسي أثناء وجودي في أميركا. 

أعود إلى ابنتي آسيا التي اختارت دراسة الطب وبدأت السنة الأولى الإعدادية 
مع بعض صديقاتها السعوديات في جامعة داخلية في سويسرا. وبعد انقضاء السنة 
الأولى على دراستهن قَدِمْن إلى الرياض بعد أن فتحت كلية الطب في الرياض 
أبوابها للطالبات. وتخرّجت ابنتي آسيا في كلية الطب في جامعة الملك سعود 
وتدرّبت في مستشفى الملك عبد العزيز الجامعي ثم سافرت إلى بريطانيا وتخصّصت 
بالجراحة تحت إشراف إحدى مدرّساتها البريطانيات التي درّستها في الرياض. 
وحصلت آسيا على شهادة تخصّص الجراحة من بريطانيا وعادت لتخدّم وطنها في 
المستشفى العسكري بالرياض . 

ما ابنتي الثانية أميمة فلقد درست الكيمياء والأحياء بجامعة الملك سعود 
وتقوم الآن بتدريسها في إحدى ثانويات الرياض. وإن مسيرة تعليم المرأة في 
المملكة تجسّد في الحقيقة عملية تطوّر رائعة يقف وراءها شهيد هذه الأمة الملك 
فيصل كن فلقد أصرّ على فتح أبواب التعليم أمام المرأة مثلها مثل الرجل. وقبل 
استشهاد الملك فيصل بليلة واحدة ذهبْتٌ لزيارة جلالته في قصره بالمعذر وقَدِمَ 
العديد من الناس بمطالبهم المختلفة وتناولوا طعام العشاء على مائدة جلالته. وبعد 
انصراف معظم الحضور بقي مع جلالته سمو الأمير محمد بن سعود الكبير والأمير 


452 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





قصل ين شعت لد الله رهما ومو لف هذا اكات رحلا نه طركلة ادن 
أطراف الحديث وبعد أن استأذنت للانصراف طلبّ مني جلالة الملك أن ا 
في صبيحة اليوم التالي في قصر الحكم وذلك لأنني كنت قد طلبت مساعدة من 
جلالته في مسألة خاصة ووعَدَ بإنجازها في اليوم التالي. وفي صبيحة اليوم التالى 
وأثناء وجودي مع بعض المراجعين ننتظر مقابلة الملك وقعت الواقعة الأليمة 
وعَلِمْنا بحادثة الاغتيال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلقد فقدت 
المملكة بطلا آخر من أبطالها العظامء وأحد بناة مجدها العظام. 


إن ابنتي وغيرهما من فتيات هذه الأمة مدينات بتعليمهن إلى البطل الشهيد 
فيصل . وإنني اليوم فخور بابنتي الطبيبة الجرّاحة آسيا وكذلك ابنتي أميمة المدررسة 
التي تتفانى في خدمة عملهاء عندما أرى ابنتي أميمة وقد تجاوزتٌ الخامسة 
والتسعين من عمري وهي تسهم في تعليم بنات هذا الوطن وأرى ابنتي آسيا تعمل 
ليل نهار في خدمة المرضى بالمستشفى العسكري أفلا يحق لي أن أفخر بابنتيّ 
وأئني على ذكر البطل الشهيد فيصل الذي سهّل فتح قنوات التعليم أمام المرأة في 
بلدنا؟! . 


بعد عودتي من الولايات المتحدة» عملت كما ذكرت أيضًا مع سمو الأمير 
طلال ورافقته في أسفاره ورحلاته وكان لي شرف الاطلاع عن كثب على كل 
منجزاته الخيّرة. ولقد لفت انتباهي بشكل خاص نزعته الإنسانية واهتمامه بالتعليم 
والصحة وحبّه للأطفال. فلقد عرفته إنسانا خيّرًا وأميرًا نبيلا وسياسيًًا ودبلوماسيًا 
وإداريًا ناجحًا. كما رأيت سموّه يتألق في مجال الأعمال الخاصة حتى أصبح من 
أشهر رجال الأعمال المرموقين في العالم. ولقد رأيت فيه أيضًا اهتمامًا بالعلم 
والمعرفة حيث يهتمٌ بشكل خاص بالأدب والتاريخ والفنون كما يحبّ الاطلاع على 
حضارات العالم ال إن حياة سمو الأمير صاخبة منذ بدايتها ومليئة 
بالأحداث والمنجزات. فقبل وفاة والده الملك عبد العزيز رحمه الله كان الأمير 
طلال مسؤولا عن القصور الملكية. وعندما أصبح سموه وزيرًا للمواصلات 
(1370 - 1372ه) (1952 - 1954م)»: عملت معه مديرًا للمشتريات وأمينا 





للمستودع في الوزارة. وإضافة إلى وزارة المواصلات فلقد أصبح الأمير طلال 
وزيرًا للمالية في مطلع الستينيات وكذلك نائبًا لرئيس المجلس الأعلى للأماكن 
المقدّسة في مكة المكرمة ونائبًا لرئيس المجلس الأعلى للتخطيط. ولقد أخبرني 
اخذ الدبلوماسيين المخضرميق أن« الأمين طلال سكن عددنا كان سقيرًا للمملكة 
العربية السعودية في فرنسا عام 1375ه (1955م): خلال سنة واحدة من خلق 
العديد من الصّلاات العامة والروابط مع مختلف فئات المجتمع الفرنسي . 

إلى جانب مهامه السياسية والدبلوماسية» كان الأمير طلال يشرف على العديد 
من النشاطات الإنسانية والاجتماعية. فلقد دفعه اهتمامه بالتعليم منذ عام 1372ه 
(1952م)» إلى تبني إرسال بعثات تعليمية عديدة من الشباب السعودي للدراسة 
على نفقته الخاصة في جامعات مصر ولبنان. وفي عام 1374ه (1954م)» أسّس 
أول مدرسة للتدريب المهني في المملكة» وفي عام 1377ه (1957م)» أنشأ أول 
مدرسة لتعليم البنات في الرياض» وفي السنة نفسها أقيمت أول كلية للبنين في مكة 
المكرمة في قصر الزهراء الذي أهداه سموه إلى الحكومة السعودية. 

والتعليم ليس هو المجال الوحيد الذي يحظى باهتمام الأمير طلال. فلقد 
أسّس سموه عام 1378ه (1958م)» أول مستشفى خاص في الرياض وخصص 
0 من إمكاناته للعلاج المجاني و6010 لعلاج الأطفال. ثم أهدى الأمير طلال 
هذا المستشفى للدولة ويُعرف الآن بمستشفى الملك عبد العزيز الجامعي . 

كما ذكرت سابقّاء فلقد رافقت سمو الأمير طلال في عددٍ من رحلاته إلى 
الدول العربية والأوروبية وإلى الولايات المتحدة وبعض دول أميركيا اللاتينية وقد 
لا أبالغ إذا قلت إِنَّ سموّه قد زار معظم أرجاء الدنيا في البرّ والبحر والجو. وعلى 
الرغم من أنَّ رحلات الأمير طلال ليست طويلة كما بيّنت مسبقاء إلا أن سموّه 
يُنجز خلالها الكثير من الأعمال. فالمعروف عن الأمير طلال الدّقة والتنظيم وحسن 
التحكم في الوقت. وتتعدّد أسباب رحلات الأمير طلال. فهناك رحلات نشاطاتها 
إنسانية» ورحلات خاصة بحضور المؤتمرات واللقاءات الاجتماعية والثقافية 
والسياسية العربية والدولية. وهناك رحلات خاصة بالعمل التجاري» ورحللات 


004 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الاستجمام والراحة التي تشتمل في الأغلب على بعض النشاطات الإنسانية 
والاجتماعية التي لم تكن معدَّة مسبقًا 

خلال سنوات 1400 - 1404ه (1980 - 1984م)» كان الأمير طلال 
مبعونًا خاضًا لمنظمة اليونيسيف الدولية» ومنذ عام 1401ه (1981م)» وسمرّه 
يرأس برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية والإنسانية 
وكذلك فقد أصبح الأمير طلال منذ عام 1402ه (1982م)2 عضوًا فعالا في رابطة 
تطوير معهد باستير الدولي» كما ساهم في عام 1403ه (1983م)» في تأسيس 
اللجنة المستقلة للقضايا الإنسانية الدولية ومقرّها جنيف. ولم يزل سموه منذ ذلك 
الوقت يسهم بشكل رئيس في أنشطة اللجنة المختلفة وتستحوذ مختلف النشاطات 
الدولية والإنسانية على جزءٍ كبير من اهتمام ووقت وجهد الأمير طلال الذي يقدّم 
لها مختلف أنواع الدعم المالي والمعنوي والشخصي والتنظيمي الذي تحتاج إليه. 
وإن تقارير ومنشورات اليونيسف مليئة بصور سموه مع أطفال العالم الفقراء في آسيا 
وإفريقيا وأميركا اللاتينية. ولقد تقلّد سموه أرفع الأوسمة الإنسانية في العالم تقديرًا 
للجهود الكبيرة التي بذلها وما زال يبذلها في مجال المساعدات الإنسانية النبيلة. 
ولقد رأيت سموه يتقلّد في جنيف وفي تونس احراض عدا دري الاقدات 
المميزة. وفي الحفل الذي أقيم في جنيف لمنحه وسام التقدير الإنساني وقّف جمعٌ 
من السعوديين والعرب يستمعون وكلهم فخر واعتزاز إلى بعض منجزات ونشاطات 
الأمير طلال الإنسانية. ولقد كنت أقف بالقرب من سموه في تونس في الحفل الذي 
كلوح اكئة زكري التعدوورية التوني :المي احير تور ايخ أرطي لاتسانية 
العالمية. ولقد سمعت سموّه يقول لبعض أصدقائه بعد أن تسلّم وسام التقدير: 
عندما تذهب أجيال وتأتي أجيال ولا يبقى للإنسان إِلّا ذكراه فلن يكون شيء أحبٌ 
إلى نفسي من أن أذكر بالأعمال الخاصة بمساعدة الأطفال الصغار. فطلال الأمير 
وطلال السياسي وطلال التاجر كلها لا تهمّه قدر اهتمامه بطلال الإنسان الذي 
يحسٌ بآلام البؤساء. 

الأمير طلال سواء في رحلاته أو مقرّ إقامته يبدأ الساعات الأولى من نهاره 
بقراءة أو سماع أو مشاهدة أخبار العالم. وبعد إفطار خفيف لا يتعدّى أحيانًا القليل 


فراق طويل ثم لقاء 465 





من حبّات الفاكهة يبدأ ممارسة أعماله المختلفة. وإذا كان لديه اجتماع في ذلك 
اليوم خاص بنشاطاته الإنسانية أو المالية أو بالمنظمات التي يرأسها أو ينتمي إلى 
عضويّتها تراه يهتمٌ بالإعداد الكامل لهذا الاجتماع وللمناقشات الخاصة به. وفي 
عصر بعض الأيام يُتابع الأمير طلال ممارسة الأعمال التي لم تُنجَز في الصباح. 
وفي مجلسه المسائي تتنوّع الموضوعات التي يتحدّّث بها سموه مع الحاضرين. 
ويحرص سموه قبل النوم على سماع ومشاهدة أخبار العالم المسائية. 


ويحبٌّ الأمير طلال حياة الطبيعة ويُكثر من الذهاب إلى البادية أو إلى مزرعته 
الخاصة» وإذا كان مسافرًا فإنه يحرص على التمتع بمناظر الطبيعة الريفية بعيدًا عن 
صخب المدن الكبيرة. ويهتم سموّه بعالم الحيوان ولديه مجموعة واسعة من كتب 
الطبيعة ومختلف أنواع الحيوانات بالعالم. ويُجيد سموه قراءة العربية والإنجليزية 
ويحرص الأمير طلال على تزويد مكتبته بأحدث الإصدارات العربية ونشرات المال 
والاقتصاد والسياسة الدولية الأسبوعية واليومية. وفي تربيته لأولاده وتنشئتهم يركز 
الأمير طلال على ثلاثة أمور أساسية: التمسّك بالقيم العربية والإسلامية أولاء 
والاهتمام بالعمل والمعرفة ثانيّاء والتوجّه نحو النشاطات الإنسانية ثالنًا. وتنّضح 
هذه الخصال في الحقيقة في جميع أولاد الأمير طلال كما عرفناهم ونعرفهم. وهذه 
نشاطات الوليد الإتسائية غنبة غرة التعريك+ وإن تعدّد اهتمنامات الأميز طلال 
وعلاقاته الاجتماعية وسِعَة إمكاناته قد مكنته من التعرّف على كبار الأدباء والمثقفين 
والسياسيين والفنانين العرب وغير العرب. وأذكر أن دُعيت مع الأمير طلال ذات 
يوم لتناول طعام الغداء بالقاهرة في بيت الموسيقار الكبير الأستاذ محمد 
عبد الوهاب رحمه الله. ولقد نسي الأستاذ عبد الوهاب بسبب انشغاله بإعداد لحن 
جديد أننا قادمون للغداء ولم يخبر زوجته لكي تعد لنا الحمام والملوخية بالأرانب 
على الطريقة ل ا ا الي رو 
عبد الوهاب يده على رأسه وأشار إلى بعض النوتات الموسيقية المتنائرة في مجلسه 
وهو يقول: المعذرة فلقد انشغلت بإعداد الألحان منذ الصباح الباكر. وخلال 
دقائق ارتدى الأستاذ عبد الوهاب ملابسه وخرج علينا بكامل أناقته»؛ وذهبنا جميعًا 
إلى مطعم فندق سميراميس لتناول الغداء هناك. وأذكر أن الأمير طلال أصرّ يومها 


4016 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





على تسديد حساب المطعم ووافق الأستاذ عبد الوهاب على ذلك شريطة أن نَعِرَُ 
بتناول الحمام والأرانب والملوخية في منزله في وقت لاحق. 

أثناء وجود الأمير طلال في إحدى رحلاته في باريس قَدِمٌَ إلى زيارته الأستاذ 
محمد عبد الوهاب. وطلب سموه من الأستاذ عبد الوهاب أن يرافقه بالطائرة إلى 
القاهرة» ولكن الأستاذ عبد الوهاب اعتذر وأخبر الأمير بخوفه من ركوب الطائرة. 
وغادر الأمير طلال إلى القاهرة وبقيت مع بعض مرافقي سموه في باريس وكان 
الأستاذ عبد الوهاب يزورنى يوميّاء ولقد سعدت بصححته أيّما سعادة. واصطحبنى 
معه مرة إلى أحد الأستوديوهات الموسيقية لكي يسججل إحدى أغنياته. ولم يكن 
مدير الأستوديو حاضرًا وقت وصولنا وجلسنا ننتظره» ولما طال انتظارنا طلب منى 
الأستاذ عبد الوهاب أن أعزف على البيانو الموجود فى طرف الأستوديو لكى 
يتدرّب على الأغنية التي يريد تسجيلها. فأخبرته بأنني لا أعرف شيئًا عن الموسيقى 
أو البيانو. فأخبرني بأن أكتفي بتحريك أصابع يدي على البيانو» ففعلت ذلك 
وكانت الأصوات المتبعثة من البيانو غير منسّقة أو إيقاعية. ولكن الأستاذ 
عبد الوهاب تمكن بطريقة عجيبة من ترديد بعض مقاطع من أغنيته وأذكر منها الآن: 

ردت الروح على المضنى معك أحسن الأياميومأرجعك 
مرّمن بعدك ماروعني أترايا حلوبعدي روعك 

بعد دقائق قليلة من هذا المشهد الغريب الذي يغني فيه الأستاذ عبد الوهاب 
على أنغام موسيقى أحد أبناء العقيلات في باريس» جاء صاحب الأستوديو وبدأ 
التسجيل الفعلي للأغنية. وبعد ذلك بأيام أقلّنا القطار بصحبة الأستاذ عبد الوهاب 
من باريس إلى مدينة جنوا الإيطالية ومنها إلى نابولي. ومن هناك ركبنا إحدى 
البواخر الإيطالية إلى الإسكندرية. وتأخَّر سفر الباخرة ساعة كاملة بانتظار عودة 
اثنين من رفاقنا من رحلتهم إلى جزيرة كابري الجميلة. ولقد أراد قبطان الباخرة 
السفر من دونهم ولكن الأستاذ عبد الوهاب أقنعه بلباقته ولطفه بانتظارهم لبعض 
الوقت. فخرجّت السفينة إلى عرض البحر وانتظرتهم خارج الميناء مدّة ساعة 
كاملة؛ ويعد وصولهما صعِدا على سلم الباخرة الذي أنرّلته إلى الزورق الذي 
نقلهما من الميناء إلى السفينة . 


فراق طويل ثم لقاء 457 





بعد صعود رفيقينا مشت السفينة باسم الله مجراها ومرساها وكان البحر هادا 
نسبيًا والباخرة تنساب بهدوء في مياه البحر المتوسط الجميلة. ولكن لم تمُْض عدّة 
ساعات حتى هبَّت عاصفة قوية من الرياح وبدأت ذوائب الأمواج البيضاء تلاطم 
بعضها ويّخال الناظر إليها أنها تستعدٌ لمعركة حربية. واشتدّت الرياح وارتفعت 
الأمواج وتمايلت الباخرة في سيرها كما يتمايل شارب الخمر الثمل وعصفت فيها 
الأنواء حتى بدت وكأنها ريشة تتقاذفها الأمواج والرياح. وكانت غرفتي إلى جانب 
غرفة الأستاذ عبد الوهاب على ظهر السفينة» ورأيت الكراسي والطاولات تتمايل 
وتمشي من طرف إلى طرف في غرفته من شدَّة ميلان السفينة. وتساقطت 
الأسطوانات التي أحضرها معه الأستاذ من فرنسا على أرض الغرفة وتهشّم بعضها. 
ورأيت الموسيقار الكبير مكفهرٌ الوجه خائقًا وقد أمسَكٌ بمقبض خاص في جدار 
غرفته لكي يحمي نفسه من الانزلاق أو السقوط أرضًا نتيجة اهتزازات السفينة. 

بعد ساعة واحدة عاد البحر إلى سكونه وهدوئه وسحره وجماله» وصعدنا ثانية 
إلى سطح السفينة نتنفّس الصعداء ونتمنّع بعليل النسيم بعد العاصفة وبقي البحر على 
هدوئه حتى وصلنا الإسكندرية» وخلال الرحلة أمتعنا الأستاذ عبد الوهاب ببعض 
أغانيه الجميلة. وقلت للأستاذ عبد الوهاب بعد انقضاء العاصفة: ألا تعتقد أن 
أخطار ركوب البحر قد لا تقل عن الطائرة؟ فأجاب: ربماء ثم تابع قوله بما يفيد 
بأنه يفضّل مخاطر البحر على مخاطر الطائرة. 

فى إحدى زياراتى للأستاذ محمد عبد الوهاب فى القاهرة قَدِمَت الفنانة تحية 
كازيوكا وقد كنت أعرفها :من الؤلانات المتحدة حيه اق ل سل عند ها رن 
رجل أميركي بعد اعتناقه الإسلام. فعندما كنت رئيس جمعية المسلمين في نيويورك 
حضر إلى منزلي في أحد الأيام الأستاذ أبو علي خير الله وأخبرني بأن أحد 
الأميركيين يرغب اعتناق الإسلام. وفي اليوم التالي قدم خير الله إلى منزلي 
وبصحبته الرجل الأميركى ومعهما السيدة تحية كاريوكا. وبعد أن أشهر الرجل 
إسلامه عقد قرانه على النينة نكي وتعرّفت السيدة كاريوكا فى تلك الليلة إلى 
زوجتي الأميركية الثانية (والدة نواف)» وأمضت معها عق لرقف وعندما قابلت 
السيدة تحية كاريوكا في ذلك الحفل في القاهرة أخبَّرّت الحضور عن زيارتها لمنزلي 
في نيويورك وعقد قرانها على الأميركي وسألتني عن زوجتي الأميركية . 





قَدِمَ إلى جدة عام 1377ه (1957م): الشيخ عبد الرؤوف مدير المركز 
الإسلامي في العاصمة الأميركية واشنطن وإمام المسلمين هناك» ولقد جاء الداعية 
الفاضل إلى الأراضي المقدّسة لكي يعتمد ويُباحث في أمر تفسير معاني القرآن 
الكريم الذي ترجمه العلامة عبدالله يوسف علي الباكستاني إلى اللغة الإنجليزية. 
فلقد علم الشيخ عبد الرؤوف أنني أملك حقٌّ طبع الكتاب حيث أشرَقْتُ على الطبعة 
الأخيرة منه أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأميركية. 


أخبرني الشيخ عبد الرؤوف بحاجة المسلمين الماسّة في الولايات المتحدة إلى 
نسخ إضافية من كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم وطلب مني الإذن بالموافقة على 
توليه القيام بإصدار طبعة جديدة في أميركا. وسألني فيما إذا كنت أريد مبلعًا 
مقطوعًا أو نسبة من ثمن بيع كل نسخة وذلك مقابل إعطائه الإذن بالنشر. فأخبرته 
أن الربح لم يكن هو الدافع وراء اهتمامي بنشر هذا الكتاب وحرصي على إتاحته 
بين المسلمين في الولايات المتحدة. كما أخبرته بأن مهمّتي اقتصرت على 
الإشراف. وأمّا تكلفة الطباعة فلقد دفعها الشيخ عبدالله السليمان الذي طلب تجنُّب 
تحقيق أيّ ربح من عملية الطباعة وأعطيت الشيخ عبد الرؤوف الإذن بالطباعة دون 
أيّ مقابل وكتبتٌ له موافقة خظية بذلك ولم أقيده بأيّ كمية محددة وتركت له حرية 
طبع النسخ التي يحتاج إليها. ولقد أشرف الشيخ عبد الرؤوف - جزاه الله خيرًا - 
بعد ذلك على إصدار عدّة طبعات من الكتاب لخدمة المسلمين في أميركا. وأثناء 
حديثي مع الشيخ عبد الرؤوف عن كتاب تفسير معاني القرآن الكريم أخبرته بتفاصيل 
تسهيل الله سبحانه وتعالى لطباعة هذا الكتاب تحت إشرافي عندما كنت إمام 
المسلمين في نيويورك . فلقد كنت أشعر بالحاجة إلى ضرورة توقّر هذا الكتاب بين 
أيدي المسلمين الأميركيين. ولقد وجدت منه نسحا محدودة في بعض مكتبات 
نيويورك. وكان ثمنه مرتفعًا وقد اشتريت نسخة لي من إحدى المكتبات بمبلغ 
أربعين دولارّاء وكنت أعتمد عليه بشكل كبير في دروس الدعوة . 

لما جاء وزير المالية السعودي الشيخ عبدالله السليمان كن إلى نيويورك عام 
5ه (1946م).» قَدِمَ معه مستشار الملك عبد العزيز المالي عبدالمنعم رياض 
بك. ولقد كان الأستاذ رياض على علم بهذا الكتاب وبأهميته الكبيرة الناتجة عن 


فراق طويل ثم لقاء 459 





سهولة ووضوح التعابير الإنجليزية التي استخدمها الشيخ عبدالله يوسف علي كله 
لشرح معاني كلمات القرآن الكريم. ولمّا علم الأستاذ رياض بأهمية الحاجة الماسة 
إلى هذا الكتاب في أميركا في ذلك الوقت أشار على الشيخ عبدالله السليمان أن 
يعهد إليَ - بوصفي إمام المسلمين في نيويورك - مسؤولية الإشراف على إصدار 
طبعة جديدة منه. وفعلا فلقد استدعاني الشيخ ابن سليمان كأثة وطلب مني طبع 
خمسة وعشرين ألف نسخة من كتاب تفسير معاني القرآن الكريم» وخمسة وعشرين 
ألف نسخة من كتاب الشيخ غلوش رئيس جمعية الشبان المسلمين في القاهرة عن 
سيرة الرسول محمد يَكِْةِ باللغة الإنجليزية. واشترط ابن سليمان كزَنهِ استبعاد الربح 
من عملية الطباعة وطلب أن تُباع النسخة الواحدة من كل من الكتابين بسعر 
تكلفتها. ولتنفيذ طباعة الكتابين المذكورين أعطاني عبدالله السليمان كد من أمواله 
الخاصة لإرضاء الله سبحانه وتعالى مبلغ مائة ألف دولارء ولقد كتب الشيك بهذا 
المبلغ السيد أحمد الموصلي بحضور الشيخ سليمان الحمد السليمان مدير مالية 
جدة والمقيم حاليًا في عروس البحر الأحمر جدة. وبعد استلامي الشيك من الشيخ 
ابن سليمان اتّصلت بوكيل الشيخ عبدالله يوسف علي في نيويورك وأخبرته برغبة 
الشيخ عبدالله السليمان وطلبت منه تفويضي حق الطباعة» وأعطيته مقابل ذلك مبلغ 
ستة عشر ألف دولار أميركي ثم طبعت خمسة وعشرين ألف نسخة من كتاب تفسير 
معاني القرآن الكريم وخمسة وعشرين ألف نسخة من كتاب سيرة الرسول تأليف 
الشيخ غلوش. وأرسلت جزءًا من النسخ إلى مكة المكرمة بناء على طلب الشيخ 
ابن سليمان وأشرفت على بيع بعض النسخ في نيويورك بسعر التكلفة. وبالنسبة إلى 
كتاب تفسير معاني القرآن الكريم فلقد حدَّدت سعر بيع النسخة الواحدة بأربعة 
دولارات وذلك لتغطية تكلفة الطباعة والتخزين والشحن التي بلغت ثلاثة دولارات 
وخمسة وسبعين سنتّاء وأضفتٌ على سعر بيع النسخة الواحدة مبلغ خمسة وعشرين 
سنمًا تُدفع لأولاد العلامة عبدالله يوسف وذلك حسب الاتّفاق مع وكيله في 
نيويورك . 

ولم أكن أعلم يوم أعطيت إذن طباعة هذا الكتاب إلى الشيخ عبد الرؤوف أن 
الله سوف يشرّفني ويُتيح لي ثانية فرصة الإشراف على طباعة المزيد من نسخه. 


500 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 


فلخدمة آلاف المسلمين غير الناطقين بالعربية» طلَبّت مني رابطة العالم الإسلامى 
بعد ذلك طباعة عشرة آلاف نسخة من الكتاب أنجزتها كاملة دون تحقيق أي ربح 
منها. ولقد طبعتها في مطبعة الحياة في بيروت التي كان يُشرف عليها الأستاذ كامل 
مروة كه ثم طبعت المزيد من نسخ هذا الكتاب القيّم لحساب الرابطة أيضًا. ولقد 
بلغ عدد النسخ التي أشرفت على طباعتها من الكتاب سبعين ألف نسخة منها خمسة 
وعشرين ألف نسخة في الولايات المتحدة وخمسة وأربعين ألف نسخة في السعودية 
ولبنان. 





فراق طويل ثم لقاء 501 





الفصل السابع عشر 


قرة عيني بنواف بعد فراق طويل 


في إحدى إمسيات شهر محرم 1411ه الموافق نيسان/ أبريل عام 1991م» 
انصلت بولد شقيقي عثمان وطلبتٌ منه القدوم لكي أحدَّئه في أمر مهم. وخلال 
ساعة كنا سوية نرتشف القهوة في حديقة منزلي في الفاخرية. وأخبرته عن رغبتي 
في زيارة الولايات المتحدة الأميركية في الصيف القادم وطلبت منه مرافقتي في 
السفر. وسألني الدكتور عثمان عن سبب اهتمامي بزيارة أميركا فقلت له بهدوء: 
إنني يا بن أخي أشعر بحنين إلى زيارة بعض المناطق التي عشت بها أثناء إقامتي 
هناك في نيويوركء وأيواء ولوس أنجلوسء. وفلوريداء إن أمكن. ومن يدري 
فعسى الله أن يجمعني بولدي نواف قبل أن أفارق هذه الدنيا الفانية. 

أَلَمْ تقل لي إنه عاد من حرب فيتنام سالمًا؟ ألم تقل لي إن السيدة صفية أبو 
شادي رأت اسمه في دليل الهاتف في نيويورك في مطلع الثمانينيات؟ ألم تقل لي 
إن صديقك الأميركي الذي يعمل في وزارة الخارجية الأميركية قد وعدك بمساعدة 
شخصية للبحث عن ابن عمك نواف؟ فابتسم الدكتور عثمان وقال: إنك في الحقيقة 
يا عمّ تريد السفر إلى أميركا لكي تبحث عن نواف. 

فنظرت إليه نظرة ثاقبة ثم أجبته قائلًا: فعلا هذا هو السبب الأهم ولكنني أريد 
أيضًا استعادة ذكرى سنين خلّت وذكريات مضت. فنظر إليّ نظرة فيها الكثير من 
معاني العزم والأمل والتشجيع وقال فلنتوكل على الله ونعدٌ العدّة للسفر. إن أمامنا 
غدة أشهر لترتيب الكثير مخ الأموو. 

بعد مدة من الوقت غادر ابن أخي المنزل دون أن يعلم بأمر الحلم الذي أيقظ 
في نفسي رغبة زيارة أميركا والبحث عن نواف. فلقد أخفيت عنه أنني حلمت ثلاث 
مرات خلال أسبوع واحد بأنني أسير في شوارع نيويورك» وفي أرياف أميركا 


502 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





بصحبته وفي كل مرة نلتقي صدفة برجل يُقال لي في الحلم إنه ولدي نواف. وإننى 
منذ فراق نواف قبل < خمسة وأربعين عامًا ولديّ شعور غريب لم يفارقني بأنني سوف 
ألقاه يومًا. وفي أعقاب هذا الحلم الأخير بدأت أتيقّن أن ساعة لقائي به بإذن الله 
قد اقتربت. ولهذا قرّرت أن أوكّل أمري لله وأتّجه إلى الولايات المتحدة. 


جاءني الدكتور عثمان بعد عدة أيام لترتيب أمور السفر. وسألني عن المناطق 
التي أريد زيارتها في الولايات المتحدة الأميركية بالتحديد. فأخرجت ورقة صغيرة 
من جيب ثوبي كنت قد كتبت عليها أسماء المدن التي أريد زيارتها وهي: نيويورك, 
واشنطن» كليفلاند في أوهايوء سيدر رابدس في أيواء دونيدن في فلوريداء كربس 
كرستي في تكساس. وكذلك مدينة لوس أنجلوس. واعترض ابن أخي على كثرة 
هذه المناطق التي لن نتمككن في إجازتنا القصيرة من زيارتها جميعًاء فإجازة الصيف 
بسبب ظروف حرب الخليج - كما قال - ستكون قصيرة خاصة أننا سنحتاج إلى 
تمضية أسبوعين في نيويورك وواشنطن حيث سنركّز بحثنا على نواف. واتّفقنا بعد 
جدلٍ طويل على استبعاد دونيدن في فلوريدا وأن نترك الظروف تحدّد أمر زيارتنا 
إلى لوس أنجلوس. ولكننا اختلفنا في مسألة زيارة كليفلاند. فلم يكن ابن أخي 
يعتقد أن هناك ضرورة تستدعي زيارتها وسألني عن سبب اهتمامي بزيارة هذه 
المدينة الصناعية. فأخبرته بأننى أرغب بزيارة بيت السيدة مذر الذي سكنت فيه 
لبدة أسبوع اثناء إقامتي: في أميرها وألقيت فيه محاضرة على جمع النسوة عن بعض 
الدول العربية والإسلامية. فقال ابن أخي: إنني أعرف جيدًا تفاصيل زيارتك للسيدة 
مذر وزوجها في كليفلاند في أواخر الثلاثينيات» كما أعرف أهمية هذه الزيارة في 
نفسكء. فلقد حدّئتني عنها عدة مرات» ولكن لا أمل لنا الآن بعد انقضاء هذه 
السنوات في العثور على السيدة مذر أو على بيتها. فلقد مرّت أكثر من اثنتين 
وخمسين سنة على تلك الزيارة. فماذا تتوقع أن نجد؟ إن أميركا اليوم ليست مثل 
أميركا التي كنت تعرفها في الثلاثينيات ولن تجد شيئًا في كليفلاند تتذكره أو يذكّرك 
بتلك الزيارة. ولكن بالرغم من معارضة الدكتور عثمان على زيارة كليفلاند بقيت 
مصرًا على الذهاب إليها أثناء توجهنا إلى أيوا. لقد كنت متيقئًا أن بيت السيدة مذر 
سيكون قائمًا في مكانه على البحيرة وأردتثٌ اصطحاب ابن أخي لزيارته. 


بعد عدة أيام عرفت من ابنتي الطبيبة الجرّاحة آسيا أنها ستكون في الصيف 


نراق طويل ثم لقاء 503 





موجودة في مستشفى كليفلاند للقيام ببعض الدراسات والأبحاث الطبية. ولقد 
سّعِدْت بهذا الخبر كثيرًا وأصبح لدي الآن سبب آخر لتدعيم رغبتي في زيارة 
كليفلاند. وأثناء انشغالي مع ابن أخي عثمان بإعداد العدّة للسفر وترتيب حجوزات 
الطائرة وحجوزات الفنادق وإصدار جوازات السفر وغير ذلك من الإجراءات» أثناء 
كل ذلك كنت أفكّر بالفارق الكبير بين الاستعداد للسفر هذه الأيام وبين التَأمّب 
للسفر مع قوافل العقيلات بالماضي . الرحلة من الشام إلى القصيم كانت تأخذ عدة 
أشهر واليوم نقطعها في عدة ساعات دون مشقَّة أو عناء. لقد عشت هذا الانتقال 
الهائل من عصر سفينة الصحراء إلى عصر سفينة الفضاء. 

أثناء ترتيبات السفر وإعداد العدَّة له انّصلت بإحدى العائلات اللبنانية في سيدر 
رابدس في أيوا وأخبرتها بأمر زيارتي لهم في الصيف القادم. ولم تصدّق السيدة 
عجرم لشدَّة دهشتها بأنني سأزورهم حمًا في هذا العمر. واتّصلت عدّة اتصالات 
وأخبرثٌُ ابن أخي عثمان بأن جميع اللبنانيين الموجودين في سيدر رابدس متشوّقون 
لرؤيتي بعد هذه المدة الطويلة. فلقد كنت أتبادل رسائل محدودة مع بعضهم بينما 
انقطعت صلة الوصل بيني وبين معظمهم. وآخر اتّصال لي بهم كان منذ أكثر من 
عشر سنوات واعتقدوا أنني كنت من عداد الموتى» ولهذا فلقد كانت المفاجأة كبيرة 
عندما سمعوا بأمر زيارتي لهم في خلال عدة أشهر. ولقد كنت بدوري في أشدٌ 
الشوق لرؤيتهم وزيارة مدينتهم والمركز الإسلامي الذي أسّسته بها قبل أكثر من 
خمسين عامًا. 

قبل سفرنا بأسبوع أخبرني الدكتور عثمان بأن الملحق الثقافي الأميركي في 
الرياض قد تمكن من تحديد مكان الحديقة التي أهداها السيد أليسون والد زوجتي 
الأميركية الأولى إلى مدينته في ولاية نيوجرسي والتي أصبحت منذ ذلك الوقت 
تُعرف باسم (أليسون بارك) لقد أخبرت القارىء بأمر هذا البارك أثناء حديثي عن 
الأيام التي أمضيتها مع زوجتي الأميركية الأولى فرانسيس. فلقد أخذتني زوجتي 
برفقتها لزيارة الحديقة العامة التي تحمل اسم والدها. وأذكر أننا وقفنا عند زيارتنا 
للبارك أمام صورة لوالدها السيد أليسون منحوتة في صخرة كبيرة في طرف الحديقة 
المطلّ على نهر هدسن الذي يمر في الوادي الذي يطل عليه البارك. 


504 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





عندما عزمت على زيارة أميركا قبل عدَّة أشهر بصحبة ابن أخي عثمان أخبرته 
عن رغبتي في زيارة (أليسون بارك)» ولكن المشكلة التي كانت تعترض تحقيق هذه 
الزيارة هي عدم تذكري لاسم المدينة أو المقاطعة أو المنطقة التي يوجد بها 
البارك» فكل ما أذكره أن الحديقة تقع على نهر هدسن في ولاية نيوجرسي فى 
مكان لا يبعد كثيرًا عن مدينة نيويورك . 

لهذا طلبنا مساعدة الملحق الثقافي الأميركي في الرياض لتحديد موقع حديقة 
السيد أليسون. وكتب الملحق إلى الهيئة المسؤولة في ولاية نيوجرسي عن الحدائق 
العامة وطلب مساعدتها في تحديد موقع (أليسون بارك)» وتم ذلك بالفعل؛ 
وحصلنا من الملحق الثقافي الأميركي في الرياض - مشكورًا - على موقع البارك 
في مدينة (أنجل وود) في نيوجرسي . 

كانت القاهرة هي محطتنا الأولى» فلقد كان عليّ إنجاز بعض الأشغال فى 
مدينة النيل العظيمة قبل التوجه إلى أميركا . وكذلك :ناد ابن 'الفي الذي يكت قف 
حياتي باللغة الإنجليزية كان يريد مقابلة صديقي عبد الحي عامر الذي أقمتٌ معه 
مدّة سنتين في لوس أنجلوس ورافقته في رحلة شيّقة بالسيارة من غرب الولايات 
المتحدة إلى شرقها. ولقد كان عبد الحي عامر في الإسكندرية ولم نتمكن من 
زيارته هناك بسبب ضيق الوقت وقرّرنا تأجيل اللقاء معه إلى وقت آخر. 

غادرنا القاهرة بعد ثلاثة أيام متّجهين إلى نيويورك. وبالرغم من أنني قد زرت 
الولايات المتحدة عدّة مرات بعد انتهاء هجرتي وعودتي منهاء إِلَا أنني كنت أشعر 
وكأنني أعود إلى أميركا لأول مرة منذ غادرتها بالسفينة في عام 1368ه (1949م) 
وبعد أن خلد معظم ركاب الطائرة إلى النوم كنت أنا غارقًا في التفكير أستعيد معظم 
ذكريات حياتي السابقة هناك. كيف سأجد اللبنانيين في أيوا؟ وماذا حل بالمدرسة 
الإسلامية التي أسّستها في نيويورك؟ وهل سأتمككن من زيارة منزل السيدة مذر في 
كليفلاند؟ وهل سأتمكن من رؤية كل المناطق التي أريد رؤيتها؟ وهل» وهل» 
وهل. .؟ وأهم من هذا كله هل سأجد ولدي نوافًا؟ لديّ شعور خفيّ بأنني سوف 
ألقاه ولكن متى وكيف وأين. .؟ الله وحده أعلم. وإذا وجدته فكيف ستكون 
أحواله؟ وهل يعرف أن والده عربي من السعودية أم تراه يظنٌ أنْ والده هو رجل 


فراق طويل ثم لقاء 505 
أميركي أم إنه السيد أبو شادي؟ هل أخبرته أمه بالحقيقة؟ ولماذا لم يحاول الاتّصال 
بي إذا عرف أنني والده؟ ربما ظنَّ أنني لا أريده أو أنني فارقت الحياة» تُرى ما هي 
أحوال والدته؟ وهل ما زالت على قيد الحياة أم إنها من عداد الموتى؟ نواف الآن 
في الخامسة والأربعين من عمره ثرى ماذا يعمل؟ وهل هو متزوج؟ وهل لديه 
أطفال؟ وهل تمكن من تحقيق مستوى جيّد من التعليم مثل أختيه في الرياض أم إن 
ظروف حياته مع أمه لم تمكنه من تحقيق ذلك؟ 

عشرات الأسئلة الخاصة بنواف تزاحمت في مخيلتي ولكنني لم أتمكن حتى 
من التخمين في الإجابة عنها. فلقد انقطعت أخبار نواف عني منذ زمن بعيد» ولم 
أَعْدْ أدري ماذا حل به وأين انتهى به المطاف. فبعد عودتي إلى الوطن تزوّجت 
مطلقتي الأميركية (والدة نواف) من الطبيب الأديب الشاعر المصري الأصل أحمد 
زكي أبو شادي. وقبل قدومه إلى أميركا عمل وكيلًا لكلّية طب جامعة القاهرة. 
وكذلك فلقد كان شاعرًا نشظّا وأخرج العديد من دواوين الشعر منها «أطياف 
الربيع» وامصريات» و«عودة الراعي» وآخرها «من السماء» طبعه في أميركا ٠‏ ونظم 
قصصًا تمثيلية منها «أردشير) و«عبده بك»2 وأنشأ لحر متكوما نه ماس وين 
إحداهما «أدبي) والثانية «أبولو». 

ارتبط اسم الثانية بتكوين جماعة خاصة بالشعر العربي الحديث. كما ارتبط 
اسم أ شادي بتكوين جماعة أخرى سماها «جماعة النحالة» وأصدر لها مجلة 
«مملكة النحل» فلقد أراد أن يكون نحَالُا ومزارعًا متخصّصًا وأصدر في ذلك بعض 
الكتب والمجلات منها مجلة «الدجاج» ومجلة «الصناعات الزراعية» كما أصدر 
مجلة «الطبيب ب والمعمل» وترجم العديد من الكتب. وفي منتصف الأربعينيات 
اكه بن مله جره رد إلى بريطانيا ومنها إلى أميركا وكتب في بعض 
صحفها العربية وعمل في إذاعة صوت أميركاء وألّف في نيويورك جماعة أدبية 
سماها «رابطة منبرقا». 

لقد تعرّفت إلى الأستاذ أحمد زكي أبو شادي بعد قدومه إلى الولايات 
المتحدة» وعمل معي في تجارتي في نيويورك». ولقد كان رجلا فاضلا يتمتع 
بأخلاق حميدة وكان لي خير العون في الكثير من الأعمال والنشاطات التي كنت 


506 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





أمارسها. ولهذا فلقد شعرت بالاطمئنان على مستقبل نوّاف عندما تزوّجت مطلّقني 
فرانسيس من السيد أبي شادي. ولقد بقيت على اتّصال دائم معه أبادله الرسائل 
وكان ينقل لي تباعَا أخبار نواف ويُطمئِنني عن أحواله. وفي تلك المراسلات 
أخبرني أنَّ والدة نواف قد غيّرت اسمه إلى (كليف) كما أسقطت عنه لقب الرواف 
وأعطته لقب عائلتها ويلمان فأصبح أسمه (كليف ويلمان) عوضًا عن نواف 
الرواف» وكتبتٌ إلى الأستاذ أبي شادي أكثر من مرة أطلب منه أن يُقنع والدة نواف 
لكي توافق على زيارتي لولدي في الولايات المتحدة أو ترسله لزيارتي في المملكة 
أو أي مكان آخر في العالم ولكنها كانت ترفض بشدّة وإصرار وتلوّح إلى القضاء 
في كل مرة كان زوجها الأستاذ أبو شادي يناقشها بالموضوع ويحاول إقناعها. 
ولقد كان القاضي الأميركي الذي حكم في مسألة طلاقنا عام 1367ه (1948م), 
شديد التحيّر لزوجتي الأميركية. ولقد ألرّمني بالحصول على إذن قضائي في كل مرّة 
أريد فيها زيارة نواف. فلقد كان يخشى - كما أخبرته زوجتي - أن أهرب به إلى 
السعودية. وهكذا فلقد كبّت زوجتي حقٌّ رعاية نواف بمفردها. ولم يكن القضاء 
الأميركي عادلا في هذه القضية. 

بعد الفوز بقرار المحكمة أصبحت والدة نواف تعمل ما في وسعها لكي تحول 
بيني وبين زيارة نواف أو رؤيته. وفي إحدى زياراتي للولايات المتحدة مع سمو 
الأمير طلال في مطلع الخمسينيات أرسل لها الأمير طلال أحد مساعديه وأخبرها 
بلسان الأمير طلال بأنه على استعداد للقيام بتحمّل جميع مصاريفه إلى أن يبلغ 
العشرين من عمره ولكنها رفضت وأصرت على موقفها ولم يتمكن الأستاذ أحمد 
زكي أبو شادي من تغيير موقفها. وبقيتُ على اتصال بالأستاذ أحمد زكي أبو شادي 
إلى أن بلغني خبر وفاته في عام 5ه (1955م). وعلمت بعد ذلك من بعض 
الأصدقاء أنه قد تبنّى في السنة الأخيرة من حياته ولدنا نوافًا الذي أصبح يحمل منذ 
ذلك الوقت لقب أبو شادي وأصبح اسم نواف الكامل منذئذٍ (كليف ويلمان أبو 
شادي) وعلمت أيضًا أنه بعد سنة من وفاة الأستاذ أحمد زكي أبو شادي كآنه تزرّجت 
مطلقتي الأميركية من رجل أميركي وذهبت معه بصحبة نواف ولقد كان عمره في ذلك 
الوقت عشر سنوات وانقطعت أخباره عنّي بعد ذلك لفترة طويلة. 


فراق طويل ثم لقاء 0 


عندما سافر الدكتور عثمان الرواف» ولد شقيقي ياسين» للدراسة في الولايات 
المتحدة في النصف الأول من السبعينيات طلبتٌ منه أن يسأل الأستاذة صفية ابنة 
الأستاذ أحمد دكي أبو شادي عن أخبار نواف ومكان وجوهه إذا كانت تعرف 
ذلك. ولم يجد الدكتور عثمان صعوبة بالانّصال بالأستاذة أبو شادي التى كانت 
تعمل عندئذٍ في القسم العربي في إذاعة صوت أميركا في واشنطن. 950 
الأخبار من ولد شقيقي عثمان. فلقد أخبرته الأستاذة أبو شادي أن والدة نواف 
تزوّجت بعد وفاة السيد أبو شادي من رجل أميركي يدعى كيث غاردنر وذهبت معه 
إلى بريطانيا وأخذت نوافًا معها وكان في العاشرة من عمره. كما أخبرته بأنها لم ثَرَ 
نوافًا أو أمه (وهي زوجة أبيها وليست أمها) منذ سفرهما إلى لندن» ولكنها قرأت 
في إحدى الصحف الأميركية عام 1967م اسم نواف (كليف أبو شادي) ضمن 
أسماء مقاتلي فرقة الفرسان الأميركية الأولى الموجودين في فيتنام. ولقد اتصل 
الدكتور عثمان أثناء وجوده بوزارة الدفاع الأميركية وطلب مساعدة المسؤولين 
بتحديد مكان نواف ولكن دون جدوى. وعندما نشرت وزارة الدفاع الأميركية قائمة 
تشتمل على أسماء القتلى والمفقودين في حرب فيتنام لم يكن اسم نواف (كليف) 
من ضمنهاء وبذلك فلقد عرفت بأن نوافًا قد عاد سالمًا ولله الحمد من حرب 
فيتنام. ولقد حاولت بعد ذلك أن أبحث عنه بأكثر من طريقة ولكن دون فائدة. 
ولكن كان لديّ إحساس خاص بأن الله سوف يجمعني به قبل مفارقتي لهذه الحياة. 
إن الحديث عن نواف دائمًا يؤلمني ويترك حزنًا عميقًا في نفسي . 

وصلت الطائرة إلى نيويورك يوم الأحد وتجنبًا لزحام المدينة توجّهنا إلى أحد 
فنادق مدن نيوجرسي الصغيرة القريبة من نيويورك. وفي الطريق إلى الفندق مررنا 
بطريق نيوجرسي السريع الذي ينقسم في أطراف نيويورك إلى ثمانية طرق سريعة 
محاذية لبعضها. ففي أقصى اليمين هناك مساران وأحيانًا ثلاثة مسارات للشاحنات 
والسيارات الكبيرة ويلي ذلك حاجز مرتفع ثم مساران وأحيانًا ثلاثة مسارات 
للسيارات الصغيرة التي تسير في الاتجاه نفسه. 


بعد فاصل الوسط الكبير يأتي الطرف المعاكس في الطريق الذي يشتمل بدوره 
على مسارات للسيارات الصغيرة مفصولة عن مسارات السيارات الكبيرة. 


508 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





أمضينا يومّي الأحد والاثنين مستريحين بالفندق بين النوم والأكل ومشاهدة 
برامج التلفزيون الممتعة وبعضها تواصل بت برامجها بشكل مستمر. 

في صباح الثلاثاء بدأنا القيام بأشغالناء وكان علينا أن ننجز خمسة أمور في 
منطقة نيويورك: 1 - زيارة أليسون بارك» 2 - زيارة المدرسة الإسلامية التى 
أشنحها في مازلمء: 8- زيارة العقه التي كنت اسكن بها افق تيويورك» 4 تازيارة 
جامعة برنستون لمقابلة اثنين من أساتذتها اللذين تربطهما بالدكتور عثمان معرفة 
قديمة» 5 - حضور حفل خاص عند إحدى العائلات الأميركية التي تسكن في 
إحدى مدن ولاية نيوجرسي القريبة من مدينة نيويورك» فأحد أبناء هذه الأسرة الطيّبة 
التي تتحدر من أصل إيطالي وتدعى أسرة «زبروني» كان صديق دراسة لابن أخي 
عثمان وسكنا معًا في شقة واحدة ولم تنقطع عرى الصداقة بينهما منذ ذلك الوقت» 
ولمّا عرف السيد جان صديق الدكتور عثمان بأمر حضورنا إلى منطقة مدينة نيويورك 
في آب/ أغسطس 1991م» أصرّ على حضورنا الحفل الخاص الذي سيقيمه والداه 
في بيتهم احتفالًا بولده الجديد الذي رزقه الله إياه قبل عدّة أشهر. 

انطلقنا أول الأمر في صباح الثلاثاء نبحث عن (أليسون بارك) ولم يكن لدينا 
عنوان محدد للبارك ولكن المعلومات التي حصلنا عليها من الملحق الثقافي 
الأميركي في الرياض توضح لنا أنه يقع بالقرب من جسر جورج واشنطن. أمضينا 
بعض الوقت نبحث عن البارك ولكن دون جدوى. فصعوبة البحث عن مكان في 
أميركا أحيانًا لا تقل عن صعوبة تحديد موقع في صحرائنا العربية. 

لما اقترب موعد الدكتور عثمان في جامعة برنستون التي تبعد مسير ساعة 
واحدة تقريبًا بالسيارة عن مكاننا توجّهنا إليها وأرجأنا البحث عن البارك حتى بعد 
ظهر ذلك اليوم. ولقد كان الطريق الفرعي الذي أخذناه إلى برنستون جميلاء بل 
رائعًا. وأعاد إلى ذاكرتي الطرقات القديمة التي كنت أعرفها في أميركا قبل تشييد 
الطرقات السريعة الجديدة. كان لقاء ابن أخي عثمان مع الأستاذين هنري بينن 
وجان وتربري طويلا بعض الشيء وفي البداية تحدّئوا عن حرب الخليج والتطوّرات 
الخاصة بها ولكن سرعان ما أصبحت أنا محور حديثهم» خاصة عندما علما بأنني 
أثناء حياتي في الولايات المتحدة كنت على معرفة باثنين من أصدقائهما العرب 


فراق طويل ثم لقاء 509 





وهما فرحات زيادة وتشارلس عيساوي. وبعد تناول طعام الغداء في مطعم صغير 
في برنستون عدت أنا وعثمان ابن أخي ياسين بانّجاه نيويورك للبحث عن أليسون 
ناك حون كنا كما لتنا بعد ساعة من البحث المضني: البارك متوسّط الحجم وينّسم 
بالنظافة والهدوء. ولقد اختلف شكله بعض الشيء عن المظهر الذي رأيته عندما 
دخلته لأول مرة مع زوجتي الأولى عام 1354ه (1935م)» ووقفنا أمام صورة 
والدها المنحوتة في صخرة كبيرة في وسط جهة البارك المطلة على نهر هدسن. 

وقفت مع الدكتور عثمان أمام الصخرة نفسها والتقطنا بعض الصور التذكارية 
وانّكأت بيدي على سور الحديقة وأخذتٌ أتأمّل منظر الوادي الساحر الذي تنساب 
فيه مياه النهر المتدقّقة. وتذكّرت زوجتي فرانسيس. لقد كانت تقف بجانبي في هذا 
المكان قبل سبعة وخمسين عامّاء تذكّرتها وهي تشرح لي وقتها عن ماضي أسرتها 
الثرية وتاريخ هذه الحديقة التي أهداها والدها إلى بلدية مدينة أنجل وود. 

لم يكن أمامنا وقت طويل فالبارك يقفل أبوابه في الخامسة ووصلنا إليه في 
الرابعة. ولقد أمضيت الساعة بأكملها أتأمّل وأتذكر. وفي طرف البارك يوجد بيت 
صغير يسكن فيه موظف البلدة المسؤول عن البارك. ولقد سر بمقابلتنا خاصة عندما 
علم بقصة زواجي من ابنة السيد أليسون» وعلمنا منه أن جميع أفراد عائلة أليسون 
قد انتقلوا من مدينة أنجل وود وتفرّقوا في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. ولم 
يقفل موظف البلدية أبواب البارك في وقته اليومي المعتاد ولكنه بقي معنا نتجاذب 
أطراف الحديث حتى الساعة السادسة. وفي طريق العودة وقفنا في أطراف مدينة 
أنجل وود وتناولنا طعام العشاء. لقد كنت منهكا من التعب ولكن التعب يهون عند 
استعادة هذه الذكريات الجميلة القديمة. 

بعد عودتنا إلى الفندق شعرتٌ بتعب وإرهاق شديدين وفجأة بدأ الدم ينزف 
بشدّة من أنفي ومن فمي بكميات كبيرة أصابتني بالخوف وأصابت ابن أخي بالروع . 
وانّصل عثمان بالموظفين بالفندق وأخبرهم عن حالتي وخلال دقائق كنت في 
طريقي إلى المستشفى بداخل سيارة الإسعاف. وتوف النزيف ولله الحمد بعد 
وصولي إلى المستشفى بوقت قصير. وبدأت حالتي الصحية تتحسّن. وبعد ثلاث 
ساعات من الفحوصات والتحاليل والمراقبة غادرت عيادة الطوارىء وعدت برفقة 


510 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الدكتور عثمان إلى الفندق. فالنزيف ولله الحمد - كما قال الأطباء - كان أمرًا 
بالفندق شعرت بتجدّد نشاطى واستعدت قوتى فحمدت الله وشكرته وشاهدت 


التلفاز بعض الوقت ثم رحت في نوم عميق. 


لقد كان يُفترض وفق مخطّط رحلتنا أن نذهب إلى واشنطن في صباح اليوم 
التالي للبحث في أمر نواف مع صديق الدكتور عثمان الذي يعمل في وزارة 
الخارجية الأميركية» ثم العودة إلى نيويورك في نهاية الأسبوع لإتمام ما بقي لنا من 
حاجات نقضيها هناك وحضور حفل صديق الدكتور عثمان الخاص بالمولود 
صديقه مايكل في واشنطن ويُخبره بتأخير قدومنا لزيارته بعض الوقت بسبب النزيف 
الذي أصابني. ولما سمعت الحديث» رفعت رأسى من السرير مباشرة وطلبت من 
عثمان عدم تغيير مواعيد السفر. وقلت متابعًا حديثي: سوف نتوكّل على الله ونسافر 
إلى واشنطن اليوم. وبعد جدل طويل وافق عثمان على مطلبي وتوجهنا بعد الإفطار 
على بركة الله إلى واشنطن بالسيارة. وصلنا إلى العاصمة الفيدرالية الأميركية بعد 
عدة ساعات وسلكنا إليها طريق نيوجرسي السريع ثم الطريق السريع (95)) وفي 
رحلتي الأولى بين الولايات المتحدة الأميركية التي تحدَّئتٌ عنها بإسهاب في الجزء 
الثاني من هذا الكتابء. لم تكن الطرق السريعة موجودة في أميركا والطريق 
الأساسى الذي كان يربط بين ولايات الشرق كان (روت 1) الممتدّ من فلوريدا 
حتى كندا. ولقد شعرت بالغبطة عندما علمت أن هذا الطريق لم يزل طريقًا تجاريًا 
وزراعيًا وسياحيًا مهما حتى الوقت الحاضر. وبالرغم من راحة السفر على 
الطرقات السريعة الحديثة إِلّا أننى أفضّل الطرقات القديمة فلقد كانت أجمل. وفي 
الطريق إلى واشنطن تذكّرت أمر النزيف الذي أصابنى بالأمس وخفت أن يعود 
ثانية» وصحوتٌ من حلم يقظة مزعج وقلت للدكتور عثمان: يا بن أخي لو أصابني 
مكروه وفارقت الحياة أثناء رحلتنا هذه فى أميركا فأرجو أن تدفنني في سيدر 


فراق طويل ثم لقاء 51 


كلامي حتى فوجئت بابن أخي يوقف السيارة عند أول مخرج واجهنا ونظر إليَ نظرة 
قلق شديد وقال: هل تشعر بتعب؟ ألم أقل لك إن الراحة اليوم كانت أفضل من 
السفر؟ هل تريد أن تذهب إلى أقرب مستشفى في أول مدينة تواجهنا؟ أم هل تريد 
أن نتوقف للراحة في أول فندق يقابلنا على الطريق؟ فقلت له لا عليك يا ابن أخي 
فإنني بخير ولكنها فكرة خطرت لي فقلتها لك. فتوكل على الله يا ابن أخي وتابع 
سيرك نحو واشنطن فإن لنا فيها أمرًا مهما نريد أن نقضيه وعسى الله أن يبلغتا مرادنا 
ويجمعنا بنواف. 


بعد استراحة طويلة في الفندق بواشنطن وتناول الطعام ذهبنا لزيارة السيد 
(مايكل أورستي) صديق الدكتور عثمان. وتعود معرفتهما أيضًا إلى أيام الدراسة في 
الولايات المتحدة. ويعمل السيد مايكل في وزارة الخارجية الأميركية ولقد أمضى 
فترة من عمله في السفارة الأميركية بالرياض في أواخر الثمانينيات» حيث تجدّد 
لقاؤه بابن أخي عثمان. ولقد كان السيد مايكل على علم بقصّة ولدي نواف 
ومحاولتي البحث عنه ولقد قابلناه في الرياض عام 1408ه (1988م)». حيث 
اصطحبني أنا وعثمان لمقابلة القنصل الأميركي في الرياض للتحدّث بشأن نواف. 
وفي صيف 1409ه (1989م)»: عاد السيد مايكل إلى واشنطن وبقِي على اتصال 
مع عثمان ووعَدَه بالمساعدة الجادّة في البحث عن نواف في حالة قدومنا للولايات 
المتحدة. أمضينا سهرة ممتعة مع أسرة السيد مايكل وأفضل ما فيها اتّخاذنا الخطوة 
الأولى التي أوصلتنا بحمد الله إلى الابن نواف. فلقد أخبرنا السيد مايكل عن 
معرفته بمكتب للتحريات الخاصة الذي يديره شخص يمكن الوثوق به. فهو شريف 
ومخلص في أداء عمله ولا يبتر الأموال كغيره من العاملين في مهام التحريات 
الخاصة. ومن منزله اتصل السيد مايكل بصاحب مكتب التحريات ورئّب لنا موعدًا 
لمقابلته وأوصاه بمساعدتنا. وفي اليوم التالي الذي صادف منتصف شهر آب/ 
أغسطس ذهبنا لمقابلته وأعطيناه ما لدينا من معلومات عن نواف وكذلك سدّدنا 
الدفعة الأولى من تكاليف البحث عنه وانصرفنا ولم يكن ابن أخي عثمان يعلّق أملًا 
كبيرًا على جهود التحرّي الخاص فلقد سبق له أن لجأ في السابق إلى اثنين من 
أمثاله أحدهما في نيويورك والآخر في لوس أنجلوس ولكن دون جدوى. أمّا أنا 


512 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديئ 





شخصيًا فلقد كنت شديد التفاؤل وأذكر أنني قلت لابن أخي بعد مغادرتنا لمكتبه: 
أعتقد أن هذا الرجل سوف يساعدنا فعلّا في العثور على نواف. 

في صباح اليوم التالي عدنا إلى منطقة نيويورك وسكنا في الفندق نفسه الذي 
أقمنا فيه قبل عدّة أيام في ولاية نيوجرسي. وبعد عصر ذلك اليوم ذهبنا إلى قلب 
مدينة نيويورك لزيارة العمارة التي كنت أعيش فيها في الأربعينيات» وكذلك لزيارة 
المدرسة الإسلامية الي أسّستها في هارلم. وحتى يتسهّل أمر تنقّلنا في المديئة 
ولكي لا نضل الطريق فيها فلقد ذهبنا إليها في ليموزين خاص طلبناه بواسطة 
الفندق. وطلبنا من سائق الليموزين أن يأخذنا أولا إلى العمارة التي كنت أسكن 
بها في الشارع الخامس مقابل (سنترال بارك) لقد وجدت أن المنطقة أمام العمارة 
لماتزل كما عي وكانتي حاواتة عنثركنها في الأمسن اللهم باستثناء بعض الأوساخ 
المتناثرة في أطراف الشارع هنا وهناك على الرصيف المحاذي لسنترال بارك. 
خرجت من السيارة وتمشيت أمام العمارة في الشارع الخامس وعبرت إلى الطرف 
الآخر ووقفت بمحاذاة البارك ونظرتٌ إلى نوافذ شقتي المطلة عليه. الله الله يا 
دنيا. . ليت الأربعينيات تعود يومًا لأخبرها بما فعلت التسعينيات. ولم أَنْس بالطبع 
التقاط بعض الصور التذكارية ولقد سمح لنا بواب العمارة بالدخول إلى بهو المبنى 
ولكنه لم يأذن لنا بالصعود إلى الشقة التي كنت أسكنها. تُرى ماذا حل ببِرَاب 
العمارة الذي كان يعمل هنا في الأربعينيات عندما كنت أنا من سكان هذه العمارة. 
هكذا سألت نفسي. وبعد انقضاء حوالي نصف ساعة من التأمّل والتذكّر طلبت من 
سائق اللميوزين أن يأخذنا إلى الشارع الثامن والأربعين. وفي الطريق بدأت ألاحظ 
بشكل أوضح تردّي حالة مدينة نيويورك وعندما وصلنا إلى الشارع الثاني والأربعين 
لم يكن جميلًا كما كان عهدي به في السابق فهو اليوم مليء بالمتسولين المتشردين 
وبالأوساخ المرمية على طرفيه أمام كلّ محل وكل مبنى. ولقد كانت حالة منطقة 
هارلم أسوأ من أي شيء يمكن أن يخطر على بالي. ولم نتمكن من العثور على 
المدرسة الإسلامية لأنني لم أتذكّر عنوانها بالتحديد فالذاكرة تخونني أحيانًا في 
بعض الأشياء. وبعد شيء من البحث عن المدرسة قرّرنا أن نغادر هارلم قبل أن 
يحل الظلام حتى لا نتعرّض لأيّ من المخاطر التي يمكن أن تواجه غريبين مثلنا في 


فراق طويل ثم لقاء 53 





هارلم تحت أجنحة ظلام المساء. هكذا اقترح سائق الليموزين وأيّده ابن أخي 
عثمان» ولم يكن لي بد من الاستسلام لطلبهما. واتجهنا نحو نفق لينكولن عائدين 
إلى نيوجرسي. وكنت أتأمل في الشوارع المكتظة بالأشكال الغريبة المخيفة حقًا. 
ماذا حلّ بك أيتها المدينة العظيمة؟ فلقد كانت شوارعك نظيفة جميلة وأناسك 
عاديين يظهرون بأحسن مظهر ويلبسون أحسن الملبس ويعاملون الناس أحسن 
معاملة. فلقد كنت أمشي ليلا بمفردي في شوارع هارلم لعدّة سنوات في 
الأربعينيات ولم يصبني مكروه ولم أتعرّض في يوم لأيّ حادثة سيئة» واليوم نسعى 
ثلاثتنا للهروب بسيارتنا من هارلم قبل أن يحل الظلام. لست أدري ماذا أصاب 
نيويورك ولكن يبدو أنها قد تحوّلت من مديئة عظيمة إلى مدينة تعيسة؟ أمر يصعب 
تصديقه ولكن يبدو أنه حقيقة واقعة. 

أمضيت أمسيتى بين الراحة ومشاهدة التلفازء وأا الدكتور عثمان فلقد أمضى 
معظم المساء منكيًا على كتابة رسالة إلى مكتب الضمان الاجتماعي الأميركي 
يسألهم فيها المساعدة في البحث عن نواف. فلقد أراد ابن أخي طرق أكثر من باب 
فى مسألة البحث عن نواف. فإضافةً إلى مكتب التحرّيات الخاصة فى واشنطن أراد 
أن يرسل هذه الرسالة إلى مكتب الضمان الاجتماعي في بلتمور في ولاية ميرلاند 
وذلك عملا بنصيحة القنصل الأميركي في الرياض. 

في صباح اليوم التالي ذهبنا نتسوّق في أحدا لمجمّعات الجميلة القريبة مثاء 
وبعد الظهر اتّجهنا إلى حفل أسرة السيد جان صديق الدكتور عثمان الحميم. لقد 
كان اللقاء حارًا بين الصديقين» وكان الحفل رائعًا يحتوي على أطيب المأكولات 
الإيطالية طبعًا. هذا وإن أحد إخوة السيد جان الحاضرين فى الحفل كان محاميًا 
جيدًاء ولم يضيّع الدكتور عثمان فرصة الاجتماع به في الحفل فانفرد به مدّة نصف 
ساعة وأطلعه فيها على الرسالة التى كتبها إلى الموظفين فى الضمان الاجتماعى 
وأَدخَلَ عليها بعض التعديلات بناءً على توصية المحامي التي حصل عليها بصورة 
مجانية أثناء الحفل. وغادرنا الحفل في المساء بعد أن سمع الجميع بعض تفاصيل 
حياتي في الولايات المتحدة. وأثناء مغادرتنا قالت لي إحدى العجائز الموجودات 
فى الحفل ربما إحدى عمّات أو خالات السيد جان قالت لي: ما دمت قد جئت 


5614 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





في هذا العمر الكبير تبذل مجهودًا خاضًا في البحث عن ولدك فأعتقد أن الله سوف 
يجمعك به. وطلب الجميع من ابن أخي عثمان أن يخبرهم بالنتائج الخاصة 
بالبحث عن نواف. 

صباح اليوم التالي توجّهنا عائدين إلى واشنطن. وفي المساء زرنا شقيقة 
عثمان مع زوجها الأخ حمود الرشودي الذي كان يمضي إجازته مع أفراد أسرته فى 
واشنطن . ش 

صباح الثلاثاء اتتصلنا بمكتب التحريات الخاصة وسألنا عن صاحبه وعلمنا أنه 
في نيويورك وتركنا رقم هاتفنا في الفندق وطلبنا منهم الاتصال بنا عند عودته. ثم 
توجّهنا لزيارة السفارة السعودية وتناولنا طعام الغداء في السفارة مع الأستاذ صالح 
الراجحي وعدد من الموظفين العاملين في السفارة ولقد أعطى ابن أخي عثمان 
الرسالة التي كتبها إلى مكتب الضمان الاجتماعي الأميركي للأخ صالح وطلب منه 
تأمين طباعتها في السفارة. فقلت للدكتور عثمان بعد عودتنا إلى الفندق: يا ابن 
أخي لقد أتعبْتَ نفسك بهذه الرسالة فلقد أمضيت أمسية كاملة في كتابتها ثم 
عرضتها على المحامي في الحفل وطلبت ملاحظاته عليها واليوم أعطيتها للاخ 
صالح وطلبت منه تأمين طباعتها بالسفارة. ولماذا لا تنتظر نتائج البحث بواسطة 
مكتب التحريات الخاصة فقد لا نحتاج إلى هذه الرسالة أبدًا. فابتسم وقال سيكون 
خيرًا إن شاء الله. وفي مساء ذلك اليوم ذهبنا لزيارة أسرة السفير الشيخ إبراهيم 
السويل كِدَّنْةِ فلقد كانت تربطني به صداقة حميمة. 

صباح اليوم التالي ذهبنا للمركز الإسلامي في واشنطن. وأذكر الآن أنني في 
الأربعينيات كنت أجمع التبرعات لبناء هذا الصرح العظيم» وفي الستينيات كان 
الشيخ عبد الرؤوف مدير المركز في ذلك الوقت يوزرَّع على المسلمين في المركز 
ترجمة القرآن الكريم للشيخ يوسف علي التي أشرفتٌ على طباعتها عدَّة مرات. 
وتأمّلت اليوم في وضع المركز الإسلامي ولاحظت أنه بالرغم من أهميته يُعاني من 
ثلاث مشاكل مهمة: فليس فيه مكان لموقف السيارات» ومكتبته صغيرة مقارنة 
بأهميته في الولايات المتّحدة» ويفتقر أخيرًا إلى قاعة مناسبة لاستقبال الضيوف غير 
المسلمين الذين يريدون التعرّف إلى الإسلام عن طريق السمع والمناقشة وطرح 
الأسئلة. 


فراق طويل ثم لقاء 515 





غدنا إلى الفندق في ذلك المساء بعد تناول العشاء في أحد المطاعم العربية 
في واشنطن» وجلست أنا أتفخص بعض الأوراق والصور القديمة الخاصة بي التي 
أريد إدراجها في مذكرات حياتي», وأما ابن أخي عثمان فلقد كان يقرأ بعض 
الأوراق التي كانت معه. ولقد أعلمنا موظف الهاتف في الفندق عند عودتنا بأن 
السيد جورج قد اتصل من نيويورك وأنه سوف يتّصل مرة ثانية. ولم يكن أي منّا 
يعرف أحدًا بهذا الاسم في نيويورك» فلم نَذَْرٍ من هو ولم نَدْرٍ ماذا يريد» وبعد 
حوالي الساعة من عودتنا إلى الفندق رنَّ جرس الهاتف في الفندق وأجاب ابن أخي 
عثمان. لقد كانت الساعة تقترب من السابعة وكنت أنا جالسًا بالقرب منه أعبث 
بأوراقي وصوري القديمة كعادتي كل مساء في السنوات الخمس الأخيرة. وفجأة 
سمعته يقول هذا عظيم - لقد قالها بالإنجليزية طبعًا - ثم طلب من محدّثه أن ينتظر 
لحظة ونظر إلىّ وصوته مليء بالفرحة والغبطة» مبروك يا عمّ فلقد وجدوا نوافًا. 
رميتٌ الأوراق والصور من يدي اللتين بدأتا بالارتعاش وقلت له أكمل الحديث مع 
المتّصل أكمل الحديث فلقد كنت أخاف أن ينقطع خط الاتصال أو أنني أردت 
التأكد من أن ما نسمعه صحيح وأكيد وليس وهم خيالٍ أو دُعابة من أحدٍ ما. وتابع 
عثمان الحديث مع محدّثئه وطلب مني أن أناوله ورقة وقلمًا وكتب رقم هاتف 
وعنوانًا وأدركت أنها إِمّا رقم نواف أو رقم الشخص الذي سيوصلنا إلى نواف. 
وخلال دقائق انتهت المكالمة التليفونية التي سمعته يقول في آخرها حسنٌ جدّاء 
سوف انّصل به الآن وسوف نزورك في مكتبك بواشنطن في الأسبوع القادم لنحذّئنك 
عن التفاصيل ولتُّنهِي جميع الإجراءات» وإِنَّ العمّ خليل وكذلك أنا نشكرك جزيل 
الشكر على جهودك العظيمة المثمرة. لقد أصابني شيء من الارتباك وأنا أسمع 
التفاصيل. وبالرغم من أن وجود نواف كان في مخيلتي طوال الشهور الأربعة 
الماضية» وبالرغم من أن شعورًا خفيًا كان ينبئني بأمر العثور عليه إِلَا أن هؤل 
المفاجأة كان أكبر ممّا تصورت. فلم أذكر أنني مرّرْت بمثل هذه اللحظات طيلة 
حياتي. وحاولت أن أهدّىء بعض الشيء مظاهر الإثارة في نفسي لكي أتمكن من 
التركيز وفهم التفاصيل التي ألقاها على مسمعي ابن أخي الحبيب الذي يرجع إليه 
الفضل بعد الله في هذه المسألة. أصغيت إليه يقول: يا عم إنها لفرحة كبيرة» ويبدو 


56 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





أن الله قد أذن لك أخيرًا بمقابلة نواف. إن المتحدّث على الهاتف هو صاحب 
التحري الخاص الذي أوكلنا إليه مهمة البحث عن نواف. لقد اتصل بنا من نيويورك 
والسيد جورج الذي اتصل أثناء غيابنا هو شريك له في نيويورك يتعامل معه في 
قضايا التحريات» لقد أراد أن يحدّثنا من مكتب صديقه بعد الظهر ويعلمنا بالخير 
السعيد ولكنه لم يجدناء وعاود الاتصال الآن من فندقه فى نيويورك . فلقد عثروا 
فلوريدا بالقرب من ميامي في مدينة تدي هولي وود. ليس هولي وود في كاليفورنيا 
ولكن هولي وود في فلوريداء ولقد أخذت رقم هاتفه وعئوانه. وسألت ابن أخي 
بعد أن استجمعت تفكيري المشنَّت» هل نتّصل به نحن أم مكتب التحرّي الخاص؟ 
فأجاب قائلًا: إن مهمة التحري الخاص تنتهى عند إيجاد العنوان والهاتف 
والاتصال هو من شأننا وأمر خاص بنا. فقلت له: ماذا تنتظر إِذًَا هيا اتصل به. 
ورأيت شيئًا من الارتباك على وجه الدكتور عثمان وهو يجيبني : ولكن ماذا سأقول 
له؟ قُلْ له أي شيء قل له إنني والده خليل وإنني أريد أن أراه وأتعرف إليه. هكذا 
قلت لابن أخى وأنا والله أدرك صعوية المهمة التى كان عليه إنجازها. ولمًّا 
استجمع قواه وبدأ بالاتصال شعرت أنا بالارتباك ثانية وطلبت منه أن يتريث قليلا. 
ثم قلت له لماذا لا نكتب له رسالة نشرح له فيها التفاصيل؟ أليس هذا أفضل من 
مفاجأته بالاتصال الهاتفي؟ ولقد راقت الفكرة لابن أخي عثمان وجلس يكتب 
بعض الأسطر إلى ابن عمه نواف» ولكنه توقف بعد دقائق وقال إِنّْ مدة زيارتنا 
لأمريكا محدودة والرسالة قد تأخذ عدة أيام لكي تصل إليه. فقلت له إنني في حيرة 
من أمري وطلبت منه أن يفعل ما يرى أنَّ فيه الخير والصواب. ففكر قليلًا وعاد إلى 
كتابة الرسالة. وتركته في صالة الجلوس ودخلت إلى حجرة النوم وجلست على 
مقعد كبير في طرفها أفكر في الأمر ثم أفكر. وبعد دقائق استخرت الله سبحانه 
وتعالى وقرّرت أن نتّصل بالابن نواف بالهاتف. وعدت ثانية إلى صالة الجلوس 
وقلت للدكتور عثمان توققف عن الكتابة فليس لدينا أي وقت نضيعه لقد اتكلت على 
الله وعرّمت على فكرة الاتصال بالهاتف. فهيّا نتحدث معه الآن. 


خلال دقائق كان ابن أخي يتحدّث مع زوجة نواف في فلوريداء فلم يكن 


فراق طويل ثم لقاء 517 


نواف موجودًا في منزله عند اتصالناء وغني عن القول إن مفاجأتها كانت كبيرة ولقد 
مرّ بعض الوقت قبل أن تستوعب الخبر. واتفقنا على معاودة الاتصال مرة أخرى. 
ثم اتصلنا بالأستاذ مايكل أروستي وأخبرناه بتطورات الموضوع وذهبنا لزيارته» 
فلقد كنا أنا وابن أخي في غاية الإثارة وكأننا غير مصدّقين تلاحق الأحداث 
السارّة. ومن منزل السيد مايكل اتصلنا ثانية بنواف وتحدَّث إليه عثمان طويلًا مدة 
نصف ساعة ثم تحدَّئت إليه أنا وفي صوتي رجفة وأول كلمة قلتها له: نواف كيف 
حالك. قلتها بالعربية فقال لي عثمان الجالس بجانبي إن نوافًا لا يعرف العربية 
فانتبهت لنفسي وأعدتٌ العبارة نفسها مرة ثانية ولكن باللغة الإنجليزية في هذه 
المرة. لم يكن حديثي معه طويلًا فلم أدْرٍ ماذا أقول واتفقنا على محادثته ثانية بعد 
العودة إلى الفندق. وتمّ هذا فعلًا واتّفقنا على زيارته في فلوريدا . 


قبل أن نخلد للنوم انّصلت ببعض الأصدقاء والأقرباء في المملكة وأعلمتهم 
بخبر العثور على نوافء. وفي مقدّمتهم صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن 
عبد العزيز وكذلك الأستاذ كمال أدهمء فلقد كانا على اهتمام دائم بالموضوع ولقد 
ساعداني كثيرًا وسهّلا لي مهمة البحث عن نواف جزاهما الله عني كل خيرء 
وكذلك اتصلت ببعض الأهل والأقرباء ومنهم شقيقتي عائشة في الرياض وابن عمي 
أمير عرقة الشيخ محمد الرواف. 

في ظهر اليوم التالي أقلّتنا الطائرة إلى فلوريداء المدينة التي يقيم فيها نواف. 
إنها مدينة سياحية جميلة. وسكنًا في أحد الفنادق المطلّة على البحرء واتّصلنا 
بنواف بعد وصولنا مباشرة» وبعد ساعة رنّ جرس الهاتف بغرفتنا وتكلّم ابن أخي 
عثمان ثم نظر إلي وقال: وأخيرًا سوف تقرٌ عينيك يا عم برؤية ولدك نواف» إنه في 
الصالة ينتظرنا مع زوجته وابنته. وخلال دقيقتين وجدت نفسي في بهو الفندق وجها 
لوجه أمام نواف وزوجته وابنته» تسمّرت عيناي في نواف وتسمّرت قدماي على 
الأرض فلم أَعُدْ أقوى على السير خطوة واحدة. وقفت قبل الوصول إليه بمسافة 
قصيرة أتأمّل فيه ونهض هو من مجلسه وأخذ ينظر إلي وكأنه يريد أن يتأكد بأنني 
والده. وقطع الدكتور عثمان حبل الصمت وقال هالو كلايف (اسم نواف الأميركي) 
فأجاب نواف هالو وأسرع باتّجاهي واحتضنني واحتضنته. تركته عندما كان عمره 


518 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





سبعة أو ثمانية أشهر وأحتضنه اليوم رجلا في الخامسة والأربعين. تركته طفلا 
رضيعًا وأراه اليوم أمامي رجلا طويلًا بهيّ الطلعة» حَسَن الهندام. رأيت دمعة فى 
عبن زوجة نواف وأنا أصافحها وسمعتها تقول أهلًا بابا خليل» ثم أخبرتني بأن 
والدها يعود إلى أصل عربي وينتمي إلى أسرة المعقد إحدى العائلات المسيحية 
السورية العريقة. وأمًا ابنته فلقد كانت في غاية السعادة والابتهاج. ولقد علمت 
فيما بعد بأنها في الحقيقة ليست ابنته وإنما ابنة زوجته من زواج سابقء أمّا ابنته 
الفعلية التي أنجبها من زوجته السابقة الفيتنامية فهي تعيش مع أمها في كاليفورنيا. 
فعندما كان نواف في فيتنام مع فرقة الفرسان الأميركية الأولى تزوج من سيدة 
فيتنامية وأنجبت له طفلة جميلة سماها أندروميدا. وعندما عاد إلى الولايات 
المتحدة بعد نهاية الحرب اصطحب معه زوجته وابنته الصغيرة وبقيا معًا عدة 
سنوات ثم فرّق الطلاق بينهما وبقيت ابنته مع والدتها في كاليفورنيا. 


بقينا مع نواف وأسرته ستة أيام مرّت وكأنها ست ساعات. ولقد أكرمني ربّي 
مرات ومرات في حياتي ولكنني لم أشعر بأعظم من هذا الشعور في عمري» فأنا لم 
أجد نوافًا فقط ولكنني وجدته في حالة صحية واجتماعية جيدة. فهو متوسّط الحال 
ينتمي إلى الطبقة الوسطى الأميركية يعيش حياة كريمة ويتحلى بأخلاق حميدة 
وآداب رفيعة. يعمل في تثمين العقارات وبيعها لحسابه الخاص وكذلك لحساب 
بعض الشركات والبنوك. لطيف المعشرء واسع الاطّلاع متعدّد المواهبء كريم» 
يحب مساعدة الآخرين» يتحلى بالكثير من خصائص الشهامة العربية. لقد أمضينا 
معظم الوقت نتحدث ونُصغي لبعضنا البتعض يسألني وأجيبه وأسأله ويجيبني في 
سنوات حياته الأولى كان يعتقد أن السيد أحمد زكي أبو شادي هو والده. وبعد 
وفاة السيد أبو شادي بسنة واحدة أي عندما كان نواف في العاشرة من عمره 
اكتشف من الوثيقة التي تبنّاه بها السيد أبو شادي أن والده الفعلي هو رجل من 
السعودية اسمه خليل الرواف وأن السيد أبو شادي قد احتضنه منذ الصغر ثم تبنّاه 
فيما بعدء إن نواقًا لم يزل يذكر جيدًا السيدة صفية ابنة السيد أبو شادي. فلقد عاشا 
معًا في المنزل نفسه حتى وفاة والدها. عندما علم نواف أنني والده كان صغيرًا ولم 
يَذْرٍ في ذلك الوقت ما هو المقصود بالسعودية ولا أين تقع» وبعد ذلك بسنة واحدة 


سافر مع أمه وزوجها الجديد السيد كيث جاردنر إلى بريطانيا وبقي هناك حتى الثانية 
عشرة من عمره وأنهى تعليمه المتوسط والثانوي في بريطانيا حيث التحق في البداية 
في مدرسة بريطانية ثم انتقل للمدرسة الأميركية في بريطانيا. ففي الكرية ينات 
كانوا يضربون الأطفال ولكن الضرب لم يكن معمولًا به في المدرسة الأميركية. 
لقد سرّني ما سمعت منه ولو أنني كنت معه في بريطانيا لأهَنْت الأستاذ الذي ضربه 
ولأخذته بيدي من المدرسة البريطانية إلى الأميركية» لقد تركتٌ مدرستي التركية 
بدمشق بعد المرحلة الابتدائية لأنني لم أطِقْ ضرب الأساتذة الأتراك ولا إهانتهم 
لنا. وفي الصحراء وجدت حريتي مع قوافل العقيلات. حريتي التي لم أفقدها يومًا 
ولله الحمد منذ وجدتها في الثانية عشرة من عمري. 


ترك نواف أمه في بريطانيا عندما كان في الثامنة عشرة من عمره وعاد إلى 
الولايات المتحدة والتحق بالجيش الأميركي وبعد سنتين ذهب إلى فيتنام وبقي فيها 
ست سنوات. وبعد عودته من فيتنام وطلاقه من زوجته الفيتنامية استقرٌ في نيويورك 
عشر سئوات كاملة. وفي منتصف السبعينيات كتب نواف - كما يقول - ثلاث 
رسائل إلى السفارة السعودية يطلب فيها مساعدته في العثور على والده خليل 
الرواف» وعندما مرّت سنة كاملة ولم يتلق أي رد اعتقد أن والده قد توفي أو أنه لا 
يرغب في الاتصال به ولهذا فلقد قرّر أن يترك موضوع البحث عن والده» ولكنه لم 
ِنْسَ أبدًا أنه عربي ولم يزَّلُ يحتفظ بخنجر عربي جميل أعطته إياه أمه عندما كان 
في الثالثة عشرة من عمره وأخبرته بأن هذا الخنجر هو هدية والده إليه. ويقول 
نواف إن نظرته نحو السعودية قد تعمّقت أثناء حرب الخليج. فلقد برز اسم 
السعودية في أجهزة الإعلام الأميركية ليل نهار واهتم هو مثل بقية الأميركيين 
بمتابعة الأخبار اليومية ولكنه كان يشعر باهتمام خاص يشدّه نحو الصحراء فلقد 
كان يعلم بأن والده ينتمي إلى تلك الأرض التي تساهم الولايات المتحدة في 
الدفاع عنها . 

لقد علمت من نواف بأنَّ أمّه لم تزل على قيد الحياة وأنها تعيش في ولاية 
كنتيكت مع زوجها كيث جاردنر الذي يصغرها بحوالي عشر سنوات. لقد عادا معًا 
من بريطانيا في السبعينيات وأقاما بعض الوقت في نيويورك ثم انتقلا قبل عذة 


52020 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





سنوات واستقرا في كنتيكت. وفي مساء اليوم الثاني من زيارتنا لنواف. اتَصل 
بوالدته وأخبرها بقدومي لزيارته. ولم تصدّق الخبر وتوقّفت عن الكلام برهة ثم 
قالت: خليل جاء لزيارتك؟ هل أنت جاد؟ هذا غير معقول. ولم تكن كونستانس 
تعتقد بأنني لم أزل على قيد الحياة» فإنني أكبرها بخمسة عشر عامًا. وطلبت 
كونستانس أن تكلّمني على الهاتف ولم أمانع في مكالمتها. وتحدَّئُت معي عدة 
دقائق وقالت في بدايتها إنني لا أصدّق ما يحدث الآن ولكن كما ترى يا خليل فلقد 
أصبح نواف رجلا وسوف ترى عندما تعرفه جيدًا بأنه رجل ممتاز. وبعد انتهاء 
زيارتنا لنواف سافرنا إلى كليفلاند وسيدر رابدس» وأثناء وداعنا في المطار طلب 
مني نواف أن أعود لزيارته مرة أخرى قبل مغادرة أميركا إلى السعودية ولكننى 
|أأكة سعرية تعد ف ذلك سين فيك الوق واتفقا !عزن الالتقاء نوا شم رعذ 
انتهاء رحلتي إلى بعض الولايات الأميركية. 


وفي كليفلاند رأيت ابنتي آسيا وسعدتُ بها كثيرًا وحدّئتها عن أخيها نواف 
وطلبت منها أن تحضر إلى واشنطن بعد أسبوعين لكي تقابله وتتعرّف إليه 
فأخبرتني بأنها لا تستطيع الحضور إِلَّا في عطلة نهاية الأسبوع بسبب ارتباطها 
بالأبحاث والعمل والدراسة في مستشفى كليفلاند. فطلبت من ابن أخي عثمان أن 
يرنّبِ موعد لقائنا مع نواف في واشنطن في أيام عطلة نهاية الأسبوع لكي تتمكن 
الدكتورة آسيا من الحضور. 

إن السبب الأساسي الذي دفعني إلى القدوم لكليفلاند هو زيارة السيدة مذر إن 
كانت لم تزل على قيد الحياة أو زيارة بيتها الكبير والتحدّّث مع المتبقين فيه من 
أفراد أسرتها. فلم تكن السيدة مذر تكبرني إِلَّا ببضع سنين. وها أنا اليوم حيٌ أرزق 
وأتمتع بصحة جيدة. فقد تكون هي أيضًا مثل حالتي. وحتى لو أنها توفيت فإنني 
أذكر أنها حدثتني أثناء زيارتي لها قبل ثلاثة وخمسين عامًا عن ولدها الوحيد الذي 
كان يعمل في منجم الفحم الخاص بهم. فمّن يدري لعلّه لم يزل يحافظ على البيت 
الكبير المطل على البحيرة الجميلة. وبالرغم من أن ابن أخي عثمان كان يعتقد منذ 
بداية الرحلة بأنَّ جهودنا في البحث عن السيدة مذر أو بيتها أو الأحياء من أفراد 
أسرتها لن تُثمر عن شيء إلا أنّه لم يمتنع عن بذل أي مجهود من شأنه أن يُساعد 


فراق طويل ثم لقاء 501 


في الوصول إليهم. لقد كان الأمل ضعيمًا في تحقيق أي شيء ولكن الله مكُنني من 
مقابلة حفيدة السيدة مذر. قبل قدومنا إلى كليفلاند اتَصل الدكتور عثمان بسيدة 
لبنانية تُقيم في كليفلاند كان زوجها أحد تلامذتي في المدرسة الإسلامية في سيدر 
رابدس بولاية أيوا. وحدّئها في موضوع السيدة مذر وطلب منها المساعدة 
الممكنة» وأحالت بدورها المسألة إلى ولدها الذي أنهى لتوّه دراسة الماجستير في 
إحدى الجامعات الأميركية. وتحدّث مع ابن أخي عثمان بالهاتف من واشنطن 
وشرح له الموضوع بالتفصيل وأعطاه المعلومات التي لدينا ولم تكن كثيرة. فكل ما 
لديّ هو رسالة موبّهة لي في نيويورك تحمل توقيع السيدة مذر وتشتمل على 
التفاصيل الخاصة برحلتي إلى كليفلاند والمحاضرة التي سوف ألقيها في منزلها 
على عضوات جمعية النسوة من أثرياء المدينة التي كانت تنتمي إليها . 

بعد وصولنا إلى الفندق بقليل قَدِمَ الشاب اللبناني الأصل واسمه السيد عمر 
لزيارتنا وأخبرنا بأنه وَجَد بعض المعلومات المهمة في مكتبة المدينة العامة عن السيدة 
مذر التي توفيت قبل خمسة عشر عامًا . فلقد كانت سيدة مشهورة من أثرياء كليفلاند 
ذات نشاطات اجتماعية وخيرية متعدّدة. ولقد تحوّل بيتها - بناءً على رغبتها - إلى 
مركز خاص لعقد السيمينارات والاجتماعات العلمية والخيرية. وبموجب وصيّتها 
فإنه بإمكان أيّ جمعية علمية أو اجتماعية أو خيرية أن تستخدم منزلها دون مقابل لعقد 
المؤتمرات أو الندوات أو الاجتماعات؛ واتّصل السيد عمر بمنزل السيدة مذر الذي 
أصبح مركرًا للاجتماعات العلمية أو الخيرية وعَلِمم أن حفيدة السيدة مذر (ابنة ولدها) 
واسمها أرلين تدير المركز وكذلك جميع النشاطات الخيرية التي أسّستها جدتها. 
وعندما اتّصل لم تكن السيدة أرلين موجودة وأخبره العاملون في المركز بأنها ستعود 
بعد عدة أيام. لقد كانت أخبارًا مثيرة حمًّا ورجَؤْت الله في سرعة عودة أرلين من 
سفرها فلم يكن لدينا وقت طويل نمضيه في كليفلاند. انصرف السيد عمر من زيارتنا 
في الفندق حوالي الثانية ظهرًا ووعدنا بمحاولة الاتّصال ثانية بمركز الاجتماعات 
ليعرف فيما إذا كانت السيدة أرلين قد عادت إلى العمل . 


بعد ذلك بقليل قَدِمت الدكتورة ابنتي حسب الموعد لزيارتنا وخرججنا معها في 
جولة حول المدينة. وبعد عودتنا إلى الفندق وجدنا رسالة مختصرة من الأستاذ عمر 


522 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





تقول: أرجو الاتّصال في أسرع وقت ممكن. وانّصل به ابن أخي عثمان في الحال 
وعَلِم منه أنَّ السيدة أرلين قد عادت إلى كليفلاند وأنّه تحدّث معها بالهاتف 
وأخبرها عن معرفتي القديمة بجدَّتها وعن وجودي في كليفلاند في الوقت الحاضر. 
وأنها أبدت اهتمامًا خاصضًا بذلك وتريد منا أن نتّصل بها بالهاتف في صباح الغد 
وبالتحديد في الساعة الحادية عشرة. وفي الموعد المحدد. اتصل بها الدكتور 
عثمان ولم يكن يصدّق ما يحدث أمامه من تطوّرات سريعة. فلقد دعتنا إلى زيارتها 
في الثانية من بعد ظهر ذلك اليوم وطلبت منه أن نأتي بالرسالة التي أرسلتها لي 
السيدة مذر في نيويورك» وفجأة شعرت بأهمية هذه الرسالة التي احتفظت بها هذه 
السنوات الطويلة. وانّصلت بابنتي آسيا وطلبت منها مرافقتنا في زيارتنا للسيدة 
أرلين التي سوف تستقبلنا في مركز الاجتماعات العلمية والخيرية وهو منزل جدّتها 
السابق. ولم نكن نعرف طريقنا جيدًا في كليفلاند ولكن السيد عمر قَدِمَ معنا 
- مشكورًا - لكي يساعدنا في الوصول إلى المركز وفي الموعد المحدّد دخلت 
سيارتنا من بوابة الحديقة الكبيرة التي يقع في طرفها المنزل الكبير المطل على 
البحيرة. لقد رأيت الدكتور عثمان ينظر إلىّ ويبتسم . فلقد أصبح يعرف أنني شديد 
الحنين إلى الذكريات. لقد حدثته كثيرًا عن زيارتي للسيدة مذر وعن كرمها هي 
وزوجها وعن جمال منزلهم والخدم الذين يعملون فيه. وعن البحيرة والحديقة 
والبوابة التي دخلنا منها قبل لحظات. 

كانت السيدة أرلين مع اثنتين من مساعداتها بانتظارنا أمام باب المنزل. لقد 
وجدت الحفيدة مثل جذتها لطيفة وكريمة ومؤدّبة. سيدة في منتصف العقد الخامس 
من عمرهاء أنيقة في مظهرها ومحدّثئة لبقة. وبعد أن رحبت بنا أحسن ترحيب 
اطلعت على رسالة جدتها وصرّرت نسخة منها في آلة التصوير التابعة للمركز 
واحتفظت بها لنفسها وأعادت لنا الأصل. وبعد دقائق من وصولنا جلسنا في 
الشرفة المطلّة على البحيرة وطلَبّت مني أن أحدّثها بالتفصيل عن زيارتي إلى 
جدّتها. وبدأت أستعيد ذكريات تلك الزيارة وأرويها لهم. ولقد كانت إحدى 
مساعدات السيدة أرلين تدوّن بعض ما كنت أقول. فالسيدة أرلين تنوي إعداد كتاب 
عن حياة جدَّتها وسوف تُدرج فيه - كما قالت - زيارتي إلى منزل جدّتها في نهاية 


فراق طويل ثم لقاء 503 
الثلاثينيات» وكذلك زيارتي الثانية التي جاءت بعد أكثر من خمسين عامًا. حذثتهم 
غوازيازتي بالتفصيل فلقد أعطاني الله عادة تدوين بعض أحداث حياتي منذ الصّغْر. 
ولقد مكّتني هذه المذكّرات من تقديم هذا الكتاب الذي تعود بعض أحدائه إلى 
ثمانين عامًا مضّت. إِنَّ قصة زيارتي للسيدة مذر مدوّنة في مذكّراتي بشكل جيد ولقد 
استعرضتها في الجزء الثاني من الكتاب. ولهذا لم أجد أي صعوبة في رواية 
تفاصيل الزيارة. ويبدو أنَّ رؤيتي للمنزل قد أعادت إلى ذاكرتي أشياء جديدة لم 
أدرّنها حتى في مذكراتي. حدَّئتهم عن زهور الحديقة والخيول الثلاثة الموجودة 
فيهاء حدّئتهم عن الأثاث الفاخر والسرير الأثري في غرفتي وحمّامها الكبير 
وحنفيّاته ومقابضه الذهبية. حدّئتهم عن المحاضرة والمجلس العربي الذي أعدّته 
السيدة مذر لينسجم مع المناسبة. كما حدَّئتهم عن أنواع الطعام العربي التي أكلناها 
بشهية كبيرة بعد الانتهاء من التحدّث عن الدول العربية» حدَّثتهم عن طعام الإفطار 
الذي كنا نتناوله كل صباح أثناء أيام الزيارة في الشرفة نفسها التي نجلس بها الآن. 
حدَّنْتٌ السيدة أرلين وبقية الموجودين في الجلسة عن كل الأشياء التي تذكّرتها عن 
تلك الزيارة. وبعد الانتهاء من حديثي الطويل ذهبنا جميعًا بجولة في غرف المنزل 
الكبير والحديقة الكبيرة وأخذنا العديد من الصور التذكارية وخاصة في الحديقة 
الخضراء الجميلة. وأثناء تجوّلنا أخبرَنّنا السيدة أرلين أنها سمعت من والدها الذي 
توفي قبل سنتين عن زيارتي الأولى لمنزل جدّتها. والمحاضرة التي ألقيتها على 
أعضاء الجمعية النسائية. القصة المتداولة في الأسرة - كما أخبرها والدها - أن 
جدّتها السيدة مذر أعدَّت حفلًا عربيًا خاصًا في منزلها ودتمت إليه مجموعة من 
سيدات المجتمع البارزات واستدعت شِيخًا عربيًا حقيقيًا لكي يحدّثهن عن الدول 
العربية. ولهذا السبب فلقد تركت زيارتنا اليوم - كما قالت السيدة أرلين - أثرًا 
كبيرًا في نفسها. فلقد كشفنا لها تفاصيل صفحة جميلة من صفحات حياة جدّتها 
العظيمة. وبعد حوالي الساعتين غادرنا المنزل مودَّعين من السيدة أرلين ومساعداتها 
حتى ركبنا في سيارتنا وقالت لنا وهي تقول مع السلامة أرجو أن تحافظوا على 
الاتصال الدائم بنا. ومن منزل السيدة مذر - (أعني من مركز المحاضرات 





والاجتماعات العلمية والخيرية) - ذهبنا إلى أحد المطاعم اللبنانية وأكلنا أطيب 
المأكولات اللبنانية التي يمكن أن يشتهيها الإنسان. 

إن رحلتي إلى الولايات المتحدة برفقة ابن أخي عثمان كانت مليئة بالمفاجآت 
والأحداث السعيدة. ولقد توّجها الله برؤية الابن نواف مع الانتقال من مشهد سعيد 
إلى آخر. فبّعد أن تركنا كليفلاند توجّهتٌ أنا والدكتور عثمان إلى سيدر رابدس 
للقاء تلامذتي اللبنانيين. اختلف شكل المدينة كثيرًا عن عهدي القديم بها. فلقد 
توسّعت كثيرًا وازداد البنيان الحديث فيها ولكن بعض شوارعها ومعالمها القديمة لم 
تزل كما كنت أعرفها بالسابق. 

عشيّة وصولنا إلى المدينة أقامت السيدة فاطمة عجرم زوجة المرحوم حسن 
عجرم حفل عشاء كبير في منزلها على شرفنا ودّعت له بعض العائلات اللبنانية التي 
كنت أعرفهاء لقد توسّع حجم الجالية اللبنانية المسلمة في سيدر رابدس كثيرّاء 
فعندما كنت إمامهم قبل أكثر من خمسين عامًا كان عددهم يقتصر على ثلاث عشرة 
أسرة تضم جميعها حوالي خمسين شخصًا أو أكثر بقليل. وأمًا اليوم فلقد انضمّت 
إليهم عائلات لبنانية جديدة وازداد عددهم إلى بعض مئات أو أكثر. جميع أرباب 
الأسر الثلاث عشرة الذين كنت أعلَّم أبناءهم وبناتهم انتقلوا إلى رحمة الله وكذلك 
بعض زوجاتهم وعدد قليل من تلامذتي الأبناء. ولهذا فإنني في هذه الرحلة إلى 
سيدر رابدس لم أقابل حسن عجرم وخليل عجرم». وحسين شرانق وخليل شرانق» 
وزين العاصي وحسن وخلف ومحمد العاصي وعلي أبو خليل وحسين الخضر 
وحسن مرعي وعبده عمر ويحيى عاصي ونجيب بدرة وقاسم سدرة ومرعي 
الداهوك. فلقد ماتوا جميعًا ولكنني قابلتٌ بعض الطاعنات في السن من نسائهم 
ومعظم أبنائهم وبناتهم الذين كنت أعلمهم العربية والإسلام في المركز الإسلامي. 
فلقد كان في الحقيقة لقاء بين التلاميذ وإمامهم وما زالوا حتى اليوم يصرّون على 
مناداتي بالإمام. بعضهم في العقد الخامس وبعضهم في العقد السادس من 
أعمارهم» ولقد أصبحوا رجال الجالية الآن وبعضهم اعتلى مكان الصدارة 
الاجتماعية في المدينة. محمد عجرم ولد المرحوم حسن عجرم من أشهر أطباء 
الأسنان في المدينة وأولاد المرحوم عاصي يملكون مؤسسة تجارية كبيرة ولهم كثير 


فراق طويل ثم لقاء 7 


من المعاملات والأعمال مع بعض رجال الأعمال في المملكة وبعض دول الخليج 
وكذلك فقد قابلت جاسم علوان التلميذ الصغير الذي كان أبوه السيد علوان يرسله 
في الصيف من أشلاند في ولاية كنتاكي لكي يتعلّم العربية والإسلام في سيدر 
راندس. ولقد تمكّن بدوره أيضًا من النجاح في مجال الأعمال الحرة مع بعض 
رجال الأعمال في المملكة وبعض دول الخليج» وبعد عودتي من رحلتي الأخيرة 
إلى الولايات المتحدة بعدة أشهر قَدِمَ إلى الرياض السيد نبيل عاصي في رحلة عمل 
ولقد سَعِدْت بمقابلته في الرياض ولقد سبق أن زارنا مع والده المرحوم عاصي 
ووالدته مهيبة عاصي وأحد أشقائه. وإن زيارتهم لي في جدة في ذلك الوقت لها 
قصة طريفة. فلقد قدموا أصلًا لأداء فريضة الحج وكان والدهم المرحوم عاصي 
يعلم أنني أقيم في جدة ولكن لم يكن لديه عنوان السكن أو رقم الهاتف. فلقد كان 
رحمه الله من أعرّ أصدقائي وكذلك أراد لولديه أن يعرقاني فلقد قَدِما إلى هذه الدنيا 
بعد أن تركت المدرسة الإسلامية وغادرت سيدر رابدس عائدًا إلى نيويورك في بداية 
الأربعينيات. ولكل هذا فلقد رغب والدهم رحمه الله في زيارتي ولكنه لم يعرف 
كيف يجدني» لي راس اي ا 
يصل إلى نتيجة؛ وسأل عني بعض المراكز الحكومة الرسمية في الحج ولكن دون 
جدوى. ولما يئس من كل هذا بدأ يسأل الأشخاص السعوديين الذين يقابلهم أثناء 
0 سأل عني في الفندق الذي سكن فيه وفي المحال التجارية التي 

شترى منها بعض الهدايا والأشياء وسأل عني كل سائق تاكسي كان يركب معه. 
ا لاا ا لام اب 
وأن أتعرّف على ولديه الشابين. فلقد رأى سجادة فاخرة للصلاة معلّقة في أطراف 
أحد محلات بيع السجاد في جدة. فدخل إلى المحل لشرائها وسأل صاحب 
المحل عني ولم يصدّق في البداية ما سمعته أذناه عندما أخبره صاحب محل 
السجاد بأنه يعرفني ولديه عنواني ورقم هاتفي. والحقيقة أن صاحب المحل يعرفني 
جيدًا لأنني كنت في ذلك الوقت أعمل وكيلًا للأمير طلال بن عبد العزيز في 
المنطقة الغربية ولقد كان مكتب الأمير يتعامل معه لشراء جميع أنواع السجاد 
الخاص بالأمير. ومن حسن الحظ أنني كنت في مكتب الأمير عند انّصال صاحب 


526 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديك 





محل السجاد وخلال دقائق معدودة وصلتٌ إليهم هناك ودعوتهم إلى منزلي. وأثناء 
زيارتي الأخيرة إلى سيدر رابدس ذكّرتني الحاجة مهيبة التي لم تزل على قيد الحياة 
بهذه القصة ثم روَنُها بالتفصيل لابن أخي عثمان وبعض الأشخاص الآخرين. 

أقام لي تلامذتي القدماء ثلاث حفلات كبيرة في الأيام القليلة التي مكثتها 
بينهم» وقابلتَ أبناء الجيل الثالث والرابع من ذرّية اللبنانيين من الشباب والفتيات 
الذين سمعوا عن المدرسة الإسلامية الأولى في سيدر رابدس وأرادوا التعرّف إلى 
الأستاذ الذي أسسها أو الإمام الأول كما يسمّونني» وصلينا معهم الجمعة فى 
الفركد اساي العريد الدق جر على سد وانبم وجقدة وضالة اتسفيان 
كبيرة وقاعة للاحتفالات الاجتماعية. 


بعد الصلاة اصطحبني محمد عجرم لزيارة المركز الإسلامي القديم الذي ضمّ 
غرفة للصلاة وغرفتين للدراسة وغرفة ثالثة في الجزء الأسفل من المبنى كنت 
أستخدمها للنوم. المبنى لم يزل قائمًا ولكنه قديم ومهجور. تجوّلتُ في غرف 
المبنى وشرحت لابن أخي عثمان عن المكان الذي كنت أجلس فيه مع التلاميذ 
لدراسة القرآن واللغة العربية. ولقد استغرب ابن أخي من صغر حجم الغرفة التي 
كنتٌ أنام بها وكذلك في ضيق حمامها. ولما رأيت علامة الاستغراب على وجهه 
قلت له إِنَّ مّن يبدأ حياته مع رحلات العقيلات يستطيع أن يتحمّل جميع مشقات 
الحياة التي يمكن أن تواجهه. 

لم نتمكن من مغادرة سيدر رابدس بسهولة لأن تلامذتي وأبناء أصدقائي هناك 
أصرّوا على تمديد زيارتي عندهمء وأخيرًا أذنوا لي بالسفر بعد أن وعدتهم بزيارة 
طويلة لاحقة تستغرق عدة أشهر. وأثناء وداعنا في المطار قالت إحدى سيدات 
الجالية اللبنانية لابن أخي عثمان: «لا تنس أن تعود بالإمام خليل لزيارتنا السنة 
القادمة». فال لها الدكتور عثمان مبتسمًا إن شاء الله فإن إمامكم سيعود إليكم 
سالمًا في العام القادم. وبعد مغادرة سيدر رابدس أوصلني ابن أخي عثمان إلى 
كربس كرستي في تكساس لزيارة السيد علي كرى؛. شقيق زوجتي المصرية التي 
تعيش معي الآن في الرياض حلو الحياة ومرّهاء وبقيت في كربس كرستي عند 


السيد علي كرى عدة أيام بينما ذهب الدكتور عثمان لزيارة بعض أصدقائه في 
سياتل» ومن هنا اتصل بنواف وانّفق معه على الالتقاء بعد أسبوع في فندق شيراتون 
في التايسن كورنر في شمال فرجينيا بالقرب من واشنطن. واتصلتٌ بابنتي آسيا في 
كليفلاند وأخبرتها بمكان وموعد اللقاء وأكّدت. وأراد الله لهذا اللقاء أن يتوسعء 
فلقد انَصل الدكتور عثمان وأخبرني بأن أم نواف زوجتي السابقة كونستانس ترغب 
في الحضور إلى واشنطن لمشاهدة جمع الشمل بيني وبين ولدها نواف»: وسألني إذا 
كنت أمانع ذلك ففكرت قليلًا ثم قلت له حسنًا إنني لا أمانع في حضورها فلقد مرَّ 
وقت طويل على قضية الخلاف بيننا والطلاق. إن حضورها مهم سواء بالنسبة إليها 
أو بالنسبة إلى نواف. وفي صباح اليوم التالي اتصلت بالدكتور عثمان في سياتل 
وطلبت منه أن يرنّبٍ مع نواف أمر قدوم ابنته أندروميدا في كاليفورنيا لحضور اللقاء 
أيضًا فإنها حفيدتي الحقيقية وأريد أن أراها. 


وهكذا التقى الجميع في لقاء جميل استمرٌ خمسة أيام في الأسبوع الثاني من 
أيلول/ سبتمبر» فلقد قَدِمَ إلى فندق شيراتون على التوالي أنا وابن أخي عثمان أولا 
ثم نواف وزوجته وابنتهما مليسه ووالد زوجته السيد ألبرت معقد وبعد ذلك وصلت 
الدكتورة آسيا من كليفلاند ثم والدة نواف من كنتيكت وأخيرًا وصلت ابنته من 
كاليفورنيا. وأثناء وجودهم في واشنطن ذهبنا جميعًا باستثناء والدة نواف لزيارة 
السيدة صفية أبو شادي ابنة السيد أحمد زكي أبو شادي التي تسكن بالقرب من 
واشنطن. ولقد سبق لي أن زرتها مع الدكتور عثمان قبل ثلاثة أسابيع من زيارتنا 
لنواف في فلوريدا ولا نستطيع أن ننسى طبعًا الجهود التي بذلتها السيدة صفية 
والمعلومات التي زوّدتنا بها أثناء البحث عن الابن نواف. ولقد استعاد نواف 
والسيدة صفية بعض ذكريات الماضي التي جمعتهماء فنواف لم يزل حتى الوقت 
الحاضر يحمل لقب أبو شادي بعد أن تبنّاه السيد أحمد زكي أبو شادي - والد 
السيدة صفية - وبعد زواج السيد أبو شادي من والدة نواف أقاموا جميعًا في بيت 
واحد في واشنطن لمدّة ست سنوات انتهت بوفاة السيد أبو شادي». حيث سافر 
نواف مع أمه وزوجها الجديد السيد كيث جاردنر إلى لندن ولم يّرَ نواف السيدة 
صفية منذ ذلك الوقت وحتى زيارتنا لها في هذه الليلة. لقد كان عمر نواف في ذلك 





الوقت عشر سنوات ولهذا فهو يذكر السيدة صفية جيدًا. ولقد طلب منها نواف في 
تلك الأمسية أن تغفر بعض هفوات طفولته إن هو أخطأ بحقّها في ذلك الوقت. 
فقالت السيدة صفية لا عليك يا نواف فالكبار يعتبرون شقاوة الصغار من ضمن 
الذكريات الجميلة. وانتهت تلك الأمسية الحافلة بالذكريات والقصص الجميلة بعد 
أن الفق تواف والسيدة :صفية غلى تتادل: الرشائل والؤياوات: 

أثناء وجودنا في واشنطن تحدّئت مع زوجتي السابقة كونستانس وتجاهلتٌ 
مشاكل الماضي وكذلك فعلت هي وأبدت سرورها البالغ بلقائي مع نواف» وقالت 
حبّذا لو يزورك فى السعودية ليتعرّف على جذوره هناك». فقلت فى نفسىء الله الله يا 
شيا قلق كاده عسي ملسن مر ادا رتتدلانيا كدق يقني أن حرو به إن 
السعودية. والآن تطلب مني بنفسها أن أستدعيه لزيارة أرض جذوره. ولكن لا 
بأس فنواف ولدي وإنني أحبّه الآن كبيرًا كما كنت أحبّه بالأمس صغيرًاء وإن 
فرتحي يلقناء لا تقدّن.ركمن ولن تكتمل ترح إل ]3آ قم إلى الجملكة وتعر ف على 
أبناء عمومته » ولقد استغرب عندما علم بأن عددهم يزيد على المائتي رجل . 

قبل انتهاء لقائنا بيوم واحد قَدِمَ مندوب مجلة المجلة وأجرى لقاء مطولاء 
معي ومع نواف ومع الدكتور عثمان ولقد تم نشره بعد ذلك بشكل قصة مثيرة بعنوان 
رجل من بريدة يعثر على ولده الأميركي بعد 45 عامّاء ولقد رتب اللقاء المكتب 
الإعلامي السعودي في واشنطن. جزاهم الله عني كل خير فلقد ظهرت صورتي مع 
نوّاف على غلاف مجلة المجلة وأعطتني شهرة كبيرة ولقد أسعدني كثيرًا لقاء ابنتي 
آسيا مع أخيها نواف في واشنطن» وليس غريبًا على الإخوة غير الأشقاء لأبناء 
رجال العقيلات أن يلتقوا أحيانًا بعد سن متقدمة. فبعض العقيلات كانوا يتزوّجون 
في مصر والشام ومناطق أخرى إضافة إلى زوجتهم الأولى في نجد. وبعد مرور 
الوقت يلتقي الإخوة والأخوات أبناء المصرية مع أبناء النجدية مع أبناء العراقية أو 
السورية ومع أبناء العسيرية أو الأبهاوية أو الهندية. وهكذا أضَعفْتٌ إلى هذه القائمة 
الخاصة بالعقيلات ابن الأميركية. وكذلك فلقد سعدت بلقاء حفيدتي المولودة في 
فيتنام. وكذلك بابنة زوجة نواف التي يعتبرها في مقام ابنته تمامًا. وأما زوجة نواف 
ووالدها فلقد تحدّئا كثيرًا عن رغبتهما في زيارة سوريا للبحث عن جذورهم 
وأقاربهم هناك. 


فراق طويل ثم لقاء 529 





ودّعتُ نوافا على أمل اللقاء القريب إِمّا في أميركا أو في السعودية وتركنا 
تحديد موعد اللقاء للمستقبل. وبعد سفر الجميع بقيت أنا والدكتور عثمان وحيدين 
ننتظر موعد سفرنا عائدين إلى المملكة في اليوم التالي. 

منذ أن تجاوزت السبعين من عمري. تضاءل اهتمامي بالتجارة ولكن قلبي لم 
يزل مفعمًا بحب الرحلات والقراءات والكتابة والمعرفة والاطلاع على التطورات 
والمنجزات العلمية الجديدة. وقد يرى البعض في ذلك دليلًا على حب الدنيا 
والتمسك بهاء وقد يستغربون ذلك من رجل تجاوز الخامسة والتسعين من عمره. 
ا ا ل ل ا 
وتساعدني صحتي الجيدة - ولله الحمد - على المحافظة عليه. ومن أكثر الأشياء 
التي أحمد الله ا بعد الصحة والعافية في سنّ الشيخوخة هي انشغالي بأداء 
الكثير من الأمور وعدم شعوري بالملل والفراغ. فوقتي مشغول دائمًا بالقراءة أو 
الكتابة أو العبادة أو السفر أو بحضور مجلس الأمير طلال أو زيارة الأقرباء 
والأصدقاء أو سماع الموسيقى والأغاني القديمة خاصة التي تشتمل على قصائد 
عميقة في معناها جميلة في كلماتهاء بعض الوقت أمضيه بمداعبة أحفادي الصغارء 
وبين الحين والآخر أذهب لزيارة بعض معارفي في البادية. ولقد انشغلت أخيرًا 
بكتابة الرسائل إلى نواف في أميركا. 

بالرغم من تقدُّم سن الشيخوخة فإنني كثيرًا ما أقوم بمفاجأة أقربائي من 
الشباب والشابات بزيارة خاطفة. فلي في مدن المملكة وكذلك في دمشق والقاهرة 
وبغداد أكثر من أربعين رجلا وامرأة وأكثر من مائة طفل أكون بالنسبة إليهم خالهم. 
أو عمهمء أو عمّ أمهم. أو أبيهم. وتراني أطرق باب أحدهم ظُهْرَ يوم فجأة 
وأشاركهم طعامهم الموجودء ويستيقظ بعضهم أحيانًا في صباح الخميس أو الجمعة 
على طرقٍ لباب منزلهم. وقد تكون زيارة مزعجة في صباح يوم الراحة ولكن ما 
تأتي الساعة الثامنة إلا ونحن جميعًا نأكل الفول والحمص والجبن والشاي في 
إفطار لذيذ. وبعد الانتهاء من تناول الإفطار أتركهم لأعمالهم وربما ليعودوا إلى 
النوم والراحة وغالبًا ما أذهب لزيارة قريب آخر لشرب الشاي والقهوة معه. 


لا أنام إلا ساعات قليلة في الليل» وأمضي جزءًا منه أعبد ربي وأناجيه 


50 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





وأشكزه علئ 'تعمة الصنحة والهمّة وزاحة البال::واحيانا أوقظ سائق سيارتي مع 
الفجر ليأخذني إلى أطراف مدينة الرياض. وهناك نصلّي الفجر في الصحراء ثم 
نراقب شروق الشمس ونحن نشرب القهوة ونأكل بعض حبّات التمر ثم نعود 
أدراجنا إلى الرياض. وحتى منتصف الثمانينيات كنت أقود سيارتي بنفسي ولا 
أعتمد على السائق. وبعد أن توسّعت شبكة الطرق التي تصل بين مدن المملكة 
أصبحت أقود سيارتي بين الرياض والقصيم وجدة ومكة وحائل والدمام. وإنني 
دائمًا أجد متعة خاصة في تأمّل رمال الصحراء على جانبي الطريق. ولا أبالغ إذ 
أقول إن متعتي بطبيعة الصحراء تفوق متعتي بالغابات الأميركية التي كنت أتأملها 
أثناء سفري بين ولايات الشرق الأميركي» والسبب فى ذلك بسيط» فطبيعة أميركا 
بتائعرة وشميلة لكو ظلئينة امغر المزبية زمث إصلة خاصة الذكرياتاطفزلى 
وشبابي. وإن رؤية الجمال على أطراف الطرق القع ريوع اسوك مقر 
مخيلتي دائمًا ذكرى رحلاتي الأولى مع العقيلات. غالبًا ما أتذكر وأنا أقود هاري 
عبر الصحراء منَّجهًا للقصيم أو حائل «مزيونة» الذلول الأولى التي امتطيتها في أول 
رحلة من دمشق إلى بريدة مع العمّ محمد الأحمد الرواف. 


لقد فقدت منذ عدة سئوات ميزة قيادة السيارة والشيخوخة هي السبب. وهذه 
هي طبائع الأمور فعندما يتقدّم الإنسان في العمر ويصبح شيخًا عجورًا يرمي 
باللائمة في كثير من الأشياء التي يعجز عنها على الشيخوخة. فمنذ تجاوزت 
الثمانين من عمري بدأ أفراد أسرتي خاصة زوجتي وابنتي تُكثران الإلحاح على لكي 
أتوقف عن قيادة السيارة. فلقد كانتا تعتقدان أن مقدرتي على التحكم بالسيارة لم 
تعد كالسابق وكنت أصرٌ على اعتقادي بخطأ رأيهما وأتمسك بقيادة سيارتي بنفسي . 
وبدأ عدد حوادث السيارات التي أتعرّض لها يتزايد وكان رجال المرور يطلبون مني 
في كل مرة اعتزال القيادة. وفي أحد الحوادث صدّمْت في الطائف في خريف السنة 
الأولى أو الثانية في بداية السبعينيات إحدى سيارات الشرطة صدمة قوية ولم ف 
شخصًا بأيّ أذى في الحادث ولكن رجل الشرطة الذي كان يقود السيارة الثانية 
تعرّض لبعض الإصابات وأعطيته مبلعًا من المال وتنازل عن حقّه ضدّيء ولكن 
رجال الشرطة أوقفوني في قسم الشرطة ولم يُخلوا سبيلي إِلّا بعد أن كفلني أمير 


الطائف عبد العزيز بن معمر كن وذهبت بعد ذلك لمقابلة الأمير نايف وطلبتٌ منه 
أن يُسقط عنْي تسديد قيمة سيارة الشرطة التي تدمّرت في الحادث. ولم يكتّفٍ 
سموه بذلك» بل أعطاني سيارة بدل سيارتي التي أصيبت أيضًا بخراب كبير في 
الحادث وطلب مني - أمدَّ الله في عمره - أن أكون أكثر انتباهًا في قيادة السيارة 
في المستقبل. 

ومع مرور الأيام امتنعت زوجتي وابنتي عن ركوب السيارة عندما أقودها خوفًا 
على نفسيهما من صدمة قوية» وأحيانًا كنَّ يخفين مفاتيح السيارة عني ولكنني كنت 
دائمًا أجدها بطريقتي الخاصة وأنطلق بالسيارة وكلّي حذر حتى لا أتورّط في أيّ 
حوادث أخرى. وبعد أن صدمت إحدى الأشجار الكبيرة في أحد شوارع الرياض 
قبل عدّة سنوات اقتنعت بأن الوقت قد حان لكي أتخلّى عن ركوب السيارة كما 
تخلّيت عن ركوب الخيل والجمال قبل ذلك بسنوات طويلة. ولم أَعُدْ منذ ذلك 
الوقت أقود سيارتي بنفسي وأصبحت أعتمد على السائق. وأحيانًا يذهب بي السائق 
إلى البر لكي أمارس هواية قيادة السيارة بعيدًا عن الشوارع والطرقات المعبّدة حيث 
لا شيء أصدمه أو يصدمني. وعندما يعيش الإنسان قرابة قرن كامل بكلّ صحته 
وعافيته وأحاسيسه. فإنه ينظر للحياة من منظار خاص لا يُدركه إِلّا هو ولا يفهمه 
إلا من كان في مثل عمره. فالسيارة التي أتحدّث عن متعة قيادتها أذكر أن نفسي 
أوجَسّت خيفة عندما رأيتها لأول مرة قبل الحرب العالمية الأولى بقليل. وعندما 
سمعت عن الطائرة لأول مرة في حياتي ظننت أنا وأصحابي أن محدّئنا عنها كان 
رجلا معتومًا. رأيت الناس ينتقلون من حياة إلى حياة ثم إلى حياة أخرى» رأيت 
القيم تتبدّل والعادات تتغيّر مرات ومرّات. كانت أحداث الحرب العالمية الأولى 
تدور حولنا في البادية العربية الشاسعة» وفي الولايات المتحدة انخرظتٌ في 
الجيش الأميركي وكِدْت أن ألتحق بصفوف الجنود الذين شاركوا في معارك الحرب 
العالمية الثانية. الدولة العثمانية بالنسبة إل هي ليست تاريخًا أقرأ عنه بالكتب وإنما 
واقع عشته وتفاعلت معه. فلقد سكنت في دمشق في ظل السيادة العثمانية وتعلّمت 
اللغة التركية في الكتاتيب. أعرف القاهرة وقد كان عدد سكانها لا يتجاوز بضع 
مئات الألوف وأعرفها وقد أصبحت مدينة الستة ملايين نسمة. عندما زرت الرياض 


532 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





أوّل مرة كانت منفوحة مدينة متميّزة تفصلها عن الرياض مسافة لا بأس بها. وأذكر 
أنني رأيت الملك عبد العزيز رحمه الله في الحلم قبل عدة سنوات يسير في شوارع 
الرياض الحديثة. ولمًا اقتربت للسلام عليه قال لي : هذه الرياض هي الرياض 
نفسها عاصمة مُلكي يا خليل؟ فلمًا قلت له أجلء» ابتعد عني وهو يقول: الحمد لله 
ما شاء اللهء الحمد لله ما شاء الله. 

بعد أن تجاوزت التسعين من عمري وجدت نفسي أحظى باهتمام الصحفيين 
السعوديين والعرب والأجانب. بعضهم أجروا مقابلات مطوّلة معي سألوني خلالها 
عن حياتي وأسفاري» وبعضهم كتبوا مقالات عن بعض مظاهر حياتي العامة 
والخاصة. ويهتم الصحفيون الأجانب عادة بحياتي التي أمضيتها في الولايات 
المتحدة وأكثر ما يشدّ اهتمامهم مشاركتي في أحد الأفلام السينمائية مع جان وين» 
وأحيانًا أجلس على أحد الكراسي الكبيرة في مجلسي أو أتمدّد على سريري 
وأستعرض شريط ذكريات حياتي. أتذكّر الكثير وأنسى الكثير أيضًا. وأحيانًا أذكر 
حوادث تعود إلى أكثر من ثمانين سنة وكأنها تحدّث أمامي الآنء وأنسى حوادث 
وقعت قبل سنتين أو ثلاث أو قبل أسابيع. ولقد كان نجاحي في التجارة نجاحًا 
مؤقنًا لم يدُمْ لوقت طويل. وبذلت الكثير في سبيل الدعوة الإسلامية ولكنني لم 
أصبح من الدعاة المتخصّصين. ولقد كانت الفرصة مفتوحة أمامي لأغوص في 
عالم السينما في هوليود ولكنني رفضتهاء كما رفضت فرصة أخرى للارتقاء في 
إذاعة صوت أميركا. ولم أحرص في بداية حياتي على الارتباط بعمل حكوميّ 
يردق ويقيّد حريتي» لقد قمت برحلات عديدة وأسفار طويلة ولكني لست رحالة 
لأن الرحالة لا يعرف الاستقرارء وحياتي موزّعة بين الرحيل تارة والاستقرار تارة 
أخرى . 

الآن وقد مرّت بي هذه السنون الطويلة وعشت الحياة بحلوها ومرها وانتقلت 
من باديتها إلى ناطحات سحابهاء لو سئِلت عن أَحَبَ المناظر الطبيعية إلى نفسي 
لقلت الصحراء ليس لأنها أجمل من الغابات والبحيرات والأنهار والسواحل التي 
أعرفها ولكن لأن لي معها ذكريات قديمة» وكما قال الشاعر: 

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى2 ماالح ب إلا للحبيبالأول 


فراق طويل ثم لقاء يعد 


والحب هو حب الأشخاص والديار والأوطان» ولو سُئلت عن أحلى أيام 
حياتي لقلت هي أيام رحلتي الأولى مع العقيلات ورحلتي مع زوجتي الأميركية 
الأولى عبر ولايات الشرق الأميركي. وكذلك الأيام التي أمضيتها مع العائلات 
اللبنائية في سيدر رابدس عندما كنت أعلّم أبناءها اللغة العربية والإسلام. وأخيرًا 
فإن أيام رحلتي الأخيرة إلى الولايات المتحدة التي التقيت فيها ولدي نوافًا كانت 
لا نُنسى ولن تُنسى في حياتي الباقية» ولو خُيّرت أن أكون إنسان آخر فلن أختار إِلَا 
خليل الرواف. ولو سئلت عن حكمتي الأساسية في الحياة لنصحت بالتطلع دائمًا 
إلى مستقبل أفضل بنظرة تفاؤلية والعمل المتواصل وعدم القول والتفكير والهمّ 
والغم بمشاكل الدنيا. فأيام الحياة كفيلة بمعالجة الكثير من المشاكل التي تواجهنا . 
فإذا لم تكن هناك حلول مقبولة فهناك القناعة والنسيان وهما خاضّيتان عظيمتان 
أنعم الله بهما على الإنسان. 


534 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





فراق طويل ثم لقاء 535 





المؤلف مع ابنتيه : د. آسيا والأستاذة أميمة - برج القاهرة 1975م 


536 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





زفاقن يخ محمد عيك الرواقه. المؤلف يقف أمام إحدى بوابات المنتزه 
عمل مستشارًا فى السفارة السعودية الذي أهداه والد زوجته الأميركية الأولى 


المؤلف مع السفير سليمان البسام. 





فراق طويل ثم لقاء 57 





في دمشق عام 1م. مع محمد ربيع بن نعمان عثمان» توفيق بن مهدي عثمان» 
مهدي بن نعمان عثمان» حسان بن ياسين الرواف. 





في أرض ديار بيت الحاج نعمان عثمان. دمشق 1981م 
المؤلف وحسان ياسين الرواف» نعمان أحمد عثمان» توفيق بن مهدي عثمان. 


538 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 








وتفقده للمدرسة السعودية للأيتام ويبدو في الصورة الشيخ أحمد الكحيمي 





الأمير نايف بن عبد العزيز يتجول في مدرسة الأيتام السعودية في دمشق 





المؤلف مع ابن أخته الشيخ الكحيمي - السفير السعودي في سوريا. 
حفل السفارة في اليوم الوطني السعودي عام 9م 





المؤلف في حديقة القصر التابعة لمنزل السيد والسيدة ماذر - كليفلاند أوهايو 1991م 


50 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





المؤلف في حديقة أحد الفنادق أثناء زيارته الأخيرة لأميركا - 1991م 





المؤلف مع بعض تلامذته الأميركيين في مدرسة ايوا أثناء زياته في صيف 1991م 


فراق طويل ثم لقاء 51 





المؤلف أمام البناية التي سكن فيها في نيويورك قديماً . 
الصورة التقطت أثناء زيارته لأميركا عام 1991م 





المؤلف وولده نواف فى فلوريدا 1 كم 


542 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 








نواف الرواف يدفع والده في 








الأمير طلال بن عبد العزيز وعلى يمينه المؤلف أثناء تناول وجبة عشاء في الرياض 


فراق طويل ثم لقاء 53 





المؤلف مع أمير عرقة الشيخ محمد الرواف وعبد الله بن عبد الرحمن الرواف. 
مزرعة الرواف في عرقة 1990م 


544 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





فراق طويل ثم لقاء 545 





المؤلف 1991م المؤلف عام 1980م 





في بستان الرواف مع ابن أخيه د. عثمان ياسين الرواف - 1998م 


566 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 








محمد عبد العزيز الرواف» أمير عرقة: المؤلف يروي إحدى قصصه القديمة فى 
من أبناء عمومة المؤلف. منزله بالرياض 1992م 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 517 


بعض المقالات التى نشرت للمؤلف فى الأربعينيات الميلادية 
فى الصحف والمجلات العربية التى كانت تصدر فى الولايات 
المتحدة مثل جريدة السائح ومحلة الحياة. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 59 


النهضات الإصلاحية ف جزيرة العرب”” 


بقلم الأديب الشيخ خليل الرواف 
«أثناء تجواله في الولايات الأميركية» 
حدَّئنا التاريخ أنَّ بني العباس لما تمّ لهم القضاء على حكم بني أمية وسلطتهم 
في المشرق العربي» وانتزاع الخلافة الإسلامية منهم. وعمّدوا إلى قطع علاقاتهم 
السياسية مع شبه الجزيرة العربية» ولم يمض قرن على تسلمهم الزعامات الإسلامية 
حتى تمَّ لوزرائهم ما أرادوه من بتر هذه العلاقات وإهمال شأن العرب في داخل 
جزيرتهم . 
نشأ عن هذا الأمر عزلة قائمة بين الجزيرة والعالم العربي لازَّمَتها بضعة 
قرون» ولولا مككة وكمنيهء والمدينة وحُرمتهاء وتردّد المسلمين إليهما في كل عام 
لأداء فريضة الحج لأَمُمِلت هذه الديار مبعثٌ النور ومنشأ الإصلاح إهمالا كاملا 
أفقدّها مركزها الأدبي والاجتماعي وقضى على معالمها وآثارها وأصبحت وكأنها 
لم تغن بالأمس ولم تكن موطنًا لتلك الرؤوس المفكرة والأيدي العاملة في إقامة 
الدولة الأموية العربية» وكأنها لم تكن حاكمة وغيرها من البلاد كان محكومًا . 
بيد أنّ رجالها لم تخلّد في هذه العزلة والانقطاع خلودًا يثبط عزائمها ويقضي 
على تفكيرهاء بل احتفظوا بالسمت العربي والأخلاق الفاضلة» ولازمت هذه 
السّمة فضلة علم وسعة من تعاليم دينها أبقى لها مركزها الاجتماعي مُهابًا وصان 
إليهم مكانتهم الأدبية وألزمتهم المحافظة على عاداتهم وأخلاقهم ضمن دائرة 
محدودة. 
وكان خلال هذه الفترة من الزمن تعاودهم ذكريات طيّبة سَلَمَتَ وأعمال جليلة 
دَرَجت فتوقِمُهم على ماض مجيد وعرٌ نشرّ راياته على الخافقين» فتهب بهم هذه 


(*) كُتب هذا المقال عام 1942م» ونُشِر في جريدة البيان النيويوركية . 


0ظ5 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الذكريات» وتبعث فيهم روح الحركة والنشاط» وتجعلهم يفكرون تفكيرًا جديا 
سائلين أنفسهم أما كنا مصدر النور ومنشأ الهداية والإرشاد فما يمنعنا من إعادة 
الكرَّة ونشر هذا النور مرة ثانية؟ 

فكانوا يحاولون من حين لآخر نفض غبار هذه العزلة» ويعملون لخلع هذا 
الانقطاع ويتصلون بالعالم العربي اتصالا وثيقًا ظنًا منهم أنهم يستطيعون التعاون 
معهم على تحقيق الغايات النبيلة» والأماني القومية ومُثُلها العلياء فباتوا ينشدون 
هذه الأمنية ويسعَؤْن إلى تحقيقها. فقيّض الله لهم رجلًا منهم ومن أفذاذهم. هو 
المصلح الكبير الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأخذ ينشر تعاليم الدين الإسلامي 
تحت حماية أمير الدرعية محمد بن سعود الذي بايعه على المعونة والنصرة. 
وانتشرت رسالته الإصلاحية في الأقطار العربية مقتفية أثر النبي محمد يَكِِ. 

بعد وفاة الممصلح الكبير الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذ ينقص التسامح 
الذي واكب هذه التعليمات القيّمة» ويرجع هذا التناقص إلى العوامل النفسية 
والاجتماعية والسياسية التي لازمت أبناء الجزيرة منذ أن قطع العباسيون علاقاتهم 
معهم وأهملوا شأنهم إهمالًا لا يُغتفر لهم بوجو من الوجوه. 

هناك أسباب أخرى على جانب عظيم من الأهمية» وهي مقاومة الترك لهذه 
الإصلاحات التي قام بها المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب» فقد أشفق الترك 
على اضمحلال نفوذهم في البلدان العربية مهبط الوحي ومنشأ الإسلام وعزَّ عليهم 
أن يروا دولة عربية تنازعهم سلطتهم الدينية. ووافق قيام هذه الحركة الإصلاحية 
لمحمد بن عبدالوهاب نهضة مصر المدنية التي أقام دعائمهاء وأشاد صرحها زعيم 
مصر محمد علي فكان الثّرك على وجل من هذه النهضة معًا فحاول الثَّركَ إغراق 
الفريق بمقاتلة الآخر للقضاء على نهضتيهما فتمٌ لهم ما أرادوه فشب بين أنصار 
الفريقين نيران حرب أَضعَمّت قوة المصريين» وكادت أن تقضي على النهضة 
الإصلاحية النجدية قضاء مبرمًا. 

بالرغم مما أصيبت به النهضة الإصلاحية النجدية من الأخطار الخارجية وما 
انتابها من الفوارق» وما رُمِيّت به من تقؤُلات وافتراءات إلى قادتها وزعمائها فقد 
أيقظ صوتها القوي الشعور القومي في الأقطار العربية وبعتٌ فيها القوى الكامنة» 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 551 


مما لمسنا أثره في النهضتين المصرية والمهدية السودانية وفي رسالتّي جمال الدين 
الأفغاني والشيخ محمد عبده. وقد كان الآخران يتوخَّيانَ من نهضتيهما إزالة البدّع 
التي دخلت على الدين الإسلامي» والأخذ بتعاليمه كما كان يفعل المصلح الكبير 
الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 


ثم يقفٌ العالم اليوم على نهضة نجدية سعودية ثانية انبعثت من البقعة التي 
انفجرت منها ينابيع النهضة الأولى - ورجالها هم أحفاد رجال تلك النهضة - 
وقيّض الله لها قائدًا خبيرًا ثاقب النظرء عبقري النفسء ليِّن العريكة؛ سهلًا 
متسامحًاء وهو: عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعوده فأزال بحنكته 
السياسية وبحُسن نيته الحواجز التي واكبت النهضة الأولى» وقعَدّت بها عن إدراك 
غاياتها ومُثْلها العلياء ولذلك تمّ لها الفوز والبقاء وأدّت رسالتها على الوجه 
المطلوب» وصار لها في الأمصار العربية التي قاومت النهضة الأولى أشدّ مقاومة 
أنصارًا ومؤيدين. 


النهضة السعودية الحديثة لم تقتصر على إصلاح ناحية واحدة» كما كان شأن 
النهضة الأولى» بل تناول إصلاحها مختلف نواحي الحياة العامة علميّاء 
وعمرانيّاء واقتصاديّاء فبعد أن تم لعبد العزيز جمع كلمة العرب في شبه جزيرتهم. 
والقضاء على منازعاتهم والفوضى الضاربة أطنابها فيما بينهم والضرب على أيدي 
العابثين بالدين - بدَّل مجرى حياتهم من بداوة قعدت بهم عن سمو التفكير والعمل 
المتواصل - إلى حضارة رفعت مستواهم ووسّعت دائرة معارفهم» وهيّأتهم للعمل 
متكاتفين» فشيّدوا في مواقع ماشيتهم دُورًا استوطنوهاء وأقاموا حولها المزارع 
والحقول» فأصبحت جنات ذات بهجة. ونرى عبد العزيز بطل توحيد الجزيرة 
العربية شديد الحرص على رفاهية شعبه ورفع مستواه العلمي والأدبي والاقتصادي. 
فقد عرَّز دور العلمء وأنشأ المدارس في المملكة؛ وأرسل البعثات العلمية إلى 
الأمصار العربية والعواصم الأوروبية» والجامعة الأميركية في بيروت» والجامعات 
المصرية تعجّ بالشباب السعودي» وأحكمَ أطراف المملكة بشبكة اتصال لاسلكية 
جمع موظفيها عربًا وسعوديين» ونجده يعتني اعتناء خاضًا بالصحة العامة فأقام 


552 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





المستشفيات في أمّهات المدن السعودية والمستوصفات في أنحاء البلاد» أطباؤها 
مصريونء وسعوديون. وسوريود. 

تُشرِف الحكومة العربية السعودية على أعمال البعثات الفنية المصرية 
والأميركية لاستخراج كنوز الأرض. فمصر تهتم بالريّ والزراعة» والأميركيون 
يبحثون عن المعادن والزيوت» ويؤمل أن يكون لأعمال البعثات شأنَ يُذكر في 
وجود البترول» وهناك مشاريع عمرانية أخرى كإنشاء مسلخ في منى تُنَر فيه 
الأضحيةء ومشروع تنوير البلدان الحجازية بالكهرباء وتسيير (الترام) فيها وإعادة 
تسيير الخط الحجازي بين السعودية وبين البلدان السورية» وجميع هذه المشروعات 
تدر هلح تشساط البحض هين "الشركات العالبة والحكومة: 

أما صلاته مع الدول والممالك والحكومات فهي صلات متينة قائمة على 
الاحترام وحفظ الحقوق. أمّا ما أقامه من عدل وإحسان فهذا ما صار مضربٌ 
الأمئال وغدا معلومًا لدى الخاص والعام. 

عرف القرن العشرون زعماء كثيرين قاموا في مختلف القارات الخمس فإذا 
قارنًا بين أعمالهم وأعمال عبد العزيز فلا يسعنا إِلّا الاعتراف بأنَّ عبد العزيز يكاد 
يكون في مقدّمتهم بدون أن ننقص من شأنهم. إن هؤلاء الزعماء عند نهوضهم كان 
لهم أوطانهم وحكوماتهم ولهم جيوش وأموال طائلة. 

أما عبد العزيز فقد قام بنفسه منفردّاء وبمعونة الله أوجَدَ وطنّاء وأنشأ حكومة 
وجمع شعبّاء فكأنه أوجد شيئًا من لا شيء» وهذه هي الزعامة الحقيقية. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 553 


بلا عنوان 


حديئي هذا يتناول صديقًا لي عرفته منذ أن وطئت قدماي أرض الولايات 
المتحدة الأميركية. ركنتٌ لصٌحبته وأَنِسّتٌ بعشرته طيلة أربعة أشهرء وكنت أخله 
وأحترمه لحُلّق فيه كريم ولأدبه الجمّ رغم ما كان يعترضه أحيانًا من حالات نفسية 
تزعجني وتنعّص على هذه العشرة وتكادٌ تقطع حبالها ثم افترقناء وباتت رسائلي 
تتساقط عليه الواحدة تلو الأخرى طيلة سنين فكان لا يجيبني إِلَا على الخامسة أو 
السادسة منهاء ثم حجب عني رسائله فلم أعد أسمع منه شيئًا. ولا تسألني عن 
دهشتي وسروري عندما اعترض طريقي في أحد شوارع العاصمة واشنطن فكان لقاء 


0 
2-8 


جميلا وسلامًا حارًا. 

كيف صحة الأخ وكيف أنت والدهر. قال: الصحة كما ترى أمّا شأني والدهر 
فلا أزال أجاريه ميوله وأهواءه وأعلّل النفس بالمستقبل الآتي وبالأماني الحسان. 

ظننت أن الأيام وصفحاتها غيّرت من ظنّك الحسن بالدهر شيئّاء فوجدثك 
الآن كما تركتك منذ سنين مستسلمًا للدهر تعصف بك نفسياته وأنت لا تبدي 
حراكاء أمَا لهذا الاستسلام من آخر؟ عجيب أمرك يا هذا! أما آن لك أن تتنبأ عن 
المستقبل وما سيأتي به مما مرّ عليك» فهل تضع حدًا للظنّ الحسن بالدهر 
والمستقبل؟ ألا تريه غضبك وسخطك عليه ولو مرة واحدة لعله يُحسِن إليك بعد 
طول إساءته . 

قال: مهلًا. لا تأخذني بحدّتك ولا تستشيطن غضبي بنزاقتك» فلست للأيام 
بمستسلم كما ذهبت إليه ولا بالغبي كما يُتخيّل إليك فقد اختبرت الدهر وبان لي 
خيرة وؤشره ووؤققت على حسته:وسيئه وَعَرفتٌ كيف يتفض على الآمان قاطقا 
أزهارها النضرة ويعبث بالأحلام فتبدو لمرتقبها كسراب يحسبه الظمآن ماء» ولكن 
لا يخفاك أن للدهر غاية وهو سائر وراءها تخالف غايتناء ونهاية يطلبها تباين 
نهايتناء أليس من الحكمة أن نجاريه في ميوله وغاياته؟ ٠‏ 


54 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


دَعْكَ من هذه الفلسفة التي لا تزيد الإنسان إِلَا وهنا على وهن. 

قال: ليست هي بفلسفة وإنما هي الحقيقة وإِنًا بانّباعنا إياها والإقرار بإرادتها 
راحة لأنفسناء فلذلك تجدني مهما لاقيثُ من الأيام فلستُ من الناقمين عليها 
والمتبرّمين بعشرتهاء وتّراني إذا ما جاءتني وغيرها أستقبلها بنفس مطمئنة وثغر يفتر 
بِشْرَاء وأهلّل لها كلما ألّمت بي على اختلاف أطوارها كناد ااي ابن 
عابسة» أم واهبة مانعة» ولا يتبادر لذهنك أنني بوداعتي التي أظهرتها نحو الأيام 
وركوني إليها واستبشاري بما سيأتي به من أحداث أخلّدُ مع سكون لياليهاء بل إنني 
ساع مجتهد متنبّه يقظء أعمل بلا ملل وأغدو بلا تعب أَلِجُ كل فج وأطرق كل 
بف فلنا دلو ين االذلاك وير تحن ماع غلك ولالا واناد امنا كدر 

فهذا هو شعوري نحو الأيام ماضيها وحاضرها ومستقبلهاء فكما أنَّ المرء 
يعيش فيها بالأماني «فإن هي ضاعت فالحياة على الأثر؛ كذلك هي جهاد وجلاد. 
ومن هذه الوجهة أسمح لك أن تردّد معي قول القائل الذي حاولت أن تقاطعني 

وحسن ظنك بالأيام معجزة فظن شرًا وكُنْ منها على وجل 

ثم واصل محدّئي كلامه قائلًا: ألا علمت أنني سأكون عمّا قريب جنديًًا من 
جنود (العمٌّ سام) فقد وافتني بطاقة من دائرة التجنيد تحمل النمرة الأولى» فشعرتٌ 
بعودة الشباب إليّ مرّة أخرى بعد أن ودّعته وداعًا ظننتٌ أنْ لا رجعة له من بعدها 
أبدًا . 

هل أنت تحبذ الجندية وتميل لخدمة بلاد أنت غريب فيها؟ 

فابتسم ثم انتفض وقال: إِني من المؤمنين بالقتال وبالذود عن الأوطان وإنه 
من أشرف ما يعمله الإنسان لبقائه عزيرًا سالمّاء أمّا كوني غريبًا فهذا لا يعترض 
سبيلي في خدمة بلادٍ قضيت في ربوعها أوقانًا جميلة وإنني ككل عربي أحفظ 
الجميل وأفِي بالعهد. وإِنّني كما قال الأول: 

تباعدبأرض تكونفيهاا) ولاتقلإننيغريب 
فإذا ما دعاني (العم سام) للذود عن حماه والدفاع عن مبدته فلن أسأله (لأيّ 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 555 


حرب أم بأيّ مكان) وإنّي كرجل أعلم أنَّ الطعن والقتال كتب علينا (وللغانيات جرٌ 
الذيول) على أن الغانيات في زمننا هذا لم تجرّر الذيول ويلتهين بسفاسف الأمورء 
بل اشتركن والرجال بالدفاع عن حماهن فهنّ يذكّرننا بشقائقهن ذوات الكواعب 
العربيات اللواتي رافقن الغزاة وأظهرن من الفروسية ما كان يُظهره الرجال. 

هنا طربت لقول محدّئي وغفرت له فلسفته الطويلة التي لم أفهم منها شيئًا 
فقلتٌ له إن حديثك الأخير أعجبني فهات حدّئني عن العربيات وزدني من حديثئك 

قال دَعْ عنك هذاء تلك أمة قد كان لها ما كسبت ولنا ما كسبنا فالأولون 
عملوا وكان عملهم متقئًا وشريمًا فما كان عملنا؟ ألهئْنا أعمالهم وتَعَنّينا بها حتى 
قعدت بنا عن الجََدّ والسعي وغدونا نحن بمؤخّرة الأمم علمًا وعملًا وتفكيرًاء 
فبترديدنا ؤكر مآثرهم وطيب أفعالهم» وقعودنا عن مجاراتهم واتّباع آثارهم أصبحنا 
هدف قول القائل: 

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة 0 قصيدة قالها عمرو بن كلثوم 
يفاخرون بها منذ كان أوّلهم ياللرجال لشعرغير مسؤوم 

رويدك يا هذا واستعمل الرفق بالتأنيب فما طلبتٌ منك التحدّث عنهم للفخر 
والتبججح ولكن للعبرة والذكرى . 

قال: إذا كان من هذه الجهة ولهذه الغاية فاستمع لما أقوله : 

واقعة اليرموك» من المواقع الفاصلة في الحروب العربية وكان جيش العدو 
يفوق الجيش العربي عددًا وعدّة ولمًا بدأت طلائعه بالزحف» انقسمت العربيات 
المرافقات للجيش إلى فرقتين فأقواهن عضلًا وأضخمهن جثة وقفن في مؤخرة 
الجيش يحوِلن أعمدة الخيام ليضربن بها كلّ من تحدّئه نفسه بالفرارء وأجملهن 
وجهًا وأعدلهن قوامًا يقدمن الغزاة ينخين الأبطال ويحتّونهم على الجلاد. 
وينشدن: 

نحن بنات طارق 

نمشي على النمارق 


556 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





إن تُقبلوا نعانق 
أو تُدبروا نفارق 
فراق غير وامق 
هل من كريم عاشق 
يحمي حمى العواتق 
فهذه الموقعة كان أبطالها نساء عديدات. 
أمّا موقعة حمص فكانت بطلتها آنسة واحدة» وهي خولة بنت الأزور فقد 
علمت أن أخاها ضرارًا وقعٌّ في الأسر ولم تَقْوَ جنود خالد بن الوليد أن تقتحم 
جيش العدو لتنقذ ضرارًا من الأسر فأرجّأ ذلك إلى الغد ولكن خولة لم تصطبر للغد 
في نصرة أخيها أو الأخذ بثأره إن كان قتيلاء فارئّدَت ملابس الفرسان» وامتطت 
لخر دا عرق واطوادوك ايها : 
أشقيق أين تراب وجهك كائن فأضم طيب رمادهلرمادي 
اث لو أنعى إليك تعينلة ٠‏ ,العثلات مكحي منقلحة الأحاء 
وأخذت ثأري والسماء صوارم والأرض تخفق بالفتى الميّاد 
ثم نهرت جوادها فانبرى بها يطوي الأرض طيًّا وينهبها نهبّاء فما كان من 
خالد ورجاله إِلَا انّباع هذا الفارس المغوار الذي لم يتحقّق من هو وحمّلوا على 
القوم حملة عنيفة تبدّدت فيها أبناء حمصء فألفت خولة أخاها مكبلا بسلاسل من 
حديد ففكتها وألقت عنها خمارها فإذا بخالد ورجاله يصيحون مرحى لخولة. 
فحرّك محدّئي قدميه ورفع إحدى يديه وحيّاني بالتحية العسكرية وقال: أراك 
غدًا وذهب ينقل خطاه كالجندي في حالة الاستعراض» فاستوقفته سائلًا: هل لي 
أن أنقل حديثك إلى الناس؟ 
فقال: لك الخيارء وليكن «بلا عنوان»). 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 557 


من هو عبد العزيز؟”*' 
بقلم خليل الرواف 


يتحدّث الناس فيما بينهم» قائلين: ما شأن هذا الرجل الذي ظهر في الصحراء 
العربية» فلفت إليه الأنظارء وأصبح حديث الناس تنعته الصحف العالمية بأجل 
الألقاب. فتصِمّه تارة بسيد العرب وزعيمهاء ومرة تقول: أفقضل من أنجبته 
الصحراء. ما لأمم الأرض على تباين غاياتهاء واختلاف آرائهاء تتقرب منه 
وتطلب ودَّه؟ 

وما أظن هذه الصحراء الجافة القاحلة. تفاجئنا من حين لآخر بالعباقرة 
الأفذاذ من الرجال؟ 

أيكون السرٌ في ذلك» حرارة شمسهاء التي تصقل العقول فتجعل منها نورًا 
يشم سناهء وألمعيّة نادرة المثال؟ 

أم إنَّ الله الذي حرمها ما وهبّ غيرها من بقاع الأرض من نبت بهيج» وماء 
عذب سلسبيل؛ عوّضها بِنَبتِ من الرجال المصلحين؟ فأنجب منها عبد العزيز ليرفع 
ما اطمأنَ من رؤوس ساكنيهاء ويُصلح ما فسد من شأنهم» وما اعوج من أخلاقهم 
ليجعل من هذه الجزيرة مصدرًا للنورء كما كانت من قبل في العصر الأموي. منشأ 
للرؤوس المفكرة في إقامة الدولة. 

يتساءل الناس ويتعججبون» وحقّ لهم أن يتعجّبوا من رجل قام بنفسه وحيدًا 
منفردًا فأسّس مملكة مترامية الأطراف من دون أن تتوفر لديه أسباب لهذا العمل إذ 
لم يكن يملك غير قلب كبير يتفانى بحبٌ العرب والإسلام» ونفس كريمة مطمئنة 
تسعى لاسترجاع ما فقّدوه من العرّة والسؤدد والسعادة. 


(*#) نشرت هذه المقالة في جريدة البيان ونقلتها عنها إحدى صحف الأرجتتين. 


58 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





فيجعل من جموعهم المتفرقة المتخاذلة» وحدة قوية مُحُكمة الحلقات لا 
تنفصم عراها ليُقيم في ربوع جزيرته العدل والأمان والاستقرار. 

ولد عبد العزيز في مدينة الرياض عاصمته اليوم» وهاجّر مع والده الإمام 
عبدالرحمن الفيصل» مع من هاجرٌ من عائلة آل سعود إلى مدينة الكويت. 

الكويت: المدينة الهادئة الساكنة» الناشطة العاملة»؛ المكتظة بخليط من 
الشعوب السامية» المتصلة حدودها بملك الأكاسرة» وبالرافدين العراق» والبلدان 
النجدية» القائمة سدًّا منيعًا لمياه الخليج العربي تؤمها المراكب التجارية الهندية 
وغيرها من المراكب التجارية» وتَرِدْ إليها القوافل البرية القادمة من الديار النجدية 
رغبة في مسابلهاء وطمعًا بخيراتهاء مما تُخرِجه من مياه الخليج العربي من اللؤلؤ 
المكنون. وما تحمله إليها المراكب التجارية الهندية من الأقمشة الجيدة الزاهية» 
والفاخرة المتنوعة» وممًا ثُنبته أراضي الهند من شتى أصناف البهارات المتعدّدة» 
ومن كثرة تردّد القوافل النجدية عليهاء تُعَدُ من بعض الموانىء النجدية» كما هي 
اليوم تُحسب من ثغور العراق بعد البصرة» وإِنْ كانت منفصلة عن العراق انفصالًا 
تامّاء ولها أميرها الخاص» وحكومتها المحلية المرتبطة بدار السفارة البريطانية» 
مع بقية الإمارات التسع القائمة على الخليج العربي. 

في هذه المدينة نما عبد العزيز وترعرع وكان يعترض القوافل النجدية القادمة 
إليها لمساءلتهاء سائلًا رجالها عن نجد وأهلهاء فمن مُضْعْ لحديثه؛ ومنهم الخائف 
من حكام نجد من آل الرشيدء الأعداء الألدّاء لآل سعودء وفي كلا الأمرين 
المصغي لحديثه. والآخر الحذر الخائف» كان يجد عبد العزيز في ذلك ما يضاعف 
حزنه وما يزيد آلامه وشقاءه. وكان ورود هذه القوافل وصدورها يثير في نفس 
عبد العزيز الفتى اليافع كوامن الذكرى, ولواعج الأسى» فكان يستقبلها بقلب 
مجروح خافق ويودّعها بدمعة حائرة يدفعها الذل والقهرء وتمنعها الأنمة والاناء: 
وهو بين هذا وذاك يحدّث نفسه ها أنا قد بلغت مبلغ الرجال» وهؤلاء أقراني من 
الفتيان ينظرون إليّ نظرة تختلف عمًا ينظر بعضهم لبعضء يقدّمونني عليهم حتى في 
اللعب والمرحء وأنا دونهم سنًا. 


عن أي شيء تنم نظراتهم؟ وما يعنون من ورائها؟ ألطول قامتي وزيادتي عنهم 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 559 


بسطة في الجسم؟ أم إن هناك كامنًا في نفوسهم يدفعهم لاحترامي. لا يعرفون من 
أمره شيئًا . 

ماذا نتوخى من وراء مكوثنا فى الكويت» لا طائل لنا من هذا المكوث؟ إننا 
نعاني ذل الغربة» وضَنك العيشء» أليس من العار على آل سعود أن يكونوا عالة 
على غيرهمء وقد كانوا من قبل أهل فضل على الناس وعَوْنَا لهم على تقلب 
الدهر. يدفعون عنهم عادياتها. يؤمنون خائفهم » ويقيلون عاثرهم؟ 

فلأغادر هذه البلدة المضيافة ولأحاول إرجاع مجد آل سعود»ء وأعيد لنجد 
سيرتها الأولى من الاستقرار والأمان ولكن بماذا؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ لا مال 
لدي أستعين به على قضاء هذه الأمنية» ولا حال سد عضك ومزارر: ودون 
ذلك خرط القتاد. 

اثنا عشر جملا هزيلاء هذا كل ما أبقى الدهر لآل سعود من متاع الدنياء 
وبيننا وبين الرياض صحراء واسعة الفضاعء مزروعة هنا وهناك بأعداء أشدَّائ ون 
خصمنا لقويّ شديد. إِذَا فالمغامرة» فإن كان النجاح, وإِلَا نموت فتُعْذّر. 

هكذا أبت نفس عبد العزيز الأبية» وطموحه اللانهائى» أن يبقى فى الكويت 

لم يفلح عبد العزيز ورجاله الاثنا عشر في محاولتهم الأولى» فعادً إلى 
الكويت يجرٌ وراءه أذيال الهزيمة والفشل. 

غير أنَّ إخفاقه لم يقلّل من عزيمته» ولم يلن من إرادته ولم يزِدْهُ كلام الناس 
إلا نشاطًا ومضيّاء وتصميمًا وقوّة» إلى بلوغ ما كرّس له نفسه. 

أعاد الكرّة مرة ثانية ومعه أربعون رجلا يؤمنون بمبادئه ولا يسألونه لأيّ حرب 
أم بأيّ مكان. 

قطع هذه الصحراء العربية الواسعة» وقَرّبَ من الرياض» ولم يَبْقَ بينه وبين 
سور الرياض سوى مقدار ميلين ائنين» وتوجه نحو الرياض هو وسبعة من رجاله 
الأشدّاءء وأبقى بقية مرافقيه الثلاثة والثلاثين بمكان يُعرف ب(أبو مخروق)» هو تل 
واسع مرتفع عن الأرض مخروق من نصفهء قائلًا لهم : 


0ظ52 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


إذا صلَّيتم فريضة صلاة الصبح.» ولم يأتكُم منّا خبر» فارجعوا خفافًا إلى 
الكويت واسألوا الله لنا الرحمة والمغفرة. 

انقضّ عبد العزيز ورجاله السبعة على الرياضء فتسلّقوا سورهاء واستولوا 
على قصر الحكم. ونادى منادٍ مع أذان الفجر إِنَّ المُلك لله ثم لعبد العزيز» ومّن 
أراد السلامة والعافية فليأمّ داره. 

وفي ضحى هذا اليوم. يوم الفتح. جلس عبد العزيز في دار الإمارة يتقبّل 
مبايعة الناس له على السمع والطاعة. 

فأصبّحَ بين عشية وضحاها أميرًا للرياض» وإمامًا للمسلمين ودرّجّت الأيام» 
تتبعها الشهورء وتتلوها السنون» ونجم عبد العزيز ينتقل من نصر إلى نصر آخرء 
فتغلّبٍ بعد مشقَّة بالغة وعناء طويل» على من وقف في سبيل دعوته» وعلى مَن 
ناصّبوه العداء من الأمراء المنتشرين في جنوب الجزيرة وفي غربها وشمالها. 

كما ألّف بين شيوخ القبائل المتنافرة» فما لبثت هذه القبائل من بعد تنافرها أن 
عادت إلى الركون والاستقرار. وانتقل كثير من هذه القبائل من الحياة البدوية إلى 
الحياة الحضرية فأنشأوا القرى وبنوا الدورء وعمّروا الأرض وزرعوها واستقرّوا 
للراحة؛» بعد الحوادث المفجعة التي عصفت رياحها الشديدة فيما بينهم. 

وإن يعجب السائلون بعبد العزيزء فرجاله الذين واكبوا سيره أكثر تعجُّجبًا وأشدّ 
تحيّرًا دفعهم تحيّرهم لتسميته بالمخلف أي المخلف لظنونهم وما يتخرّصونء فكان 
إذا مككنه الله من الذين وقفوا معترضين لِمَا هو قائم به من توحيد الكلمة والحياة 
الأفضل وليُعيد للعرب ما فقدوه من قوة الشكيمة» وصلابة العود والعرّة والسؤددء 
ونوا | وبالأية لحري ونا لحري ورك خبطا ل رين يليا 
تذهب ظنون مرافقيه بأنَّ عبد العزيز سيّجزيه شر ما اقترمّت يداه ولكن عبد العزيز 
يرى ما لا يرون» فيقرب هذا المسيء ويّحسِن إليه؛ فكان يجيب معترضيه على 
حلمه ونبله وبَعْد نظره بقوله: ماذا نستفيد من قصاص هؤلاء الذين وقفوا في سبيل 
دعوتنا إنهم لا يعلمون حقيقة ما نحن نجاهد لأجله. إننا نُجاهد لتحقيق المُثْل العليا 
لإعلاء كلمة التوحيدء وحقن الدماء لا لهدرهاء إننا نجاهد لتحقيق ما فقدته الأمة 
العربية من ماضيها المجيدء وسؤددهاء وعرَّتها المثلى. 





بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 56061 


نريد رجالا ذوي مبادىء عالية» وأخلاق متينة نمنحهم ثقتناء ونستعين بآرائهم 
وأفكارهم على المُضيّ في سبيل دعوتنا القائمة على توحيد الله وكتابه وسُنْة رسوله 

فالصّفح عنهم أقرب للتقوىء لنُدنيهم منّا لنتَخذْ منهم جلساء لنا ووزراء. 

(ولا كنترى للتسنة ولا التق اهم يلت ِي مسن وا الى يتك ميم عا 
لد وخ حَيِيهٌ * وَمَا بلتّدهَآ إلا لين صَبر وا يلقَّهآ إلا كر حَظٍ عَظِِيرٍ 2048© . 

بهذه الأخلاق القيّمة العالية» وبهذا الحلم والنبل العظيم مَلَّك عبد العزيز من 
العرب الرقاب. وأصبحت العرب في جزيرتها عروقا نابضة في تقديره واحترامه. 
وقلوبًا خافقة إكبارًا وإعجابًا به» وترى فيه الرجل القويّ الصالح لزعامتها . 

وهذا ما أثار إعجاب الناس بهء وتساؤلهم عنهء وهذا ما حدا بجلالة الملك 
فيصل بن الحسين ملك العراق» حين بسّط يده لأخيه عبد العزيزء مصافحًا ومتناسيًا 
ما جرى بين العائلتين السعودية والهاشمية» فيما مضى من سالف الأيام وقد أجاب 
فيصل للائميه ومعارضيه على ما أقدَمَ عليه من صداقة أخيه عبد العزيز بقوله: 

إني أرى بأخي عبد العزيز ما لا يرون. 

وعبد العزيز كثير الانّصال بشعبهء يقدمون للسلام عليه في كل يوم» لا أحد 
يمنعهم. يتحدّث إليهم بلهجته العربية العذبة ويستشهد أثناء حديثه بآيات من القرآن 
المجيد وبأحاديث النبي محمد كَل . 

ومن أحاديثه التي لا يزال صداها عالقا في ذاكرتي. قوله: في مجتمع ضضم 
وفود حججاج بيت الله الحرام القادمين من مختلف بلدان العالم» وكان لكثيرٍ من 
شعبه مقاعد فيما بينهم» كان ذلك عام 1927 ميلادية. فاستهل حديثه بالاية 
الكريمة الآتية: وما ميلك إذ ويك ولكلت أله ر014. 

ليس باستطاعتي» ولا باستطاعة أحدء أن يجعل السلام سائدًا في الجزيرة 
الغؤيةة والأمن شنستا فها» زلكنها إراذة اش عدت قذره زعلت احكسة كاء أن 


(1) سورة فصلت. الآيتان: 34. 35. 
(2) سورة الأنفال» الآية: 17. 


562 طفحات مطوية من تاريكنا:العرى اليحديف 





يَهدي العرب بعد ضلالتهم» ويجمع كلمتهم بعد تفرقها ليكونوا إخوانًا بعد 
تقاطعهم ء وأعرّاء بعد ذلّهمء ٠‏ فسخَرني لهذا و 

لو أَنَقَتَ مَا فى الْأَرْضٍ جِيًا مآ أَلَنْتَ بست قُلوبه 4(". . 

ولا فخر لي بذلك» إذ الأمر منه وإليه سبحانه. 

لا شيء ينفع الإنسان إلا عمله لوث لفسأ صيك لله م204 

نعم الأمر كله بيده» وهو الهادي إلى سواء السبيل. 

وهو الذي ألهّمَ أهل البادية هدايته» فجعل من السارق أميئًا مؤتمئاء يقف في 
الطرقات. ينادي بين الناس» عن لقطة وجَدّهاء أو ماشية وجدها هائمة في 
الصحراء أو متاع عْثِر عليه في الأسواق» وقد كان من قبل تطاوعُه نفسه ليقتل رجلا 
لينال ثوبًا من أثوابه» أو درهمًا من دراهمه أليست هذه هداية من الله الكريم. 

وهل في مقدرة أحدء أن يتسلّط على القلوب فيستلٌ منها الضغائن ويزيل منها 
الأحقادء ويوجّهها لعمل الخيرء وعلى الأفكار» فيوقظها ويرشدُها لِما فيه الصلاح 
والفلاح فيجعل من السارق أميئًا مؤتمئّاء ومن القاتل إنسانًا رحيمّاء غير الله سبحانه. 

لكُم علينا أيّها الإخوان النْصح والإخلاص. ولنا عليكم الطاعة فيما يرضاه 
الله. فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. 

كلّنا راع» وكلّنا مسؤول عن رعيّته» لا فضل لأحد على أحد إِلَا بالتقوى. 
والعمل الصالح. فكونوا عونًا لي على إقامة حدود الله» فَإِنَّ يدَ الله مع الجماعة. 

ثم يوجّه كلامه إلى شعبه قائلًا : 

وأنتم أيها الشعب الكريم» ساكني هذه البقعة الطيبة من الأرض المباركة» كما 
تعلمونء أن لا غاية لي من وراء ما أرمي إليه. وما أنا قائم به.ء سوى عرّكم 
ونصرتكم وسعادتكم, فلا أطلب منكم أن تنظروا إلىّ كمَلِكء بل كفرد من 
جموعكم.ء إن أطيب كلمة وأحسنها تنادونني بها وأوقعها في نفسي قولكم يا 
عبد العزيز. 
(1) سورة الأنفال» الآية: 63. 
(2) سورة التوبةء الآية: 105. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 563 


لا فرق عندي بين غنيّكم وفقيركم» فأنتم عندي سواءء وإِنَّ ما يُصيب أحدكم 
من سوء فكأنني المصاب به إني أضحّي بنفسي لترتاحواء والبق أبشط الثياب 
وتلبسون أفخرها وأزهاهاء وآكل من أبسط الأطعمة وتأكلون ألذها وأشهاها. 

إني لا أخاف عليكم الأمم» ولكني أخوّف ما أخاف عليكم هو أنفسكم. 
تركنون لهذه الأمم» وأنتم مكتوفو الأيدي عن مجاراتها في العمل الصالح» وأن 
تشغلكم زخارف الدنيا عن الآخرة» فتكونوا من الهالكين. 

لم نْسِنَّ لكم شرعًا خاصًا تُجبركم على اتّباعه؛ بل أقَمْنا فيكم شرع الله وسنّة 
رسوله محمد عدر . 

فاحمدوا الله على ما أنْعَمَ به عليكمء واشكروه ليزيدكم من فضله. 

لم ينْرَوِ عبد العزيز داخل جزيرته» ويكتفي بما قام به من الإصلاح والأمن في 
ربوعهاء ولم يَدَعْ أهلها بعزلة عن العالم» بل اتّصل بالعالم اتصالًا وثيقَاء وأحسّنَ 
سياسته معه طبقًا لما يتطلبه مركزه الديني» كخادم للحرمين الشريفين قبلة 
المسلمين. فصادَّقٌ هذه الأمم جميعهاء واستثنى منها الأمم الملحدة» ونظر إليها 
بمنظار واحدء ليسهل على المسلمين المقيمين في بلاد غير إسلامية حجّ بيت الله 
الحرام. فاحترمته جميعهاء واعترفت بملكه. 

وكان أقرب الأمم إليه الأمة الأميركية» لقد منح شركاتها حقٌّ التنقيب عن 
البترول والمعادن» بشروط تحفط بلاده من التدخل الأجنبى في أمورها الداخلية 
والخارجية . 

عرف هذا القرن - القرن العشرون - زعماء كثيرين» قاموا في مختلف 
القارات الخمسء فإذا قارنا أعمالهم» بما قام به عبد العزيز في الجزيرة العربية فلا 
يسعُنا إِلّا الاعتراف بأن عبد العزيز كاد يكون في مقدَّمتهم» دون أن نُنْقِص من 
شأنهم شيئًاء إن هؤلاء الزعماء نشأوا في شعوب لهم حضارتهم. وفنونهم 
وثقافتهمء وعند صعودهم لمراكز الزعامة» كان لهم أوطان» وحكومات» وجيوش 
وخزائن لأموالهم وموارد كثيرة لا تُنفد. 


أما عبد العزيزء فقد قام بنفسه وحيدًا منفردّاء دون أن يكون له ما كان لهؤلاء 


564 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 





الزعماء من أوطان قائمة» وجيوش جرّارة» وأموال وفيرة» فبعونٍ من الله ثم بحكمة 
عبد العزيز البالغة» وسياسته الرشيدة الحميدة المتّزنة» جمع شعبًا وأوجد وطنّاء 
وأنشأ حكومة. فكأنه أوجد شيئًا من لا شيء. 

هذه هي الزعامة الحقيقية. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 565 


أديب سعودي وذاك الكاتب الأمير كي الناكر للجميل:” 


تلقّينا من الفاضل الغيور الشيخ خليل الرواف أحد أدباء المملكة العربية 
السعودية ونزيل ديونيدن فلوريدا الكتاب الآتي نصه: 

حضرة الأستاذ الجليل الفاضل سليمان بدور المحترم صاحب البيان الأغر. 

تحية عاطرة وسلامًا زكيًًا وبعدء أغتنم هذه الفرصة للتحدّث إليكم عن بُعْد 
ويواسطة الكتابة راجيا الله أن تكونوا ممتّعين بالصحة والعافية ونعومة البال. هذا 
وإِنَّ البيان يرِدُني بانتظام فأنكبُ على مطالعته ملتقطا أخباره التي أجد بنفسي ميلا 
شديدًا للوقوف عليها. وإني لأقدّر لحضرتكم مواقفكم المشرّفة وأعمالكم الجليلة 
المباركة في الذود عن حياض العروبة وصون سمعتها. 

وقفت على كلمتكم» بل غضبتكم العربية المنشورة في عدد 4542 من البيان 
الأغرّ حول تصريح الأميركاني (هويتني كربنتر) على إثر عودته من زيارة للمملكة 
وقد قدّرتُ لكم هذا الدفاع وشكرنُكم من صميم القلب وإني لأحفّظ لحضرتكم 
بكثير من التقدير والاحترام هذه الحَميّة القومية والغيرة على السعودية. وقبل قد 
مرت بهذا الحدية المتوه غله للمبعر كرض فى بجريلة (الهر ال ترييوق) وكنيث 
كلمة في هذا الموضوع وفي اليوم التالي وقفتٌ على حديث آخر لكربنتر المذكور 
نُشِرَ في الجريدة نفسها وفيه يُثني على جلالة الملك ويعدّد مآثره وينوّه بقوّته وعظَمَيته 
وما لقِيّه هناك من حُسن الوفادة. فاستغربثٌ أمر هذا الرجل يومًا يذِمٌ ويومًا يمدح. 
ولكنني ولم أزل أشعر بامتعاض داخلي من هذا الرجل الوضيع وأمثاله من مرتادي 
التلذى الدرنة: 

غير أنَّ حديئكُم أزالَ من نفسي بعض هذا الامتعاض إذ قد لمستٌ فيه روح 
العربية الحقّة واستنشقتٌ من نسيمها العذب وأريجها العطر فأكبَّرْتُ فيكم هذه الغيرة 


(*) نشر هذا المقال في جريدة البيان. 


566 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


والحميّة» وكما أن الحق لا يخلو من ناصر والعدل من ذاكر والخير من أعوان, 
كذلك العزونة له تكتلو من أنصار حقيقيين مخلصين من أبنائها فبارك الله فيكم . 

خلال إقامتي في نيويورك اجتمعتٌ بهذا الرجل في الباخرة التي أقلّته الى 
إيطاليا في طريقه إلى البلدان العربية» ومن حديثي القليل معه عرفت شينًا من أخلاقه 
وما تنطوي عليه سريرته. وقد صارحتٌ القول بذلك رفيقي الذي ذهبتُ معه لوداع 
كربنتر. وقد جاء ما تفرّسته به حمًا. على أنني انخدعت به أيضًا لِمَا كنت أسمع عنه 
خلال إقامتي في نيويورك من الثناء عليه وعلى جماعة الأميركان وعن مشاريعهم 
العمرانية التي زعموا أنهم يحققونها في البلاد العربية. 

اعم ميهد الظنّ الخو المجولين عليه تحن الغرتا وتنياء» ومتى 
نحرّر أنفسنا من شدة وطأته؟ إن سلامة نيتنا ونقاوة قلوبنا متسلّطتان حتى على 
أفكارناء فجعلت على قلوبنا أكنة» ووضعت على أبصارنا غشاوة فلا نعي الحق 
ولا نرى الصالح. وحبّذا لو نتّبع القول العربي الذي سمعناه وحفظناه منذ نعومة 
أظفارنا (إن سوء الظن من حسن الفطن)» ولكننا تسامحنا لدرجة العجز فلم نسِىء 
الظن بأحد فأساءت الأمم الظنّ بناء ففقدنا كل شيء حتى احترام أنفسنا لأنفسنا. 

إن جلالة الملك عبد العزيز لا يخفاه شيء من نيّات أبناء الغرب ونظرهم إلينا 
خصوصًا أمثال هؤلاء الجماعة الذين يكسبون شهرتهم بخداعنا والحدّ من كرامتناء 
وهو حفظه الله محافظ على حماه وعرينه. وهو شديد الحرص على خسن سمعة 
العرب فما كان ليسمح بزيارة المملكة لهذا الرجل لولا توسّط بعض الإخوان في 
نيويورك وسورية. وإن أبواب مملكته ستبقى إن شاء الله مغلقّة بوجوه هؤلاء 
المشعوذين ككربنتر وأمثاله. ولكن جلالته يرحب بالموثوق بهم والذين يُرجى منهم 
فائدة للعرب. وأمثال هؤلاء قليلون» بل وجودهم نادر. 

اعذرني أيها الأستاذ فقد أطلتٌ عليكم الحديث وإنه لذو شجون. هذا والله 
أسأل أن يمدَّك بمعونته ويحفظ بقاءكم والسلام عليكم وعلى كافة الأصدقاء ورحمة 
الله وبركاته. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 567 


الدعوة إلى الخير 


من الأمور المسلّمٍ بها أنه لا تقوم لأمة قائمة ما لم يكن لأفرادها جامعة 
تضمّهم ووحدة تجمعهم وتربط أجزاءهم بعضها ببعض» وإِنَّ من دواعي ربط أواصر 
الأمة وتوحيد كلمتها - قيام أفرادها بالدعوة إلى الخير فيما بينهم والعمل متكاتفين 
للنهوض بها. فبالأخذ بأسباب هذه الدعوة وبالمناصرة والمؤازرة تصبح أمّة حيّة 
0 الجانب منيعة الحمى وبغير هذه الأسباب لا يتسنى لأيّ جماعة أن تنشد 

لبقاء وتتبوَأ مكانها الأسمى على سطح الغبراء. 

وليس أمر تبليغ الدعوة إلى الخير ملقى على جماعة معيّنة من الأمّة ولا هي 
وقفٌ على أحد منهم. بل هي مُشاعة بين الناس وفي متناول مختلف الطبقات. 
فالأمة كلها مكلّفة بالقيام بها والأخذ بأسبابها ومراعاة أحكامها. قال الله تعالى : 
#ولتكن هنكم 6 يُدَعُونَ إل اْخَيرٍ وَيَأْمرونَ بالْعرُوفٍ وَيَنْهَوَنَ عَنٍ عَنِ الْمدكرٍ وَأوْكَيِكَ هم 
علوت 1(4) فكلمة (أمة) لا تعني جماعة خاصة من الناس دون آخرين» بل يتناول 
مدلولها كل فردء ولذا فمن اللازم على الجماعات الإسلامية التبشير بهذه الدعوة. 

ولا تحتاج الدعوة إلى الخير إلى تفسير وإيضاح.ء فإن معناها جلي واضحٌ 
لذوي الفطرة السليمة» فهي البحث عن الفضائل وعمل المعروف بين الناس واتباع 
الهدى والرشاد - هي كلمات طيبة يوحي بها الضمير ويدفعها الواجب فيذيعها 
لسان لا ينطق الفحش من القول فتجدٌ سبيلها إلى القلوب فتستلٌ منها الضغائن 
وتملؤها رحمة وإنسانية وتستقر في النفوس فتذهب نافرها . 

ويتطلب من الذين يدعون إلى الخير استقامة المبدأ ولين العريكة ورحابة 
الصدر. فيدعون الناس بالحكمة والموعظة الحسنة لتجدّ دعوتهم آذانًا صاغية 
ويكون لها الأثر المطلوب. قال الله تعالى لنبيه محمد يكل: «ولو كنت فظًا غليظ 


(1) سورة آل عمران» الآية: 104. 


568 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت 
فتوكل على الله». 

كما أنه يجب على الدّاعين مراعاة البيئة والمحيط وسياسة الدولة التي يعيشون 
تحت لوائها وأن يكون لهم إلمام بطبائع الناس وأخلاقهم وعاداتهم» فالناس 
مختلفون في الأذواق والأمزجة متباينون في الفكرة والآراء ولكل متهم شرعة 
ومنهاج . فكن أيّها المسلم من دعاة الخير ومن المستقيمين عليه لتكُن بذلك ميا 
سُنَة تبذك ميحد عله إذ فال له الله تعالى: «قانٌ وَأسْتَقِمَ م ل ع 
إِلَ ميل رَيْكَ للك وَالمْْعِظةَ ه20 واحرص هداني الله وإياك على أن 
تكرن مثالا الغا لخر لاوا خدوة طب الناس ".و لقنا الله حميفا لقا فيه تر فتائة إنه 
أكرم مسؤول. 


(1) سورة الشورىء الآية: 15. 
(2) سورة النحلء» الآية: 125. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 569 


الأم والتربية”*' 

استرعى انتباهي عنوان لمقال اجتماعي قَرَأنّه في إحدى أعداد جريدة البيان 
«الأم والتربية» بقلم السيدة روز محمود حمادة» فالموضوع عظيم النفع وخطير 
الشأن في الوقت ذاته» وذلك لما له من علاقة وصلة مباشرة وتأثير كبير على الناحية 
الاجتماعية. 

وقد تناول كثير من الأدباء هذا الموضوع ودرسوه من شتى نواحيه غير أن أكثر 
الأقلام التي تناولت هذا الموضوع لم تبلغ الفائدة المطلوبة» وكانت أبحاثهم 
غامضة مُبهمة» فيّجد القارىء صعوبة في فهمها وفي الوصول إلى ما يرمون إليه» 
غير أن السيدة حمادة في مقالها الأخير المختصر المفيد أَفهّمّتنا بصورة واضحة 
معنى كلمة الأم وأوقفتنا على مغزاها وعذوبة لفظها وتأثيرها في النفوس». وليس 
أدلٌ على ذلك من قولها «فإن كل شيء في الحياة يرمز ويتكلم عن الأمومة» وبيّنت 
ما يترئّبٍ على الأم من مسؤوليات جسامء ومعرفة أصول التربية وما عليها من 
واجبات كمربّية لرجال الغد الذين على عواتقهم تُلقى أعباء الحياة» وبأيديهم يوضّع 
مستقبل الوطن وإليهم تصير مقاليده. لا أحد يُنكر عظم مسؤولية ومبلغ ما عليها من 
الواجبات كأمٌ بنين» ولا مَن ينكر مقامها الاجتماعي كمربية ومعلمة. لذلك نرى مع 
السيدة حمادة أن الواجب يقتضي من الأم أن تكون مثقّفة» واعية» متعلّمة ليتسنى 
لها تربية أولادها وفلذات أكبادها تربية أخلاقية متينة ينشأون عليهاء وتؤهّلهم للقيام 
تواعطايت سياه ونا امطا هكين بإوافة وعزيكة وبعكية ومقرنة زورابة ايدو أعفاة 
صالحين في جسم المجتمع الإنساني» فالأم بهذا المعنى هي المدرسة الأولى التي 
يأخذ عنها النشء الجديد دروسه الابتدائية المعوّل عليها في نجاحه عندما يخوض 
معترك الحياة ليفوز في مضمارهاء فبِقّدر ثقافته وتهذيب الأم ونفاسة دروس التربية 


(*#) نشر هذا المقال في جريدة البيان في نيويورك عام 1938م. 


520 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


والأخلاق التي تغذّيه بها يقاس النشء الجديد» فالأم هي كل شيء في هذه الحياة 
وإلى هذا يشير نابليون بقوله: «تهرٌ السرير بيد وبالأخرى تهرّ العالم». 

وقد تنبّهت الأم الغربية إلى منزلة المرأة ومكانتها الاجتماعية فاعتبرتها العضو 
الثاني في جسد الإنسانية» فحيوية هذا الجسد وصلاحيته للبقاء يتطلبان سلامة 
وصلاحية كل العضوية» فاعتنت بتثقيفها وتعليمها اعتناءً بانَ أثره في نشأتها 
الجديدة» وأطلقت حريتها ورقَعَت شأنها إلى أن ساوتها والرجل في بعض 
الحقوق. عسى ألا تسلبها الأيام المقبلة السريعة الآتية التي تحمل معها قسوة 
الرجل وجبروته ما توضّلت إليه من حرية وحقوقء. كما كان شأنها وشقيقتها العربية 
التي سبقت إلى هذا المضمارء كانت المرأة العربية تتمتّع بنفوذٍ كبير ومقام سام 
وحرية ممتازة منحتها إياها شريعة الإسلام السمحاء منذ ثلاثة عشر قرنًا . 

فالمتتبّع لتطورات المرأة العربية» والواقف على ما كانت عليه من الثقافة 
والتهذيب. وما كان لها من الامتيازات والحقوق التي كفِلّها لها الإسلام يرى أن 
المرأة الغربية في هذا العصرء عصر المدنية والنور كما نسمّيهء لم تَتَلُ بعد كامل 
الحرية الواسعة التي توصّلت إليها زميلتها العربية تحت راية الإسلام منذ ثلاثة عشر 
قرنًا . 

ولمّا كان موضوعنا اجتماعيًا فلا مانع من التوسع فيه فنأتي على ذكر ما 
خوّلته الشريعة الإسلامية للمرأة من الحقوق التي رفعت ذكرها وأعلّت شأنها فتبّهت 
فيها الشعور بوجودها في هذه الحياة وأحيّت فيها الآمال في تقدير إنسانيتهاء جاء 
في الحديث الشريف عن النبي محمد يَكِدِ: النساء شقائر فى الرجاله أي من نظائرهم 
وأمثالهم» بهذا فائّحَ محمد يَكِِةِ أصحابه المجتمعين حولهء مبيّئًا مركز المرأة في 
الهيئة الاجتماعية ولم يغفلها يَكِْةِ في حبّجَة الوداع في ذلك المشهد الرهيب فقال عَلَِِ 
«أوصيكم بالنساء خيرا». 

ومن أحاديثه بَلِجِ قوله : 

1 - إن خياركم خياركم لأهله . 

2 - الله الله في النساء إنهنَ عوان بين أيديكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم 
فروجهن بكلمة الله. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 511 


3 - ما أكرم المرأة إِلّا كريم. وما أهانها إلا لثيم. 

4 - الجنة تحت أقدام الأمهات. 

5 - مَن كانت له ابنة فأدّبها وأحسن تأديبها كانت له منحة ومسيرة من النار 
إلى الجنة. 

6 - من حمل طرفه من السوق لعياله فكأنما حمل صدقة حتى يضعها وليبدأ 
بالإناث قبل الذكور. 

7 - مَن كانت له أخوات وبنات وصَبّر على ولائهن وضرائهن أدخله الله الجنة 

وصرّح القرآن الكريم بأنها والرجل سواسية في الحقوق والواجبات فقال 
تعالى: وطن مِثْلُ اد عَلِنَّ بموفْ74 وخوّلت الشريعة الإسلامية للمرأة 
المسلمة حقّ المبايعة كما أعطتها للرجال كما حدث في فتح مكة إذ أوحى الله إلى 
نبيه محمد يَكِةٍ أن يتقبّل مبايعة النساء ويأخذ منهن العهد والميثاق كما أخذه من 
الرجال؛» وبهذا ما فيه من تنبيه لشأن المرأة ورفع ذكرها. 

وجاء قول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد يَكهِ: ليَأيها أَلبّنّ إِدا جَلهكَ الْمُؤْمِتتُ 
َك عَكَ أن لا ممْر بِللَّهِ مَينا274 فقالت إحداهن: لم نأت يا رسول الله إلى هنا 
وفي فلوينا أن لعفا . 

وتابع الرسول قوله: «ولا يسرقن ولا يزنين» فقالت المرأة نفسها أوّتزني الحرة 
يا رسول الله. ثم تابع حديثه قائلا: «ولا يقتلن أولادهن» قالت المرأة نفسها 
ربيناهم صغارًا أوَنقتلهم كبارّاء قال - يك - «إني لأسمع صوت هند بنت عتبة 
ماضغة كبد عم رسول الله فأجابت بقولها: نعم إنها هي وما خَفِيَ عليك أعظم 
فالعفو والمغفرة يا رسول الله فقال يَككةِ: «الإسلام يجب ما قبله». 

فإذا قارنا بين هذه المبايعة التي تشرّفت بها النساء العربيات منذ ثلاثة عشر 
(1) سورة البقرة». الآية: 228. 


(2) سورة الممتحنة»ء الآية: 12. 
(3) وإنك لتأخذ علينا عهدًا لم تأخذه من الرجال قبلنا وسنعطيكه . 


572 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


قرنّاء وبين ما نالته المرأة الغربية من حقٌّ التصويت في زمن قريب في الانتخابات 
لوّجَدنا أنَّ شرف هذه المبايعة يفوق شرف التصويت من وجوه كثيرة إذا تمعن فيها 
القارىء تظهر له جلية واضحة. 

وخوّلها حق الدفاع عن نفسها إذا أحدٌ لمَرها بسوء ونالّها بِشَرَ كما فعلت 
إحدى النساء وكانت تستمع لخطاب الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب أمير 
المؤمنين ورجل من رجال الإسلام الأفذاذ» وكان يأمر بتخفيض مهور النساء رفقًا 
بمتوسّطي الدَّخل فقالت له: «على رسلك يا بن الخطاب أين أنت من قوله تعالى: 
لوَءَائَيَثْمْ إِحَدَسهُنَ يِنطارًا74" لم يتبرم الفاروق ولم تأخذه العَّة بالإثم» بل حمد 
الله وقال أخطأ عمر وأصابت المرأة. 


أفسح الإسلام للمرأة العربية المجال ومهّد لها طريق العلم فنبّعَ منهن نساء 
فاضلات كنَّ المرجع لأهل العلم والأدب من الرجال وأشركها الرجل في خطاب 
التكليف وقرَّنَ اسميهما بصورة لم تكن متاحة إِلَا في الشريعة السمحاء #إنَّ 
الشتيلييت وَالْشنلس هَلمؤْمِبِيَ وَالبؤْت4!" إلى آخر الآبة: طومَا كن مؤي كلا مُؤْسَةٍ 
إذَا فصَى اَلَهُ ورسولك: أمرا أن يكن لحم ابره من مره 4( . 

وكانت المرأة العربية المسلمة تتمتع بحقوق الاستجارة وتجير من يستجير بها 
من أعداء المسلمين وتنقذهم من القتل كما حدث لأم (عمرو) في إحدى الوقائع 
واستجار بها اثنان من المشركين واعترض عليها أحد الصحابة» فذهبت إلى 
النبي يَكِهِ وقضّت عليه الخبر قائلة: «إن لي من الحقوق في استجارتهما كما لغيري 
من الرجال'. فقال يَكِْهّ: «أجَرْنا من أجرت يا أم عمروا. 

ألم ثَرَ معي أيها القارىء الكريم أن المرأة الغربية مهما توصّلت إليه من 
الحقوق لن تتمكن من أن تباري المسلمة فى مضمار الاستجارة. 

لقد أعطت الشريعة الإسلامية للمرأة المسلمة صلاحية حقّ الطلاق كما منحته 
(1) سورة النساءء الآية: 20. 


(2) سورة الأحزاب» الآية: 35. 
(3) سورة الأحزاب» الآية: 36. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 573 


للرجالء وخوّلتها أن تتصرف في أموالها ما تشاء وألرّمَت الزوج بالإنفاق عليها 
مهما عظمت ثروتهاء في الوقت الذي كانت فيه المرأة الفرنسية متقيّدة بما تملكه 
مل وضار ا رجياضي النادتنا كيين الفرة العشرين» هذه مجرّد لمحة من 
الحرية والحقوق التي كانت المرأة المسلمة تتمنّع بها وما كانت عليه من علم وثقافة 
وأدب وأخلاق ومن تربية عالية تبعث فيها حياة العزة والكرامة» وهذا يتنافى وما 
ذهب إليه البعض من أن التعاليم الإسلامية تقفُ في سبيل تثقيف المرأة وتربيتها 
وتحدٌ من حريتها وتحرمها حقوقها. أَضِفْ إلى ذلك غيرة الرجال الشديدة وتسلطهع 
القاسي الأليم على النساء. وقد يتساءل المرء عن سبب هذا التدهور السريع 
والتقهقر المريع الذي تعانيه المرأة المسلمة الآن والتقصير في نيل كثير من الحقوق 
والإحجام عن تلقّي العلوم والمعرفة على عكس ما كانت عليه المرأة في فجر 
الإسلام. 

فالجواب عن هذا السؤال ليس بالعسيرء فإنَّ أول امراة منحتها الشريعة 
الإسلامية حقوقها وحرّيتها هي المرأة العربية» ثم أعظث مثلها لغيرها من نساء 
الأمم الأخرى الداخلة في الإسلام» فلمًا ضعف أمر العرب وانطفأ نبراسهم 
وأسيِدّت الخلافة إلى غيرهم وتولّت أمور المسلمين أممٌ أعجمية حوّرت الأحكام 
وعبئت بنصوص الشرائع وعملت على إذلال العرب وخضوعهم لسلطانها نشأ عن 
ذلك فتورٌ في الهمّم وتثبيت في العزائم وانحلال في الأخلاق» مما أضعّف شأن 
المرأة. وليس بالعجيب أنها سَّلِبَت حقوقها فمَئِعت من مناهل العلم وجيل بينها 
وبين مصادر الضوء ومنابع المعرفة وبدأت مرحلة الاضمحلال» وأصبح الجهل 
يحتل فيها كلّ موقع كان بالأمس يتلذلاً منه نور العلم. عندك هذا في أراحر القن 
التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الذي بدأت أنواره تضيء فتكشف الظلام القاتم 
والتي عاشت في دياجيره زمنًا طويلًا لا ترى فيه بريقًا خافثًا من أنوار الحرية التي 
منحتها لها الشريعة الإسلامية» ولتزيل من طريقها العقبات التي وقفت في سبيل 
ثقافتها وازدهارها ومضيّها في طلب العلم والمعرفة» فتُعيد إليها سيرتها الأولى في 
الثقافة والإرشاد فخطت الخطوة الأولى وستلحق بها أوطان العالم العربي فيحصل 
على حريته يومًا ما بعيدًا كان أو قريبًا. 


54 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


الزحاة” 


هي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمس التي بُنِيَ عليهاء وهي الركيزة 
العتيدة للدين الحنيف». لِمَّا تتركه من الأثر البليغ في تخفيف وطأة الفاقة» والحاجة 
لدى من قعدَ به الحظ عن سبيل العيش واكتساب الرزق. 
فرضها الله على ذوي اليسر ومقدارها ربع عُْسْر المال يؤديها الأغنياء في كل 
عام للفقراء والمساكين لتكون لهم عونًا على المضي في الحياة» وتستأصل من 
قلوبهم الحسد والحقد والضغينة. ولعظم منافعها وعلوٌ شأنها أتى على ذكرها القرآن 
م ون 
في القرآن الكريم قوله تعالى : لاحُذْ مِنْ موقم صَدَكَهَ تطْهَرهم وترككيم يب41 217 . 


فالزكاة إِذَا هي طهر وتزكية للنفس وصلة دائمة بين الأغنياء والفقراء» كما أن 
على ذوي اليسر ومّن لديهم فضيلة مال حقوقٌ وواجبات لجميع البشر على اختلاف 
عقائدهم» فالتعاليم الإسلامية بيّنة واضحة وظاهرة تنبىء بأنَّ الخَلق كلهم عيال الله 
وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله وأن الله مع العبد ما دام العبد في عون أخيه يهدينا إلى 
ذلك ثناء الله جلّت قدرته؛ وعظمت على الأبرار الذين أعمالهم خالصة لوجهه 
1 قال تعالى : #وَيْظِمُونَ الطّعَامَ عل حيو سكين ويا ورا * إِمَا طفق لوب أله 
ا ير مَك جر ولا شرا 22(4#. لقد قرن الإسلام اسم الأسير في هذه الآية وأسماء 
اليتامى والمساكين سواء كان الأسير يعتقد معتقد المسلمين أم لا يعتقد. لأن 
الإسلام لا فرق لديه للقيام بين الأعمال الخيّرة والإنسانية. 


(*) نشر هذا المقال في جريدة البيان عام 1938. 
(1) سورة التوبة» الآية 103. 
(2) سورة الإنسان. الآيتان: 8. 9 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 575 


والآيات السابقة أثبتت طريق المساواة والإخاء والعدالة وأحكمت الصلة بين 
الناس وبشَّرت بالمودة والشفقة والرحمة بينهم. 

وقد طرق أبوابها في زماننا هذا لتقرير قاعدة المساواة بين الأغنياء والفقراء 
فلم يهتدوا إلى سّنَّةَ عادلة فيها «ولو لمسوها في الإسلام لوجودها». 

ومن الغريب العجيب أن نرى هؤلاء القوم يبشّرونَ بها جماعة من المسلمين» 
كما قام غيرهم يدعونهم لاعتناق الشمولية والدكتاتورية والديمقراطية» وفاتهُم 
جميعًا أن هذه المذاهب والمبادىء القائم النزاع بين معتنقيها هي وفضائلها موجودة 
بالإسلام» فللإسلام عدالة قويمة محكمّة توجب على ذوي العسر حقوقًا وواجبات 
معينة تؤخذ من ذوي اليسر وتُعطى لذوي العسر والفاقة. 

وإن للإسلام شمولية لا غلوٌ في مبادئها الوطنية. 

وإن للإسلام سلطوية لا تستعبد الفرد ولا تخالف مَنْ لم يرّه أولي الأمر في 
الصالح العام وقال تعالى : طلَطِيئرا اله وَأيلِيمُوأ الول وول الي يتو234. 

والخليفة الأول للمسلمين أبو بكر الصديق ييه حين خالف مستشاريه في 
أمور خطيرة الشأن بقتاله للمرتدين عن الإسلام وامتناعهم عن أداء الزكاة» وفي 
تسيير الجيش الذي أمر رسول الله َك بتوجهه إلى ديار الشام وعقد لواءه لأسامة بن 
زيدء قائلًا: والله لن أفلّ جيشًا أمر رسول الله قبل وفاته بتوجيهه إلى ديار الشام» 
وقد أمَرَ كَل أن أكون وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح من أفراد هذا 
الجيش. ولمًا تولى أبو بكر بجانب أسامة عند مسير الجيش» وكان أسامة ممتطيًا 
صهوة جواده» فحاول أسامة الترجّل فأبى أبو بكر قائلًا: لا تفعل لا تفعل فلا 
يضرَّني أن أغبر قدمي في السير بجانب هذا الجيش» واستأذن أبو بكر قائد الجيش 
ا رك لقن عكر بن النقطائن بعانه فاذث لد 

وكان من معارضة عمر بن الخطاب للخليفة أبي بكر خوف عمر على الإسلام 
أن يعتريه الانكماش وأن يلحقه الضرر والخطر بعد انتقال رسول الله يَكِهِ للرفيق 
الأعلى. 


(1) سورة النساءء الآية 59. 


فأغلّظ أبو بكر القول على عمر بن الخطاب وَييّيناء وأمسك بتلابيبه وهزه هرًا 
عنيًا قائلًا: يا بن الخطاب شجاع في الجاهلية وجبان في الإسلام والله لو منعوني 
عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه. 

وكادف زكاة الأموال تحن من الأغتياءوتحطى المستعتين والمشساكين 
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم. 

وكان تسيير جيش أسامة بن زيد لديار الإسلام في الصالح العام - لقد قال 
أعداء الإسلام لو لم يكن في الإسلام من قوّة لما سَيِّر مثل هذا الجيش. 

وكان أبو بكر يأخذ برأي عمر بن الخطاب وبرأي الصحابة ومّن هم دونهم 
فكان بعمله هذا ديمقراطيًا من الطراز الأول. 

وللإسلام ديمقراطية حقيقية حافظة لحقوق الأفراد والجماعاتء إِنَّ أقواكم 
عندي الضعيف حتى آخذ له الحق» وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه 
الحق» قال ذلك أبو بكر الصديق لما وُلَّي الخلافة وعندما ألقِيّت مقاليد الحكم 
لعمر بن الخطاب بعد وفاة أبي بكر تسنّم محراب المسجد قائلا: من رأى فيّ 
اعوجاجًا فليقرّمه. فنهض أحد الأعراب من صفوف المسلمين واستل ٠‏ نه قائلا : 
يا بن الخطاب. لو نرى فيك اعوجاجًا لقرّمناه بسيوفنا هذه وهر سيفه بيده. 

لم يغضب عمر بن الخطاب لمقالة الأعرابي» ولم تأخذه العزَّة بالإثم عندما 
شَهَرَ الأعرابي حسامه وهرَّه بيده. بل حمد الله الذي أوجّد في الإسلام مَن يقوّم 
اعوجاج عمر بن الخطاب. فهل للديمقراطية مهما تسامّت وعّلا شأنها أن تذعن 
للأفراد واحتجاجهم في مجتمع كبير كالديمقراطية الإسلامية» ومن المخاطب عمر 
ابن الخطاب الخليفة الثاني للمسلمين وشخصية ممتازة في الإسلام. 

والإسلام الذي منح هذه الديمقراطية للأفراد نجده من جهة ثانية قد قيّد الحرية 
الفردية إذا لم تقيِّد بالمصلحة العامة» يهدينا لذلك حديث الرسول محمد كَكِةِ الذي 
مثّل فيه الحرية الفردية ما لم تضِر بالمصلحة العامة أروع تمثيل» قائلًا: قوم ركبوا 
سفينة في البحر فاقتسموا فصار لكل واحد منهم موضع» فنقر رجلّ منهم موضعه 
بفأس فقيل له ما تصنع» قال: هو مكاني أصنع فيه ما أشاء فإن أخذوا على يديه 
تجن وتعوا وإن تركوه هلاق فهلكوا: 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 577 


فيؤخذ مما أسلفنا أن الإسلام وإن كان يجنح للمبادىء الديمقراطية ويفضّلها 
على غيرها من النظم والشرائع القائمة وإنه أول من أسّس قواعدها الحقيقية وعرفها 
للتاريخ» ولا أقول منكرًا إن النظم والتعاليم القانونية القائمة اليوم تكاد تكون 
مأخوذة من التعاليم الإسلامية لما بها من قواعد الشورى وحرية الفكر والعمل» غير 
أن الإسلام لم يقيِّد متبعيه بنوع من الحكم, بل قامّ على نظام قوي من الشريعة 
الإسلامية فكَمَّل له المناعة والبقاء. فهذا هو الإسلام بِمُثّله العليا بمبادئه السامية 
بأحكامه المرنة العادلة ديمقراطية حقيقية متّبعة اشتراكية قويمة صلبة لا غموض 
فيهاء ودكتاتورية تمشي والصالح العام» وشمولية لا غلوٌ في مبادئها الوطنية. 

وهذه المبادىء والنْظم الأربعة التي قرّرت قواعدها شعوب العالم» وانّخذ كل 
شعب من الشعوب واحدة منها وفاتّهُم جميعًا أنّ هذه الثظم موجودة بفضائلها في 
الإسلام؛ فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا . 

فيا أيها المسلمون إِنَّ من كمال إسلامكم أن تؤدّوا زكاة أموالكم فإنها من 
محاسن دينكم ولتكن من خالص أموالكم وأطيبه كسبًا. وفقني الله وإياكم لما يحبّه 
ويرضاه وإنه أكرم مسؤول. 


518 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


على هامش الحوادث 


نعم على هامش الحوادث. وليست هي حوادث الحروب والمعارك والدمار 
والخراب والقتال والصراع القائم اليوم في أقطار الأرض وفي هذا العصر الذي 
نسمّيه عصر النور والمدنيّة» لقد مُجََّت الأذواق ومَلت الآذان وسئمت النفوس ما 
تفاجئها به الحرب وويلاتها من الأنباء وما تتركه وراءها من آثار تنبىء عن مبلغ 
البربرية البشرية وإفسادها وعبثها في ربوع الأرض ومحاولتها فك معالم العلم 
والعرفان وزلزلة أطواره مما وصلت إليه من الانحطاط الخلقي مما لم يحدّثنا 
التاريخ عنه بالعصور الغابرة - وإنما حديثي يتناول الإصلاح والسلام السائد في 
ناحية من نواحي الأرض - وهو الشرق الأدنى. وما هو الشرق ومن هم أهله غير 
العرب والإسلام الذين ما زال التاريخ يدوّن لهم في كل يوم يمرّ مكرمة وعدلَا 
وإنسانية . 

بالآفين بلك إلينا سرسات [الأثيل خيرًا كرك أله أوكار فلوك أبقاء ا لامة 
العربية سرورًا وفرحًاء وطفحت وجوههم بشرًا وأمئّاء وارتفعت به رؤوسهم عرًا 
وفخرًا والخبر هو زيارة ملوك العرب وأمراؤها بيت المقدس ليقرروا السلام فيما 
بينهم ويتداولوا البحث بمصيرهم» ثم شُدوا رحالهم لدار الكنانة لتقديم احتراماتهم 
لجلالة ملكها فاروق الأول ليشاركهم في مهمَّتهم التي كرّسوا أنفسهم لتحقيقها وهي 
خدمة العرب والإسلام. ها هم ملوك ورؤساء العرب يتناسون ما بينهم من منازعات 
ومنافسات ويلتقون في بيت المقدس . 

إذا احتربت يومًا وفاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها 

وليست هذه بأول ظاهرة شريفة من ظواهر الاتّحاد الذي لاح أفقه في سماء 
المنطقة العربية - فقد سبقتها ظاهرات أخرى منذ أربعة عشر عامًا وذلك باجتماع 
الملكين المغفور له فيصل الأول وعبد العزيز في الخليج العربي ثم عقبها معاهدات 
بين قطريهما بقيت محترمة ومأخودًا بهاء لم يُعبّثْ بنصوصها ولم تكتّبها أيدٍ 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 5/9 


مستعمرة لتحنث بمدلولها ولكنها كُتِبت بأُيدٍ عربية كريمة وأملتها نفوس شريفة لم 
تعرف إلا الخير والوفاء بالوعود. 

ثم عقب هذه المعاهدة الحلف الثلاثي اليماني والعراقي والسعودي فوفود 
البلاد العربية للندن للبحث في شؤون قطر من أقطارهم وهو فلسطين. واليوم يشرق 
بدر هذه الزيارة المباركة في ربوعهم. كل هذا شاهد على توحيد صفوف العرب 
والإخوان يناصر بعضهم بعضًا. 

«ليس من الحكمة إغضاب الملك عبد العزيز أقوى ملك عربي في الجزيرة 
العربية ومناصبته العداء» كما قال الوزير المفرّض العراقي علي جودة بك الأيوبي 
لمراسل صحف العاصمة واشنطن عندما سألوه رأيه بإنشاء الجيش الصهيوني في 
فلسطين وأردف قائلا: «وهو صاحب الصوت القوي الذي يهرّ القسم الأكبر من 
العالم العربي لمكانته ونفوذه بينهم وبكلمة منه يوجّههم إلى أي ناحية يريدها». 

فهذا الملك الجليل القَذْر المشرف على الستين عامًا من عمره يقطع آلاف 
الأميال ويجتاز صحراء واسعة وجبالًا ووهادًا فيصل القدس 0 
الأقصى تحيّة الحرمين مكة والمدينة. ثم يذهب العاهل السعودي الكبير مع 
العراق لزيارة مصر ومقابلة فاروق. بطل السعودية وموحٌدها وملك ا وفيصل 
العراق يتعارفون ويتباحثون في الإصلاح والتهذيب ثم ينقَضُون وفي نفس كل منهم 
محبة وولاء وإخلاص. إنها لذكرى قيّمة ستبقى في النفوس إلى حين. 

كراوايان العرب في مقدّمة أمم الأرض حبًّا للسلام وحسمًا للنزاع يَعترف 
بذلك كل من تَتَبّع آثارهم وقد برهنوا على هذا الحب من قبل ومن بعد ولا يزالون 
وقد كان آخر برهان لهم هو موقف ابن سعود والإمام يحيى منذ بضع سنين فقد 
أنهيا مشاكلهما بصورة لم تسبق لأيّ أمّة من قبلهم . 

وقد أطنبت صحف العالم على روح المسامحة التي سادت الموقف وجرت 
في بنود معاهدتهما فقد قالت هذه الصحف: لو أن مشاكل الأمم الأوروبية حسمت 
بالصورة التي حسمت بها مجاكل الوماقين اليماني والسعودي وتمشَّت فيها روح 
الإنسانية والمكرّمات التي تمشت 3 تمشت في معاهدتهما كناد السلام في الأرض. ولكن 


5660 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


أنى للأمم الغاشمة المستعمرة التنازل الذي ظهر من جانب ابن سعود نحو أخيه 
الملك يحيى حميد الدين. 

إن المنازعات التي حدثت في الماضي بين ملوك العرب وأمرائها كان يضرم 
نارها أمم أوروبية مستعيرّة ويرسلون وراءها أقوالًا لهم يظهر في تعبيراتها النُصح 
والإخلاص وفي مضمونها الشرٌ والفسادء ليشغلوا العرب بأنفسهم ويلهوهم عن 
النظر في إصلاح حالهم. فانخدعت العرب في الماضي بأقوالهم المعسولة وتحمّقوا 
بعد ذلك عن نواياهم الضارّة. فالعرب اليوم حذرون يقظون يجنحون للاتحاد 
ويحقّقون السلام الدائم لهم. وسيكون لزيارة ملوك العرب بعضهم بعضًا وعَقّْدِهم 
مؤتمرهم أثرٌ بليغ ومفعوله للبعيد ليس من الوطن العربي وإنما في العالم الإسلامي 
كله أعجميّه وعربيّه» فمسلمو القارات الخمس يتطلعون باهتمام زائد ويراقبون عن 
كثب أعمال الأمم العربية المستقلّة وهم شغوفون ليروها عاملة في جمع صفوفها 
وتوحيد آرائها في هذه الأيام العصيبة وستغيّر هذه الزيارة مجرى أمورهم السياسية 
وتناول مختلف نواحي حياتهم العامة وتجعل منهم أمّةَ محترمة الجانب لها مكانتها 
في العالم. 

إِنْ موقف الأمة الإسلامية من هذه المشادّة الدولية الحاضرة هو من أشرف 
المواقف وأحسنها فإنها حتى الآن لم يَبْذٌ منها ميل ظاهر وعمل إيجابيَ لأي فريق 
من المتحاربين لحبّها للسلام ولعلمها بأن هذه الحرب ليست حربها وإن كان بعض 
أوطانها أضحت مسرحًا للدول المتقاتلة وهم يحتملون ضرباته بصبرٍ وتجمّل . 

فلذا ينّضح لنا أهمية شأن العرب والإسلام في هذه الحرب. وإِنَّ من ينجح 
باستمالتهم إليه من الأمم المتحاربة فإنه لا محالة سيّحرز النصر عاجلًا أم آجلاء إذ 
إن ثلاثمائة مليون عربي ومسلم لهم أوطانهم التي لها جغرافيتها الممتازة ورجالها 
الأشدّاء إذا وُضِعُوا في ميزان دول الحلفاء فإنه لا محالة سترجّح كمة من يكونون 
يجانبه . 

وهذا أمر يتوقف على المقدرة لفهم العرب والإسلام وإدراك غاياتهم 
ومقاصدهم التي تدعو للحرية والعدالة والمساواة. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 551 


لسر لله ليحن حص 


ويل لغمثوأ سك لله لم وََسُولم وَالُؤيئون 014 (2) 

لا بد لكل أمة مهما عَظْمَ شأنها وعَلّت مكانتها من قائدٍ يرعاها ويقودها في 
الطريق الأقوم ومن حسن حظ الشعب المؤمن في الديار المقدّسة أنْ منحه الله 
تعالى قائدًا مؤمئًا عبقريًا ورث المجد كابرًا عن كابر. 

لقد هيّأ الله تعالى من قبل للديار المقدسة المغفور له الملك عبد العزيز فوحَحد 
شعبهاء ووطّد الأمن والسلام فيهاء وأرسى دولتها الحديثة وجاء من بعده أولاده 
يكملون ما شرع بهء ويسيرون على المنهج الذي رسمه لهم وهم: الملك سعود. 
وفيصل» وخالد غفر الله لهم وأثابهم على أعمالهم التي مارسوها في سبيل نصرة 
العرب وعِرَّ الإسلام واتّباعهم للشريعة الإسلامية وجعلها دستورًا لهم يسيّرون أمور 
دولتهم» ويمشون على ما جاءت به الشريعة السمحاء من عدل وإنصاف. 

إذااسيدمنا خلا قام سيد قؤولما قال الكرامفعول 

يقود المسيرة الآن خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز بن عبدالرحمن 
آل شعودة وولي عهد مَوْنّمَن على المصالح متكاتف مع أخيه يعاضِده ويعاونه في 
جميع المجالات هو: صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبد العزيز النائب 
الأول لرئيس مجلس الوزراء» رئيس الحرس الوطني» والنائب الثاني لرئيس مجلس 
الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران 
والمفتش العام. 


(1) سورة التوبة» الآية: 105. 
)2( مقال كتبه المؤلف عن التنمية في المملكة. 


562 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


إِنَّ من حسن طالع الشعب السعودي أنْ مَنَّ الله عليه بملك كريم من أبنائه 
وبولي عهد أمين؛ ملك متميّز بين الملوك» بذ أقرانه بإيمانه وأصالته وشمائله 
وخصاله وأعماله. وولي عهد مؤتمن على المصالح متكاتف مع أخيه يعضده 
ويعاونه في جميع المجالاات. 

الملك فهد سليل الأمجاد يرى في نفسه فردًا من أفراد شعبه» وواحدًا بين أمة 
متماسكة» وواحدًا أوقف وقته ونفسه وكل طاقاته على رعاية شعبه والرقي بالإسلام 
والمسلمين جهادًا في سبيل الله» وابتغاء مرضاته. 

فيه اجتمع الإيمان والإخلاص والشهامة والإباء» لذلك تراه وتراهم ليُني 
الجانب» متواضعين بين المؤمنين» فيهم عزّة الإسلام» وشهامة الإيمان» والسماحة 
بلا حدودء لم يقصدهم قاصد إلا لبُوهء ولم يسنَغْثُ بهم مستغيث إلا أغاثوه. 
يتجاوز ويتجاوزون عن الأخطاء» ويغفرون الزلات». يأخذ ويأخذون بيد الضعفاء 
جريًا على سُنَّةَ والدهم غفر الله له وأسكنه فسيح جناته. لذلك استحوذوا على 
القلوب» ولهّجَت بحبّه وحبهم النفوس. 

لقد حباه الله بقسط وافر من الرجولة والشجاعة والإقدام والحكمة والتدبّرء 
ومرَّجَ هذا كله بإيمان راسخ وإخلاص كله صفاءء لذلك كان رجل الساعات 
الحرجة» أمسك بكل حزم بمقاليد الأمور وحافظ على الأمن والاستقرار في الديار 
المقدّسة» وأعلن وولي عهده وإخوانه الحرب بلا هوادة على البدّع والضلالات ولم 
يهادنوا أعداء الإسلام» والخارجين عن سُنّةَ النبي المصطفى وَلِةِ ولم تأخذهم قط 
في الله لومة لائمء همهم إرضاء الله والحفاظ على الشريعة الإسلامية القويمة. 

من هنا جاءت مواقف خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين الشجاع 
ضدَّ الذين سعوا في الأرض فسادًا وأرادوا انتهاك الحرمات وتمزيق صفوف 
المسلمين» فهُما في المسائل التي تتعلق بالعقيدة لا يساومان ولا يراجعان ويثّتان 
مثلما تبت المؤمنون خلال تاريخ الإسلام المجيد. 

منذ أن تسلَّم الملك فهد زمام الأمور أوقف نفسه ووقته على رعاية شؤون 
البلاد والمسلمين» يعمل دون توقّف بكل يقظة وانتباه وتدبّر لا يكاد يمر يوم إلا 
ولخادم الحرمين الشريفين مأثرة تُذْكّر وعمل محمود فيه الثواب العظيم. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 563 


ولا يمكنني أن أعدّد هذه المآثر وتكفي الإشارة إلى تخفيف الأعباء عن 
الشعب. صرف الأموال الطائلة لرعاية الجامعة الإسلامية» الاهتمام الذي ما فوقه 
اهتمام بالجامعات والمدارس وشؤون التعليم ورعاية التراث الإسلامي وبناء 
الستققنات والمزافق العامة 

أما الجيش درع الوطن والمسلمين فقد أولاه كل العناية والرعاية يحرص على 
تدريب أفراده أفضل تدريب ويؤمّن له كل سلاح مفيد من كل مصدر من المصادر 
العالمية. 

لقد باتت المملكة تمتلك الآن بفضله أفضل الطرق في العالمء وأوسع 
المطاراض واحستها خدمة وتجيبةك زموالقء تلادنا أصتحت لا تحميى عددًا 
تقل أكيس السف 

في عهده الميمون دخلت البلاد عصر التصنيع والإنتاج» ولم تعد تعتمد على 
الاستيراد» إِنَّ بلادنا تنتج كفايتها من الحبوب وأنواع الخضروات وتصدّر كميات 
كبيرة من إنتاجها الصناعي والزراعي. 

وتتمتع بلادنا بسمعة عطرة في الداخل والخارج» فالأعمال التي تمّت بشأن 
توسيع الحرم المكّي وتأمين الراحة لضيوف الرحمن في الحرمين الشريفين لم يعرف 
تاريخ الإسلام لها مثيلاء وجميع أوساط العالم تتحدث عمًّا يبذله مع إخوانه في 
سبيل تحرير القدس الحرم الإسلامي الثالث. 

إنك حيثما ذهبت في طول ديار المسلمين وعرضها تجدٌ في كل بقعة مستشفى أو 
مدرسة أو معهدًا أن مسف ا أو. . . رَعَنّهِ المملكة العربية السعودية وترعاه 
وتعتني به بتوجيهات من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد وولي عهده الأمين. 

وفى البلاد غير المسلمة المساجد والمعاهد وشؤون الرعاية الشاملة فى سبيل 
الله بلا لوه تراه تحت عناية ورعاية خادم الحرمين الشريفين وولي غيك الاين 
وإخوانه الأمراء. 

وحدّث عن المساعدات للدول العربية ودول المواجهة ولعرب الأرض 
المحتلّة وللمقاومة العربية والإسلامية حدّث بلا حرج. 


5664 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


لقد أدرك خادم الحرمين الشريفين أن أنظار العالم قاطبة تتّجه نحو بلاده وأن 
المسلمين الذين يتوجهون في صلواتهم نحو بيت الله الحرام» يرنون بأبصارهم نحوه 
كخادم للحرمين» وأنهم يرجون منه بعد الله العون والرعاية فالمؤتّمَن على بيت الله 
مؤتَّمَن على النفوس والأبدان. انطلاقًا من هذا كله أدرك الملك فهد أنَّ دولته ينبغي 
أن تكون قوية الإدارة تتمتع بكفاءة مثالية» وأن هذه الدولة تحتاج إلى الأموال 
الطائلة للقيام بمسؤولياتها الإسلامية الجسام وبمشاريعها الإنسانية الخيّرة» لذلك 
اهتم بالاقتصاد الوطني اهتمامًا كبيرًا» وسعى سعيًا حثيئًا نحو إقامة توازن إداري 
ومالي واقتصادي. وبفضل ذلك باتت الإدارة الحكومية في أيْدِ أمينة وجيل نشأ في 
ظلّ رعاية الأسرة السعودية الكريمة» فامتاز بالإيمان والضمائر الحية والقدرة على 
ضبط الأمور وهكذا بنّنا نملك اقتصادًا قويّاء والريال السعودي الآن من أقوى 
العملات العالمية وأكثرها استقرارًا . 


يا خادم الحرمين الشريفين لقد رعيتم الأمن والاستقرار رعاكم الله ومدّ 
بعمركم» واعتنيتم بالحرمين الشريفين عناية ما فوقها عناية» أثابكم الله ووفقكم 
لمّرضاته ومنحكم العون منه» يا خادم الحرمين الشريفين أدخلتم الفرح والسرور 
بهباتكم السخيّة ومساعداتكم المتواصلة إلى قلوب الملايين من المسلمين وسواهم 
رعاكم الله وجعل أيامكم مشرقة بالفرح ومنحكم القوة والصحة. 

إنني قد دخلت العقد العاشر من عمري» باسم الملايين من المسلمين وبني 
البشر أتقدّم لكم بقرب حلول موسم الحج وعيد الأضحى المبارك بكلّ التهاني 
والتبريكات راجيا الله تعالى لكم ولولي عهدكم الأمين المزيد من التوفيق وأن 
يحفظكم وجميع إخوانكم الأمراء أبناء إمامنا المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود 
مؤسس هذا الكيان الكبيرء ثمرة جهاده المبرور لرفع شأن الأمة العربية ولعر 
الإسلام واسترجاع مجده وسؤدده. هذه التهنئة صادرة عن قلبي المفعم بحبّكم وهي 
مونّقة بخبرتي التي حصّلتها من خلال أعمالي في الديار المقدّسة والوطن العربي 
وبلدان العالم قاطبة. 


إلى اذ أن رغلن الم لنهضة التى تعيشها بلادنا في ظل قيادتكم أقول ا لحقيقة ولا 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 565 
أستهدف سوى تبيانهاء فقد شهدت حتى الآن كل لون من ألوان الحياة وبتٌ لا 
أتوخّى سوى ذكر الحقيقة والصدق. 
والحقيقة والصدق ينطقان أنَّ بلادنا تنعم في ظلّ حكم خادم الحرمين الشريفين 
وأخيه ولي عهده الأمين بعصرها الذهبي وبأروع فترات نهضتها . 
مدّ الله عمركم وجعل التوفيق حليفكم إنه أكرم مسؤول. 
خليل الرواف 


566 صفحات مطوية من تاريخنا العربى الحديث 


الملاحق 
نشرت ترجمة هذا البحث في مجلة ناوبن كورت التي تصدر بشيكاغو بأميركا. 
وقد رأى فيه الشيخ خليل الرواف خير صورة لقرّاء لغة الضادٌ عن الحياة 
الأدبية في جزيرة العرب ولا سيما أنَّ الذين بحثوا في الحركة الوهابية أهملوا في 
العقلية والأدبية وأنَّ الدكتور طه حسين قد عالّج كل هذا في بحنه الديق > الذي 
نتقدّم به إلى القرّاء - بتفكيره العميق وأسلوبه الرشيق. لذلك استأذنت حضرة 
الدكتور طه حسين في نشر هذا البحث فتفضل رحمه الله - بالإذن. 
وقد عهد الشيخ خليل الرواف إلى مكتبنا بالإشراف على طبعه ونشره فكان لنا 
بذلك من شرف الموضوع وشرف المؤلّف وشرف صاحب الفكرة ما نسجله في أول 
صفحة من صفحات هذه الرسالة. 
مكتب النشر العربي - دمشق 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 567 


الحياة الأدبية في جزيرة العرب 


تستطيع أن تنشر لبلاد العرب في هذه الأيام صورتين مختلفتين أشدَّ الاختلاف 
وكلتاهما مع ذلك صادقة صحيحة. فهي قسم من آسيا يسمى باسم واحد منذ عصور 
بعيدة جدًا ولكنه يتألف من أقطار وأقاليم تختلف في طبيعتها وتباين أحوالها 
الجغرافية والاجتماعية والسياسية والدينية أيضّاء فمنها الخصب الغني ومنها 
الجدب القاحل ومنها سكنه الحضر وخضعوا للأجنبي خضوعًا تامّاء ومنها بعد هذا 
كله من يذهبون في الدين مذهب أهل السّنة ويتشدّدون في المحافظة على عقائد 
السلف الصالح من المسلمين» ومّن يذهبون مذهب الشيعة معتدلا أو متشدّدّاء ومن 
يُقيم حياته الدينية على التصوّف» ومن يعيش عيشة المسلمين العاديين في البلاد 
الإسلامية الأخرىء ومّن جَهل الإسلام جهلًا تامّا وانغمس في نوع من البداوة هو 
أشبه شيء بصورة الشعر العربي القديم من حياة العرب الجاهليين الذين كانوا 
يعبدون الأوثان والأشجار قبل ظهور الإسلام. 

تجد هذا كله في بلاد العرب فلا تكاد تصدّق أنَّ لهذه البلاد وحدة ما إذ ليس 
من اليسير أن تتحدّث عنها وعن آدابها كما تتحدّث عن أي بلد آخر من بلاد الشرق 
العربي» فأنت تستطيع أن تتحدث عن مصر وعن سورية وعن تونس أو الجزائر 
فتصف حياتها الاجتماعية والسياسية والأدبية والدينية في غير مشقّة ولا صعوبة» 
لأن لكل بلد من هذه البلاد وحدته السياسية والجغرافية واللغوية. وهذه الوحدة 
تمكنك من أن تصِف كل بلد من هذه البلاد وصمًا مقاربًا إن لم يكن دقيقًا كل 
الدقة. أما بلاد العرب أو جزيرة العرب كما يسميها الجغرافيون فليس لها من هذه 
الوحدة حفظء. فما تقوله عن الحجاز لا يصدّق عن اليمن وما تقوله في أمر نجد لا 
يصلح بالقياس إلى تهامة» فليس هناك قطر واحد وإنما هناك أقطار وأقاليم. 


وهذه الصورة ال أصوّرها لك الآن من بلاد العرب قريبة كل القُرب من 


568 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


لعي التي تجدها لهذه البلاد في الشعر الجاهلي حين لم تكن هذه الأقاليم كلّها 

تتّفق إِلّا بالاسم» وحين كانت تختلف في اللغات واللهجات وفي النظم السياسية 
والاجتماعية والدينية باختلاف الأقاليم والأقطارء وحين لم يكن الجمل (وهو أداة 
المواصلاات الوحيدة) يستطيع أن يلغي ما بين هذه الأقاليم من الفروق. فهذه 
الأقاليم لا تزال اليوم كما كانت قبل الإسلام فلمْ تُلْعّ فيها المسافات ولم تقرّب 
بينها السكك الحديد ولم يؤثّر فيها تأثيرًا قويّا استعمال التلغراف على قلَّة استعماله 
ولا مرور السفن البخارية على سواحلها في البحر الأحمر أو بحر العرب أو الخليج 
العربي. فهي إذن على حالها القديم تكاد تكون معزولة عن العالم الخارجي لا يكاد 
يوححد اتصال وطيد بين أقاليمها الداخلية. ومن الغريب أن الوضع السياسي بعد 
الحرب الكبرى يشبه جدًّا وضعها السياسي ذ في القرن الخامس والسادس للميلاد قبل 
أن يظهر الإسلام فيويّق الصلة بينها وبين بلاه الشرق الأدنى والأوسط. 

كانت أطراف الجزيرة العربية في القرن الخامس والسادس للميلاد منّصلة 
بالدول الأجنبية المجاورة لها دكاتت أطرانها :من جيه الام 
البيزنطيين ونشأ عن هذا الاتصال أن تظحف علاقات سيابية نين كل من أمراء 
الغسانيين وقياصرة قسطنطينية أشبه بعلاقات الحماية في هذا العصر الحديث. وأي 
شيء الآن لأمراء شرقي الأردن؟ هي إمارة الغسانيين القدماء فيها مدن لها حظ 
ضثئيل من الحضارة وفيها بادية قوية غنية وعلى رأسها أمير غسانيّ قبل الإسلام وهو 
هاشمي الآن. وهذه الإمارة كانت خاضعة لحماية قسطنطينية قبل الإسلام وهي 
خاضعة الآن لحماية لندن. وأطراف الجزيرة من ناحية العراق كانت متصلة بالفرس 
تقوم فيها إمارة عربية يحميها أكاسرة الفرس وتحافظ هي على حدود الدولة 
الساسانية من غارة البدو. وهي الآن تقوم فيها مملكة عربية على رأسها لخمي كما 
كانت الحال من قبل» بل هاشمي. وليس يحميها الفرس وإنما يحميها الإنجليز. 
وبلاد اليمن وما يتصل بها من الأقاليم الجنوبية في الجزيرة كانت في القرن 
الخامس والسادس موضع النزاع بين الفرس والروم. وكانت تخضع للروم بواسطة 
الحبشة أو تخضع للفرس مباشرة أو تظفر باستقلال ضئيل يظل موضع النزاع بين 
أولئك وهؤلاء. وهي الآن كما كانت من قبل بعضها خاضع لسلطان الإنجليز 


3 3 


متصلة بدولة 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 569 


مباشرة على الساحل» وبعضها مستقل ولكنه موضع النزاع والتنافس بين القوة 
الإنجليزية والقوة اليمانية. 

تغيرت أسماء الدول الحامية لأطراف الجزيرة أو الطامعة فيها وتغيرت بعض 
الشيء أشكال الحماية والطمع لم يتغير» فالدول الأجنبية تحمي أطراف جزيرة 
العرب إما خوفًا من البدو وإما رغبة في بسط النفوذ التجاري وإما للأمرين جميعًاء 
وطريقة العرب أنفسهم في فهم العلاقة بينهم وبين الأجانب لم تتغير في القرن 
العشرين. فهي كما كانت في القرن الخامس والسادس تقوم على الحاجة إلى المال 
والخوف من القوة» فإنَ الأجانب المجاورين للجزيرة من كان منهم أشدّ قوة وأكثر 
مالاء فهو صاحب النفوذ عند هؤلاء الناس. 

أمَا قلب الجزيرة وداخلها فلم يتغير كذلك إلا قليلاء بادية مستقلة استقلالا 
تامّا تُظهر الخضوع والطاعة لأمراء الحضر رغبة أو رهبة أو خوفًا وطمعًا فليس 
هناك فرق بين إمام صنعاء ء في اليمن وبين ملك من ملوك حمير ف في العصر القديم له 
سلطته المركزية في الحضرء ولكن أصحاب البادية مستقلون لا يخضعون له إِلَا 
بمقدار ما يخافون أو يطمعون في عطائه ومثل هذا في نجد وتهامة والحجاز. 

هذه إحدى الصورتين اللتين أشرتٌ إليهما في أول هذا الفصلء أما الصورة 
الثانية فتمثّل بلاد العرب من حيث إنها وحدة متشابهة في بعض الوجوه؛ فالدين 
الرسمي لهذه البلاد هو الإسلام واللغة الرسمية لهذه البلاد هي لغة القرآن 
والحضارة الرسمية في هذه البلاد هي الحضارة الإسلامية القديمة. إذن فمّهما 
يختلف سكان الجزيرة العربية في موطنهم الجغرافي وفي نظامهم السياسي وفي 
مذهبهم الديني وفي علاقاتهم بالأجانب وفي لهجاتهم الخاصة فهم جميعًا مسلمون 
وهم جميعًا يكتبون لغة القرآن إذا كوا ويفكرون. وتععون غلن تحواها كان ايفكر 
ويعيش المسلم قبل أن تتوثق الصلة بينه وبين الأوروبيين والأميركيين. 

فمن هذه الناحية يستطيع الباحث عن الآداب في البلاد العربية أن يتحدّث 
عنها فى مقال واحد كأنه يتحدّث عن شعب واحد. على أنْ من الحق عليه أن 
يلاحظ الظروف الخاصة التي تحيط ببعض الأقاليم فتجعل في آدابه صفات ليست 
في غيرها من آداب الأقاليم الأخرى. ولكن الكلام عن الأدب في جزيرة العرب 


530 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


يحتاج إلى أن تُحَلَّ مسألة مشكلة قبل الشروع في ذلك. إِنَّ بلاد العرب هي مهد 
الأدب العربي القديم وفي شمالها ووسطها ظهر الشعر الجاهلي وفي الحجاز ظهر 
القرآن ومن الحجاز ونجد وتهامة انتشرت اللغة العربية وما كانت تحمل من أدب 
وأففق الي لاد“ اللقترق الأدنى همرت أكفرة وظلك اموظةا كلادب الخالض ظؤال 
القرن الأول للهجرة. فكبار الشعراء في العصر الأموي جميعًا من البادية أو من 
حواضر الحجاز ونجد. 


ومع أن العراق قد عظم شأنه جدًّا في العصر العباسي ونبّعٌ فيه جماعة من 
الشعراء منهم من أصله فارسي ومنهم من أصله من هذه الأخلاط السامية التي 
كانت تنتشر في العراق والجزيرة والشام - فقد ظل في البادية شعراء ممتازون كانوا 
يقدمون على الخلفاء والوزراء في بغداد إلى أواخر القرن الثالث للهجرة. ثم 
انقطعت الصلة الأدبية أو كادت تنقطع بين جزيرة العرب وبلاد الشرق العربي 
وعادت الجزيرة العربية إلى ما كانت فيه قبل الإسلام من عزلة تامة في الأدب 
وشديدة في السياسة وغيرها من مظاهر الحياة. فما سبب هذه العزلة التي نشأ عنها 
أن أصبحت هذه البلاد - التي كانت مصدر النور للشرق الإسلامي كله - موطن 
الجهل والظلمة؟ وأصبحت هذه البلاد - التي كانت مهد اللغة العربية والأدب 
العربي - أقل البلاد حظًا من الامتياز في الأدب واللغة والدين فضلًا عن العلوم 
الأخرى؟ 


ليس الجواب عن هذا السؤال عسيرًا فقد كانت الدولة الأموية عربية خالصة 
وكان خلفاء بني أمية ينظرون إلى الجزيرة العربية نظرًا خاضًا لأنها موطن 
الأرستقراطية الحاكمة من جهة ولأنها موطن الأمة التي يستمدٌ منها الجُند من جهة 
أرق قلنين غري إذا أن تكون الجزيرة العرية أشد بلاد الإسلام امتيازًا في ذلك 
الوقت كانت موطن الرؤوس المفكرة وموطن الأيدي العاملة بالجيش وعمال 
الدواوين. وقد أقصي العرب شيئًا فشيئًا عن الجيش والدواوين. 

ولم تكن بلاد العرب تشبه بالخصب والغنى بقية البلاد الإسلامية فأهملتها 
الدولة ويئست هي من الخلافة. ولم تكن المواصلات بينها وبين عاصمة الخلافة 
منظمة ولا سهلة». فليس عجيبًا أن تضعف العلاقة بينها وبين مركز الحكومة 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 501 


الاتبلانة رقا مقا عت التقلعته دا نقيلاعا عات :امت إلن للف أن تفي الفرق 
والترك على بغداد لم يكن من شأنه أن يحتفظ بالعلاقة بين جزيرة العرب نفسها 
ومواطن الحضارة الإسلامية وأن جزيرة العرب نفسها لم تكن من الغنى والثروة 
بحيث تستطيع أن تعيش لحسابها فتحتفظ بحظها من الحياة الأدبية الراقية ومن 
الحضارة التي لبت إليها أيام الأمويين. لهذا كله انسحبت الجزيرة - إِنْ صمَّ هذا 
التعبير - من الحياة الإسلامية العامة فأمّا باديتها فعادت إلى جاهليتها قليلا قليلا 
وأما حواضرها فقد احتفظت بشيء ضئيل تقليدي من الحضارة والأدب والعلم. 
ولولا أن البلاد المقدّسة في الجزيرة العربية وأن المسلمين يحجّون إلى مكة 
والمدينة في كل عام وأن لليمن أهمية خاصة في التجارة أثناء القرون الوسطىء 
لأهولت هن اللذه إعمالا ثانا ولكتبها قاريخ المسلمين: 

نشأت عن هذه العزلة آثار سيئة جدًّا في حياة الآداب واللغة العربية العامة وفي 
حياة اللغة والآداب في جزيرة العرب نفسها بنوع خاصء فقد كان اتصال العالم 
الإسلامي بجزيرة العرب في القرون الأولى للتاريخ الإسلامي يبعث في الآداب 
العربية في العراق والشام ومصر روحًا من البداوة وحياة الصحراء يمنحها شيئًا من 
القوة والجزالة في الألفاظ والأساليب والمعاني أحيانا. فلمًا انقطعت هذه الصلة 
أمعن الأدب العربي في الحضارة والترف وفقد روحه العربي الخالص شيئًا فشيئًا 
حتى استحال آخر الأمر إلى جسم لا تكاد تمشي فيه روح الحياة» فَسّدَت ألفاظه 
فكَثْرَت فيها العجمة وفسدت معانيه لإسراف الشعراء والكتّاب في التدقيق وفسدت 
أساليبه فظهرت فيها الركاكة والغموض. 

وكانت جزيرة العرب في تلك القرون الأولى تستفيد من هذا الاتصال فكان 
وفود الأعراب إلى حواضر العراق والشام ووفود أهل الحضر إلى مدن الحجاز 
ونجد يثير في نفوس الأعراب معاني ما كانت لتثور في نفوسهم لو ظلّوا في عزلتهم 
الأولى. ويكفي أن يلاحظ أنَّ الغزل الحجازي - وهو أجمل ما قيل في الإسلام 
من الغزل - إنما هو نتيجة لتبادل الصّلات بين جزيرة العرب وحواضر العراق 
والشام ومصر. على أن العلم نفسه قد خسر بهذه العزلة خسارة لا سبيل إلى 
تعويضها بحال من الأحوال» فمن المحقّق أن أعراب الحجاز لم ينصرفوا عن 


الإنتاج الأدبى بمجرّد أن انقطعت الصلة بينهم وبين مراكز الحضارة الإسلامية فكان 
فيهم الشعراء والخطباء والقصاص والرواة» ولكن شعرهم وقصصهم وآثارهم 
الأدبية بوجه عام لم تكن تُنقل إلى مدارس البصرة والكوفة» وبغداد وتدرس فيها 
كما كانت الحال في القرون الأولى ولم تكن تدوّن في البادية وإنما كانت تحفظها 
الذاكرة عشرات السنين ثم يذهب بها صوت الرواق والحفاظ وتندثر في الصحراء 
كما تندثر الرمال بتأثير الرياح . 


وعلى هذا أخذت اللغة العربية وآدابها في الجزيرة تتغير وينالها التطور من 
حين إلى حين دون أن يدوّن هذا التطور أو يُسجََلء وأصبح من المستحيل الآن أن 
نعرف الصلة الحقيقية بين اللهجات العربية في الجزيرة الآن وبين اللهجات التي 
كانت فيها أثناء القرون الثلاثة الأولى. على أن العلاقات لم تنقطع بين بلاد العرب 
وبين البلاد الإسلامية الأخرى من كل وجهء فقد كان المسلمون يحجّون في كل 
سنة كما قدمتء. وكان مركز اليمن التجاري يهم بلاد البحر الأبيض المتوسط 
دائمّاء ولذلك لم تكد تفسد العلاقة بين الجزيرة وبغداد حتى قامت مقامها علاقات 
أخرى بين الجزيرة والقاهرة وحرصت القاهرة منذ أيام الفاطميين على أن يكون 
نفوذها عظيمًا جدًّا في الحجاز واليمن بنوع خاصء ولكن هذه العلاقات كانت 
سياسية دينية أكثر مما كانت أدبية علمية والذين يريدون أن يتتبعوا تاريخ الأدب 
العربي داخل الجزيرة يستطيعون أن يظفروا بشيء من ذلك في مدن الحجاز واليمن» 
وذلك بفضل هذه العلاقة بين القطرين وبين مصر وبفضل المكانة الدينية لمكة 
والمدينة» أمّا نجد فإن حياتها الأدبية قد ضاعت ضياعًا تامًّا إلى أواخر القرن 
الثامن عشر تقريبًا . 


وعلى كل حال فإن في جزيرة العرب أدبين مختلفين أحدهما شعبي ينَّحذْ لغة 
الشعب أداة للتعبير لا في جزيرة العرب وحدهاء بل في البوادي العربية كلها في 
الشام ومصر وأفريقيا الشمالية» وهذا الأدب - وإن فَسّدَت لغته - حي قوي له 
قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب في باديتهم» وهو في 
موضوعاته ومعانيه وأساليبه يشبه كل الشَّبّه الأدب العربي القديم الذي كان ينشأ في 
العصر الجاهلي وفي القرون الأولى للتاريخ الإسلامي ذلك لأن حياة العرب في 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 3ظ5 


البادية لم تتغيّر بحال من الأحوال» فحياة القبيلة الاجتماعية والسياسية والمادية 
الآن كما كانت منذ ثلاثة عشر قرنًا. فطبيعي إِذَا أن يكون الشعر المصوّر لهذه 
الحياة كالشعر الذي يصور الحياة القديمة وأن يكون موضوعه ما يقع بين القبائل من 
حروب ومخاصمات تدعو إلى الفخر والمدح والهجاء والرثاء وما يثور في نفس 
الأفراد من أنواع الآلام واللذات التي تدعو إلى الغناء بالشكوى حيئًا والحب حيئًا 
آخر والعتاب مرة ثالثة. والقصيدة العربية الشعبية الآن كالقصيدة العربية القديمة تبدأ 
بالغزل القليل البسيط المؤثّر ثم تنتقل إلى الإبل والصحراء فتُطيل في ذلك ثم تصل 
إلى غرضها من مدح أو فخر أو غيرهما من فنون الشعر. ومثل ذلك يقال في 
الخطابة» فالبدوي الآن فصيح كالبدوي القديم حلو الحديث محبّ للسمر 
والقصص إذا اطمأن واستراح» خطيب بليغ إذا كان بينه وبين غيره خصومة أو 
جدال. وهذا الأدب العربي الشعبي يرويه في البادية جماعة من الرواة يتوارثونه عن 
آبائهم ويورثونه لأبنائهم ويكسبون بروايته حياتهم المادية ومكانتهم الممتازة أحيانًا . 
ولسوء الحظ لا يُعنّى العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما لأن 
لغته بعيدة عن لغة القرآن وأدباء المسلمين لم يستطيعوا بعد أن ينظروا إلى الأدب 
على أنه غاية تطلب لنفسها وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين. 

أما الأدب الآخر هو أدب تقليدي لا يكاد يوجد في البادية وإنما مركزه 
الحواضر عادة وهو أدب قد اتَّحذْ له القرآن أداة للتعبير» وإذا كان الأدب الشعبي 
مصورًا للحياة العربية تصويرًا صادقًا ممتارّاء فإن الأديب التقليدي بعيد كل البعد 
عن هذا التصوير. ذلك لأنه متكلّف مصنوع لا صلة بينه وبين الطبيعة الحرة» فهو 
ما يحسّه الشعراء وآلكتات وإنما يمثل ما يزيد الشعراء الكناب أن يضعوة فيه حظ 
النفاق فيه أكثر من حظ ما هو تقليدي لا يصدر فيه أصحابه عن أنفسهم وإنما 
يقلدون فيه أهل الحضر من المصريين والسوريين والعراقيين. كذلك كان أدباء 
المدن في الجزيرة العربية طول القرون الوسطى وكذلك هم الآن. ونستطيع أن 
نؤكد أن أهل الحجاز يستمدّون أدبهم التقليدي من مصر والشام بنوع خاص وقد 
يتأنّرونَ بغير المصريين والسوريين من الذين يَفِدون عليهم للحج. ولكن كتبهم الذين 
يدرسونها في مكة والمدينة من الكتب التي يدرسها المصريون في الأزهر وشعرهم 


564 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


الذين يقرأونه أو يحفظونه هو الشعر الذي يُقرأ ويُدّرس في مصر والشامء فهم إن 
أرادوا أن يكتبوا في الغلوم الذي افلدوا الحصريين كما انوكم يتلدونيع :في الدزوس 
وهم إن أزاة115ق تكتوانالفسن نلدوا المسريو والسووسة. 

أما أهل اليمن فليس تأثْرهم بمصر أقل من تأثر الحجازيين» وإن كان لهم 
مذهبهم الديني الخاص بهم على كل حال يذهبون مذهب المصريين في درس 
العلوم الدينية واللغوية هم تلاميذ الأزهر يفدون عليه فيتعلّمون ثم يعيدون على 
بلادهم فيعلّْمون. والغريب أنهم لا يزالون يدرسون العلوم الرياضية على نحو ما 
كانت تُدرّس في الأزهر قبل أن يمسّه التجديد في أوائل هذا القرنء فالفلك 
والحساب والمساحة والهندسة والطبيعة كل ذلك يدرس هناك كما كان يدرس في 
الأزهر وغيره من المعاهد الإسلامية قبل أن تتأثر بالحضارة الأوروبية الحديثة 
ولليمن شعر ولكنه تحني كتر الكاد وياد اصع باد عت المسرين قل 
أن يرتقي الشعر المصري. وأنت تكلّف نفسك مشقّة شديدة إن أردت أن تلتمس في 
اليمن أو في الحجاز شعرًا له قيمة فنية حقيقية إنما هو ألفاظ مرصوصة يكثر فيها 
البديع وتدور حول معانٍ نافعة. وما رأيت في أربعة أو خمسة من الشعراء يضيعون 
وقتهم في صنعاء في نظم القصائد الطويلة الركيكة حول هذا المعنى؛ أي الأمرين 
خيرء قرب الروح من الروح أم قُرب الجسد من الجسد. 

وقل مثل هذا في مدح الحجازيين واليمانيين ورثائهم وهجائهم وغزلهم كلام 
لا طائل تحته ولا غناء» فيه صورة صحيحة لما كان يُقال في مصر والشام قبل 

أما قترقي ايلاد الفوكية ونا زرك بالعراق اعت مو جائره اوس الجا ففي 
بعض القرى في أطراف الجزيرة ممّا يلي العراق شعراء وأيضًا علماء في اللغة 
والدين وهم تلاميذ العلماء والشعراء الذين يظهرون في بغداد والبصرة. ولم يكن 
أهل العراق أحسن حالَا من السوريين والمصريين أيام السلطان التركي فليس غرييبًا 
أن يكون تلاميذهم في أطراف الجزيرة العربية وفي نجد مقلدين متكلفين. 

وإنه لما يُضحك أن تقرأ طائفة من الشعراء رواها الألوسي لجماعة من شعراء 
نجد يصفون بها عينًا ينبع منها الماء الحار هناك ويختلف الناس إليها للاستشفاء. 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 585 


لا تجد في ذلك الكلام المنظوم فنا ولا شعرًا بالجمال ولا تصويرًا له ولا شيئًا 
يبعث في نفسك اللذة الفنية وإنما هي ألفاظ سقيمة ثقيلة قد زادها النظم السيىء 
فسادًا ورداءة. 

هذه كانت حال الأدب في بلاد العرب إلى وقت قريب جدَّاء إلى ما بعد 
الحرب الكبرى: تقليدٌ شديد عقيم للمصريين والسوريين والعراقيين في علوم الدين 
واللغة وفي الأدب. 

ولكن حركة التجدّد العلمي والأدبي ظهرت في مصر والشام والعراق منذ 
القرن الماضي واشتدت جدًا في هذا القرن لا سيما بعد الحرب بفضل هذا 
الاختلاط العنيف الذي يزداد كل يوم بين الشرق والغرب» فتأثر كل شيء بحركة 
التجديد هذه في الشرق حتى الأزهر نفسه. ولم يكن بد من أن يصل أثر هذه 
الحركة إلى بلاد العرب لأن الحرب الكبرى هرَّتها كما هزَّت غيرها من البلاد» 
ولآنها .العتلت بالا وروييق اتفالا اشوا نديد بعد الحرت ولأ الفلاقات كرت 
جدًا بينها وبين الشرق العربي. وكما أنها كانت تقلّد هذه البلاد فيما كان عندها من 
أدب القرون الوسطى فلا بد من تقليدها في أدبها الحديث. 

على أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن 
يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر فلفتت إليها العالم الحديث في 
الشرق والغرب واضطرّته أن يهتم بأمرها وأحدثت فيها آثارًا خطيرة هان شأنها 
بعض الشيء ولكنه عاد فاشتدٌ في هذه الأيام وأخذ يؤثّر لا في الجزيرة وحدهاء بل 
في علاقاتها بالأمم الأوروبية أيضًا. هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها 
محمد بن عبد الواهب شيخ من شيوخ نجد. 

نشأ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم وفقه وقضاءء تثقّف على يد أبيه ثم 
رحل إلى العراق فسمع من علماء البصرة وفقهائها آراءه الجديدة القديمة معّاء 
فسخط عليه الناس وأخرج من البصرة» وكان يريد أن يذهب إلى الشام فحالّ الفقر 
بينه وبين ذلك فعاد إلى نجد وأقام مع أبيه حيئًا يُناظر ويدعو إلى آرائه حتى ظهر 
أمره وانتشر مذهبه. 


وانقسم الناس فيه قسمين: فكان له الأنصار وكان له الخصومء وتعرّضت 


506 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


حياته آخر الأمر للخطرء فأخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر ليجيروه 
ويحموا دعوته حتى انتهى به الأمر إلى قرية الدرعية» وهناك عرض نفسه على 
أميرها محمد بن سعود فأجاره وبايعه على المعونة والنصرة. ومن ذلك اليوم أصبح 
المذهب الجديد مذهبًا رسميًًا يعتمد على قوة سياسية تحميه» بل تنشره في أقطار 
نجد بالدعوة الليّنة حيئًا وبالسيف والحرب في أكثر الأحيان. وعند هذا التحالف 
بين الدين والسياسة نشأت في الجزيرة العربية دولة سياسية عظم أمرها واشتدّ 
خطرها حتى أشفق منها الترك أشدّ الإشفاق» فقاوموها ما وسعتهم المقاومة» فلما 
لم يفلحوا استعانوا بالمصريين وكان أمرهم إذ ذاك إلى محمد علي الكبير» فنجح 
المصريون في إضعاف هذه الحركة وإزالة هذه الدولة الجديدة ورد أمرائها إلى ما 
كانوا عليه قبل ذلك من التواضع. فلا بد من وقفة قصيرة عند هذه الحركة التجديدية 
لنعرف ما هي وما مبلغ تأثيرها في الحياة العقلية العربية في هذا العصر الحديث. 

قلت إن هذه الحركة التجديدية قديمة معًا. والواقع أنها جديدة بالنسبة إلى 
المعاصرين لكنها قديمة في حقيقة الأمر لأنها ليست إلا الدعوة القوية إلى الدين 
الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية. هي الدعوة إلى الإسلام كما 
جاء به النبي خالصًا لله وحده ملغية لكل واسطة بين الله وبين الناس. هي إحياء 
للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير 
العرب. فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا اعتادوا من جاهلية 
في العقيدة والسيرة. كانوا يعظمون القبور وينّخذون بعض الموتى شفعاء عند الله 
ويعظمون الأشجار والأحجار ويرّون أنَّ لها من القوة ما ينفع ويضر. وكانوا قد 
اعتادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهلية فعاشوا من الغزو والحرب ونسوا 
الزكاة والصلاة وأصبح الدين اسمًا لا مسمى له فأراد محمد بن عبد الوهاب أن 
يجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قومًا مسلمين حقًا على نحو ما فعل 
النبي بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنًا . 

ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف 
تذكّر بظهور الإسلام في الحجاز فقد دعا صاحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض 
الناس ثم أظهر دعوته فأصابه الاضطرار وتعرّض للخطر ثم أخذ يعرض نفسه على 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 567 


الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض النبي محمد يك نفسه على القبائل ثم هاجر إلى 
الدرعية وبايعه أهلها على النصر كما هاجر النبي إلى المدينة. ولكن ابن 
عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود واشتغل هو 
بالعلم والدين واتَّخَذْ السياسة وأصحابها أداة لدعوته» فلمًا تمّ له هذا أخذ يدعو 
الناس إلى مذهبه فمّن أجاب منهم قَبِلَ منه ومن امتنع عليه أغرى به السيف وشنّ 
عليه الحرب» وقد انقاد أهل نجد لهذا المذهب وأخلصوا له الطاعة وضحًوا 
بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه. 

ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره 
بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لكان المرجو جدًا أن يوحّد هذا المذهمب 
كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة كما وحٌّد ظهور الإسلام 
كلمتهم في القرن الأول. ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية 
والأدبية عند العرب. وقد كان هذا الأثر عظيمًا خطيرًا من نواح مختلفة. فهو قد 
أيقظ النفس العربية ووضع أمامها مثلًا أعلى أحبّته وجاهدت في سبيله بالسيف 
والقلم واللسان. وقد لفت المسلمين جميعًا وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص 
إلى جزيرة العرب. 

فبينما كان الترك والمصريون يحاربون الوهابيين كان أنصار القديم من علماء 
العراق سواء منهم أهل السنة والشيعة يردُون على هذا المذهب ويكمّرون أصحابه. 
وكان الوهابيون يناضلون عن مذهبهم. وكان أولئك وهؤلاء ينشرون الرسائل 
والكتب التي يضعونها. كما أخذوا ينشرون الكتب القديمة التي يُرجّع إليها في 
التماس الأدلّة والبراهين. وكذلك عادت الحياة القوية إلى مذهب أحمد بن حنبل 
الذي تبعه التجديون» وتكرت كني:ورسائل كثيرة لابن تيمية ؤابن القيمءواستفاد 
العالم العربي كله من هذه الحركة العقلية الجديدة. 

وليس من شك عندي في أن هذه الحركة نفسها قد أيقظت أهل اليمن أيضّاء 
فنهضوا يدفعون عن مذهبهم الزيدي» وينشرون كتبهم القديمة ويؤلفون كتبًا جديدة 
في الفقه والتوحيد والحديث. وما زالت مطابع القأهرة إلى الآن تطبع الكتب 
المختلفة لحساب الوهابيين من أهل نجد والزيديين من أهل اليمن. 


58 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


وفي أثناء هذه الحركة العنيفة ظهر حول الأمراء المجاهدين من أهل نجد 
جماعة من الشعراء أخذوا يفتخرون بانتصارهم في المواقع ويعتذرون عمّا يصيبهم 
من الهزيمة وليس من الممكن أن يقال إنهم جدّدوا الشعر وأحدثوا فيه ما لم يكن 
ولكنهم على كل حال عادوا به إلى الأسلوب القديم وأسمعونا في القرن الثاني عشر 
والتاليف متريي المدع ريه اقصيكد ند النخمة العريية التعلوة #التويم تكن ليع من 
قبل. هذه النغمة التي لا يقلّد صاحبها فيها أهل الحضر ولا يتكلّف فيها البديع 
و ا لي ا ل ل لتك 


نجح المصريون في إخماد هذه الحركة الوهابية» وقد نجحوا في إفساد هذه 
النهضة ولكنهم لم يقتلوها! أضعفوا سلطانها السياسي ولكن سلطانهم السياسي قد 
أضعفته أوروبا بمعاهدة سنة 1840م» وعجز الترك عن أن يحكموا قلب الجزيرة 
العربية فاستراح الوهابيون وواسوا جراحهم واستأنفوا قوّتهم ونشاطهم ومضّضت 
نهضتهم الدينية في سبيلها ثم تبعته في هذه الأيام نهضة سياسية بسطت سلطانها على 
نجد كله وعلى الحجاز كله وأعادت لهم المثل الأعلى وهو توحيد الكلمة العربية. 
ولكن بلوغ هذه الغاية الآن ليس من السهولة واليُسر بحيث كان أوائل القرن التاسع 
عشرء فقد استيقظ الشعور القومي في البلاد العربية كلها وأحاطت بجزيرة العرب 
من جميع أطرافها قوة ليس فيها ما كان في القوة التركية من الضعف والفساد 
والاضطراب والفقر وهي قوة الإنجليز. وليس الذي يعنينا هو المستقبل السياسي 
لهذه البلاد وإنما الذي يعنينا هو المستقبل الأدبى. ومن المحمّق أن هذا المستقبل 
الأدبي سيكون باهرًا في يوم من الأيام قريب أو بعيد. 


جمع ملك الوهابيين الآن جزءًا عظيمًا جدًا من الجزيرة العربية ولم يَبْقَّ سبيل 
إلى أن يظلّ الوهابيون وغيرهم من ملوك العرب وأمرائهم بمعزل عن الحياة العلمية 
العامة كما كانوا من قبل» بل هم مضطرون إلى أن يتّصلوا بالممالك الإسلامية 
والأوروبية اتصالا سياسيًا واقتصاديًا منظمًا. وقد بدأوا ينظمون هذا الاتصال 
بالفعل فللوهابيين وزير مفوض في لنودرة» وملك الوهابيين على اتصال مستمر 
بممثلي الإنجليز في عدن. وقد بدأ الإيطاليون يدورون حولهم. وهناك صلات 


بعض المقالات التي نشرت للمؤلف في الأربعينيات الميلادية 9ظ5 


أخرى ربما كانت أشدّ وأسرع تأثيرًا من هذه الصلات السياسية والاقتصادية وهي 
الصلة العقلية التي تُحيثها الصحف والمجلات»ء والكتب تطبع الآن بكثرة في مصر 
وفلسطين والشام والعراق وأميركا. وكلها أو أكثر منها يصل إلى كثيرين من أهل 
الجزيرة العربية» وهم يقرأون ويفهمون أحيانًا ويعجزهم الفهم أحيانًا أخرى. 
ولكنهم يعجبون على كل حال. والإعجاب أوَّل التقليدء والتقليد أول الإنتاج 
الفني + 

وقد بدأت بشائر الحالة الجديدة ظاهرة جلية» ففى مكة صحيفة تنطق بلسان 
الحكومة وتنشر أدبا رمفاحة فلن عونا عادر فيل الجوينة الرسمية أول الأمرء 
كانت القبلة أيام ملك الهاشميين وهي الآن تُسمى أم القرى. وكانت في مكة مجلة 
الإصلاح. وفي مكة مطابع. وفي مكة أيضًا وغيرها من مدن الحجاز مدارس مدنية 
على نحو المدارس المصرية الابتدائية تدرّس فيها أوليات العلم درسًا حديثا وتعلم 
فيها بعض اللغات الأوروبية. كل هذا إلى جانب التعليم الديني القديم» وأغرب من 
هذا أنَّ دعوة التجديد الفكري والأدبي قد ظهرت في الحجاز منذ أعوام بتأثير ما 
يكتبه المصريون والسوريون وهذه الدعوة عنيفة جدًّا فهي ساخطة أشدّ السخط على 
كلّ قديم في الحجاز: على التعليم الديني والأدبي وعلى نظام الحكم وعلى الحياة 
الاجتماعية. وقوام هذه الدعوة أن الحجاز يجب أن يحيا حياة الأوطان الحرّة 
المستقلة وأن يحتفظ من قديمه بالدين واللغة ويأخذ عن الأوروبيين بعد ذلك ما 
استطاعء وأن يستفيد من إقبال المسلمين عليه للحج فلا يفنى هو في المسلمين» 
وأن يُعنى أهله أشدّ العناية بالتعليم المدني وباللغة الإنجليزية والفرنسية لأن 
إحداهما لغة الاقتصاد والتجارة والأخرى لغة العلم والأدب. 


وقد بدأ الحجاز بالفعل يرسل شبابه إلى مصر ليدرسوا فيها العلم على نحو ما 
يدرسه المصريون. وأصحاب الدعوة إلى التجديد لا يكتفون بهذاء بل يريدون أن 
يبعثوا أبناء الحجاز إلى باريس ولندن. وبدأ الحجازيون المجدّدون ينشئون الشعر 
والنثر على مذهبهم الجديد ولكنهم لم يوقّقوا بعد إلى أن يكوّنوا للحجاز شخصية 
أدبية» إنما هم تلاميذ السوريين» والسوريين المهاجرين إلى أميركا بنوع خاص. 
فمثلهم العليا في الأدب يلتمسونها عند الريحاني وجبران خليل جبران ومن إليهما. 


600 صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث 


ومع قوة محافظة النجديين على إسلامهم» فلن يستطيعوا مقاومة الحركة 
التجديدية التي تأتيهم من العراق ومصرهء وبين يدي الآن طائفة من القصائد غير 
قليلة أنشأها جماعة من الشعراء النجديين في مدح الملك عبد العزيز بن سعود. 
والذي يقرأ هذه القصائد يجد فيها تأثيرًا جدًّا للروح العراقي الذي يتجلى في شعر 
جميل الزهاوي ومعروف الرصافي وعبد المحسن الكاظميء» والروح المصري الذي 
يتجلى في شعر حافظ وشوقيء» ولكن للشعر النجدي الجديد شخصية تميّزه من شعر 
العراق ومصرء فهو في تأثيره بالشعراء المحدثين محافظ في لغته محافظة غريبة 
يتخيّر القوافى الصعبة ويطيل فيها ويكثر منها ويُسرف فى الألفاظ الغريبة البدوية 
كأنه 0000 المعاجم وكأنه يأخذها من لغة البادية التجدية التي هي في مادتها 
على كل حال لغة الشعر العربي القديم. وقلّما يستطيع الشعراء النجديون أن يتتبّعوا 
شعراء العراق في تأثرهم بفلسفة المعري والخيام أو بالنزعات الأوروبية الحديثة أو 
يتتبعون المصريين في تجديدهم العنيف لألفاظ الشعر وأساليبه ومعانيه وإنما هم 
معتدلون. وهم إلى إحياء الشعر القديم أقرب م: منهم إلى إيجاد شعر جديد وهم 
بدويون على كل حال وهم ينشدون المَلك في شعرهم كما كان يفعل القدماء. 
ويجيزهم الملك على هذا الشعر بالإبل أحيانًا وبالثياب أحيانًا وأحيانًا أخرى 
يجيزهم بالذهب والفضة. وأهل نجد يختلفون إلى العراق كثيرًا والعراقيون يصعدون 
إلى نجد ولا بد من أن يعود الحال بين القطرين إلى ما كان عليه أيام بني أمية من 
التعاون الأدبي القوي. 


وفي تهامة وعسير حياة عة عقلية ولكنها ضئيلة جدًّا وهي ممعنة في التصرّف 
متأثرة فى ذلك بأفريقيا الشمالية ولكنها لم تُحدِث نهضة أدبية ولم يتغيّر من حال 
الأدب شيئًا . 


أما اليمن فهي أشد البلاد العربية محافظة على القديم القرون الأولى» يُعنى 
أهلها بأمور الدين على الطريقة الزيدية من الشيعة وينشرون الكتب الكثيرة في هذه 
العلوم يطبعونها في مصر. ولهم شعر كثير ولكنه ما زال قديمًا متأثرًا بالروح 
المصري الشامي الذي كان منبثا في الشعر قبل النهضة الحديثة. والشعر عندهم 
مختلط بعلم الدين فقلما تجد منهم عالمًا دينيًا إلا وله مشاركة في الشعر وأكثر 


بعض المقالات التى نشرت للمؤلف فى الأربعينيات الميلادية 601 


أئمتهم شعراء وإمامهم يحيى الآن يجيد الشعر على النحو القديم. ومن الغريب أمر 
اليمن أنها ظلت طوال القرون الوسطى أكثر البلاد العربية من العلم والأدب في 
حواضرها وكان يُرجى أن تكون أسرع البلاد العربية إلى الأخذ بأسباب الحياة 
الجديدة. ولكن الآن ربما كانت أشد البلاد الإسلامية كلها تمثيلا للحضارة القديمة 
والأدب القديم. وأهل اليمن يفدون على مصر ولكنهم يفدون للتجارة أو لدرس 
العلم في الأزهرء وليس منهم من يفكّر في الاتصال بالمدارس الحديثة. وليس فيها 
مطبعة ومصدر ذلك فيما يظهر إشفاق أهل اليمن من الأجانب وإغلاق أبواب 
بلادهم في وجوه الأجانب من المسلمين والأوروبيين جميعًاء ولكن الحضارة 
الحديثة المادية قد استقرت على سواحل اليمن ولا بد من أن تقتحم الأبواب 
المغلقة ولن تستطيع اليمن منذ الآن أن تقاوم هذه الحضارة. 

وجملة القول إن جزيرة العرب الآن تشتمل على نوعين مختلفين من الحياة 
العقلية» إحداهما محافِظة قديمة لا تزال قوية بحُكم الجهل وانتشار الأمية» 
والأخرى مجدّدة لا تزال ناشئة بحكم الاتصال بأوروبا والبلاد الإسلامية الراقية. 
وسيشتدٌ الصراع بين هذين النوعين من الحياة ولكن النصر محمّق للحياة الجديدة 
لأن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الأوروبية ولن تستطيع أن تُغْلق أبوابها بعد 
اليوم في وجه هذه الحضارة. وقد يُقال إن جزيرة العرب قد تحت للحضارة 
الإسلامية في القرون الأولى ثم أُعلِقت من دونها فما الذي يمئع أن تفتح للحضارة 
الإسلامية في القرون الأولى ثم تغلق من دونها بعد حين؟ والجواب على ذلك يسير 
سهلء فقد كانت الحضارة الإسلامية القديمة تدخل بلاد العرب على ظهر الإبل 
وفي الكتب المخطوطة فأمًا الآن فهي تقتحم هذه البلاد بالسيارات البخارية 
والتلغراف والتلفون والكتب المطبوعة والصحف والمجلاتء وأنْى للبادية أن تقاوم 
هذه القوى المختلفة؟ المستقبل إِذا للحياة الجديدة لجزيرة العرب وسيكون هذا 
المستقبل قريبًا في بعض البلاد وبعيدًا في بعضها الآخر ولكنه سيكون على كل 
حال. 


ملحق الوثائق 


برقية إلى المؤلف من الملك عبد العزيز أرسلها إليه في بغداد 





ملحق الوثائق 


2 ام 1 3 ,يكام 
يعطه بج به بعر رتيكء< مر بده ]أ ج«ى” : ج٠١١‏ | يوبكهو | 
1 | 053 ودحو ) ٍ 





: سس ويم - عن 
رجه 5" ليرد لوقه ماب روتدوكتصاوبه ‏ منوات ريم 


605 


ملحق الوثائق 


انسور ا 


0 


5 6 


ل : 
نيه 21 


تل خاسأ تك بن بل سلابو ولك لفان فاه فلار ا 
ئيْأأجلالفاعليراعنالناذ ولالك هق ندا خل فر| موعف الم وال ثانا بي : 
البتوارنرالتى عنره فأ ذاذ كرك اناد شري على أيه اوا ل كاله تشغ نعلي المنشة وا زول 
نل سونان لان قرغي اللاذا - ووالليا بها دمن جود خ راع ال تحت ! 
وأاظن ني" رم هرالزاب لا يحق لدهرشان بتعافل وجي الأموم ا ديبس قاذ ذاأمرها . 
رو ى دسب وغا م نك قال فلان م يلو الأمر و سمي ول وغ لفان ناخ هلاه اللاي 
روزا جميفة وقابل عنه فتك “تج الم تلن" ونام ميل نكا ان التنتب ف مجلم زر 
ار ةالقم ةتعانالتعاوياما ا خأضكة فلي الوزام علي لد ادل لدف جرد عرد 
د عالة لش ونصير الذي بمشنى فاه الشرطوتوابين 95 ويه بالق ول 0 أواما انأ 1 
اذا بشلواهيش و اهو خسم فالقدمة. :عهامايه حشرم وي زاكر نز اط فتن فووا مزاذً! 
العو نارم ساب هلالد ننم ف جيرا إنضر ,ام مل اخ زرك لو نه ب 


زود تلاية: .رعال. لا 0 0 0 


٠ 0‏ السشرع نما له 0 3 





مقطع من خطاب الملك عبد العزيز موجّه إلى عبد العزيز بن إبراهيم 
وشقيق المؤلف ياسين الرواف في المدينة المنورة يتاريخ 9 4/ 1346ه 


ملحق الوثائق 607 





ا تحن فرشتن 5 الطتَهًا وأ هي نام لبا الق تررق الوه اوتاه و الس به عفار 
كا بامكائة الئياية فاذاغطات النيابة خفنو لط اعقم ير ميمت الول اا الور اتيم ظ 
لقنا بع ال ملائمة الني لطا 1 رسل علالسارة 
رق ولي ألفة 2 لزلاعه عق عن عايا مانأ ا وار ادة زف" 


سويد 0 00000 9 207 ّ 3 م اه * 5 
: 7 م 2 0 ا 1 ا ا ا 4 :2 
انالا م 5 لاد 5 4 رم 0 04 


ماه ارال مزافاغرالهل ل َ 5 


0 0 


1 
0 0 30 21 1 ارما 





: 26 ص 
1 5 ل 9 0 1 م 
ا ل 


608 ملحق الوثائق 


0 ١ 
اتات لأسا‎ : 


ال بي سريب 


ا لجسو صى] لون سنه خأ يد عد بس ساسة ب 


لال دالينين البخل اللرابيلات العا بيعم اديوه 


0 0000١إ02020202020‏ سلقه الله تعالى 


6 ات ا اطلغنا علن كنا ري : 


9-6 1 ولتكووا تيسن عدن لاني فأ 
بين المثر اتات فللا واننم ولدلنا اينم ايئنا ١‏ كنتم هذا مالزم يانه 





ملحق الوثائق 


00000 حم 


0 


21 18 


يض ا لل ل و نه 

6 
وسسسسسم جم شيم ‏ أم م ‏ جم خسة إ حي هت مس جسم م م لس 
03 اك رع يون ايا بي وي سي لسكب بذ سرد بم 6 


٠.‏ ادذ*»* /ا/ء) ال* .2/00 ونيا م | يمن جوت فافة م جا ٠١‏ مسر يسسيم فته سم 





2 
اه يب مسح يمر عام بسر حي المسبم اكب )| 


609 


610 ملحق الوثائق 


1 7م 76م اناولا0© الهم8/6غ1ة 


١ 
ُء‎ 


7 
000 
كيده لاه 
0000 
مكام' 


عي 7 0 د 8 15560 5| 02880 5 
لبك ددا + 510 857/1856 1 !0 4002485 #لاهلة ع5 
| ساق خطء .0ل دقاا املاع الاير 04 9 
01/4 قال 81 0علافة .........., 1188 4 1198 
امم مله 8 01 اللا الى كال شفع 18257 67لا 5 0180 ١‏ 
الالا 1ا7لانا 514185 160الذنا !1 إلا بجو اكع" 11/قه) 0 وعدمم 
تر يال ” 2 7ج ف كم 46708روا ممالا اله كه نع 


ملاسصسبركل 0 16 مم1 الال 
٠‏ 0 اللا 





تأشيرة للمؤلف من السفارة الأميركية في ايطاليا 1935م 








ال 2 


ف[ 






) 








ملحق الوثائق 


611 


612 


ملحق الوثائق 


ااخيرز, ظ الث بوب فاااراقدً 
لوف ان قر عثرالى 17 لمم الث ن اللي نكن با لاله 
سشّ رالاضة عر تسل ءا الزرل اليه بوم بارا 


52 2 ذر» ”ى كل رلزنة تررك . وقد نظم” 2 
/ امال الثاهه اللنان ابروا عرلا رسشيوت لازا لهألراله رفير" 
رسوزالله وا رعراقه ييا السوئبي ذن والهام رحس العايّه 5 


ا 


ري اذر ايه سس بو لاط 


9 
اللرين ١6‏ اللوم سم الاخا ؟ 





ملحق الوثائق 


9 ا 
لوطل فاه - ملام رك ا 


9 ُ 
5-5 0 
يها ونا دنهم 


, 0 00 0 0 | ْ 
سبي دام “و شم 


1 , ظ 
ثم ا 7 


المي اماد درك ا ناس فلت 


1 . الممسسر ولي 
0 دج ب ساف ول 1 0 
: رما دنال امرك 50 سكف راك اي 
38 مهما يم نه ل بول عاط ' 30 رما 47 رمث رك يدام : 
راه يلال الي لمأ رع اسه الأأس يسن لمك مرائرن ينام 
ا جيب والسديا 0 م ْ 


ا 





صورة من إحدى صفحات كتاب (ترجمة معاني القرآن الكريم)» 
الذي أشرف المؤلف على طبعه وتوزيعه عدة مرات في نيويورك ولبنان. 


58 ملحق الوثائق 


1004م 10117 عير 
51 هالم 8481م يبر 


١‏ حقه مه تداق سس ة هه كمي مدع امد 2 حاو 
:> اع 20 مداو لصتن هدس< رم .12 .اذ ب امسو 
اجيم و يضم سوم ١‏ امصويه © ممص لك صييز هل #© هذ[ ٠‏ 
لج ملية جه هسي 8 مسسم لايس اله م< مما صن ين د 
0 


سيم لما لد ل ل ل 

و 96 عم سمت ون اوس لاس ساد .- بي 5 

اي با ل ا ل لاا ل اليه ا لاله بدا 
ص هيت ول اسيك صب صم دلا سح صم ل تسبي ق 9 


ا احممء ل . عد اد 
ل . 


سم دة. لليف فظوذ؟ة 
سمسة من ١‏ اوراز ني صن 
مه 19515 6:0 نه بط سكرة 98 
46« #لاوفسمد .اا 2307 تسهلة ‏ وعن م١‏ ود 


0000 


افد سسا 


سعدا م )مث مو 
2 يدي نكا 


العم ما للم روسك لجوايا 

وم أمصى ٠‏ 2.2 

يمه يد لها 

5 5 هو ح 0 مسسيين نا لت مسا| 
0 عه هو وا 84 لدف مسو ء 5 مجن هج ل لسعم لاج . مد صسظر 

> سؤ سين 0 من بيت صم أ كي يعون “وجوه رع 46> 


“" لوصيو#س موا .6< د ١‏ 
اللاي )ال لمانا 
وبل18 صق هذ مهن ساك 


جس حياس ع مراية يما ماعطا 
-. عد الم ك2 يس ضكن ههلا 


ع 0 0 ٠‏ الدميط يسا مح 
سوا عام 55 ' 1 ٠‏ ل م ا« سكت مه؟ 
توس لورء عبر و كه | 5 روه م رمق 

0 سسا 45 يس را إلى مام م أ ا الاسم 8 


2# 9 مي ميم ممما ع ١6‏ موعن ممصت عاء الجر و امو 
بوي هرف ملحي ار ل ا لتر را م اد 0 .2ه رصم 36 
ليم ال ال صوااعة 
وو يه إححها ل ا ا ال 0 
سدس قير اء كايير1 

الح 6 وه 


وا ست جياض سمحيين بحن جويام مه لذ شح مرحم سيد صم كسار حب وبر مين سيو لمج و صو 
بحا الح بن عمج وسور ون حي ص صو مسن ند صم لتسيماي ا مذ وي اج ا صم لوعيوع 


ساي لل يح ور سا ممم .ل ملم اولصي 


3 

0 

| صصر عن صن ساي اليه لمع ومسا ممما بن لست باه سلي أحن عدا لسن قيس مجان مجان نحا ل. سن 209 
ا الى ا ل ل اب ربب لل ل لل ل ا ا ل امسا 
لز سمي نوميت مجه نه صا ل ل ١‏ م اليم صساسما شبن سر لل قوع لاله 
ب سارل ل لل 01 عمس ب لاسا 
جاه عمتجن اسه ب لمي كن مح وه د مسسصيةا ب مسيم ون صن ضيه سوسوي سل 


اب يبب ل ب 1 ل المجدا ل حك 7 ا سم سما 
اط جه لمم من جم اوها نتن رسيا حون ليت ضع امه يونم .2 ا 7 للدت روسيم 
انض الت عن لنت و لريا ييا متيس اتسرح مح صن وا جين جيه ونون لاعس د وعهيها 
ولاح اجون 00 وميس لصح حي ون با محا م هاه نت سا سمي ال شذابي جيه يوا 
ين الات وساي اصح أ راي لحت تيه صن نت مسعوريحة 9 ٠‏ بيصت ناو يو بيد مون وصيييو 
وكا بعتن 00 كه مسمي حم وسيم ميد ين سه م ريسن سرود سمت مويو 


| ١1 8, 
0 


ا ا ا ل ا ل 
ا ا لت سل ل الل ساسك السسشها 
با 


ا ل ا ا 
ل ا ا تا 
د الاي ا ااا ل لي لل ل لاب ست سيا 
م ا ب ال ا ع ا سسا 





ملحق الوثائق 0615 


0 َ ( 00000006 
عط «771اار) أ عالوساعظ وما كام 
1 سمملزلز 


بعمأسوعع هادهم( (1١١‏ 'لاللا0) 
ه601 #سييطط! هاا ييه ربسركرع عل 
وه" ااأمطظ علهبرنة! نانع بطك ادوسمل 
م6 ظامع؟ ب) وعسريييي ع اسنسالء 
نما امججباعع 1 الاللمتللالل بفيمل سل 
#للطاقع6! م8 اللقذ|ا ميحد بواممج | 
634 205049 5+ اهلاذاءه ١.آة‏ الملكرلت 
طعمض رإلاممع الناة 5ع بعر وه 

. أو قزرم 
اعاظ وموم) | هلظم دورد اباس ازلمطكز 
64هوانولا عظا 16 بنطهرمة.لبرمة مصصروم 
0 يه عجلوءد مأضمة سروك 
إعماع2 الصاروم سنبطا مت مرصاعهاك 
مفهوعه © بإجمعع عط مان ععورصوم مه 
ماأطوعة١٠01نزة5 1٠6‏ !أاكا) عصرر ا عم) رووم, 
هماهاع "ايه أله" معام نيس ماطاءء | 

لم عط 
هلا" اطواظ مه واطه؟ ١٠‏ المديهازر ا 
طعريهظا بزع ووم مريت تاطس اعتط] إلى 

|0 ها عملطه هياب كذ لسراو مم( 
لق احلا ليو أوايوصض خا صس لأمصضي 
٠١‏ ييهة 16 والاسهويا. سات الوالنظووا 

تاممط! 16 6 مارم ,روصلاه ليد مساعنل 

. أهظا 4ابهة أههاة اج ياد نسدد 

عمط قواه5 هذا عمط غنز سلاريضممرل 

-١أأعلهم‏ «صم) وعحعان/ن عيبن لحميتلم 
المعطه لاأوعام» لقاعم و٠‏ عايض 

٠‏ أاوط»- للها برمهج معمد هليم مدا 

علارهم امم ب عررجصمم 
0 مظع 16 عممقع اند را بارممك؟ 
0 ايده “ابؤزد ها عم|> زا" صر سعاسايطآء 
ا76 ل الاوط؟! ماونارط إمم«»ه وعجردمعو قبط أهطا ريات صتعيي 
501016 .5 .لا عااعطم 50827 أس أعمشاممن كم ا سرمريوث #لممر 
5 .5 .نا !556 بعصرمل +عاع جمج<! اجمفافصحجم . ا اليد ارارق 
1 أوعامطجم وم لمسجعر عمر ز|! عدم 

١ 00906‏ 0 4م سعرالة)! ‏ ظل وحصارة ا عصريءل. 

دهم ون+0 هام لاا وص امعط 


ماضهطة ههالره جيك .د معد لانم 


اقدقده لما / )اه |11 “زمقاه عو] معقمعمه! مسا عل عضا صن 
1١ 5 98‏ /© وع+<ة وهظ لمها اعتب بت تسطل, ارثل 
0 ث0 / العام همم0 عولاا عرزا نل ضيه أدعنث 


0 الم ممه وععم لله للعرلمط اس 


.©4765 قصال عليصن دعاسم 
جماعصلكووةنا عرز لعالحقع عمم ما( 
اه كأعها ايا روه مضصععناعنم نه 


.لما عملها و طعنة عكقم جرطوصم 012 


0 لومم عقنطو معد وجو ي.1 ملح روم 
مموع عاومحة وعلم موء إبمعكظم 537 
: ا 35 اللسنظطعن7 ممع حعصماز طوداعصطم 


1057" عابط 68اوزى مجكميرا' 
اكلها؟ ولاو قروم ررم 
16 708 168همبير 
60خ د ممبرعو 





للم عطاتطفعذ! ه38 إالوريل رربي 

#عالم] هط 6ع عمالهلع اومن زويريم. 
5 8564 '6برو5 46ل" ممص" وورزمويع 
لا"كمدهم أقطا منزه5! 1[ 86 اعحوودمن ان 
القعجاك؟ !ف 4926م 15 بوهشجيرو إزر» 
«اعماء هو ؟ )6 الهاج #"ولرماه6 ل)أم 
عنلعاظاة جمقعوة هولع وردزم ورم ون 
1 للق 
ب#تسو يوج هوواءع .]وبع ةخ.| 





خبر في صحيفة أميركية من الجندي خليل الرواف. 


616 


أود>ااا يونا هظا وهو١5 ٠‏ 
سم لهو وورى هذا 
هه عه 

-«*' دهن ومما ه19 
4و- جوم سوج مود 6< 
“هد د طااء مهمييهمها جهاا 
؟أصف- 2 وده نهوة هذ ماناة 


مه حوهو؟ صعذة كه واوا 
ناسوت وفاصسط هذا 
عه 9<" *د)/ اموحيمة ارهد ره 
هن . محولا مز ممو ممم 

ع وده لو" ها مذ 
٠‏ هعوا4 بن مرجم صو 
20 4 حقف منص له ومعن 
موجن هادان سعمن هيج 
مه صن الهماة 


4 وهاظة نس ه76 مج281 


ات مسن | وهد" 
ال8ة :1*7 »وبع سطع 
ت ما بهصزوهة ومذاا 
اده همك 6١‏ فرص هوحو 
لو+عدم) فر وحعتا١|‏ (4 وروعج” 

اميس وجه در( فده 

ضيه" م مهاوس م7 

صا الس سداسهة . 
شاء ع 766 ووه لاس « 
وه ان #«دالاصم ا صن! ههيور 

١09 >‏ وبووعم سهم ه١٠‏ 

*#(هةو) 4 واجموظ ه58 
ع 6 + صحم اهمه 

وكده !0 واعوهر هذا 

الدمة ممصو ورد 


© مضورة هوم 
6« مسد 2 
7 صل صمياجع 
مذط! رسموحماه” 
بد ولوجن - تيور ! إموجة 
سا ههه «اد/ و»س#ل صو 
هه *< واايسنا #صج- 59 
هارم( موا | ورج 
ك2 اسع و هاا سوب وده 
وجا عا 7و هدة جو هما 
مح او- هعزن مسه هبح 
5ه اام جد مصة يج بين« 
؟ اه 6و0هه»3 015 موه واج 
هما * 

٠.‏ ها عمامر وهر 


دعمف ور©صذة هده لع 
معنا هذا مهنا م دمع 
ه؛ ١٠2‏ ا مجك جرزهذ) مصاوم 
سمعات #« و لوقاام 


صا ممو- 6 مصنن د 


عو د وود كسس هد 
اعومة اخ ركم حمعر 
ثيمة يروت بهمع وذذ وعو 

٠‏ انسلج" لصرع 
“نه سحا ووجو لا 
. +مطحة ووو 
هاا مها ارن 84( نآا) 
:م لمطة «محيس' ودد بآ 
صدت؛ ها ورمك ©© وصردا 
8 او سووج09 ص 1١‏ 
صمونومه/ هن ه<ا كه 
مها واب له يصموم 

و الجهاوء6 #سطاهمه 


بستلمب(! ببستائجن١ا‏ بلطة طمعة “سرسصصنا 
عصسو!ا! ان( -تلل سيك ا جلمعاد لناسمانا ذا 


. 
8ه 5 ا" 8ه 
مواموء - وبمصوست 2 9لوكمد ٠5‏ 
نه كهعوا 7ه عط تدده | 
هذ اهوياء جا « رم 5 


م مور - 5 : 
الا#ار اعساراارا ان 
| ©ه» هه جومه. ا 

000 

سج عد اهايا يد 
سه ردم هق 
64 اهدعهاد ها العاا. 
مث ه”>-.< ١٠.١‏ 44 


328 906 ازرر كن هدك" زو ومسع الوه +25 ك5 6ه 





خبر في صحيفة أميركية عن مشاركة المؤلف في معرض الخيول 


ملحق الوثائق 


0 
165 الام) 017 


, مما يه 


عمد تعس دم 01030176 إذألا 


اعموعكا لمموززعموم؟ 
4 إباما5 


المعقههووممضهع اماه اعسورر ره( 
ع' ان وروا 7255م باورمهت 
ذا طياع أعصدفيع! واه جمزلزووميمو 
م تكلع ةلطم بوعيع بوريووزموم 
ا فع#المنهه لوييو هاو !!!| لعو دولامهم 
انوي تع 8 لا6 6مع206ومدع وعرعط ورو 
العلدب؟ “مك هلع وعورعموثم هم4 رم 
ا فالوروث.؟ بنصوا اما 8 4 واومسع وم 
؟6 .لة* 


١ 
١ 
| 


ئ 
5 


1 له! موعمك 5واطويم ورم 
سال للف 
6 ل 11 ا لكهرم رالود بن مور 
69« آذ" ##هايام الهج اطرومي> 
©؟6 ] ءظ1] ج190 صطمورظض رميروتب 
8. إجرم "ام عد جموككدط بت ررظفية وريس 


3 ات “لتنا 9ف سرصينك 17919 الورويم 


يه ماو 


617 


كاز اللاقرور 
لان 11115" 


عدبوء ملا 16م وى 
تتولمعم] إى 

مم ولط جمعووزرويع 

مشاطواهم ١ه‏ بويق 


رين ؟© جم اهادم 
طظفة 6 « زوز 


كم 


وعام عورم و1 “مه اطويوو 


ع. مع.لمهاء 386 6ع( بمميووع 
1ت جيجه أممحء هدياع ور 
دسلظ 6ه مه ور 617010 
جره بقمهامنا5 اعوموسرون 
2 وموصوح1 الويس 
6ه مات مقهر ,ونور 
دمه لوط ذا مودو و هز 
شد م1 4مااوف» هوم 


تلوط (هلطانا مم ورع وى 
وطا مم ماميوع 
6ك «ارعة ها 20 
“ايو 3 ما متومم |زثم وبهير 
]6ق 6نان6 6ت .ماك هظا ها 
لن مقو وت حر و ١1ل‏ )صم نهو 


:26 ها مدة ,)04م 100 وين بجوو 
'وط»ا لاامهك 00 
رحماومك4 نسم ههنجز مد لس ووم 
1 يط لويايمهم وى 
وك مام مشعام 0م شمن بين وممهورع 
م ولص هوم و روجو 

٠٠‏ +«2ق ممصيس| 6 بععنامة بيو 


اه 
فنك ال لاوما وعانجوم ههذز - 
لدم لتسمعذ امصهطمم 
«!: 04م 4 واءن0 إواساء مط 
ره دعبم نموهل»» 604 6٠6‏ هو 1ك 
9 ,22 بععدعور اسم 
سسا 


5 د سد 


50557 لمعم لمم عر 


51 15 لس وسروعا 


ل 
لسمسسة ا 


1 ,01/45 8# ا؟00)! | "محالت :15 معممث بعبويق صلم 
اد اماق وذنم إآظ .بالإفصملاعة يعم ن» يربو 


عخامطة اميم ها هعبطم مي 

مله , 1 لم10 لامع ويم 
إملطوىم دان هك 0004 )و الاسم لو 
4 اق الس مرو يزوس وين ون 
كيسطم كن إوامير موي 


فلحا ممافعء”م ا جوراو أو 4اء وجع؟ 
لادفطهة ققاغدمة بوصره؟ و مجو م46 
'عهت فهكلا !»كم ابح رعمصا/ عمط واقط 
مدلا دماد عر ها دماوهة هدك 
١‏ هع ]اه 0 * 
«؟:؟8 ونركظ ووه دلأأة اناه م2 
جثتمنه 3 





تغطية صحافية عن المؤلف ونشاطه في أميركا 


6018 


د 


ملحق الوثائق 


#تت ““اتتكتكظ 


1 5/16 


!)6 رآ ١:آ‏ ١(وموع5‏ «رملم: كلا 


لمعت عخ(ا عمنهسه قمطا صت ومالوعت! ر ‏ لزه81 © طلقطة سيط هم الاسباا 


©ا لص عجه« #+#إترمهم هلا كت مهمهر 
عاقه ضغط ٠١١‏ كرسانيا غطا )نا سسهون]عريني 
طبعغطة +ذا “هم ما 4هلكااا مط 17 3ه> 
هط اهل اده لال معط إهط٠ة‏ #4ااممم 
خنع سر ناطة؟ وعس ععمل مج 0) مدهام 
أمللفيا 
عا نخ ©#نزنض النامظط-ل4م ظانهطة 
بناع) ه لاعن بزساه ما همله8 لهاامنا 
«صاصضيموء عظا تمن هط انط هطاممم 
0 (زظات 5] مولااعهتق مط نأمطا للو مه 
شاط ما هت ذلانك هخ )ل مه هممص مهم 


:ماصاند وطا. جوصالصعيرهة 5. هشاطهوهم 
لماقغط هماه .مللوصيحا ن مطاصد 
١‏ * “0 يصصة طناك العولا عطاا اد 
متنا ما ميف كاتدماط اله بااع8 

8 2 إه صملتهاانتما *طا حمون مأك 
عمو هطا يه عوحيان لوموكة 
0 باتتلكشتتن 6 كن أننه أعناز .قطعة ا 
-620 تمتاعوريه؟ة مطا عه اعنم واعطة معطا 
لاهطة 156 اكزعو2 برولة ول وهو 
لست مط > م1200 +34 6ل 
#اصام مصمط وطا ها موعمط! تقاذفتة 


11 2108 انهلا ان الاسط ع أه؟ بمامدم | معماقهئزة معطا هذ بالاضمعوح 2410 


مها برعل" عظا 4ضعهااهت م١‏ هصهام 
اليوع يرهة؟ >+ط5ا له +له" ونامملا 
هنا ما للتهشاع 890 5ن اله0م ع1 لعهاء 
#ماهوهصا وطا وتاعنك بلعهلا سراوكث صر 

مومه 


لاه هعم ها حمظ'ه) #» لمكم م25 
وادهحه ذا ملو صمح 30000 عملم سمارم 
ب علا #عاتجن المهاهاة مط كيصدا ال 
هظا كهما» 2605 هلضوملم 6ه معن ١‏ 
| كه مماستده ه اللنت ممه عهننا ناروكا 
| أهقطا املهاة 116 
|١همة‏ صا خممر ماهه مص ص ها عملا 


هلط | زهز رم ح 


عا طاتع كااعطع مها نه مسبباءاح م 

16١ -‏ كط زط لمعه رموجومط مهفاطورم 
- :قط مقطا ها ملك مط دعلنات .ومة 
0ه مسومط وملعون وعورود 


7071 و31 اما معملحد© متمج8 
فل اه وام ما مصهاع بطاعطة 256 
قلط مهدامر4 برعة طعهه صحة؛ مموالة 

مع هط اتهانا 

| معماة ممعادلا. »طخ 15 تل0 
عمطا هه وععممه بانوش) ارحطة 
+11 مهاه 17 از لناردد. هقط طإعاع 
بعطا القااد 0! عهس اق/ حجنن مهط 
| مهت سمئتاععسة هط مدممع؟ معاي 5 أعااولا 
متموه وهنا ووعطان عرهاء ادح واطو43 
6ناا أهتاء تو يد 


9992 أفهة وعلانه موا 1 نس ور يترا 


<' #اطهصض هوه طظط- 
عض اارها 
١ ١‏ 

لمس موسننرتها ١‏ 
01عناا؟ لطقباي مايا 


اهم ١‏ .5 كأس ' أب 1ه 


©“'' )ن) كنتتها اأظوعوم ه طا لممهمن | زلام )ممع 


+كانا ©#سلقوههت معداءانر 


| هاا 0 





الشيخ العربي يقضي فصل الشتاء في دندن. 


ملحق الوثائق 


برع ]و10 كال كطلاظ #الى ماف 16انالاى 


03 


ممم : :اط لط ط 111 ذ 5710101 


11:01 ,1020 01]01[ 101 ان 1ط 11 


بباا م ععمعطا زعا .ضهنا 
ندج" 1" ارات عوكلا سعلم8 ممه 


ْ لررطينا علممم #اقط [" 
0 إن عاممه»م همكمصة مبعط 
اهة بإبعطع عط ""ىعنا1لقمماهم لمة 
ها عحوا مجوءطة #اومعم ,0" 
ع" مط ع+ه) لجقع>ء أذعغعطقنط 
نمك معطا كهضة ,#اممممم 
القعنل كقط أكضعم 
اعم اما موءاععصكة طاأاببد 
هونوماء 06 165القط لها أنقا 
حر دعتعأقنانلهد وماصائض 

تالفنا 5 
ودنهاصناء )سسهظ لاعطة 
سابيدة زه ععاعقعمهطكك عل ممرمم 
زقئ عزنو ومتطقاصو وذ دمقالط 
.وه تأتعهد »8507 ماعطا طاره 0مه 
0-7 سامت ©:ة لإعطا )6707م 13لامء 
بومالء 0 بان مهة هناها وملاصمء 
خلدعه فضط الاأعصطاط ,لاتعطة ع1 
إيناعما لاعماءء ناذا ها لاوط 
مهيهحمطا منة وععظة ,ملعصف كما 
ا مقاطوعة4ى 0 
+ ومماعضتطقه 8 #ترعمع"” 
0 د مونطوادةق امع #طا آم 
بوهاواذد ماعنا عطا مامد لمعامصر 
بهك وز مورك" امتح اسسس1 ماعناك 
1١830 126‏ ودلمكن اعم قتى ِ 1 
مجن #اسط وعدزمط صسقشاطمع 
5 “الإعاصياك قلطا 


ا مجبوهم (0 
نوهد دوم 1 
١‏ لاه 

نيبي 

َ مجو< الناهك 


مز #عطاممه 1656 كجتلرلمعمدح ععالم 

عمد لصه امهنا ذه كللصطق! عحله6©6 
علحف ترعأاكه11 أوعهو! معطا 1ه عم1نلاماة 
برالصععاة«م م 6م70 اه لاانصنام 
اسع -لء-اناطة؟!ظ للأعط5ك ,علصرص»ا 
-قظ قلط 15 قلةأاعلط لإوقارلعععط مه 
عقلع ©6#يلاقع! ازبن ,هنطوعة4 © 
لمة #©عنلاء»©! +ه) إهلماع25 قكلامة] 


سصوء “عنلمقاأة! ععطاه جممصة لإقنلاعة 


8©أهقاك 60ا1ادنا عطا )ه وعنارصمم 


لعاصره وعم ذقط ‏ /انسرهظ بارعطك 
-هعة طلات طاندعم معأوو ال - مع ص4 
/ا#ماشاط قه8 عهنبيرمها ,ممرؤلاءء معاجا 
تصوءع عط طعغلطس تعووياء برانهلق معطا ون 
عامضعا معطا أه لعان نك 
عاعطد "©7566 ا علره5ة هعطا إاخم" 
-ص! لاإآآن)©ه8ء م#اسط [" ,4أوع اوباعر 
© 5 2640016 #ردوناهلز معطا أعناماة 
2540 لتأقكنضش216عطضة )ه وعأماعمامم 
8 قش كمع لكت المنأالشج! ونقعاءعترم 
مه ©عع6طيه لزانم هكهوروع! )28م 
© قوس 40 ه) زاء؟©ط|| معطا قفقط صقم 
دما أمم عع>مقل عط قن يدها مم وعدوعام 
''.قععظام أه قاطع ؛ عطا طانم مع)يع] 
لمعارمنا عط ما علرقفق لونة] لازعطك 
الشط٠هده‏ اصن #نزطا اننرمطة وعاسات 


816 #2 لص ققلامط جطط مهم وسعنعلا 


-٠للا0)‏ قلط لان () عضت ع#عط تلات فتورمر 
8000 الاالطوررة ‏ صر السك م برم| 
عطقك ها مي االدنى هط( عدللصرهظ عبالع'0) 





619 


١ 


١ 


620 


ملحق الوثائق 








2) 





1 س#ن< لهزادن) 4ن /0 وم10١‏ 
لله مفامهاء عه 4ده ا نون :نز كمائةء 
ف" نمم كهنامن ه هوا يريانا إد 1121 عطا عيط 
هم ملا اموعط عرز إن ابن موراءكن با 
1*6 + انعصب كوم بمووزج هو جن] 
© 9769 ما بن مرحي ملا 2 لايل رحتنا كالم 
نظه هذ انيمي ع0 عن ابعرلع ]ل هص 
8 »! م1 ما قم هاء مع ربد ارساء و هام 
هنظا *ىه لصيس برناوم,؛ ١ ١‏ ماداعم صلطع 
انيهتنا مل #اثالاه !م محع.11 عد مجومام 
008 انماع انوطة عر وى “مواد ماه 
مما كا 984قلمه /0 مسرو عجريام ج10لرهاء 
اضلل ثلا .عوعق, إن ما مرروع اوطح 
حلانع «ظا مه] طعياه زعمح ليمير ما معو 
سن مو شاكيء + ١1لا‏ جاممه) إدرلع ممع نعوق 
6ع هه انه زهو مه عار ين ٠9‏ إزيله مزرع 
مدت زمه ©0954 الاق تعر مهرم نز رر) ضر فقو 
لصم جين أو جاصادر عرس ريا هضا 
2# هط اسن عه لكطاعوار ب بوه عر مضق 
, كا عاو 178 همصالمر مدعس مس 
عام 6لاطعومء ل ا 0 
2 لفامينية فكت ؟! عاق عرل ادبيررى(ع مس 
كقنهر وى ]10 5م لوصا ويوب ارت رتس جوع 
تسر مون *19 طعسا صجريارء ,بر روم يوي 
لمر رزيرين ©" عاق ممم أوطا بن بعرم 
*" #هانا قصيات! مي روماررة إجرر معي 
توايزا عما6اص م2 ن) ماورعه 0صة 


0 > اموت 65 اهار م01 1.0 ده نيه 
“اقم انكهومءنى هاا ابن عجوو 


5 16 تسصلمتم هاور ذ > ولارم !)1 مله 
تسيدد اث هيه كو الراورر بوره هوا 


0 11م 1خ مساأكه 
يمنا" علانا ننااام مصاع ماوع ليس إميزل 


**"5 ها معيمج م تررمين ورم زبين مرووير 

























«زعيق 


صم 


ون 
لبا 1 ال 
1 
مووي امنا نه وتعر يرو تون ريرم 
و لاخلمج'قخمز )أن يمر 
الم 6 ار ره رمم >:ة كمون 
60 مر خ امه [همومعرجن 


لمزم عه اذ ©(نا #«رخعمطس 
مجم نو #(؛ إن إررمسيم ملل 








- (111<1100 ار 


عر 0ش#8؟هاذلظ8 .8411 )! الخ .ا.[اةثالئاف لمج 0514/15 (11.13513151لا 





104169241 .م/لا0: 2811105 ازملاع 0 








: عشلا ان 














واعت نوا اسسدامريا 


الك اخ1١)1!1آ]‏ 















-0عه8 زه هماعط ؛وسسخ] إلى أنشط! واعمطت 10 

؟ © همة» »ص عنندت مها وبي15! 0ه نه #رمالء امم كب 

عاعنض؟8 كمه اأفإيسااله علان عن] ا!:ه اب عجرم لمعمرة 
ونوج +مر م5 عدر هديك هاعم عرزن إن اجوز عدرر5 ١0‏ 


عمن؟” ممسمط) [ن عضن ا -مراع هنر ازنم الهالولناى 
عكهط7! ندر )| ؟تملموعع ع7 مسرسان الحن>ا ريز ١ ١.‏ 
-«جشسياءء لمق مععه >7 )١6‏ #امولا مان( 1316ن لنترعم ؟ ام 
كتعنا! 606 إن هقولظ [لأه +ه) لاعهط معطا لك ككصك نر 
6 9 كه” 54 اأعط) عره وهات لاسر علطا محر 
7ل قلات 200151 8ه عن) ارزع كل)76 3ه كس كيه 
006 لبان 6ضجه ع ز) ليان ناولا الزيانا اككرء | 
سا كاطا ص#©علها علادا! أذلاتت الوانستساءك هذا 3 
عاها ++طاوء مهملمع9ع ممن مالسع ره كه إكلوء: 
تأاشاق 00 بج#دم مص طوعالي م( (اطعمامام ال, 
شط 1 معما8 
ا.طهط 56) لهط 
لحرا ما وتاوج أن 
عاطقومتدهء وأ 
عو" 0صهة مولا | 
ا م8 ناوصضممي 
علطا صعط»ك من 
أمسيام عصمطم ماع 
كاج ظاااءعهام 
-مع مظع مطوعهم 
مامطلعسيسد +11 
عا؟ ناتت ه 115 
لع 1 ,بطعهه 
4 3المهاكة 0ن 
7#الاءام ص وجرن 
-بعهماه عد ما 
نالا 1 ندا ق كل 
كن جا مالعلا 
اانسجج1 لمعلل سام تصسو1م بسنل 
+10 1»>»ي مسطكطة ١41‏ مص عه #جمالرائلذ الرنه 
!ليت 00 هأكشهاة زاب[ هل لموعلءهو مل؟ هه 
ل ظطعصصطا انوطع اضر 116 ' 683مم ععمادل 4 ارط 0م 
نه ]تنا ل 82 كه" 1 انلط ون؛ط)ا شطأا» عمين عر 




















































ملحق الوثائق 621 














رررعآع10أ-ن رع ررر 1 


«ماتلظ ,ه101 لاخاناة 1150م هده له انثا تعرس الي 


50 سيم ما 7 برس ١‏ ار 
.>2 .>3 001:87ه 101754 106126 64101 )2 ١‏ جسييو؟ا 


2 -- جع ل للحم -- جحل 2 لمجمسوج 0 ال مس حم 2 3 


























م20 5 
نما كه فامااكت اطباض «وتطوعهاعبعنوم! سعليه14 وزاط مفمع مسوم طنمط5 | 
عد كهار لعو عماص اكور أصملوةء؟ بتصونائله 1 موععصق ومدلوي نعجهاز | 
) هه طعنو عونا نا برإعجوع 5 


اند ع802.66ة رقضكينك ننه 0 
هل عط ععجهاملم كداكمظ) 50 
ح انها رمم اع عمعرم عم انه 
جز 86 هه دسسمعياد سا ازا قم 
الس مط ممه عه قرع لالم 
) الوسهظ نالخ عدلءاتة يطعن إن 
ااه 





622 ملحق الوثائق 





لسسم يسمه د 
ل.ل 6166م مقعم 


قلاع ول وعادهم .حت ,| 


َه 
, 
31 


64 0# 602683658-س 
0سا" 066سعه 


عط «عه8 الافط؟! لأنوجو 
هوا انا مصلاهاء .وذا! ينوع ماد 
54806١ 46‏ هزوئة حون2/ سهاواك5 
2 اشظا 6 ©2) (ذ (١65‏ أرموومهم )1 
أ ا)ؤ 5وة"»: ها مهمووجة اآزاء 
1 اء اإذوام #رولاناوة 4زوا؟ 
وأموطءء طهاط ؟*<ا) )© 4له ١1١‏ 
66نم 

مو وموماء ]و واةانى ذزمجم 
ةنك أن#ظطم ووال إ)ه ضما ”> 
ا#سنء»" هزه" )هن «<عممهمم واه 
أقدموءمجو وهااة ولانوك#/ مد 
سوه فارون! مووزااظا 5 ات سمي 
لك مسدؤاء وميعاط .صهوحة) ١1١+‏ 
عوعانة #عكوذ طعلطه وموعمدح 
#دعر واطا )هوم ه:وا وكزا».هوا١‏ 


انأطلطوة فو ولرج |1» 
لوم مظع ودهاس 

قاو ذا محوه 

6ع امة4 | هذا )م 5| اه مموععم 
ا عماءن4 افهظ .هذا ها .»6ح 
شاطح امةةالط" عدأشماعذا جموو 
ومالها» قهوة 8645 وواماط .15 
»وام بوو4+ه0 +#رودوظ وصدولامم١‏ 

ادوووس “ جوجاج7 مفو عجري 

6 أه قاشة مةاها! هذا ما لعاكمء 
6969 مومق ذهه 

امه" هذا زو وووعم” 
مومعو علا اج #الوعة ر 

وثلنا هذ 44عساء6 مله ف تين' 
كنز .ى ط "- بدهيوتي مة* 

ها همهاءم2 6لوع«و الل لالوطع 
0 ة"ة ومة» ووورهذ 056 
ن5 هم كهه و0ومةط2 نجام 
اخمم) 

©غا مهوءه< 056 م415 مء+ءامه 
واد امسوعطة بركمماجة زوممه الع 
وأعرهمء «مه الواظمس اوجعوز 
هها ها هاقلة طونك اوموبوا 
لاة اأهدهزلة وعللدمجة ,مالم 
0نو© 4 وؤاطه4 وذا قلا هااا 
يههاءا زط (7:هلاهع هلذا ذا أحقة 
ايا 5هة©ا/بظك دبيهها 0] 41206 
4 56409862164 لزقناة ها مقه 
#عهام 114 .هم6ظ 63820/16415868 
ها 4هدا و«؟اللهة عله ها جع 
اوه 

الطعه وظا) جو ه:2) تفمسوعمعم ألم 
م ظهاذ ب>ماته3 هذا دا 6ج الله 
4 +ملقدل 256 ©4عه) عنما اق 
مج مص وا هعءجههوسه0ء )م عد 
8 شا اأمهة5ءه طهنة ؟5! 5ل" 





ملحق الوثائق 623 








5 8 
00 #منعك م 66ما 


تق قا عرع1] ازوزلا ده علتعطذ طمء 


ويمنت :انمه 







: ا ووع ووم و "اسه ) 1085 


0-7 ودهوزذوءءده) 01 .ذ .نا عا 


6 عماج ممنه ماعصية عون 0 : 
2 ا ف لما ١‏ و ممحيما وح متهي دوامء 20د مه همع أارآ ملع ميش 2ه 


ممطعنوه وو< شز- +2 |) بيدوسة ها موميا+<ه © اه موس [١‏ وععه4ظ2 اه »© بريه4؟ 


نسم سيم 











ههو مصمنا سائهد » اندج #حخة | -<عن) منووره نا هصووهومنوعء, هاظا انمصع و 9 
بر تعمج ح ها أله | دمو وج ©) هجترء) جما ٠»‏ معمناه/ حها» | الهئيه5ة مه سلسصياعة2 لهمت 
امن موومضمملة 67 ملوه 6< 1 هع بهسانانا #ممطا ها #صها محا 3 5 ونطة» 
ممهيى برنيعصكت مد هزه" | بين ماحوب اورسه موزلك8 .مله ونه 
موه ن#حه صصح دتة؛! ] مهه لما مامه ممه- وألاس هذ1 3 
الل ساس لمحمعاه >5 / وممجحوج أمودع لطا همه عوك #هذجولثا ١‏ رمدم مد عصس-» رقا 


ها م واط هرا وويسو حو مد عسنه قهد ' 












د رضصط دهن سه ودج 
الي سكام مجه امنا عمكة مده مه كوهحاحات هحما 6 ماعن مهم 
وممتصيو ودامكت امن صا 20 مما مالا عا مروة جو ممكته ومنصممة لضب 
0 و همنعلدج ها لالمليت [صوطمم جهنعيه/ 6ه مرو اا 2 همامموة نوهمت مملة 


ما مص من جاه أ واوعيهه ‏ ملحصونت اسسزيومحة امه فممر يمضت 5 

لمن سن صروث امعص<» مما ممحنه دعه طساهمة ممح لح مها || هسمه 0 
صمت 6 يمه محمايح صا -- مولام مم مسماءه صلا عا اظضكهينها نه منج عدج | بيج صمكهب جزييت) عد) حت >) اودطا 
ما عحح قدت كومسروم7 ! 

ال مصعساء مما ىم افعو همد روه هد عه و2 6 )| د©» 8 لوز مصطصع ‏ ولورمطت ندهده 
1 ويم 0 محم ماناة لك جيم ملم ممص تممساك يه وزملحدد هوا مساك السام تسيو 


2-5 وجوت مها ل 
ا .صملطهه لهم لوعساهم اه هعم مه برتتصصي ه١15‏ همه 4 * 
0 جه وعمع ابن داف مط عا ١‏ مالرميت اعد للح االو لدم ب اا ا 
غك وجه وك نوحص ١‏ نه 6ك مم 
04 لال سوط ستسييهاها الرسبا م ا اسم بي ا 










وس مسناسم من ككة | عنم مهمه( مجه لزنه 
حفصيح مودة مه ضحمج مضمده منامءه مط تههنعهع ين وجهة نامس مط)ا 
عه هصن م ممع ف خمصصلدن تين ابن ومسشسسصاة عط شا كوجن 0 اسسجيووة له حين لحن" سا مه 
مجذاءة | طههاحيها صورة . بسو شي نك مما هل مقط اخصصر ددا يم امبالكر اهمسا عا 
بام جورم ام ه حهايأهذ بسلا امد جديا ص وه سه لمن جممن2 م 
ممطيه مهة . 


06 معود هن مضه صما يملع فك 40ذ 
هوه كه وانت أمطا هدنك (50]. 
نكقة أمت) كت «ساامص ه 












5 م 0 > #جم» ام 
د ثشه | موعحه ما والصيهوه 6ه ماسناعصة حنهة تيم سمش مصج ,كذهة ,صن موام< ١‏ 
جيم وجرعطها أهب25© إل وصدكهة ملليعة مصومصح ‏ وحنواءم رن ريصر الجصته ان تجانا بحاي اننا سائطط د 
بيه كيت سك سريت #طط لصياعك لونم ما وم سردن عصزيت مهم عنصم اصطظة عصصد ةصيه عماجت 
>وعيهط معله موعاة7 ه ها ماج يوسن ص ملم) سعط[ بطصضخع إعصة وشكات كنا كه رشابي سح جد ديد 
2 












ل مهايا نمسم 4 مه ميسيحصيير ممم له 

اصح كت حر صوا يحصده .6.6 عستت ممت الممصمم 7 هتهة8 اهمه ١1‏ هد) ١ه‏ عجمة مه 

امود مم وساردل سطا صاصم ه) ودنام جما موسجوصمط ]اه مه السما مود سيس والس اي 
© 


عا الكبعط امحسعحتسح 100 ها صوعة)28 سمالت 
جه معط مصعم صم رنمه حراط ها حم إضهة أ يجده 
1 ميج ٠‏ موا نمو مد | حلنة هط هد ل مضة الت 










624 


01 880801101 عستت 
517 5لللة ‏ 


1[ حعظ لاسطط طاتسصت. 


مارع عام ]لك اليم 


هطوهءه[! 7845 اتنتاتسر كر 

9" ه«اناهده اإلرهوه ب 0 
هق ها ورون هأ ه ورارنساي. 
انلمع تسصينى اوابنت مواييه مو 
ههه 40خ فصه وممارماصهم 
11> مصحوبت) إهن © له مويعصون) 
8 لاس ها جلمتوجم تجوومم 
ها ناما دعنا؟: معنا جه عوحوء1[ 
) »»هظ< هووثلالها. ,ملات صحصصم 
© ملوعياج +ممت اطاريهات إعصم 
216 أهها #5لج تاماجمم” هاوه 
-2676 ةو ملظ لت مسم صا 
مهماة أماحون 5 80 زم هو يوم 
29ج والحخرونع تم 
120 ووساناهةع- ككلم حاصرحن؟ 
>2 اي 4جامصمااظها هيه لاديرص 
4م 9903 كاسمضهحااامر .. 
بونوهالاهك 

ها لطيو ممه بونتاصوم صرو: 

طاله >#سردهدم ءزراس سصس. . 
0 4© 9:58١.1ئطة‏ !5 ع > بده وار وت 
ليفط عظ) كفا تدا4>) هزرلء ها 


وممععدنير ام 
تعطا شايع تججماخفط >ول برع صمارء 
سباع همه رسصضرايات ها نس1ا. 
بحشطلت فلااعم موجيمن ‏ >8 5ه يمر 
اناه 6م لرهوو ون ترصة اللمهرد اجا 
ودكمط ممه وي 1 
»> اهارا جهو ادهع لآ 
>3 1قهنا"ة ألا» لاغعود. #جمص عه اعريام 
ويصالاهة ‏ #ععامة وموعزلم) دعر 
© الاكعظ 0م51 لالححمار 
59# عه زمط2 قارع مصرمي 
8 الفييت 78ج مسعزاهوم برميرر 
له تدعام وزهص: وعمام | 
اسجمءء 00 لتم ممه عهببوااير 
]© اخلاعطضا ممه جك سانطيواس مر 
©5 شم 06 لمارا سي نيجه اعزلءة 


قناظا «مامجء+ء ما وعملاهة 

تتعظهة «جونطمعم +مصره) ه مصه ,+ 

- »© هطظا )» لماصاءئم 

صمناوعا 20614 ١».‏ متلج مك 
لحلفا 

ه عو>للهت »1 


16 96 اععلل 


25877 بلودكة موس جص 
55 إم+سماه 4جاطة” 
داه عن فاموع ب 


| #صممعمم 4و 4ك هلم ملمدهبلا ل 

مولظم مانا بعوقع ‏ خج ص3 لسسع ممم 
.ولأمصاوط مل ص 

صعامعا سه إلا سر 

ع.عظ) صل شسواصض 


38 الكنومط 


يه 
ب 


ا 


بعك معمطد وهط 
مو 


موعزذااء ها هذ ماك 
هاندا هطظا مضا مكيف هطة كاسنا | 
1903 ها سلتصمط ,دثله© همده مماها 


للوعلة موس عتلاصطع تع : 


ملحق الوثائق 


16107 5 اه 
غ210 


عل نمام +240 ووتوصن 


. اممو‎ ٠. 


١ 


1 


ظ 


11 


فك 


١ 


كع 


1 


8 


1 


م اكلا مهيمر عا أصمم 
ذم 16 1.440 ممم جيرس 
عع 3مشسهد ورم أله صر 
ه أ مملط وم ممما عكصز بين 

1 


1 
ّ 


1 


جمس ع ع صم 


١ 
0 


1 


1 
ك5 


3 


1 
ِ 


1 


َه هاط هم كل ماعمدمح مره 
سه ميم الكسلتعه ٠ه‏ 5ك اسووف زاون 
| مه لمك" نينف لبا“ مخضت اك 
ةا دلههة ما بونكهص عطظ) 
ربداواط ما #مماح 3(ه معتسحومن 
طعدام _عاءااهده م +6 بوفلووجقد 
ا »لاهد لامزج]< 5] سححه)ز كاده شكزع30 ه38 
وحنون رهز هملموم 
ممح وج صاطة صخا مذ ومسجملوجله 
+طا١1‏ مل امحعد5اناة ‏ عه مجما0 ضوهن 
هللات معمضود كه ضسنة مومماع 
الث جه ممل منو2 لحعهع3 
7 11ت جنم امداوت هل 


عدي مح عنه وبوط) ابن مإ ناومطع هذ 


حملت علط حمتت 2 
م 66لا طمصماماع ,هساعووحاهحة لا 





.عطلنة لهامسن يهنه 5 
اجمم وشاطعجم مضا وبرويه ١‏ 

نما 
ممه 
#اهط 0ه قحةه ملومهداتم رن 


ملحق الوثائق 625 





برفع انتقاب عن كل مابحيظ جَدْ + من 
كة . واحكام متبايتة . يدرسها درسا علميا 
ويحللها تحليلا فليا صرفا تحت أضوء. 


وحبك لار كايا ان اقصامء 
فال “ته انكل ٠‏ 3 
٠‏ راجرد سبمتوسيية مننها صن 
والصتح تاجر. صل علق ٠‏ 
٠‏ وكن السعرا اقرب للعترق . ال 
الهم صتاصيوة ميلو ذا مر صيصي 
> وللى صمسسر ثم قمر خهسر 


عليه مر كان ورجية وسلدي 
امسر ل لالكتيري الاسسطفة 





صورة مقال للمؤلف نشره في إحدى الصحف العربية في أميركا . 


626 ملحق الوثائق 


لا زلااايا. حسايان للاناة 
النولهة أضذى جيرا . 
رصلاح الدين رب اناج مات 
لمات صلاح .دين إسطفها مسامنا 
سيل اللسججه العربي ويرك ورا -. ذ كرا 
0 مو أن رو اعياب 
1 ودين تدكر عله 
5 من سنال اسم وات 
رشدة ل بيارة حرية علدرة »* 
مم المظمة ارالقرة؛ رحمة ااا 


سمادة منوض. ظمرلقي في وا اعقطرن علي جودتث لك لايرل 
رغحة في انناء هذا الميشى 


2 هري لاضن | رهنا تمرح ان ابه 
تصخع. حال :نامع راس الي المين 0 211 2 
1 0 بحيب عن مؤال لواح عليه يلق انثا. مسبة طلطين وانوي دقاها علي حلي 
مشي #مرية ديت المسها | اليش ا#صييوتي في ليقام النقسة شرت | ميرم بي را ريل 
2 م م من رعياء المر وو ايع اليج 
اط ترا بس يونا ساد في ايارس سا 
بوءدي حتاالل الارة سِعيّ 
امدقتهم ويصهم ‏ يردسون تمان ولااغر من لام اليكو كع 
السوررية النائلة : اذا اتصرت. الحتماء الابري 303 الجكسم وعم دما اندي | 
ستكوى البلا المريية الم امائغة الهم يهم المرت. ولوطاها ا ل 


دلي من لحكمة اثارة عضب تك ! علينا ان معاملة يمير ذى حييمة رطان 
شا 3 مرب عل راسلاما. جيه رعرمااء نند 





مقتطفات من المقالات التي ظهرت في الصحف الأميركية عن المؤلف 


ملحق الوثائق 





627 


ه6065 4«-ه موس 


وج [ه 550 


يضح > 


امج سمه 0 854 
ا لقهش#شؤلضاء 2 


جنبه 27 +02 أه ج10 +( جومه طمدووى وماجورا 
ع6 5 35.7 +22 دهم اطول بصلمه كز ومن ه هن 
جبابجم 1 +مامن ببمومات ه وه فوماهوومي جا 15 


ج52 297 لقح ا 1 سوير ران نطذ _ نوف | 


ثيقة التي حصل عليها المؤلف من شركة طيران (بان أميركان) بوصفه أحد الركاب الذين 
ا أميركا إلى أوروبا تمرّ عبر القطب الشمالي» وذلك عام 7م 


628 ملحق الوثائق 





الصخرة التذكارية التي كُتب عليها اسم والد زوجة المؤلف 
السيد أليسون الذي أهدى المنتزه لولاية نيوجرسي . 


فهرس الأعلام 


فهرس الأعلام إليف 


0-6 


آدمزء كلارا: 429. 

آل خليفة» حمد: 429. 

آل سعودء تركي بن عبد العزيز: 79» 87. 

آل السعودء خالد بن عبد العزيز: 2236 
4 2.457 459. 


آل سعودء سعود بن عبد العزيز: 279 82» 
1.» 155 156 2.161 482 
4 2236 2237 
٠1‏ 482 491. 


آل السعودء فهد بن عبد العزيز: 2.14 


469 2 


..384 2382 2.381 380 4 
2,389 2.388 .387 .386 5 
581 .462 .461 .392 0 

2 584. 
آل السعودء فيصل بن عبد العزيز: 214 
2 89. 96. 4110 111. 4112 
8 134غ. 135. 2.154 158. 


177 
14 
4 
8غ 
6ه 
1 
38. 


آل السعود. محمد بن عبد العزيز: 


)0 


9 
0 
4 
9 
7 
4 


4 


1 
1 
41 
2 
8 
6 


89 


.491 466 65 


.-38 


آل السعودء نواف بن عبد العزيز: 


4 
3585 
2 
8 


381 0 
2389 8 
.462 4 

.534 2 


آلن يوء أوجار: 301. 
الآلوسىء توفيق: 132. 212. 594. 


2 
2 
4 
3 
0 
11 


41 


382 


0 
4 


فيك لم يرد اسم عبد العزيز آل سعود في الفهرس نظراً لوروده في أغلب صفحات الكتاب. 


629 


3 
6.353 
7ه 
5غ 
0 
2غ 


4 
2 


1ش) 


8 
4 
331 
45 


06230 


الإبراهيم» مصطفى: 409. 

ابن إبراهيم» عبد العزيز: 606. 

ابن أبي سفيان» معاوية: 178. 

ابن الجراح» عامر: 98. 2.108 575. 
ابن الحسن» علي: 100. 

ابن الحسين بن علي» فيصل: 50. 255 


6 2.57 288 289 102.غ. 2.110 
2-1 112 2113 114 115 
27 2.135 2.177 178غ. 184 
65 186غ» 207.» 209. 2211 
2 2213 2.215 216غ. 2217 
8 219غ. 220. 221. 2223 
1 561. 


ابن الحسين» زيد: 2. 


ابن الحسين» عبد الله : 5 96. 101 


2 .» 103. 104غ» 2.115 4116 
2.7 118غ» 119 135. 140 
2-6 2178 2.184 2186 4187 
2 » 2201 202. 213. 2218 


.465 421 9 


ابن الحسين» على: 2.91 92. 95. 101» 


6 4118 221. 222. 
ابن الخطابء. عمر: 96. 98. 99 

8 1 572 4575 576. 
ابن الرشيد» عبد الله: 56. 140. 


ابن الرواف» عيسى : 3 196. 


فهرس الأعلام 


ابن الرومي: 338. 

ابن العاصء عمرو: 171. 

ابن القيم: 35. 597. 

ابن الوليدء خالد: 108. 114. 188» 
6. 


ابن بجاد.ء سلطان: 204. 206. 

ابن بليهد: 158. 

ابن تيمية: 235 597. 

ابن ثويني» سعد: 544. 

ابن جلري. مشاري: 167. 168. 169» 
1 172. 204. 

ابن حثلين» ضيدان: 204» 206. 

ابن حسين بن علي » زيد: 221. 

ابن حمد المديفرء محمد: 78. 

ابن حمود العبيد» سعود: 56» 57. 

ابن حمود العبيدء سلطان: 56. 

ابن حمود العبيد. فيصل: 56. 

ابن حنبلء أحمد: 35. 2.151 2280 
07-. 

ابن خزعل» جاسب: 53. 

ابن رشيدء عبد العزيز: 29. 30. 31غ» 
1 255 69. 481 164. 

ابن رشيد؛. سعود بن عبد العزيز: 55. 
6 2.57 2.69 81. 82. 83. 84 
5). 7ق 288 89. 96. 100. 


فهرس الأعلام 

ابن رشيدء متعب بن عبد العزيز: 55. 

ابن رشيدء محمد بن عبد العزيز: 55 
7 167. 

ابن رشيدء مشعل بن عبد العزيز: 55. 

ابن رمان: 189. 

ابن روجر الثاني» غليون: 267. 

ابن ريحان» مرزوق: 235. 

ابن زيدء أسامة: 99. 575. 576. 

ابن زيدء» شاكر: 176. 

ابن زيد» عبد العزيز: 179. 

ابن زينل» بهجت: 214. 216. 223غ. 
7 249. 

ابن سعد. فيصل: 492. 

ابن سعودء محمد: 550. 596. 

ابن سعيدء. عبد الرحمن: 183. 

ابن شعلان» فواز: 45. 

ابن شعلانء» نايف: 481. 531. 

ابن شعلان» نواف: 45., 47. 48» 88. 

ابن شعلانء النوري: 45. 46. 247 
8 2.84 85. 88. 289 150. 
8. 

ابن ضاري الحمودء خميس: 75. 

ابن طلال بن عبد العزيزء خالد: 203. 
5 454 

ابن طلال بن عبد العزيزء الوليد: 203. 


631 


ابن طوالة» ضاري: 284 85. 

ابن عادياء» السموأل: 189. 190. 191. 

ابن عبد الرحمن عبد العزيز: 277 89». 
1 2208 454. 

ابن عبد الرحمن» عبد الله بن محمد: 236 

ابن عبد العزيزء أحمد بن سلمان: 2.10 
15. 

ابن عبد العزيزء بدر: 236. 

ابن عبد العزيز» سلطان: 581. 

ابن عبد العزيزء سلمان: 10. 


ابن عبد العزيز» طلال: 14 203» 236» 


486 .483 .481 2.469 9 
494 2493 2492 2489 7 
525 2517 2.506 2.496 5 
.543 2 

ابن عبد العزيزء عيدالرحمن: 393» 
9 482. 

ابن عبد العزيز» عبد الله: 581. 

ابن عبد العزيزء عبد المحسن: 395» 
9 482. 


ابن عبد العزيزء ناصر: 469. 

ابن عبد العزيزء ممدوح بن سعود: 469. 
ابن عبد الوهاب» محمد: 233 34. 235 
0.» 167. 
1 595 596 597. 


.,0 2152 1 


ابن عقيل» سليمان: 274. 


632 


ابن على» الحسين: 0م 88. 2.89 295 


2 110 111غ. 114. ١.116‏ 
8 2151 2.154 /177. 84ك 
6 290. 


ابن علي » عبد الإله: 222. 290. 

ابن عويدء شكري: 49: 50. 

ابن كريديس» فهد: 469. 482. 

ابن لؤي: 101. 

ابن ماء السماءء المنذر: 191. 

ابن ماجه: 280. 

ابن مجلادء جزاع: 73. 

ابن محمد الخامسء. عبد الله: 203» 
4 . 

ابن مساعدء خالد بن عبد العزيز: 88. 

ابن مساعدء عبد العزيز: 88. 179» 

5 


3 194غ. 2.199 


.483 207 6 


0 


ابن مساعد» محمد بن عبد العزيز: 8. 
ابن مسفر. عبد الله : 2. 
ابن مشهورء» فرحان: 4 205. 


ابن معمر». إبراهيم: 9 195. 2206 
3 2224 247. 249. 


ابن معمرء عبد العزيز: 531. 

ابن مهدي عثمان» توفيق: 537. 
ابن نعمان عثمان» محمد ربيع: 537. 
ابن نعمان عثمان» مهدي: 537. 


فهرس الأعلام 


ابن نواف: 16 


ابن هذال» فهد: 48. 2.50 272 273 


7 . 
ابن هندي : 4. 
أبو بدر: 53. 


أبو تايه: 84)» 85» 121. 122. 188. 

أبو خليل» علي : 435» 524. 

أبو الذهبء» أمين: 232». 480. 

أبو الروق: 44» 106. 

أبو شادي. صفية: 2501. 505» 527. 

أبو صفرة: 83. 

أبو عمار: 201. 

أبو قورة» أماني بنت صلاح الدين: 16. 

أبو الكلاب: 204.؛ 206. 

أبو ماضيء إيليا: 289. 290. 2304 
2 473. 


أبو نواس: 2196 211. 

الأتاسي» هاشم: 2110 111. 
الأثري؛ محمد بهجت: 226. 249. 
أجليقين» صبحي بك: 203. 
أجليقينء طاهر: 203. 

أجليقين» فوزي: 203. 

أجليقين» مصطفى: 39. 

أجليقين» ممدوح: 203. 

أحمد عثمان» نعمان: 537. 


الأحمد. سليمان: 258. 

الأحمدء محمد سليمان: 131. 

إدريس» عبد القادر: 484. 

أدهمء كمال: 485. 486. 517. 

أرتميس: 181. 

أرسلان» عادل: 221. 249. 

أرلين: 521» 522». 523. 

الأرمنازي» نجيب: 534. 

أسترنج: 176. 179. 199. 204. 

استوفنيت» بيتر: 284. 

الأطرش. حسن: 386. 389. 463. 

الأطرش. سلطان: 41. 117». 202. 

الأطرش. علي حسن: 389. 

الأطرش. فريد: 487. 

الأعشى: 64. 

أفنس: 397. 398. 401., 403. 406., 
7.. 

ألبرت: 527. 

أليسون: 509. 628. 


أليسونء فرانسيس: 286. 503» 2504 
506. 


أم كلثوم: 374. 488. 

أم محمد: 486. 

أم موسى: 163. 

امرؤ القيس: 189. 190. 191. 192. 


633 


أنوشروان». كسرى بن قباذ: 191. 

أورستي» مايكل: 510. 2511 517. 

أوزولد: 329. 

أيوب» رشيد: 2289 2290 442. 

الأيوبي» علي جودة: 579. 

الأيوبيء صلاح الدين: 113. 2242 
9. 


الأيوبى» عطا بك: 114. 


تل 


9 


باركء. أليسون: 503. 504» 508. 
بانورف» ميتي: 2353 354. 

بتي : 1310. 

بحري». يونس: 450. 


البحنسىء فارس: 282. 2348 2349 
337 


البخاري: 280. 
بدره» قاسم: 5. 
بدره» نجيب: 435» 524. 


بدور» سليمان: 3 429. 2430 
1 442 473 565. 


بدوي الجبل: 133. 134. 161. 2258 
8 439. 


براون: 304. 


برزان: 82. 86., 193. 


634 


بريء» عبد الله : 445. 

البريدي. فوزي: 289. 442. 473. 

البزي» خليل: 460. 

البساتنة» محمد: 175. 

البسامء إبراهيم بن محمد: 218. 

البسام. سليمان: 483. 484. 536. 

البسام؛ عبد الرحمن: 462. 

البسامء محمد عبدالله: 2.144 147غ». 
7 218. 

البعلبكي» محمد محمود: 120. 

البغدادي. شكري: 292 94. 

بقشان. أحمد: 482. 483. 


بلدوين الثاني: 181 


بلاك: 243. 
بلقيس: 433. 


بنت الأزورء خولة: 438؛. 556. 

بنت ربيعة» فاطمة: 191. 

بنت عتبة» هند: 97. 

بهلوي شاه. رضا: 54. 

البيطار. محمد بهجت: 107. 2.226 
432 


بيل: 44. 50. 51. 52.» 117. 


بينن. هنري: 508. 
بيهم 2 جميل : 6 437 443. 


ت 


تاريء جون: 318. 319. 

تامسء لولا: 410. 

تايلر: 302. 

الترمذي: 280. 

ترومن: 274. 

تشرشلء» ونستون: 198. 423. 2458 
4 465. 482. 


التغلبي» كليب: 191. 
التغلبي» مهلهل: 191. 
التميمي» صعصعة: 439. 
التنوخي. عزالدين: 33. 226. 
تيبلور: 302. 

تينكرء كارتس: 322. 323. 


43 
الجابري» إحسان: 0 2. 
جاردئر» كيث: 2519 527. 
جارفر» جون تانس: 2322 323. 
الجاسر». عبد العزيز: 43. 
جاكلين: 329. 
جاكسون: أندرو: 326. 


جبران» جبران خليل: 442. 599. 


فهرس الأعلام 

جفرسون: 302. 

الجلاجل» محمد: 126. 

الجلادء هاني: 145. 

جمال باشا: 2.30 2.37 238 241 43غ. 
4. 245 46. قل 88. 111. 

الجهني» عبد الشارق: 85. 

جورج: 515. 516. 

جوردان: 169. 2.170 2.186 187. 


الجوهر. ذياب: 1 393 462. 


حَ 


حاتم : 65 166. 


الحاجء نيقولا: 6 341 2 


9. 
حتهء فيليب: 289. 
الحجيلان» عبد العزيز: 43.» 78. 
حداد» عبد المسيح : 2 473. 
حداد» ندرة: 2289» 2290 442. 443. 
حسن باشاء محمود: 2232 460» 473. 


حسين» طه: 233 34 235 151ك» 


.586 6 

الحسينيء أمين: 118. 201. 2202 

.2227 .219 2218 .204 .»3 
.6 


حكيمء جورج: 4 . 


635 


الحكيم.ء خالد: 110» 2.155 168» 
9 11. 

الحكيم. مريم: 360. 

الحليسي, عبد الله: 41: 147. 

حمادة؛ روز محمود: 569. 

حمدء عائشة: 2433 2.434 452. 

حمدء ليلى: 433. 434. 

الحمدان» عبد الله السليمان: 136» 154» 
22 2.163 164. 169. 

466 4 
.499 498 484 0 

حمزة (عم النبي): 97. 

حمزق فؤاد: 154 155. 212: 2236 


2 


3 2237 69ظ*, 


.469 7 

الحمودء ضاري: 75. 

حمودة؛ محمود: 2154 155. 

الحموي» ياقوت: 188. 

حميد الدين» أحمد: 119. 

حميد الدين» يحيى: 178» 184. 2219 
7 4579 580. 

الحميدة؛ أحمد العبد الله: 183. 

الحويطي» محمد النجيدي: 183. 

حيدرء رستم: 212. 223. 


٠. 


حَ 


خان. حبيب الله : 155» 2.160 161. 


636 


الخريجي » عبد الله: 2468 2472 482. 
خزعل» الشيخ: 253 54. 

الخشي» مريم: 16. 25. 

الخضرء حسين: 435» 524. 
الخضيري»؛ ياسين باشا: 214. 
خطارء رشيد: 2434 435. 

خطارء سعيد: 2.434 435. 

خطارء فريد: 434. 435. 

خطار. نجيب: 434. 435. 

خطار. يوسف: 2.434 435. 
الخطيب» فؤاد: 176. 

خلف» حسين: 435. 

الخوري» فارس: 110. 340. 473. 
الخيام» عمر: 427. 


خير الله. أبو على: 230. 241. 2.289 
2 2.452 497. 


الخير» مرئد: 191. 


د 


دافيدز» جيفرسون: 327. 
الداهوك. مرعي: 435. 524. 
داود (الملك): 202. 

الديس» جورج: 361. 
الدبس» حنا: 360. 


الدروبىء علاء الدين: 114. 119. 


فهرس الأعلام 


الدملوجيء عبد الله: 36. 154: 209. 
دموس» حليم: 441. 

دوسن: 109. 

الدويشء عبد العزيز: 205. 206. 


الدويش». فيصل: 5 199. 2204 
5 206. 


دي كستراء هنري: 109. 399. 400. 


ر 


الراجحي. صالح: 514. 

الراوي» إبراهيم: 214. 216. 

الراوي» جميل: 92. 

الرشاش» سعيد:141. 142. 2227 
9. 

الرشوديء إبراهيم: 155» 158. 

الرشودي». حمود: 514. 

الرصافي» معروف: 178. 600. 

رضاء رشيد: 2.131 2.155 258. 

رضاء علي: 236, 274. 384. 367. 

الركابي» رضا باشا: 103. 

الرميح» سليمان: 101» 103. 

الروافء. آسيا: 9. 11. 491. 492غ, 
2 520 2522 2527 535. 


الرواف» إبراهيم المحمد: 29 37. 39» 
0» 2.42 2.44 2.45 246 51 3ت 


2.137 296 2.88 284 2,83 9 
196 2160 2158 145 14 
.203 6 


الرواف». أميمة: 9. 11. 491. 2,492 
5. 


الروافء» أندروميدا بنت نواف: 518» 
527. 

الروافء حامد ياسين: 537. 

الروافء. حسان بن ياسين: 42» 537. 

الرواف. خليل إبراهيم: 9, 10. 11» 
8 19 21. 22. 2.25 33. 234 
1 279 137. 144. 158. 2202 


7 208 212. 213. 223غ» 
7 257. 2.265 349. 2350 
4 385. /387. 2388 2,389 
0 392. 393. 2394 2395 
2 2.421 2427 2.450 454. 
0 2.486 518. 519. 520 
6 2.532 533غ» 540 544 
9- /557. 2.565 2585 86ت 
5 


الرواف» رواف محمد: 2 146. 


الرواف. رياض: 42. 149. 2.226 
6 31. 


الرواف»ء سليمان العبد الله: 42. 


الرواف» سليمان محمد: 42. 


627 


الرواف» عبد الرحمن أبو حمد: 43. 

الرواك» عبكالرحين ين عقل» :42708 
10565. 

الزواق هه لعز 42 

الرواف» عبد الله: 43, 563. 

الرواف.» عثمان: 10. 11». 15. 16غ» 


4 42. 2.144 2.501 502. 503غ» 


4 /50. 508. 509. 510. 
1م 2513 2514 515 516 
7 520غ. 2.521 2522 524 


6 /527 528 2529 5ي. 
الرواف» عقل الناصر: 2 . 
الرواف» عمر المحمد: 4 106. 


الرواف» قاسم: 5 158. 2207 


.481 .249 215 4 

الرواف. مأمون: 2.16 42. 

الرواف. محمد الأحمد: 239 40» 243 
8 259 62 63 64 265 267 
0 72 73. 1ق 


421 .»0 


3 .» 2.124 125غ. 128. 456 


.530 211 .» 61 .» 0 


الرواف» محمدعيد: 2.10 2.42 /57» 


4 65. 281 2.105 2.114 125 
#6» 137غ. 141 142. 447 
8 2156 2165 196 2»202 
3 214غ. 2.224 225. 226غ» 


638 
2247 2.234 ».233 .230 7 
2281 2.266 2.261 2.257 9 
.488 1 


الرواف» محمد: 243 211غ 2.517 543. 


الرواف» المعتصم بالله بن ياسين: 149. 
الرواف. ناصر: 43. 150. 183. 2.193 
4 199. 200. 


الرواف» نواف: 9 222 2.472 2.477 


9 2480 2.483 2.497 501 
2 504. 505. 506. 507 
0 1م 512. 513. 515 
6 2517 518. 519. 2520 
7 2528 529. 2533 541 

.544 2 


الرواف». ياسين: 0 16 2.42 3ت 


7 62. 1ق8غ. 2.112 2.114 125غ. 
6» 2.128 2.129 137. 143غ. 
4 145 2.146 149غ. 153 
26 158غ. 159. 160غ» 2161 
5.» 205. 226. 249غ. 2255 
221 360 421 2467 2,481 
8». 2507 509. 2.2534 535 
6. 


روبتشتاين. جاك: 329. 


روجر الثاني: 267. 


روزفلت: 2.198 2273 2.274 287غ» 


8 322غ. 2423 430. 454 
98 24465 . 

رولندءألبرت: 320. 321. 322» 
3. 


رياضء عبد المنعم: 472. 473. 474. 
8 499. 

الريحانء مرزوق: 385. 391. 393. 
7 459 462: 468. 


الريحانى» أمين: 78» 225. 


ز 
الزباء: 188 
الزيدانى» مصطفى: 261. 
الزركلى. خير الدين: 235» 481. 
زغلول. سعد: 126. 127. 132. 142» 


2263 8 2161 6 
.5 


1ه 


زكارء سهيل: 2.15 16» 20. 23. 
زكى. أحمد: 473. 505. 2506 2507 
8 527. 


زكي » نبيل : 305. 
الزمخشري: 428. 
الزهاوي. جميل: 600. 
الزهراء. فاطمة: 92) 93. 
زيادة» فرحات: 509. 


فهرس الأعلام 

زندان» أمن: 472» 473. 
زيدان» جر جى : 3 
الزين» عارف: 131. 


زيلئل» على رضا: 6 51 2.462 
8 469. 


سنن 


السابق». عبد العزيز: 43. 

السابق.ء فوزان: 43. 278 83. 141. 
0 4681 2483 484. 

ستالين: 2.423 464. 465. 

ستيفنس » إدوارد: 353. 

سدرة» قاسم : 4. 

السعداوي. بشير: 182. 

السعدون. عبد المحسن: 117. 196» 
1 217. 

السعيد نوري: 2209 212. 217. 220». 
2 223. 290. 

سلمى: 122. 123. 

السليمان» إيراهيم: 2.231 2.235 2.457 
8 462. 

السليمان. سليمان الحمد: 236». 237» 
9 499. 

السمانء خليل: 47» 57. 

السمان» رشدي: 47. 2.125 126. 

سمانء شاهر: 226. 


6039 


السمان» شريف: 63. 
سمث: 2.109 297. 
السناني» عبدالكريم: 40. 
السهبان.؛ حمود: 56. 
السهبان» علي بن حمود: 56 
السهبان» علي بن محمد: 89. 
السهبان.» محمد: 82. 83. 
السويل؛ إبراهيم: 514. 
السيف. محمد: 9 


م 


س 
شاهرء ضاهر: 231. 
الشبل» ماجد: 42. 
شحادة» بطرس: 289. 


شرانق» حسن: 2 433. 2.434 
4. 


شرانق» خليل: 434» 524. 
شرمان: 306. 

الشريف حسين: 44): 2152 221. 
شطارة» فؤاد: 2289 442. 
الشعلان» فواز: 386. 389. 463. 
شفيق باشاء سليمان: 29. 36. 
الشقيري» أحمد: 231. 

شكري» حمد: 142. 


الشنقيطى: 177. 


60 


الشهبندرء. عبد الرحمن: 110. 

شوبيند» هورس: 326. 

شوقي بك: 375. 397, 425. 

شوقيء أحمد: 2.40 57. 2.132 2250 
8 2262 2263 


.0 


427 8 


الشويدر. دياب : 9. 


ص 


صالح (النبي): 103. 

الصالح. سعود بن سليمان: 39. 

الصالح» نايف السليمان: 39. 

الصباح. جابر: 48. 49» 53. 

الصبانء» محمد سرور: 484. 

صدّيق: 167. 

الصديقء أبو بكر: 96. 298 99. 2.171 
5 576 577. 

الصلح؛ رضا بن أحمد: 203. 

الصلحء رياض بك: 202: 203. 


الطباع» صبري: 30. 

الطبراني: 280. 

الطبيشي» إبراهيم: 484. 

الطبيشي» عبد الرحمن: 199. 
الطرابلسي» عبد الحكيم : 7 » 156. 
طلبة بيك: 340. 

الطلال الرشيد» عبد الله : 56)» 57» 84. 
الطلال الرشيد.ء محمد: 56. 57. 
الطنطاوي» علي : 6. 

طوسونء فاطمة ابئة عمر: 452. 
طوقان» أسمى: 491. 


الطويانء سالم: 39. 106. 


ع 


عائشة: 517. 

العايد. محمد علي : 218 
العاصيء حسن: 524. 
العاصي. خلف: 524. 
العاصي. زين: 435, 524. 
العاصي»ء محمد: 2435 524. 
عاصيء مهيبة: 525 526. 
عاصيء نبيل: 525. 
العاصي. يحيى: 435. 524. 
عامر باشاء إبراهيم: 345. 


فهرس الأعلام 


عامرء. عبدالحى: 2 345. 2346 


8 2355 357. 2359 362غ» 
1- 2373 375. 2376 3/8غ» 
9 /239 2398 399. 2.480 
4. 


العباد. صالح: 392. 462. 

عباس » عبد الله : 353. 

عبد الحي ياشا: 0-. 

عبد الرؤوف: 498. 499, 514. 
العبد العزيز» سرور: 81. 89. 96. 
عبد المسيح : 9. 

عبد الناصرء جمال: 434. 446. 


عبد الوهاب» محمد: 2263 2495 2496 
7 


عبد الله (أمير): 33. 

العبد الله أبا الخيل» فهد: 83. 
عبده» محمد: 2257 551. 
العبدوني» علي : 446. 

عثمانء أحمد محمد: 39. 
عثمان» نعمان: 2.106 107. 
عجرم » حسن: 2.432 434. 524. 
عجرمء خليل: 435: 524. 
عجرمء عبد الله: 2434 446. 


عجرم فاطمة: 524. 


601 


عجرمء محمد: 2524 526. 
عرابي» أحمد: 258. 340. 
عراجة. أبو عمر: 128» 130. 
عريضة.؛ نسيب: 2289 442. 
العرين» رجب: 39. 

العساف. ناصر الإبراهيم: 175. 


العستلى+ صشري :0168 6171-5169 
3 174. 


العصيمي» محمد: 2.42 144 2.147 
1». 182. 

العظمء خالد: 148. 

العظمة. نبيه: 2110» 155. 

العظمة» يوسف: 112. 

عظوم: 238. 

العقباوي: 115. 

عقيل» سليمان: 394. 

العكاس» عبد المحسن: 16. 

علوان» قاسم : 4 446. 525. 

علوي باشا: 227. 

علوبة باشاء محمد: 218. 

علي باشاء محمد: 33. 

علي رضاء مريام: 467. 

غلي: شوكت: :195 

العلي. صالح: 5 202. 


على. محمد: 155. 


62 


العلي؛ محمد: 86. 

عمرء عبيدو: 2434 2435 524. 
العنبرء سليمان: 89. 

العنيرء محمد: 89. 

العوني؛ محمد: 84. 

عويد: 249 250 51. 

عيدء جورج: 406. 

عيساوي. تشارلس: 509. 


عيسى (النبي): 309. 


٠ 


ع 

غاردئر» كيث: 507. 

غازي (الملك): 220. 221. 222. 
3. 

الغاشم؛ حمد: 87. 

غاندي: 185. 

غرابيه: 112. 

غرين» زين: 321. 

الغزاوي» إبراهيم: 94. 

الغساني» الحارث بن أبي شمر: 189» 
1. 

غلوب باشا: 116. 

غلوش: 470. 499. 


غورو: 111» 112. 113. 119»: 120. 


فهرس الأعلام 


فابرء دي نار: 326. 

فؤاد (الملك): 2.127 2.156 2.157 177» 
18 

الفائزء مثقال: 179. 

فارس» نبيه: 447. 

فاصولوء كارولين: 248. 249. 2255 
5 266. 269. 

الفاعور؛ فاعور: 386. 463. 

الفاعور؛ محمود: 119. 120. 202. 

فتاح. نوري: 249. 

فخري باشا: 2.92 2.93 94. 95. 

فرانسيس: 2.247 2.249 255. 509. 

الفرزدق: 439. 

فرعون. توفيق: 30. 

فرعونء رشاد: 154. 236. 384» 
65 387. 2.388 462. 

فرنكلين» بنيامين: 272. 273: 366. 

الفضلء». عبدالله: 139. 2.141 142. 
5 484. 

الفقيه» أسعد: 2.237 470. 471. 

فندربلت» إيمي : 2 453. 454. 

فيصل الثاني : 222. 

الفيصل» عبدالرحمن: 558. 


فهرس الأعلام 


الفيصلء عبد الله:274. 380. 2381 


5 2386 2387/7 388غ. 2393 
4 2462 2.465 481. 482.غ 
3. 


فيلبى» عبد الله : 212. 


وو 


قو 
القاسمي» أحمد: 534. 
القاسمي. ظافر: 33. 
القاضي ء حمد: 42. 
القاوقجي. فوزي: 155. 221. 249. 
القبيسي» رؤوف: 215. 
القرقني» خالد: 2.181 2.182 467. 
القصاب. كامل: 202»؛ 203. 
القصيبي» خليفة: 482. 
القصيبيء عبدالرحمن: 143. 230غ: 
2.. 
القصيبي» عبدالعزيز: 227. 
القوتلي. شكري: 110. 154. 168» 


9 71 173غ. 174. 360غ: 
1 


كك 


كاتية» حبيب : 2 453. 


كارل: 452. 


60043 


كاريوكاء تحية: 497. 

كاشي» حسين: 48. 49. 50. 

الكاظمي», عبدالمحسن: 600. 

الكحيمي؛ أحمد محمود: 42.: 2146 
38. 

الكحيمي» خالد محمود: 42. 

الكحيمي» رشيد: 42. 

الكحيمي» صالح: 39. 

الكحيميء عبدالعزيز: 39. 42. 2121 
9. 

الكحيمي» علي: 121. 249. 

كراين: 403. 

كربنتر» هويتني: 2565 566. 

كرد علي» محمد: 136. 

كرمء سليم: 337. 356. 359. 

كرمء سليمان: 359: 442. 

كرما: 2461 467. 

كرى». أحمد بك: 2142 485. 

كرى» حسن أحمد: 485. 

كرى. علي: 453. 2526 527. 

كسرى: 98. 

كعكة. صدقي: 2469 2472 482. 

كلاركء لتكولن: 2356 454. 

كلايتون: 187. 

كلوب (أبو حنيك): 207. 


كمال» مصطفى: 115. 135: 258. 
كندي»ء جون: 329. 

ركان ترا سس 501 
الكوركليء أبو عبدو محمد: 39. 
كوكس» بيرسي: 30. 49. 50 51. 
كولميس: 325. 


الكيلاني» كامل: 212. 


لانس: 110. 

لميورث». بيجي : 405. 

اللنبي: 13. 

لوبونء. غوستاف: 108. 173. 2399 
0. 

لورنس العرب: 100. 113. 114. 216. 

لورينت» روماند: 357. 

لوسون: 302. 

لوك. شارلس: 322. 323. 


ليثمن : 8 74. 


ليهء جى: 255»: 410. 


ماديسون: 0002 


المأمون: 276 77. 


فهرس الأعلام 
ماكول. وليم بين: 398. 
ماهرء أحمد: 126. 
مايرء أجنس: 305. 
المتعب» سعود بن عبدالعزيز: 92. 
محمد (النبي): 34. 35. 44. 82: 291 
2 94. 96. 97. 98. 99. 100 


7. 108. 109. 151غ. 152 
3 156. 167. 168. 171 
3 186غ. 259. 2326 400 
1 2427 2466 2.499 2550 
1 2563 567غ. 2568 2570 
1 2572 575 2576 582 
6 /597. 


محمد محمودء أحمد: 16. 

المحمد.ء سعيد: 55)» 256 257 83. 

المحيسن» سليمان: 39. 

المحيسن» عبدالعزيز: 39. 

المحيسن» عبد الله: 39. 

محبي الدين: 238. 

المدفعي. جميل: 217. 

المديفر.» حمد: 2.43 78. 

مذر: 2.425 2.426 2.427 428. 429غ. 
02 1 2.522 523». 
9 3-. 

المراغيء مصطفى: 155. 258. 

مردم بك جميل: 110. 2.114 148. 


.60 


مرعي» حسن: 435. 524. 

مروةء كامل: 500. 

مشمش: 2.122 123. 124. 125. 
المطلق. محمد: 487. 488. 

مطر (رحالة): 460. 

مظفرء محمد حسن: 310. 
المعداني» جميل بن تميم: 276 77. 
المعري» أبو علاء: 427. 
المغيربي» عبدالقادر: 92. 93. 94. 
المغيربي الفتيح. محمد: 94. 101. 
المقوقس: 98. 

مكرزل» سلوم: 442. 473. 
مكماهان. ت.س: 340. 

ملحس» رشدي: 2154 235. 
المناصفي». أحمد: 212. 

المنذرء إبراهيم: 134. 

المنفلوطي: 131. 

المهاني» زكي: 146. 

المهناء أبا الخيل: 83. 

موتي: 315. 

مود (جنرال): 222. 


موسولينى: 257. 265. 268». 423. 


موصلى.ء أحمد: 2.469 2.470 499. 


الموصلى» حسن: 9. 


مونرو: 2 


645 


مونئروء مارلين : 2 


مينسوي: 300. 


نَ 
نابليون: 328» 461. 
الناصرء خالد: 153. 
الناصرء رشيد: 89. 257. 
النجاشي : 8 
النجيدي. حمود: 39. 
النجيديء خليل: 106. 
النجيدي» عبود: 39. 
النحاس» محمد: 155. 162» 163. 
نصيف. محمد: 139. 


النقراشى: 126. 198. 
النملةء» حمد: 469. 


نيكسون: 470. 


هل 


هاشم توفيق: 482. 

الهاشمي. طه: 212. 222. 

الهاشميء ياسين بك: 217. 2218 
1.. 

هايسون: 302. 

هتلر: 219. 220. 268. 423. 451غ 
6 461. 


666 


هرقل : 08 107. 114. 
الهزازي» طيب بك : 4 . 
هنانو» إبراهيم : 0 115. 202. 


و 
واشنطن» جورج: 4 2.286 2298 
9 001 2302 237/6 2399 
8. 


وتربربء جان: 208. 513. 
ودسن: 399. 

ولمان: 461. 

وهبةء حافظ: 138. 2.141 154. 2274 
1 2.384 
9 462. 467. 468. 600. 


1 2.362 380.غ 


ويفاء. جون: 2349 532. 


ويليام : 2. 


وين» جون: 10 


يِ 


ياسين. يوسف: 139. 154. 155غ. 
1 

يوسف (النبي): 89. 436. 

يوسفاعليء عبدالله: 498 499., 
4. 

يوسف. أمين: 357. 

اليوسف» سعيد: 119. 

اليوسف. عبدالرحمن باشا: 37: 238 
1ل 44. 50 51 


4 115غ» 


.150 139 9